تمثال و حكاية : خوانا ماريا المرأة الوحيدة على الجزيرة
حكاية معبرة عن الوحدة والظلم |
يعود بنا الزمن إلى بداية القرن التاسع عشر حيث عاشت قبيلة النيكوليين على جزيرة سانت نيكولاس المحاذية لشواطئ ولاية كاليفورنيا ، تلك القبيلة التي تعود تاريخها إلى 10 الف عام و يُعتقد أنهم أحفاد حضارة الأزتك ، و قد عاش أفرادها حياة مسالمة و اعتمد نظامهم الغذائي على ما يصطادونه من أسماك و كلاب البحر ، و لكن ما لبثت تلك الجزيرة الهادئة أن تحولت إلى مقصد لصائدي الثعالب المائية القادمون من الأسكا لجمع الفراء الثمين ، و سرعان ما أصطدم سكن الجزيرة بالقادمين المتعجرفين و أتهم هؤلاء سكان الجزيرة بقتل أحد الصيادين و نتيجةً لذلك قام الصيادون بمجازر فضيعة بحقهم خلال الفترة من 1811 إلى 1814 م و لم يستطع السكان المحليون المقاومة و انتصرت نيران البنادق على الرماح البدائية ، و انخفض تعدادهم من 300 إلى 30 فرد.
مجموعة من الجزر قبالة سواحل كاليفورنيا |
و على ضوء تلك التطورات قرر مجلس الكنيسة الكاثوليكية نقل ما تبقى من سكان الجزيرة إلى مدينة سانت بربرا حيث تقيم بعثة الرهبان الفرانسيسكان .
و في صبيحة أحد أيام شهر نوفمبر عام 1835 م كانت الأمور تسير وفق ما خُطط لها ، و على شاطئ الجزيرة تجمع عشرات من أفراد قبيلة النيكوليين و قد حملوا على أكتافهم بعض من أغراضهم ، فيما قام عدد من الجنود بترتيبهم في صفوف طويلة ليقوم أحدهم بإحصاء عددهم ، و على الجانب الأخر كانت سفينة تمخر عباب البحر متجهه إلى الجزيرة ، و على متنها وقف القبطان تشارلز هوبارد ينظر من خلال منظاره إلى الأفق و قد أكفهر وجهه و صار كحال السماء الملبد بالغيوم ، لأحظ إسحاق أسباركس مسؤول البعثة قلق القبطان فتقدم نحو لطمئنته .
– لا تقلق يا سيد هوبارد ، سوف نصل بسلام ، فالرحلة قصيرة جداً ، كن على ثقة بذلك.
– سنوات عملي الطويلة في البحر علمتني أن لا أثق بالبحر و عواصفه .
– عليك أن تضع ثقتك في الرب فهو مخلصنا ، ثم أن جزيرة سان نيكولاس لا تبعد عن كاليفورنيا سوى 70 ميل .
– لا أظن أن الرب راضي عن ما تقومون به من تهجير لهؤلاء المساكين.
– أنت لا تعلم شيئاً ، إن ما نقوم به هو محاولة لإنقاذهم من …….
و لم يكد يكمل كلامه حتى قاطعه القبطان صارخاً : فليستعد الجميع ، أخفضوا الأشرعة و جهزوا المراكب ، لقد اقتربنا من الجزيرة.
تم تهجير الهنود الحمر من الجزر التي عاشوا عليها لآلاف السنين |
و ما هي إلا دقائق معدودة حتى أكتظ الشاطئ بالكثير من القوارب فيما قام الجنود بتوزيع سكان الجزيرة على القوارب و نقلهم إلى السفينة ، و أثناء ذلك عمت الفوضى المكان و قد استغلت فتاة شابة تلك الفرصة و فرت هاربة إلى داخل الجزيرة لتبحث عن أخيها الأصغر ظناً منها أنه لا زال هناك ، لم ينتبه أحداً إلى غيابها و أبحرت السفينة بسرعة قبل هبوب العاصفة تاركةً الفتاة وحيدة على الجزيرة ، و حالما وصلوا إلى البر تم توزيع سكان الجزيرة على ما يشبه مخيمات النازحين حيث أوكلت مهمة رعايتهم إلى رهبان الكنيسة الكاثوليكية ، و خلال أقامتهم بالمخيم أبلغ أقارب الفتاة عن فقدانها و أخبروا المترجم أنهم يعتقدون أنها لا تزال على الجزيرة ، و لكن طلبهم قوبل بالتجاهل.
و تمر السنين سريعاً و يتفرق شمل قبيلة النيكوليين و يموت الكثير منهم بالأمراض بسبب ضعف مناعتهم ، ليطوي النسيان قضية الفتاة المفقودة ، و أثناء إتلافه للملفات القديمة لفتت نظر الأب خوسيه جونزاليس روبيو ورقة مهترئة كُتبت عليها شكوى عن فقدان فتاة من المخيم يُعتقد أنها تركت على الجزيرة ، شعر الأب جونزاليس بالذهول و تسأل هل من الممكن أن تكون تلك الفتاة لا زالت عالقة على تلك الجزيرة ؟ و أسئلة كثيرة شغلت تفكيره و حرمته من النوم ، و تكفيراً منه لهذا الذنب الغير مقصود قرر الأب جونزاليس البحث عن تلك الفتاة و قد جمع بعض المال و استأجر البحار توماس جيفريز للبحث عن الفتاة مقابل 200 دولار.
جزيرة سان نيكولاس |
قام جيفريز برحلتين إلى الجزيرة و قد عثر على أثار أقدام بشرية هذا بالإضافة إلى ما يعتقد أنها متعلقات من صنع البشر مثل اللحم المقدد المتروك معلقاً ليجف و بعض الأدوات البدائية ، و في رحلته الثالثة في خريف عام 1853 م تمكن جيفريز و رفيقه كارل ديتمان من العثور على فتاة الجزيرة المفقودة ، كانت أمرأة في الاربعين من عمرها ، متوسطة الطول ممتلئة الجسد ، ترتدي تنورة حاكتها من ريش طيور البجع ، و مع هذا لم تؤثر عليها 18 عاماً من العزلة فقد كانت قوية و نشيطة و رحبت بهما بابتسامة و حاولت أن تستضيفهما في كوخها التي بنته من عظام الحيتان على الشاطئ ، هذا بالإضافة إلى سكنها بأحد الكهوف أثناء هبوب العواصف العاتية.
لاحقاً تم نقل المرأة إلى مدينة سانت بربرا بولاية كاليفورنيا و قد وُضعت تحت رعاية جورج نيدفر و زوجته رامونا ، و خلال فترة أقامتها بضيافتهما شعرت إمرأة الجزيرة بالذهول و تعجبت من الخيول و الملابس و الطعام الأوروبي و استمتعت بشرب الكحول و كانت تغني و ترقص أمام الزوار الذين توافدوا لرؤيتها بدافع الفضول ، و كرقصة الطير المذبوح من الألم لم يستطع أحد أن يتواصل معها بالكلام فقد مات جميع أفراد قبيلتها بسبب الأمراض و ظلت مجهولة الاسم ، و ربما عبرت عن حزنها بكلمات أغنية كانت ترطنها :
توكي توكي ياهيمينا
ويلي شكيما
نيشو ياهيمينا
و التي يُعتقد أنها تعني ” أعيش بطمأنينة لأني أستطيع أن أرى اليوم الذي سوف ألتقي فيه بأحبائي “.
صورة قديمة جدا يعتقد انها لخوانا .. وكذلك صورة لنصبها التذكاري |
و لم تمضي المرأة سوى سبعة أسابيع حتى أصابها إسهال حاد جعلها طريحة الفراش ، كان ذلك بسبب تغير نظامها الغذائي من تناول الأسماك إلى تناول الحبوب و الفواكه هو السبب في ذلك.
خلال مرضها قام قسيس الكنسية الكاثوليكية الأب سانشيز بزيارتها و تعميدها باسم خوانا ماريا ، و لم تلبث أن توفيت في 19 أكتوبر عام 1853 م ، و تم دفنها في مقبرة ال نيدفر و تُرك قبرها بدون شاهد يدل عليه.
و في عام 1928 م قامت جمعية بنات أمريكا بوضع لوحة تذكارية على قبرها ، أما بقية أغراض خوانا ماريا من ثوب الريش و الإبر العظمية فقد تم نقلها إلى أحد المتاحف و لكنها أتلفت أثناء زلزال سان فرانسيسكوا عام 1906 م .
بالرغم من ذلك ظلت قصة خوانا ماريا حديث الناس لفترة طويلة و لا زال تمثالها الذي تم نحته تخليداً لذكراها يقف شامخاً على ناصية أحد طرقات مدينة سانت بربرا بولاية كاليفورنيا ، كما قام الروائي الأمريكي سكوت أوه ديل عام 1960 م بتأليف رواية للأطفال حملت عنوان جزيرة الدلافين الزرقاء ، island of the blue dolphins ، و هي مستوحاة من قصة خوانا ماريا ، و تتحدث الرواية عن فتاة ذات 24 ربيعاً و تُدعى كارانا و قد تقطعت بها السبل على تلك الجزيرة المحاذية لشواطئ كاليفورنيا ، و عاشت وحيدة عدة سنوات ، كما تم تحويل الرواية إلى فلم سينمائي عام 1964 م .
ملاحظة :
لقد اعتمدت في كتابة هذا المقال على المصادر الأمريكية و لهذا سوف تجد عزيزي القارئ الكثير من المبررات لما حصل للسكان الأصليين ( الهنود الحمر ) من جرائم القتل و التهجير التي اُرتكبت لاستعبادهم و الاستيلاء على أرضهم بالقوة ، و كان ذلك تحت ذريعة التبشير و نشر الدين بالقوة و الدين منهم براء ، و كما أن هناك الشرير فهناك الطيب أيضاً ، فقد وجدت خوانا العطف و الرعاية من عائلة نيدفر و تم تخليد حكايتها بطرق مختلفة .
لقد اخترت عنوان تمثال و حكاية حتى أحفز الكتّاب الأخرين على البحث عن حكايات لتماثيل أخرى تحكي مأساة أصاحبها ، لأني أرى أن التماثيل التي تحمل معاني أنساني أفضل بكثير من تلك التماثيل التي تقدس أشخاصاً ربما وصلوا إلى السلطة بالظلم و القهر و بنوا عروشهم على جماجم الشعوب .
المصادر :
تاريخ النشر : 2019-12-06