أدب الرعب والعام

هلوسات الموت – رواية قصيرة – الجزء الأول

بقلم : هشام بودرا (hibo)
للتواصل : [email protected]

تصوروا أن الموت في هيئة شاب يحمل شعلة منكسة
تصوروا أن الموت في هيئة شاب يحمل شعلة منكسة

 

” الموت وحده هو الذي لا يجد الإنسان شفاء له “

من أقوال الأديب الإغريقي سوفوكليس.

………………

كيف تجرأ على خطفها مني بهذه السهولة دون سابق إنذار ؟ أكاد أجن ، كيف استطاعوا دفنها أمامي و أنا كالجماد ، كصخرة صماء ، لم أحرك ساكنا دفاعاً عنها ، لقد حملتني في أحشائها لشهور دون كلل أو ملل و تحملت صراخي و بكائي ، غضبي و مشاكلي ؟.

– كم أنت جبان أيها اللعين ! سأصرخ ، سأهتف ، أخرجوا أمي من هذه الحفرة اللعينة أيها السفهاء ، إنها لم تمت بعد ، ما زلت أنفاسها و صوتها يرن في أذني .

ارتمى على قبر أمه كطفل على إيقاعات نواحه و نحيبه ، أمسكه بعض المشيعين محاولين تهدئته دون جدوى ، لوح بقبضة يده المكورة في الهواء موجهاً لكمات لهذا و ذاك ، حتى تكاثروا عليه و استطاعوا كبح جماح نوبته العصبية .

طرحوه أرضا فيما كان هو يلهث و يصيح ، إنساب من بدنه عرق غزير فاختلط بتراب المقبرة مشكلاً لوحة سوريالية حزينة و موجعة .

شعر أخيراً بالإنهاك و عدم القدرة على الانتفاضة أكثر ، كمن أدى دوره في الدفاع على بقاء أمه خارج تلك الحفرة ، أغلق عينيه متأملاً بفكره نحو المستقبل المجهول دون تلك المرأة التي كانت كل شيء في حياته ، تذكر كلامها و صوتها و غضبها و ضحكاتها ، رائحة فطائرها اللذيذة و خبزها الطري ، ثم ترامى إلى سمعه صوت حزين يقترب منه .

– استفق يا عمار ، أرجوك  لا تزد من وجعي ، فما أصابني من فقدان أمك يكفيني .

انهمرت دموع حارة من تحت جفنيه ، ثم حدق بعينين ذابلتين لبدتهما غشاوة الصدمة ، و بنبرة مخنوقة همس :

– من أنت ؟ من تكون ؟.

– أنا عمك يا عمار ، ماذا أصابك يا بني ؟ إنك شاب مؤمن بالقضاء و القدر ، أمك رحمة الله عليها تنعم الآن في الجنان بمشيئة الرحمن .

ثم ساد صمت قصير خرقه عمار و هو يتفكر في كلام عمه .

– لماذا نولد يا عمي ما دمنا سنموت ؟.

دنا العم من عمار حتى ضمه بين يديه و هو يخاطبه بصوت حزين :

– ما هذا الكلام يا عمار ، هل كفرت ؟ إنها إرادة الله يا بني ، و ما الحياة سوى امتحان رباني لبني البشر لمعرفة الصالح من الطالح .

و ما لبث أن ضم العم إبراهيم ابن أخيه عمار إلى حضنه ، و هو يواسيه في مصابهما الجلل.

……………………

ما بعد منتصف الليل ، حيث عم السكون المنزل و فرغ من المعزين القادمين من كل صوب وحدب ،

سكون مرعب اختلج عمار المستلقي في فراشه على بطنه في حالة حزن عميق و صدمة ، كمن فقد بوصلة الحياة ، رحلت الأم الطيبة و هي لم تتجاوز الأربعين بعد ، مخلفة وراءها وجعا و حسرة في قلوب من يحبها ، وسط ذلك الحزن العميق تبادر لذهن عمار أفكار و أسئلة حول المغزى من الموت و الحياة ، و ما الغاية منهما سوياً ، كان يتمنى في قرارة نفسه لو امتلك قوة خارقة لسحق الموت و هزيمته و استرجاع أمه لتحيا من جديد .

لكن ذاك الصوت المرعب القادم من عالم الأموات كان يصيح في مخيلة عمار بلا كلل :

– لا الدموع ، و لا التوسل ، و لا أي قوة ساحقة كفيلة بسحبها من أنياب الموت .

كانت نبرة ذاك الصوت تثير الاشمئزاز و الغضب في نفس عمار .

……………………………….

مرت ليلتين منذ دفنت الأم ، و ما زال عمار الابن المكلوم مستلقي على سريره منذ عاد من جنازة أمه دون أن يذوق طعم أكل أو شرب ، شارداً بذهنه نحو المجهول ، كمن أوقفت الصدمة مسرى حياته للأبد ، مما اضطر عمه إبراهيم بالاتصال هاتفياً بصديقه الدكتور بشير للقدوم على وجه السرعة .

استجاب الدكتور بشير لاتصالات العم المتكررة بخصوص عمار ، فحضر للاطمئنان على حالته الصحية و النفسية ، و بعد فحص سريع ، انفرد الدكتور بشير بالعم ، ثم حدثه بنبرة جادة:

– اسمع يا صديقي ، إن عمار في حالة صدمة قوية  و يجب نقله فوراً لمستشفى الأمراض النفسية و العقلية ، قبل أن يقدم على أي تصرف متهور .

وضع العم يده على رأسه في ذهول :

– ماذا تقول بحق الله ؟  لكن عمار ليس بمجنون  و لا مريض نفسي .

لكن الدكتور بشير قال للعم بنبرة حازمة :

– إنها الصدمة ، و الصدمة أقوى من الجنون و المرض .

هناك سيجد الرعاية اللازمة من الأطقم الطبية المتخصصة حتى يعود إلى رشده ، و حالته النفسية السليمة كما كان و أفضل ، ولذلك سأجري حالاً بعض الاتصالات اللازمة لنقله فوراً ، فمدير المستشفى صديق لي من أيام الدراسة .

تطلع العم لعمار ، ثم تنهد بحرقة و قد اغرورقت عيناه بالدموع ، لكن الدكتور بشير حاول طمأنته بنبرة متفائلة :

– هذه المحنة ستمر سريعاً يا صديقي  و سيعود عمار أفضل حالاً و أقوى مما كان .

2.

جلس عمار كعادته منذ ولج المستشفى على مقعد بمحاذاة سريره القابع في العنبر ثلاثة و الذي يضم عشرة أسرة لعشرة مرضى يمكثون به .

جلس بوجه ضامر مائل إلى الاصفرار و عينين ذابلتين ، قرب النافذة المسيجة حديدياً و التي تطل على باحة حديقة المستشفى ، يتطلع للحركة الدؤوبة هناك من المرضى و الأطقم العاملة و الزوار ، سارحاً بفكره نحو المجهول و أمه المتوفاة ، متخذاً من الصمت علاجاً لمعاناته .

و فجأة تسلل إلى العنبر شخص غريب ذو قامة متوسطة الطول ، بملامح بارزة حادة و شعر كثيف يغزوه الشيب غزواً ، و لحية مدببة تطوق ذقنه .

اقترب من عمار بخطوات حذرة ، ثم دنا منه و بدون أي مقدمات همس له بنبرة خافتة :

– هل عندك سيجارة يا بني ؟.

انتظر الرجل الغريب لعدة ثواني رداً من عمار  ثم كرر نفس الطلب ، لكن عمار لم يأبه للرجل و طلبه ، بل لم يدر حتى وجهه نحوه .

بعدما شعر الرجل الغريب بعدم التجاوب معه ، أدار ظهره لعمار و هم بمغادرة المكان ، و فجأة ترامى لسمعه صوت حزين :

– هل سألتقي بها من جديد ؟.

استدار الرجل الغريب نحو عمار ، ثم قال مستفسراً :

– من هي يا بني ؟.

– أمي ، لقد توفيت منذ بضعة أيام ، هل تظن يا سيدي بأنني سألتقي بها بعد وفاتي ؟.

رد الرجل الغريب بثقة :

– ربما نعم ، و ربما لا .

أزاح عمار بصره عن الحديقة ، ثم حدق بالرجل الغريب بارتياب .

– لم أفهم قصدك يا سيدي ..؟

اقترب الرجل الغريب من عمار ، ثم قال :

– قصدي يا بني ، أن لا دليل ملموس على وجود حياة أخرى بعد الموت ، كما لا يوجد دليل ملموس على عدم وجود حياة أخرى بعد الموت .

بدا عمار مندهشاً من الجواب الذي لم يكن يتوقعه و قبل أن يبادره بسؤال آخر ، استطرد الرجل الغريب حديثه :

– الأفضل ألا تفكر في الموت و أنت في ريعان شبابك ، فنحن هنا في الحياة لنحيا لا لنموت .

ثم اقترب منه أكثر ، و بنبرة هادئة :

– أنا يا بني العم سلمان ذو الرابعة و الستين ربيعاً ، أحد مرضى هذا المستشفى منذ بضعة سنوات خلت ، و يعتبرني الجميع هنا بمثابة زعيم المجانين .

ثم ضحك بملئ فاهه ، بينما ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجه عمار ، و ما لبث أن مد العم سلمان يده لمصافحة عمار، فتصافحا الإثنين و هما يتبادلان نظرات عميقة ، كمن وجد كل منهما ضالته أخيراً ، و في جعبة كل منهما الكثير من الأسرار و الأسئلة للآخر.

…………………..

في باحة الحديقة جلس كل من عمار و العم سلمان لاستنشاق نسيم هواء صباح جديد مشمس مزهو بنسائم الزهور المغروسة في الحديقة بعناية فائقة ، كان في جعبة عمار الكثير من الأسئلة للعم سلمان الذي كان بدوره يداعب هرة مزخرفة الألوان ، اتخذت لها من حديقة المستشفى مقاماً أمناً .

تردد عمار قليلاً قبل أن يطرح سؤالاً مباشراً على العم سلمان بنبرة صوت هادئة :

– ما سبب مكوثك بالمستشفى يا سيد سلمان ؟.

أثار السؤال شيئاً في نفس العم سلمان ، الذي رفع رأسه المطرق نحو الهرة ، فلمعت عيناه من أشعة الشمس الصافية ، بدت عيناه كصقر جريح ، عم الصمت لبضع ثواني فيما كان العم سلمان غارقاً في استرجاع شريط ذكرياته المريرة .

و فجأة نطق بنبرة حزينة :

– كنت يا عمار أستاذاً جامعياً للفلسفة ، و لي زوجة فاتنة و رائعة و منزل فخم و سيارة من الطراز الرفيع ، كانت حياتي أشبه بالحلم للكثيرين من أقراني ، كما لم تخلوا حياتي من بعض المغامرات النسائية أثناء زواجي ، و التي كانت سبباً في خلافات طويلة و متقطعة مع زوجتي.

تنهد العم سلمان بحرارة قبل أن يسترسل حديثه :

– و أثناء مشوار حياتي تبلورت في داخلي أفكار و آراء آمنت بها ، منها السياسي و منها الفلسفي و العقائدي ، و كانت هذه الأفكار و الآراء سبباً في محاربتي و تدمير حياتي .

كان عمار ينصت لحديث العم سلمان باهتمام .

– آمنت بالعدالة الاجتماعية و الديمقراطية و الحرية و تداول السلطة ، اعتقدت أني كمثقف له رسالة في هذه الحياة ، و أن الدفاع عن هذه القيم السياسية و الإنسانية و الاجتماعية و الاقتصادية هي جزء من هذه الرسالة ، لكن قناعاتي الفكرية و السياسية لم تكن على هوى إدارة الجامعة ، والتي كانت تراها كنوع من الخروج على القطيع و دعوة مبطنة للتمرد على نظام الحكم ، فحاولوا الضغط علي بشتى الوسائل فتارة يهددونني بالطرد أو المنع من التدريس ، و تارة يحاولون استمالتي عبر وعود بترقيتي و وعود أخرى برفع راتبي الشهري ،

كان باستطاعتي يا عمار الصمت كباقي المثقفين الفاسدين و الاستفادة مثلهم من الريع و الفساد المستشري ، لكن شعوراً داخلياً غريباً كان يؤرقني ، و علامات استفهام كبيرة تنغص علي طعم ولذة الحياة ، لأتساءل في حيرة من أمري :

– ماذا بعد ؟ أهذا هو دورك في هذه الحياة ؟ أكل و شرب و جنس و روتين كباقي البشر حتى يأتي ميعاد موتك .

صراع داخلي لا ينتهي بين قناعاتك التي تؤمن بها و التي ترها في كفة الحق ، و خوفك من ذاك المجهول المتربص لك و الذي ينتظر الفرصة السانحة للانقضاض عليك ، و بينهما صوت ضميرك الذي لا يتوانى على تحريضك على الحق غير آبه بالعواقب الوخيمة الناتجة عن ذلك.

صوت ضميرك يخاطبك بغضب :

– دورك أعظم ، دورك هو تخليص الوطن و الشعب من براثن الفاسدين المستبدين ، دورك هو نشر القيم التي تؤمن بها ، كانت وسوسته أقوى من أن تُقاوم .

وجاء ذلك اليوم العظيم الذي خرج فيه آلاف الطلاب من الحرم الجامعي  منادين بالحرية و المساواة و الديمقراطية و العدالة و إنهاء زمن تسلط الفاسدين ، كان زخم الاحتجاجات عظيماً و سعادتي أعظم ، فأخيراً تجرأ الشعب على تحرير نفسه من قيود العبودية و الاستبداد ، و في زخم الحراك رُفعت على الأكتاف كبطل مخلص لشعبه ، كان شعوراً رائعاً لا يمكن وصفه أبداً.

اتجهت المسيرة نحو ساحة الخلاص بوسط المدينة ، خلالها انظم لها جموع غفيرة من كافة فئات الشعب صغاراً و كباراً ، كان المشهد عظيماً ، الكل كان يهتف من أجل وطن جديد تسوده الديمقراطية و الحرية و الكرامة و العيش الأفضل للجميع ،

لأول مرة في حياتي أشعر أني إنسان و لي صوت و حقوق ، و أن الوطن على مشارف الاستقلال الحقيقي ، و قبل ولوجنا ساحة الخلاص ببضعة أمتار  تعرضنا لهجوم مباغت من قوات أمنية كثيفة مدججة بالعصي و الأسلحة النارية الخفيفة ، أمطرت المسيرة بوابل من الرصاص ، فعمت الفوضى المكان  و تساقط العشرات من المحتجين السلميين بين قتيل و جريح ، و فيما كان الجميع يبتغي الهرب و النجاة بنفسه من المجزرة ، وجدت نفسي من أعلى قمة المسيرة إلى أسفلها أُداس بأحذية الفارين من المتظاهرين تارة ، و بأحذية رجال قوى الأمن تارة أخرى ، وسط مشهد صاخب مرعب ، و قبل أن أستوعب صدمة الموقف ، فإذ بي أتلقى ضربة قوية على رأسي من عصا غليظة أفقدتني الوعي ساعتها  و خُيّل لي أنها النهاية لا مفر ، و أن الموت يضمني إليه ضماً .

 

3.

ولج عمار غرفة مكتب الدكتور ياسر المشرف على ملفه ، فتفاجأ بوجود سيدة جميلة تجلس في المقعد المقابل لجلوس الدكتور ياسر ، فشعر بالخجل و الارتباك ، لكن الدكتور ياسر أشار له بالتقدم و الجلوس .

تقدم نحوهما بخطوات بطيئة و قد احمرت وجنتاه ، فمد يده لمصافحة الدكتور ياسر ، ثم حرك رأسه كإشارة احترام للمرأة التي حافظت على ابتسامتها المشرقة ، و التي كانت تراقب انفعالاته و هو مطرق رأسه من الخجل ، فأمره الدكتور ياسر بالجلوس على الكرسي الفارغ المقابل لهما ، فجلس عمار بحياء .

و هنا خاطبه الدكتور ياسر قائلاً :

– عمار أعرفك بالدكتورة نرمين ، دكتورة نفسية بالمستشفى و قد كانت في إجازة ، و عادت لتوها للعمل ، و هي التي ستتكفل بالإشراف على ملفك بعد رحيلي .

تمتم عمار بنبرة متفاجئة :

– رحيلك !.

– نعم يا عمار ، فقد تم تعييني بمركز نفسي جديد في شمال البلاد .

و أثناء حديثه قام الدكتور ياسر من مقعده  حاملاً في يده ملف الانتقال  ثم وجه حديثه للدكتورة نرمين :

– حسنا يا دكتورة نرمين ، ها هو الفتى الطيب الذي حدثك عنه ، سأدعك تتعرفين عليه قليلاً  فيما سأذهب أنا للقيام ببعض إجراءات الانتقال في إدارة المستشفى.

نرمين بابتسامة عريضة :

-حسناً يا دكتور ، رافقتك السلامة .

غادر ياسر المكتب و أوصد الباب خلفه ، فيما بقي عمار مرتبكاً و متوتراً  و هو يتفكر في هذا التغيير الذي حدث .

وقفت الدكتورة نرمين ، و تحركت في خطوات متزنة ، بينما كانت تتطلع لملف عمار بين يديها ،

مما سمح لعمار من اختلاس بعض النظرات الخاطفة لمعالجته الجديدة ، حيث بدت رشيقة ، و مثيرة ببشرتها البيضاء ، و شعرها الأسود المتوسط الطول ، و وجهها الطفولي البريء .

و فجأة ركزت الدكتورة نرمين نظرها على عمار ما أشعره بالارتباك ، ثم قالت له بنبرة رقيقة :

– أتمنى ألا تعتبرني مجرد طبيبتك المعالجة ، بل اعتبرني بمثابة أختك الكبرى أو أمك ، اتفقنا يا عمار ؟.

تمتم عمار بصوت خافت ، و قد أزاح نظره عنها و غرسه بالأرضية :

– نعم يا دكتورة ، اتفقنا.

……………………….

أثناء صعود عمار للعنبر  أوقفه العم سلمان فجأة على الدرج و هو يهتف :

– أين كنت يا فتى لقد بحث عنك في كل مكان ؟.

ثم تأبط ذراعه و صعدا سوياً .

– ما بك يا فتى ، لما أنت صامت ؟.

تنهد عمار و بنبرة هادئة :

– لم يعد الدكتور ياسر مشرفاً على ملفي .

العم سلمان باستغراب ..

– لماذا ، هل هناك سبب محدد ؟.

أومأ عمار برأسه ، ثم قال :

– نعم ، لقد تم نقل الدكتور ياسر للعمل بمركز نفسي آخر ، و الآن أصبحت الدكتورة نرمين مشرفة على ملفي بعد عودتها من إجازتها القصيرة .

حينما سمع العم سلمان اسم الدكتورة نرمين ، توترت ملامح وجهه ، و ما لبث أن تقدم عن عمار ببضع خطوات ، خلالها كان العم سلمان يغمغم بكلمات هامسة غير مفهومة ، ما أثار الحيرة في نفس عمار الذي تبعه محاولا استفسار ما حل به ،

لكن العم سلمان عاد و اقترب من عمار مرة أخرى ، و قد سحب من جيب بنطلونه سيجارة ملفوفة ، ثم همس في أذنه مبتسماً :

– ما رأيك بمشاركتي في تدخين هذا الصاروخ ؟.

بينما أدار عمار بصره يمنة و يسرة ، خوفاً من أن يراهما أي أحد ، و يبلغ عنهما الإدارة .

– هيا يا مجنون إرمي هذه المصيبة ، قبل أن يرانا أي أحد و يبلغ عنا إدارة المستشفى .

قاطعه العم سلمان بضحكة متقطعة :

– هناك مكان نستطيع التدخين به دون أن يكتشف أمرنا أحد .

عمار بنبرة هامسة :

– و أين هذا يا رجل ؟ كل المستشفى مراقب بالكاميرات حتى الحمامات .

– باستثناء السطح .

عمار مستغرباً :

– و لكن السطح محكم الإغلاق ؟.

سحب العم سلمان مفتاح من جيبه ، و بنبرة ساخرة :

– كل مشكلة و لها حل ، هذه نسخة من مفتاح باب السطح .

بدا عمار مندهشاً :

– من أين لك بالسجائر المخدرة و نسخة المفتاح ؟.

قهقه العم سلمان ساخراً ، ثم همس في أذن عمار:

– اسمع يا فتى ، القليل من الفساد المالي مفيد أحياناً لإدارة شؤون البلاد و العباد .

– ماذا تقصد ؟.

– إنه سر بيني و بينك لا تخبر أحداً به .

ينصت عمار بإمعان :

– سرك في بئر .

العم سلمان هامساً :

– أعطي بعض المال لجعفر أحد حراس أمن المستشفى ، و هو الذي يتكفل بشراء الحشيش و السجائر لي ، كما حصلت بواسطته على نسخة من مفتاح السطح .

عمار بنبرة حادة :

– تقصد رشوة ، أنت ترشي جعفر الحارس للحصول على مبتغاك !.

يضحك العم سلمان :

– اعتبرها كما تشاء يا فتى ، المهم أن بالمال تستطيع أن تفعل ما تشاء و تحصل على ما تشاء .

– لكن هذا مخالف للقيم و …

و قبل أن يكمل عمار جملته ، قاطعه العم سلمان ..

– حسناً أيها الواعظ ، أنا صاعد الأن للسطح ، فإذا رغبت في التدخين فاتبعني دون مواعظ  أو يمكنك العودة إلى عنبرك ، و لكن إياك أن تخبر أحداً بالسر.

………………………….

بغرفة مهجورة على سطح المستشفى جلس العم سلمان و عمار داخلها على بساط مزخرف ، سبق للعم سلمان أن وضعه هناك ليستريح عليه أثناء تدخينه ، حيث لم تخلوا الغرفة من تسلل نسيم منعش عبر نافذتها المكسورة الزجاج ،

هناك ولع العم سلمان سيجارته الملفوفة  فانبعثت منها رائحة مثيرة داعبت و أثارت شهوة لدى عمار ، الذي أبدا رغبته في التدخين لأول مرة في حياته .

و بعدما أخذ العم سلمان نفسين عميقين من السيجارة  ناولها لعمار الذي أمسكها متفحصا إياها في رهبة في بادئ الأمر ، لكنه سرعان ما وضعها بين شفتيه الطريتين أخذ نفساً عميقاً ، أعقبها بكحة متقطعة أضحكت العم سلمان الذي تذكر أيامه الأولى مع التدخين ، و بينما كان الاثنان ينتشيان بالتدخين ، استرسل العم سلمان في سرد حلقة من حلقات قصته المؤثرة :

– لقد كدسونا كالخرفان في مركبات أمنية و عسكرية محكمة الإغلاق ، خُصصت لمن تم اعتقالهم في المظاهرة ، حيث الأنين و الصراخ و النحيب و الفزع ، خلالها حاولت فتح إحدى عيناي بشق الأنفس ، و اختلاس نظرات لما يحوم حولي ، و يا ليتني ما فعلت ، فقد كان المشهد مأساوياً و مهولاً ، فقد رأيت بعض طلابي الذين يدرسون عندي مضرجين في دمائهم قتلى ، و أخرون إصاباتهم بليغة و خطيرة ، و بعد وقت ليس بالطويل توقفت المركبات في أحد المعتقلات السرية حيث فتحت الأبواب الخلفية على مصراعيها ، فهبت نسائم الهواء داخل المركبة  و بدا لي في ذلك الحين أن للهواء قيمة تفوق كنوز الكون ، و فجأة صدر صوت غليظ مرعب :

– من على قيد الحياة أيها الأوغاد فلينزل حالاً من المركبة ؟.

كان جل المعتقلين منهكين و خائفين من ذاك المجهول الذي ينتظرهم ، حتى أني ظننت لوهلة أن إعداماً جماعياً لا مفر منه ، استجمعت ما تبقى من قوتي الخائرة  و زحفت بين الأجساد و الجثث ، و هدفي في تلك اللحظة هو استنشاق نفس عميق من الهواء ، فقط الهواء ، خلالها قام رجلي أمن بسحبي من المركبة و رميي أرضاً ، فازداد وجعي من الكسور و الكدمات التي لحقت ببدني في المظاهرة ، لكنني رغم ذلك لم أجرؤ على التحرك أو التفوه بأي كلمة ، لقد استسلمت بشكل مطلق للأمر الواقع ،

فاقترب مني صاحب ذلك الصوت اللعين ، و قبل أن أفتح عيناي و أتطلع به ، وضع حذائه العسكري الثقيل على وجهي و دعسه بخبث و صاح بي :

– مرحباً بك أيها الوغد في الجحيم .

بعدها نُقلت لجناح طبي خاص بالمعتقل السري لتلقي ما يلزم من علاج ، حيث قضيت هناك ليلتين كاملتين على سرير متهالك و فراش رث متسخ ، و بعدما استرجعت جزءً من عافيتي ، أمر الطبيب المكلف بالجناح حراس الأمن بنقلي إلى مكان أخر ، لأجد نفسي مرمياً كالكلب في زنزانة ضيقة مع معتقلين أخرين وسط الاكتظاظ و الجوع و الروائح النتنة الكريهة ، و مع مرور بضعة أيام مريرة تم سحب جميع المعتقلين في كل الزنازين و اقتيادهم كقطيع الماشية إلى ساحة المعتقل ، عراة ، حفاة ، تحت وابل من السخرية و السباب و الاستهزاء من طرف الحراس ، أثناءها تم تجميعنا في الساحة في طوابير ، حيث ضخت علينا المواد المنظفة و المياه الباردة بشكل جماعي ، و بعد الانتهاء من مرحلة التنظيف مُنح كل معتقل بذلة سجنية ، و وزع كل خمسة أو ست معتقلين في زنزانة ضيقة لا يتجاوز مساحتها الثلاث أمتار عرضاً  في ثلاثة أمتار طولاً مع كوة مربعة صغيرة في دفة كل زنزانة للتهوية.

بدا عمار حزيناً لما يسمعه من العم سلمان ، و لكن فجأة لمس بيده على جبهته كمن تذكر شيئاً ، فقام مهرولاً ، فهتف العم سلمان به:

– ما بك يا فتى ؟.

– لقد نسيت تناول دوائي ، ثم هم بمغادرة السطح

– اسمع يا فتى..

استدار عمار نحو العم سلمان .

– حينما تنتهي أريدك في عنبري ، عندي لك مفاجأة.

بدا عمار متشوقاً لمعرفة المفاجأة ، و بنبرة ضاحكة :

– لا تقل لي أننا سندخن سيجارة ملفوفة أخرى في عنبرك .

ضحك العم سلمان ، ثم قال :

– هل تحب الشوكولاتة يا فتى ؟.

رد عمار ببهجة :

– إني أعشقها مثل أمي .

– لقد أحضر لي أخي علبتين كبيرتين من الشوكولاتة في الصباح  و قررت أن أمنحك واحدة.

…………………….

كان العم سلمان مستلقي على سريره يقرأ كتاباً للفلسفة ، حينما ولج عمار عليه .

– ها أنا يا عم ، أين هي الشوكولاتة اللذيذة ؟.

ضحك العم سلمان و هو يرحب بعمار في عنبره ، أثناءها لمح عمار خزانة رُصت على رفوفها عشرات الكتب قرب سرير العم سلمان ، فبدا مندهشاً و سعيدا في آن.

– ما كل هذا يا عجوز ؟ إنني أعشق الكتب .

العم سلمان بجدية :

– إنها لك كلها إذا أحببت ..

لمس عمار الكتب بأنامله ممعناً النظر في عناوينها ، و فجأة رصدت عيناه كتاب قديم بعنوان الموت ، حمله و هو يدقق النظر به ، ثم اقترب من العم سلمان :

– هل قرأت هذا الكتاب يا عم ؟.

يلقي العم سلمان نظرة على الكتاب .

– نعم ، كل هذه الكتب قرأتها ..

عمار متسائلا ً:

– و ما فحواه ؟.

– إنه كتاب قديم لكاتب مجهول يتحدث الكتاب عن رأي الفلاسفة الإغريق و بعض القبائل البدائية عن الموت و ما بعده ، عموماً يا فتى فهو لن يفيدك في شيء سوى إثارة رعبك .

هتف عمار بنبرة جادة :

– ما رأيك أن تعيرني إياه لقراءته ؟.

– حسناً كما تشاء إنه لك ، و لا تلومني بعد ذلك .

ضحك عمار بحبور ، ثم قال:

– لا أيها العجوز الطيب ، لن ألومك أبداً .

4.

تربع عمار على سريره بالعنبر  حاملاً الكتاب الذي تحصل عليه من العم سلمان بين يديه ، و حينما لم يعثر على اسم الكاتب أو دار النشر تطلع له بنوع من الارتياب  و تساءل في حيرة من أمره .

– هل هو نوع من الكتب الصفراء ؟.

لكن الجملة المكتوبة تحت العنوان العريض للكتاب على الصفحة الأولى ، و المنسوبة لإحدى الأساطير القديمة و التي تقول :

( أن الآلهة قد بعثت الموت ، إذ أخذتها الغيرة من البشر الذين طردوها من الأرض).

أثارت فضوله و رغبته في اكتشاف ما يحتويه الكتاب من معلومات ، لكن بدايته كانت رتيبة كأي كتاب آخر ، حديث عن الموت و حتميته ، و أن الإنسان كان سيعي أن الموت سيدركه حتى لو كان الكائن الوحيد في هذا العالم ، و أن الموت كمفهوم عام ليس احتضاراً عرضياً بل إنه جزء لا يتجزأ من الحياة .

(الموت ليس جداراً نرتطم به في الظلام ، و ليس ناتجاً عن قوى خارجية معادية ، صحيح أن تلك القوى لها تأثير في الأمر ، لكن الموت متضمن في عملية الحياة باستمرار و أن ملاقاة الموت عمل يقوم به الكائن الحي ذاته باستمرار ).

كان عمار كلما قرأ فقرة أو جملة استعان بذهنه في تحليلها بشكل سريع مقلباً صفحة جديدة ، لتلتقي عيناه مع قصة جلجاميش ، ذلك الملك الأسطوري البابلي الذي كان يملك قوة خارقة و أسلحة فتاكة ، و الذي ثلثاه إله و الثلث الباقي إنسان ، و كيف ألقى الرعب و الفزع في قلوب الناس و أجبر ألاف الفتيات العذراوات على مضاجعته غصباً عنهن ، حتى ضج الناس من شره و ظلمه ، فتضرعوا للآلهة أن تخلق غريماً له يصارعه باستمرار ، فاستجابت الآلهة و خلقت البطل انكيدو ، و لكنهما بعد صراع عنيف حطمت فيه أركان البيت ، تعانق الاثنان و عقدا عهداً على الصداقة ، ليصبحا بعدها صديقين حميمين ، و تستمر الأسطورة فتروي أنهما اتفقا ذات ليلة على قتل ثور السماء المقدس ، فغضبت الآلهة و حكمت على انكيدو بالموت و أثناء احتضاره ، كان جلجاميش بقرب فراشه يبكيه بكاءً مراً و شديداً ، فأدرك خلالها أن الموت سيصيبه كما أصاب صديقه الحميم .

و قال جلجاميش في هذا الصدد:

(أي نوم هذا الذي غلبك و تمكن منك ؟ قد طواك ظلام الليل فلم تعد تسمعني ، إذا ما مُتُ أفلا يكون مصيري مثل مصير انكيدو ؟  تملك الحزن و الآسى روحي ، و هأنذا أهيم في القفار و البراري خائفاً من الموت ).

و إذا كان الموت لعب دور المنتصر في أسطورة جلجاميش  فإن معظم التأملات البابلية كانت تجاري الرغبة البشرية في الخلود و لو بعد الموت ، كما جاء في الفقرة الموالية من الكتاب .

( في سياق التأملات البابلية و الآشورية ، لم ينظر للموت على أنه الفناء المطلق للشخص ، و لكنه كان يعني انفصال الجسد عن الروح ، فيما يتحلل الأول تنتقل الروح من نمط حياة أو وجود إلى نمط آخر ، بمعنى أن الروح تهبط إلى العالم السفلي لتقيم هناك إلى الأزل ).

تأمل عمار هذه الفقرة جيداً ، أغمض عيناه و سرح بمخيلته في شكل ذاك العالم الأزلي الذي تقيم فيه أمه الآن ، ليستفيق بعد حين على صوت مزعج في العنبر ، فقد تعرض أحد المرضى لانهيار عصبي و هستيريا مرعبة ، استدعت تدخلاً عاجلاً من الطاقم الطبي ..

……………………….

في حلقة علاجية جماعية ضمت عدة مرضى ، جلس الجميع في دائرة ، بينما كانت الدكتورة نرمين ضمن الدائرة تمسك بيديها دفتر صغير و قلم تدون فيها ملاحظاتها.

طلبت نرمين من أحد المرضى بالتقدم قليلاً وسط دائرة و التحدث بأريحية ، كان المريض يهرش ذراعه و وجهه المليء بالندوب و شعره الأشعث بشكل متواصل ، ملامحه الحادة و هيئته الغير المتزنة توحي باضطرابات نفسية عميقة ، تقدم قليلاً بحذر ثم استرسل في الحديث بنبرة متوترة من نظرات الأخرين .

– أنا عصام ، إثنان و أربعون سنة ، هناك من يطاردني دائماً .

نعم ، كائنات من الفضاء الخارجي تريد خطفي ، تريد استغلالي في أمور سيئة ثم قتلي .

ردد نظره في القاعة و قد بدا عليه الهلع ، ثم صاح بصوت مرتعد خائف:

– إنهم الآن في القاعة ، ينتظرون اللحظة المناسبة لخطفي و قتلي ، لا أريد الموت ، أرجوكم ساعدوني .

انتابته حالة اضطراب ، لكن الدكتورة نرمين اقتربت منه و ساهمت في تهدئته ، ثم طلبت منه العودة لمكان جلوسه بالدائرة .

انتقل بعدها الحديث من مريض إلى آخر ، بينما كان عمار الأصغر سناً بين الجالسين في الدائرة في إنصات و ذهول مما يسمع و مما يرى من حركات تنتاب كل مريض ، و كلما شعر بالتوتر تطلع للدكتورة نرمين بنظرات فيها الكثير من المعاني ، فأسلوبها و لباقتها و احترامها للمرضى مطمئن و يشعر بالأمان  ، حتى حان دوره في الحديث ، حيث أشارت له الدكتورة نرمين بالتقدم و التحدث كباقي المرضى ، كانت كل الأعين بالقاعة تحدق به ، أحس بالتوتر و الرهبة و رغب لو استطاع الاختفاء من المكان ، ثم أشارت له نرمين مرة أخرى بابتسامة مشرقة .

– هيا ، تقدم يا عمار .

تقدم و استرسل في الحديث بنبرة حزينة رقيقة ، كانت أمه في خياله و وجدانه .

انتهت الحلقة العلاجية الجماعية بسلام ، تصافح و تعانق الجميع فيما بينهم ، هم الجميع بمغادرة ، فيما كانت الدكتورة نرمين في زاوية القاعة تراقب المرضى و هم يخرجون واحداً تلو الآخر، و قبل أن يغادر عمار نادته ، فاهتز قلبه لها ، استدار نحوها فأشارت له بأناملها بالتقدم نحوها ، ثم بادرته بسؤال :

– كيف تشعر الآن بعد الحلقة العلاجية ؟.

أحنى عمار رأسه ، ثم همس :

– بالراحة و الطمأنينة .

و بابتسامة عريضة ردت عليه :

– من الرائع أن يحكي الإنسان كل ما يختلجه بلا خوف .

– نعم ، يا دكتورة.

……………………..

توالت الأيام سريعة توطدت خلالها علاقة طيبة بين عمار و الدكتورة نرمين ، و التي كانت تكن له مشاعر مرهفة كأخ صغير أو أبن لها على خلاف مرضاها الأخرين ، كما لم يعد عمار يشعر أمامها بالخجل و التوتر بل أصبح يتشوق لرؤيتها كلما سمحت له الفرصة ، فوجهها المشرق الباسم ، و اهتمامها به و لمساتها و حنانها و أسلوب كلامها معه ، كل هذا يذكره بأمه الراحلة و جمالها و طيبتها .

 

5.

اقترب من مكتب الدكتورة نرمين و قبل أن يدق باب مكتبها ، ترامى إلى سمعه من الداخل صوتها و هي تهاتف صديقتها زهراء عبر الهاتف الثابت ،

أدار عمار عينيه في الممر ، لم يكن هناك أحد غيره ، وضع أذنه ليتجسس على مجرى المكالمة ، و قد بدا راغباً في معرفة أسرار الدكتورة نرمين ،

كانت حينها الدكتورة نرمين تتكلم بحرقة و حزن :

– لقد بدأت إجراءات الطلاق و الجلسة الأولى ستكون الأسبوع المقبل .

في الجانب الآخر صوت زهراء :

– و أين قررت أن تعيشي ؟.

– لقد استأجرت غرفة في فندق صغير قرب المستشفى ، حتى أجد منزلاً مناسباً .

– ما هذا يا بنت ؟  منزل حبيبتك و أختك زهراء موجود ، و تقطنين في فندق صغير كالمتشردين ، أحملي أمتعتك و تعالي فوراً بعد دوامك .

– أعرف يا زهراء مدى مودتك وحبك لي ، ولكنني أحب أن أقضي بعد الوقت وحدي ، حتى أستجمع طاقتي و تهدأ أعصابي قليلاً .

زهرة في محاولة أخرى لإقناع نرمين :

– أعرف أن أمي نكدية و متعجرفة ، و إخوتي الصغار مزعجين و يملؤون المنزل ضجيجاً و صخباً ، لكني سأفرض عليهم قيوداً عسكرية لتشعري بالراحة .

 ابتسمت نرمين بشكل خافت :

– أشكرك يا عزيزتي ، لكن لا داعي لكل هذا .

– كما تشائين يا نرمين ، متى ستزورينني في المنزل ؟  لقد اشتقت لكي و لقصصك مع المجانين.

كتمت نرمين ضحكتها بيدها :

– قريباً جداً ، الآن مشغولة كثيراً ، المسشتفى يعج بالنزلاء ، و قد تم نقل عدة أطباء من المستشفى لمراكز صحية نفسية و عقلية أخرى  و النتيجة تكدس حالات مرضية جديدة على رأسي .

– كان الله في عونك .

– حسناً يا زهراء نتحدث فيما بعد ، بلغي أمك تحياتي .

– وداعاً.

عدل عمار هندامه ، ثم أخذ نفساً عميقاً ، فدق الباب و دخل المكتب بعد أن طلبت منه الدكتورة نرمين ذلك .

عمار مبتسماً :

– صباح الخير يا دكتورة نرمين .

نرمين بنبرة رقيقة :

– صباح الخير يا عمار ، تبدو سعيداً اليوم .

– نعم يا دكتورة ، كل هذا بفضل مجهوداتك معي ، أنا ممتن لك كثيراً .

اقتربت منه ، ثم أمسكت بيده فشعر بنعومة أناملها تسري في كيانه ، ثم قالت له بنبرة مرهفة:

– إنك بمثابة أبني الذي لم أُرزق به يا عمار ، و أتمنى من الله أن تعود لحياتك العادية في أسرع وقت ممكن ، فأنت فتى وسيم و ذو مشاعر صادقة و رقيقة و مؤدب و خلوق و أمامك الحياة بطولها و عرضها لتثبت ذاتك و شخصيتك الرائعة .

وقف عمار عاجزاً عن الرد و هو يتطلع لعينيها ، لكن كلماتها لامست نبض مشاعره ، و خُيّل له أن أمه هي التي تتكلم بلسانها.

 

6.

ببداية دوامها الصباحي ، دخلت الدكتورة نرمين غرفة مكتبها لتتفاجأ بوجود باقة من الورد الطبيعي و إلى جانب الباقة علبة مزينة من الشوكولاتة على مكتبها ، فارتسمت على أساريرها غبطة و ابتسامة عريضة صادقة .

حملت باقة الورد بين يديها فرأت البطاقة الصغيرة الملتصقة بها و قد كُتب عليها عيد ميلاد سعيد يا دكتورة نرمين ، فتذكرت أن اليوم بالفعل هو يوم عيد ميلادها التاسع و الثلاثين ، و قد طاله النسيان كالكثير من الأمور في حياتها بسبب أعباء العمل و المشاكل الزوجية المتراكمة ، و رغم ذلك فقد شعرت بسعادة غامرة فهناك على الأقل من تذكر عيد ميلادها ، و تساءلت بصوت خافت :

– يا ترى من يكون صاحب هذه المفاجأة الرائعة ؟.

و بعد تأمل تبادر إلى ذهنها شخص معين ، ربما هو صاحب المفاجأة ، تطلعت للورد بامتنان ، ثم استنشقت نسائمه العطرة الزكية ببهجة، أخدت تفكر في المكان المناسب الذي ستضعه فيه ، ثم نظرت لعلبة الشوكولاتة  فضحكت لأنها تعشق هذا النوع من الشوكولاتة.

……………………………

جلس عمار على كرسي بمكتب الدكتورة نرمين مطرق رأسه في حياء ، بينما كانت الدكتورة نرمين تتطلع له بنظرات جادة .

و بنبرة رسمية :

– من أين جئت بباقة الورد و الشوكولاتة يا عمار؟.

ازداد احمرار وجنتي عمار بينما خيم الصمت على لسانه ، فظن أن الدكتورة نرمين غاضبة من تصرفه .

– ما بك يا فتى ؟ أريد رداً على استفساري أم أن القط أكل لسانك .

ثم ضحكت ، فاطمأن عمار لضحكتها الجميلة  و هنا هتف بصوت خافت :

– إنه سر المهنة يا دكتورة نرمين .

ضحكت نرمين ، ثم قامت من جلستها و ربتت على كتفه .

– أشكرك من صميم قلبي على باقة الورد و علبة الشوكولاتة اللذيذة.

– إنك تستحقين كل خير يا دكتورة ، فما تقومين به معي و المرضى الآخرين شيء عظيم .

داعبت بأناملها الناعمة شعره.

-إنك فتى رائع و طيب ، أتمنى من الله أن يحميك لشبابك و أن تعود لحياتك الطبيعية أفضل مما كنت.

لكن الحزن خيم على محيا عمار حتى دمعت عيناه ، فكلام و لمسات نرمين جعلته يشعر بدفء الأمومة مرة أخرى .

سحبت الدكتورة نرمين منديلًا من جيب بلوزتها البيضاء ، و أففت دموعه ، ثم قالت له بنبرة مواساة :

– أتفهم جيداً مشاعرك المرهفة وحبك الكبير لوالدتك يا عمار ، فأنا أيضاً فقدت والدتي حينما كنت في نفس سنك و ظننت خلالها أن حياتي قد انتهت بموتها ، لكني مع الوقت و النضج اكتشفت أن أمي ستكون أكثر سعادة و فخراً بي  إذا ما تفوقت في حياتي و عملي ، و كنت خير خلف لخير سلف.

صدق عمار على قولها بتأثر :

– كلامك في الصميم .

ثم رفع بصره بها و قد بانت ابتسامة صغيرة على محياه.

– يوم مولدك يا دكتورة ، يصادف يوم مولد أمي .

………………….

كان عمار يتطلع بشغف لمعرفة مزيد من الأسرار عن الموت و ماهيته ، فانكب بكل تركيزه على كتاب الموت يلتهم صفحاته بعينيه التهاماً .

“لم يكن الإغريق يرون في الهياكل العظمية سوى أرواحا شريرة ، بينما تصوروا أن الموت في هيئة شاب يحمل شعلة منكسة ، من خلال هذه المفاهيم حاول الإغريق التصالح مع مفهوم الموت باعتباره قوى خارقة قادرة على كل شيء ، لكن في قرارة أنفسهم اعتبروه الشر الأعظم.

لكن بظهور الفكر الفلسفي ، ذهب الفيلسوف طاليس إلى أن الماء هو أصل الحياة ، و أن الأشياء جميعاً واحدة ، و أن العالم كيان حي بذاته مستعيناً بالتفكير الطبيعي العقلاني على خلاف التفكير الأسطوري السائد في زمن كانت للآلهة دور السيادة على الفكر الجماهيري المتخلف “.

“و إن كان الفيلسوف انكسماندر (547-610ق.م) قد ذهب بفكره نحو فناء الأشياء ، و عودتها إلى ما نشأت عنه ، و ذلك ضمن شذرة معترف بها ، عُثر عليها بالصدفة المحضة و تقول بعد ترجمتها (إن الأشياء تُفنى و تنحل إلى الأصول التي نشأة عنها ، وفقاً لما جرى به القضاء ، و ذلك أن بعضها يعوض بعضاً و تدفع جزاء الظلم وفقا لما يقضي به الزمن ) و يرجح أن الفيلسوف قد تأثر إلى حد كبير بفناء الأشياء حوله و تحولها إلى ما نشأت عنه ، معبراً عن الأمل في أنه بمكان ما و بكيفية ما لن يحظى الموت بالسيادة ، و يبدو أن انكسماندر قد افترض وجود لا محدود غير متناهي لا ينفذ “.

“بينما حاول الفيلسوف فيثاغورس (497-572ق.م) تقديم مفهوم آخر لتلاميذه متمثل في تناسخ الأرواح و تطهرها في عجلة كل ميلاد ، حيث قدم الروح على أنها مسجونة في الجسد و تغادره عند الموت ، و بعد فترة من التطهر تدخل جسداً آخر ، و تتكرر هذه العملية عدة مرات ، و لكن يتعين على الإنسان التيقن من أنه مع كل وجود جديد ، أن تحتفظ الروح بنقائها أو تصبح أكثر صفاءً و نقاءً و رقياً ، لتقترب أكثر من المرحلة النهائية و هي مرحلة التوحد مع المتسبب الأول ، و قد تأثر فيثاغورس بأفكار الجماعات الأورفية التي تؤمن بالخلود بعد الموت و التي تتخذ من الديانة الهوميرية منهلاً “.

تفكر عمار ملياً في مفهوم تناسخ الأرواح و هو يحدث نفسه :

– ماذا لو كانت أمي الآن في جسد آخر في مكان آخر لمزيد من التطهر؟.

أو ربما وصلت إلى المرحلة النهائية ، ثم تنهد و هو في حيرة من أمره .

“بينما ذهب الفيلسوف هيرقليطس (475-533قبل الميلاد) إلى اعتبار النار جوهر كل الأشياء ، و أن كل الأشياء تتبادل مع النار ، و النار تتبادل مع كل شيء ، و أن كل شيء يتغير حتى الموت ، اهتم هيرقليطس بالموت في شذراته فقال في إحداها ( إننا ننزل و لا ننزل في الأنهار ذاتها ، إننا موجودين و غير موجودين ).

كما اعتبر أن روح الإنسان هي جزء من النار الخالدة التي تتحول لكنها تبقى للأبد .

(إن الفانون خالدون ، و الخالدون فانون ، فأحدهم يعيش بموت الآخر و يموت بحياة الآخر).

(ما بداخلنا شيء واحد : حياة و موت ، يقظة و نوم ، شباب و شيخوخة ، و كل ضد منهما يتحول إلى الآخر ).

(هذا العالم واحد بالنسبة للجميع ، لم يخلقه أحد الآلهة أو البشر لكنه كان منذ الأزل و ما زال ، و سيكون إلى الأبد ، نارًا حية تشتعل بمقدار و تخبو بمقدار ).

” أما الفيلسوف امبادقليس (495-435ق.م) فقد كان متقلباً في فلسفته فبينما رجح مفهوم الخلود و أكدها في قصيدته التطهر عبر مفهوم تناسخ الأرواح ، عاد في قصيدة الطبيعة و غلب الجانب العقلاني العلمي على الجانب العقائدي ، حيث رجح أن القوى النفسية و الروحية ليست سوى وظائف مادية ، و أن نشأت الكائنات الحية هي خليط من عناصر أربعة تنحل إليها مرة أخرى عند الموت ” ، ” و نجد عند الفيلسوف ليوقبوس أن الحيوانات لدى موتها تنحل إلى ذرات ، ويؤكد هذه الفكرة الفيلسوف ديمقريطوس (370-460ق.م) أحد تلامذته حيث ذهب إلى أن الروح تتكون من ذرات خفيفة و لطيفة تتبدد و تفنى بموت الجسد “.

7.

ألح عمار على العم سلمان أن يكمل له تفاصيل قصته المؤثرة ، فتنهد العم سلمان بحرقة و هو يسترجع تفاصيل شريط ذكرياته الأليمة ، ثم قال بصوت مبحوح :

– اقتادني ثلاثة حراس من الزنزانة معصوب عيناي و مكبل اليدين بالأصفاد ، إلى غرفة مخصصة للتحقيق بالمعتقل ، ثم أجلسوني على كرسي بها و وضعوا يداي على الطاولة ، كنت خلالها أرتجف ، و تبادل إلى ذهني عدة سيناريوهات مرعبة لما قد يحدث لي أثناء التحقيق ، و فجأة ترامى إلى سمعي صوت غليظ :

– الاسم سلمان جعفر ، السن خمسة و الأربعون سنة ، حاصل على دكتوراه في الفلسفة ، أستاذ محاضر في قسم الفلسفة في الجامعة ، متزوج و ليس لك أبناء .

صدقت على كلامه بنبرة خافتة :

– نعم يا سيدي كلامك صحيح ، لكن قريباً سأُرزق بابني الأول .

ساد صمت قصير لم يعكر صفوه سوى صدى خطوات حذاء المحقق ، ثم قال :

– أنت متهم بنشر أفكار معادية للدولة بين طلابك ، و الدعوة للتمرد و قلب نظام الحكم ، فما ردك بهذا الصدد ؟.

– لا يا سيدي ، أنا إنسان مسالم و أحب الدولة و النظام .

– أنت تكذب يا سلمان .

– لا يا سيدي ، أقسم لك أنني أقول الحقيقة .

– أجهزتنا الاستخباراتية ، رصدت و وثقت محاولاتك العديدة في نشر أفكار تحريضية معادية للدولة و النظام ، بهدف قيام تمرد مسلح خدمة لجهات خارجية أجنبية تتعامل معها كجاسوس .

كانت التهمة الموجهة لي أكبر من أن أتصورها حتى و لو في الكوابيس .

هتفت بنبرة استعطاف:

– لا يا سيدي ، أنا بريء ، كما أنني لا أجرؤ على أذية نملة ، كيف لي أن أدعوا إلى ثورة مسلحة و قتل و فتنة و مشاكل لها أول ما لها أخر.

فإذ بصفعة قوية مزلزلة على وجهي أسقطتني من الكرسي ، كان شعوراً مريراً أن تُهان و تُحتقر من طرف رعاع لا يملكون ربع ثقافتك أو علمك .

في تلك اللحظة سحبني محقق ثاني من ذراعي و صاح بي بصوت أكثر حدة من الأول :

– يا ابن الكلب ، يا عميل ، مخابراتنا لا تكذب أبداً .

قل يا كلب مع من تعمل ؟ و لصالح أي منظمة أو دولة معادية ؟.

شعرت بالإهانة و الغبن ، و تمنيت لو أن الموت طالني قبل تلك اللحظة المريرة ، و بعينين دامعتين قلت :

– أقسم لكم أني بريء .

– إذا لم تعترف الآن ، سنعذبك عذاباً شديداً و في النهاية ستعترف غصباً عن أمك العاهرة .

في تلك اللحظة يا عمار ، تغير كل شيء داخلي ، تمنيت أن أخلع تلك الأصفاد اللعينة من مرفقاي ، و تلقين ذلك الوغد درساً لا يُنسى ..

و بنبرة واثقة ساخرة هتفت في وجه ذلك الحقير :

– لن تكون أعهر من أمك يا سيدي .

كان وقع الكلمة كالصاعقة عليهم في غرف التحقيق ، فانهالت علي الركلات و الصفعات و اللكمات من كل صوب و حدب حتى فقدت الوعي.

ليتم بعدها إعادتي للزنزانة مرة أخرى ، و أنا في حالة يرثى لها من شدة الضرب المبرح ، خلالها حاول الرفاق في الزنزانة مساندتي في محنتي قدر المستطاع .

كان عمار ينصت لحديث العم سلمان بمزيج من الحزن و الدهشة .

فيما استرسل العم سلمان حديثه المستفيض:

– و بعد مرور يومين ، تم إعادتي إلى نفس الغرفة اللعينة ، مع نفس المحققين الأوغاد ، وطرحت نفس الأسئلة اللعينة المفبركة ، و بعدما أصريت على أقوالي ، سلكوا معي نهج التعذيب الجسدي و النفسي ، فتم ضربي و صعقي بالكهرباء كبداية تلتها أصناف متعددة من أساليب التعذيب الحقيرة و الدنيئة ، و بعد بضعة أيام خار صمودي المستميت تحت وطأة التعذيب الشديد ، قررت الاعتراف فلا شيء يستحق كل هذا العذاب ، كما فكرت في مقدرتي على رؤية زوجتي الحامل في المحاكمة و لو لبضع دقائق ، و الاعتذار منها عن كل ما سببت لها من ألم و وجع .

و في هذه اللحظة من الحكي انهمرت دموع العم سلمان بغزارة و شهق بحرقة :

– لقد ماتت يا عمار ، دون أن أرى وجهها .

هتف عمار بفزع :

– من هي يا عم ؟.

– زوجتي الحبيبة يا عمار.

…………………….

مدت زهرة بصرها في الشارع في انتظار ظهور سيارة نرمين ، و فجأة ظهرت السيارة الصغيرة قادمة باتجاهها ، فأسرعت الخطى نحوها باستعجال.

– ما بك يا نرمين ، لقد حيرني اتصالك ؟.

طلبت نرمين من زهرة الصعود للسيارة ، و بمجرد ركوب زهرة قادت نرمين السيارة دون أن تنبس بكلمة بينما زهرة تحدق بها بنظرات عميقة ، و بنبرة حائرة :

– ماذا هناك يا نرمين ؟  تحدثي يا بنت قبل أن أرتكب بك جناية .

تبسمت نرمين ، و بنبرة رقيقة ناعمة :

– أنا حامل يا زهرة ، حامل في الأسبوع الرابع .

هتفت زهرة بحبور :

– يا إلهي ، ألف مبروك يا حبيبتي .

ثم ضمتها بلهفة و هي تقبلها على خديها و جنتيها ، وقد انهالت عليها بالتبريكات .

– و أخيراً شاء الله أن يكون لكي طفل من صلبك ، الحمد لله على كل حال ، عن جد أسعد خبر سمعته في حياتي .

هل أخبرت زوجك بالأمر ؟ أظنه سيسعد كثيراً بالخبر.

تنهدت نرمين بحرقة دون أن تنبس .

– أفهم من تعابير ملامحك ، أنك لم تخبريه .

ثم قالت نرمين بنبرة حزينة :

– نعم يا زهرة ، لم أخبره .

ربتت زهرة على ظهر نرمين بحنان .

– ربما يكون هذا الحمل سبباً للصلح بينكما و لتغير سلوكه للأبد.

نرمين بانفعال :

– كيف أعود له بعد أن أهانني و وصفي بالمرأة الناقصة كلما نشب بيننا خلاف حول خياناته المتكررة لي ، أو بسبب تعاطيه للمشروبات الكحولية .

قاطعتها زهرة:

– لقد وعدك بأنه سيترك الشراب ، و نزواته السريرية إذا عدت له ، و أنه سيتحول إلى إنسان جديد .

– لقد سبق و وعدني مراراً و تكراراً ، كلما قررت فيها الطلاق منه ، و لكنه لم يكن يستقيم حاله إلا أياماً معدودة ، و من بعدها يعود لنزواته و مغامراته .

حاولت زهرة طمأنة نرمين :

– لا يا نرمين ، أظن هذه المرة مختلفة ، لقد شعرت بصدق كلامه و مدى حبه لكي ، حينما تلفن لي و لأمي حتى نساعده في إقناعك على العدول عن إجراءات الطلاق .

– لو كان يحبني عن جد يا زهرة ، ما كان ليخونني أبداً.

زهرة بنبرة مازحة :

– الرجال كلهم خونة بالفطرة .

كانت المزحة على مزاج نرمين الذي ضحكت أخيراً بسببها.

…………………..

زوالا في قاعة الفنون المخصصة لتطوير المهارات الفنية للمرضى بالمستشفى ، تحت إشراف الأستاذ حمزة .

كان عمار على المنصة يؤدي أغنية مؤثرة كتب كلماتها بنفسه عن الأم ، بصوت شاعري حزين مستعيناً بغيتاره أمام انبهار و تفاعل المرضى و من بينهم العم سلمان ، حيث بدا الجميع متأثراً بصوته الشجي و موهبته الرنانة ، خلالها مرت الدكتورة نرمين بالصدفة من أمام القاعة فترامى إلى سمعها صدى صوت جميل ، فأعجبت به و قررت الاقتراب من مدخل القاعة لمعرفة صاحبه ، لتتفاجأ بأن عمار هو صاحب هذا الصوت المتوهج ، فوقفت خلف الجدار المحاذي لمدخل القاعة للإستماع ، بحيث لم تشأ أن يراها عمار أو باقي المرضى ، لكن سرعان ما تفاعلت مشاعرها الحساسة مع الأداء الحزين لعمار ، بحيث تذكرت أمها المتوفاة ، فانسابت دموع متلألئة من عينيها اللامعتين و هي تلامس بطنها بحنان..

( أمي سأحبك كيفما كنت ..

سأحبك لأنك نبع الحياة و الوجود ..

سأحبك لأنك الدفء و الأمان في عالم موحش خبيث..

أنت يا أمي نور السماء و الأرض ..

أنت النور في ظلمات الحياة ..

فدعينا نبقى سوياً مدى الحياة ..

و إذ رحلتي ، فخذيني معك إلى الجنان…)

أنهى عمار أغنيته وسط تصفيق حار من الحاضرين ، و ثناء من الأستاذ حمزة الذي أخبر عمار برغبته في ضمه كممثل و مغني في العرض المسرحي الذي سيشرف عليه بمناسبة مرور نصف قرن على تأسيس المستشفى ،

خلالها سعد عمار بالثقة التي وضعها به الأستاذ حمزة ، بحيث اعتبر الأمر بمثابة تشريف لموهبته .

و بعدما أنهى عمار حديثه مع الأستاذ حمزة ، أخذ طريقه نحو العنبر للاستراحة ، لكنه تفاجأ بوجود الدكتورة نرمين في ممر العنابر ، و بمجرد أن رأته قصدته بخطوات مسرعة مع ابتسامة مشرقة ، ربتت على ذراعه و هي تطري موهبته و رقة صوته و سحر عزفه ، غمر الحبور عمار و هو يحدق بعيني الدكتورة نرمين ، و التي كانت بالنسبة له كقديسة في عالم مليء بالآثام ، و هنا هتفت نرمين بنبرة ناعمة :

– كم أتمنى أن يكون لي أبن مثلك ، يحبني كما تحب أمك !.

– ستحصلين على مرادك يا دكتورة نرمين لأنك إنسانة طيبة ، و الله سيمنحك كل خير.

ترددت قليلاً ثم قالت :

– أنا حامل يا عمار ، حامل أخيراً.

يُتبع ……

 

تاريخ النشر : 2019-12-13

guest
10 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى