أدب الرعب والعام

هلوسات الموت – رواية قصيرة -الجزء الثاني

بقلم : هشام بودرا(hibo)
للتواصل : [email protected]

من ذا الذي يعرف إن كان ما نسميه بالموت ليس حياة ، و أن الحياة ليست موتاً
من ذا الذي يعرف إن كان ما نسميه بالموت ليس حياة ، و أن الحياة ليست موتاً

 

8.

بينما العم سلمان و عمار يتمشيان في حديقة المستشفى استطرد العم سلمان حديثه بنبرة حزينة و ملامح وجه متأثرة :

– لم أعلم بوفاة زوجتي الحامل إلا بعد مرور ما يقارب الشهرين من اعتقالي ، و ذلك في مرحلة المحاكمات القضائية للمعتقلين في المظاهرات ، و كان أخي هو من أخبرني ، كانت صدمتي بالفاجعة أقوى من أن تُوصف بالكلمات ، و خلالها رأيت حياتي كلها تنهار أمامي في لمح البصر ، فكل شيء جميل كان لي أمسى في خبر كان ، تمنيت لو أن كل ما حدث مجرد كوابيس أحلام و سأستيقظ منها قريباً ، و أثناء المحاكمة نُقلت إلى السجن المركزي فقام أخي بتوكيل محامي شهير للدفاع عني ، لكن السجن المركزي لم يكن أفضل حالاً من المعتقل السري ، زنازين ممتلئة بالمعتقلين  و وجبات قذرة  و معاملة دونية من طرف الحراس و إدارة السجن ، إضافة إلى المواجهات العنيفة و اعتداءات الدامية التي تنشب بين الفينة و الأخرى بين المعتقلين أنفسهم ، و لكي أحافظ على سلامتي يا عمار في ذلك المستنقع اللعين ، كنت مجبراً على دفع رشوى لهذا و ذاك من الحراس ، إستمرت مدة محاكمتي خمسة أشهر تقريباً  خلالها استطاع المحامي المكلف بملفي برشوة القاضي المكلف بالقضية عبر أساليبه الملتوية ، و بذلك تم تجنيبي حكماً قاسياً كالإعدام أو المؤبد نظراً للتهم الثقيلة الموجهة لي ،

و حصلت بالمقابل على حكم بالسجن المشدد لعشر سنوات نافذة ، تم تأكيد الحكم في الاستئناف  لكن أخي لم يستسلم في البحث عن مسالك أخرى تقود لإخلاء سبيلي من السجن مهما كلف الأمر من مال ، لكن كل محاولاته باءت بالفشل ، رغم حالتي النفسية المتدهورة  و الكوابيس اللعينة التي لم تفارق مناماتي كل يوم  كنت مجبراً على الاستسلام للأمر الواقع ، و خلالها وكلت أمري لصاحب الأمر و حاولت التأقلم في حياتي الجديدة وراء أسوار السجن.

كنت بحاجة ماسة لشيء ينسيني كل هذه المعاناة ، و ذات ظهيرة اقترب مني سجين معتقل و عرض علي أن أشتري منه بعض المخدرات ، شعرت بالخوف في بادئ الأمر ، و تساءلت مع نفسي:

” كيف للمخدرات أن تلج السجن و تُروج بهذه السهولة ؟ “.

لم يكن يهمني الجواب  بقدر اهتمامي بشيء ينسيني معاناتي ، و بمرور الوقت توطدت علاقتي بذاك السجين و تحولت إلى أحد أهم زبائنه ، و انتقلت مع مرور الشهور من شراء الحشيش فقط إلى شراء العقاقير الصلبة المخدرة ، ليتطور الأمر فيما بعد إلى الكوكايين و الهروين ، و ذات مرة كشف لي ذاك السجين أن مدير السجن بمساعدة الحراس هم من يديرون هذه التجارة اللعينة مستعينين بسجناء ثقة للترويج و البيع لكافة السجناء الآخرين .

لم أهتم بالأمر ، فكل ما كان يهمني في تلك الفترة هو التوفر على السيولة النقدية اللازمة من أخي المسكين لأشتري المزيد و المزيد من المخدرات لكي أنسى كل الماضي المرير.

مرت الأيام و الشهور و السنوات ، كل شيء مات بالنسية لي حتى حياتي لم تعد لها قيمة بالنسبة لي ،

و بعد عشر سنين كاملة  وجدت نفسي أخيراً خارج أسوار السجن ، منهك القوى ، مصفر الوجه ، ضعيف البدن ، مثقل بالهموم و الأحزان ، متعباً نفسياً و مفلساً مادياً ، فخلال مدة سجني وكلت أخي بوثيقة موقعة حتى أستطيع بيع منزلي بكل ما فيه و سيارتي و نصيبي من ميراث أبي و أمي ، و كل ذلك من أجل المخدرات اللعينة ، شهق العم سلمان بحرقة ، ثم استرسل في حديثه :

– رغم أني غادرت السجن و أنا مفلس و مدمن ، إلا أن أخي المسكين لم يتخلى عني ، بل حاول توفير الظروف المناسبة لأسترجع حياتي ، لكن دون جدوى  فقد كنت في حاجة ماسة و دائمة للمال من أجل المخدرات و الأدوية المضادة للاكتئاب ،

ما اضطر أخي في أخر الأمر بإقناعي منذ خمس سنوات مضت على الولوج لهذا المستشفى  لتلقي الرعاية الطبية و النفسية اللازمة لحالتي ،

لكني رغم ذلك تمنيت في قرارة نفسي لو كنت أمتلك الشجاعة اللازمة كسقراط  لتخليص نفسي المنهكة من معاناتها المريرة و أوجاعها المسترسلة.

عمار بنبرة خافتة مترددة :

– هل فكرت يا عم سلمان في الانتحار ؟.

تنهد العم سلمان بأسى و هو يحدق في عمار :

– أكثر مما تتصور يا عمار.

انسابت من عيني العم سلمان دموعاً حارة ، و شهق شهقة دوت في سمع عمار الذي بدا متأثراً بقصة العم سلمان ، فما كان منه إلا أن ضمه إليه محاولاً مواساته في وجعه.

 

9.

“على خشبة المسرح أصدر القضاة حكمهم على سقراط بالموت ، الأسى و الحزن أرتسم على ملامح تلامذته و مريديه ، بينما هو كالجبل الشامخ غير مكترث للحكم برمته ، و غير مرهوب من الموت ، فقد سبق و عبر عن موقفه اللاإرادي  من الموت خلال رحلته الفلسفية تاركاً الخيار مفتوحاً بين إمكانيتين :

– فالموت إما أن يكون نوماً بلا أحلام .

 – أو هجرة الروح إلى عالم آخر.

حاول تلامذته و من بينهم أفلاطون إقناعه بمجابهة القضاة بحكمته و فطنته تجنباً لعقوبة الموت ، إلا أن سقراط أكد لهم بعدم خشيته من الموت  و أن الموت يصبح الشر الأعظم حينما نخشاه ، فطلب منه تلميذه أفلاطون الهرب من المدينة ، لكنه رفض بشكل قاطع فكرة الهرب مفضلا الموت كشهيد لأفكاره على أن يفر كمجرم أو قاطع طريق ..

ربت على كتف أقلاطون الذي إغرورقت عيناه بالدموع، ثم قال له:

( يا بني إني في السبعين من عمري ، و الإنسان إذا ما وصل إلى مثل هذا العمر فإن عليه ألا يجزع من اقتراب الموت …)

ثم ردد سقراط بصره بين تلامذته و هو يخاطبهم بصدق :

(ألا تعلمون بأني سأرفض الإقرار بأن أي إنسان قد عاش حياة خيراً من تلك التي عشتها حتى الآن ؟ ذلك أني قد أدركت أن حياتي بأسرها قد أنفقت في الخير اتجاه الإنسان ، و هي حقيقة تمنحني أعظم الرضا ، و لذا فإني أشعر باحترام عميق للذات ، و قد اكتشفت أن رفاقي يشعرون بمشاعر مماثلة تجاهي ، و لكن الآن و إذا امتدت سنوات عمري ، فإن ضروب ضعف الشيخوخة ستتحقق بصورة حتمية ، و ربما وقفت السماء إلى جواري فأتاحت لي فرصة إنهاء حياتي لا في أوانها فحسب ، و إنما بالطريقة الأكثر يسراً كذلك ).

و بنبرة مازحة :

(ألم تعلموا جميعاً أن الطبيعة حكمت علي بالموت منذ لحظة ميلادي).

غادر سقراط خشبة المسرح شهيد أفكاره و مبادئه ، فاحتدم النقاش بين تلامذته حول ما يحدث للنفس بعد الموت ، فقال سيبيز أحدهم :

(و لكن الناس أميل إلى عدم التصديق فيما يتعلق بالنفس ، إنهم يخشون أنها حينما تغادر الجسد سيكون الضياع مقرها ).

( لكننا بحاجة إلى كثير من الحجج و البراهين لإثبات أن الإنسان إذا مات فإن النفس تبقى رغم ذلك ، و تظل متمتعة بالقوة و الفطنة ).

و لكن أفلاطون المتأثر بفكرة خلود النفس قدم عدة حجج أمام رفاقه لإقناعهم بفكرته:

أولاً : إن النفس توجد قبل الميلاد ، و هذا الوجود السابق للنفس يقوم على أساس الاعتقاد بأن المعرفة هي التذكر، و المعرفة الحقيقية المقصودة هنا عند أفلاطون ليست تجريبية و إنما هي قبلية .

ثانياً : هناك صور أو مثل خالدة وثابتة و حيث النفس كفيلة بإدراكها فإنه من المعين أن تكون هي ذاتها خالدة و إلهية ، فلا شيء فان يعرف ما هو خالد.

ثالثاً : النفس تتحكم في الجسد و تسيطر عليه ، و من هنا فهي تشبه الآلهة الخالدة.

رابعاً : النفس بسيطة فهي ليست مركبة و بالتالي لا يمكن أن تنحل ، فما هو بسيط لا يمكن أن يتغير أو يبدأ أو ينتهي ، إن جوهر الأشياء بسيط ، لا يتجزأ ، لا ينقسم ، إنه خالد.

خامساً : النفس التي جوهرها الحياة و بالتالي فهي نقيض الموت ذاته ، لا يمكن النظر إليها باعتبارها محتضرة أكثر من النظر إلى النار باعتبارها تتحول إلى البرودة .

سادساً : النفس متحركة بذاتها بوصفها مصدر الحياة ، و لذلك لا يمكنها بالمطلق أن تكف عن الحياة و الحركة .

رغم ما قدمه أفلاطون من حجج و براهين ، إلا أنه كان يعلم في قرارة نفسه أنها ناقصة ، و على ما يبدو أن هدفه الأساسي كان هو تقديم أمل في الخلود و ليس اليقين به .

فموت صديقه و معلمه سقراط مظلوماً  كان له دور عميق في تفكيره و منهجه الفلسفي ، و انشغاله في إيجاد مفهوم مثالي كما أراد أن يعيش فيه ، ما أدى به إلى كتابة مؤلفيه الجمهورية و النواميس ، حول العدالة و التربية و النظام الصالح للحكم .

ترك أفلاطون و باقي التلامذة و المريدين خشبة المسرح ، ليدخل أرسطو ليدلو بدلوه في هذا الموضوع .

كان فكر أرسطو و هو شاب مختلفاً عن باقي سنوات عمره التالية ، فقد كان في بداياته متأثراً بشكل مطلق بمعلمه أفلاطون ، و رجح خلود النفس و أنها سابقة الوجود عن البدن ، كما رجح بقاء الوعي الفردي بعد الموت .

و مع مرور الزمن طور أرسطو منهجه الفلسفي ، فظهر اختلاف جذري مع معلمه ، ففي كتابه النفس تبنى موقفا متشككاً في نظرية المثل الأفلاطونية ، وذهب بالقول على صعوبة بقاء النفس بعد الموت بشكلها الكلي ، كما أعتبر أن ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات الأخرى و خاصة الحيوانات هو العقل ، و اعتبره عنصر إلهي في الإنسان و هو وحده الذي لا يفنى عند الموت .

ثم قال في هذا الصدد:

(إذا كان العقل إلهياً فإنه بالمقارنة بالإنسان تغدو الحياة وفقاً له إلهية بالمقارنة الإنسانية ، و لكننا لا ينبغي أن نتبع أولئك الذين ينصحوننا باعتبارنا بشراً بأن نفكر في الأمور البشرية و باعتبارنا فانين في الأشياء الفانية و إنما ينبغي بقدر ما نستطيع أن نجعل من أنفسنا خالدين و أن نكافح بكل ما فينا من قوة كي نحيا وفق أفضل ما فينا ، وان كان صغير في حجمه فإن ما يفعله في مجال القوة و القيمة يتجاوز كل شيء ، سيبدو ذلك أيضاً كما لو كان كل إنسان بذاته حيث أنه الجزء الأفضل و المهيمن فيه ، من هنا فإنه سيكون من الغريب ألا يختار حياة ذاته و إنما حياة شيء آخر ، و ما قلناه من قبل سينطبق الآن، فما هو مناسب لكل شيء هو بالطبيعة الأفضل و الأنسب لكل شيء ، و من ثم فإن الحياة – وفقاً للعقل – هي بالنسبة للإنسان الأفضل و الأنسب حيث إن العقل – أكثر من أي شيء آخر – هو الإنسان ، هكذا فإن هذه الحياة هي الحياة الأسعد كذلك ).

و لذلك أعتبر أرسطو أن الإنسان الشجاع هو الذي يجابه الموت بلا خوف أو فزع “.

أثناء انغماس عمار في قراءة كتاب الموت غفت عيناه في نوم عميق ، بحيث تمثلت له الشخصيات الفلسفية للكتاب و هم يؤدون أدوار تمثيلية على منصة المسرح ، ليستيقظ على صخب و صراخ مدوي في العنبر ، كان أحد المرضى في حالة انهيار عصبي حاد ، يصرخ و يلعن و يكسر ما وقع تحت يديه ، مبدياً مقاومة عنيفة تجاه الطاقم الطبي و الحراس ، ملوحاً بقبضة يده في الهواء و موجهاً لكمات متفرقة و عشوائية لهذا و ذاك .

و في خضم هذه الفوضى ، وقف عمار مذهولاً و مرهوباً مما تراه عيناه ، حاول المغادرة لكن قدماه تسمرت دون حراك ، و فجأة حدق به المريض المفتعل للفوضى بنظرات حادة مرعبة ، ثم رفع يده المتعرقة نحوه و هم بشتمه دون سبب .

– سأقتلك يا أبن العاهرة ، أنت و أمك قريباً .

كان وقع الكلمة مزلزلاً على نفسية عمار، تسارعت دقات قلبه ، و أثناء محاولته لاستيعابه ما يحدث ، هرول المريض المجنون نحوه ببنيته العملاقة المترهلة كالقطار ، فوثب باتجاهه لكن عمار تجنبه بالتراجع بحركة رشيقة سريعة إلى اليسار ، وحينما فقد المجنون توازنه ، وجه له عمار لكمة سريعة لوجهه الممتلئ القبيح ، و لكمة أخرى إلى الجانب الأيسر بمحاذاة بطنه ، و قبل أن يستوعب المريض حجم الخطأ الذي قام به انقض عليه عمار كنمر غاضب فأسقطه أرضاً ، و ما لبث أن إنهال على رأسه الكبير باللكمات بشكل هستيري حتى أفقده وعيه ، و كاد يقضي عليه لولا تدخل العم سلمان و حراس المستشفى في آخر اللحظات.

. ………………

في غرفة مكتب الدكتورة نرمين أطرق عمار بصره و هو يتلقى توبيخاً حاراً منها .

– من تظن نفسك يا فتى ؟ لقد كدت تتسبب بكارثة .

عمار بنبرة خافتة :

– هو من شتمني ، و تهجم علي ..

– لو كان حدث شيء له ، لا قدر الله ، لكنت الآن مرمي في السجن كمجرم .

عمار بارتباك :

– لا أعلم ماذا حدث لي ، فكرت فقط في الانتقام منه بسبب شتمه لأمي .

دنت نرمين من عمار حتى ربتت على ذراعه ، ثم قالت له:

– عليك يا عمار أن تتعلم كيف تسيطر على انفعالاتك الانتقامية ، فلولا سيطرت الناس على غضبهم و انفعالاتهم الانتقامية  لكان جميع البشر الآن في عداد الأموات .

حاول عمار كتم ضحكته  بينما نرمين تحاول اصطناع ملامح جادة و هي تخاطبه :

– الأمر لا يدعو للضحك يا فتى.

– متأسف يا دكتورة .

– لا داعي لتأسف .

استدارت نرمين و عادت للجلوس على مقعدها ، ثم وضعت يدها على جبهتها و اليد الأخرى على بطنها .

رفع عمار بصره بها ، و هو يراقبها باهتمام :

– ما بك يا دكتورة ، أراك على غير العادة ؟.

تطلعت نرمين به مصطنعة ابتسامة صغيرة .

– مجرد صداع بسيط ، لكن كل شيء سيكون على ما يرام .

أحنت نرمين رأسها ليسود صمت عميق المكان ، لم يرغب عمار بخرقه .

ثم رفعت بصرها مرة أخرى بعمار ، و تنهدت بحرارة :

– أظن يا عمار أني بحاجة لأخذ قسط من الراحة ، و من أجل ذلك سأتوجه إلى مكتب الدكتور علي مدير المستشفى لأحصل على إذن غياب لبضعة أيام .

 

10.

أوصدت المستشفى أبوابها  و عم الهدوء المكان ، و انصرف المرضى إلى مخادعهم  باستثناء عمار الذي كان يفكر في الإنارة بهدف إكمال قراءة كتابه ، فتسلل باتجاه قاعة الفنون حتى دخلها دون أن يثير انتباه طاقم الحراسة الليلي ، أوصد خلفه باب القاعة جيداً  و أنار المصباح القريب من المنصة ذو الضوء الخافت ، ثم تربع على المنصة و بين يديه الكتاب ، فكان كلما تفحص الكتاب بعينيه تبادرت إلى ذهنه أسئلة متراكمة عن الموت .

– ما الهدف من الموت ؟.

– و ما هذا الموت الذي يصيب الجميع في مقتل بلا رحمة ؟.

– و من ذا الذي يستطيع هزيمته ؟ سوى الموت نفسه .

– نعم ، الموت وحده الذي يستطيع هزيمة نفسه .

– ماذا لو قتل الموت نفسه ؟ .

– هل سينتهي الموت أم أنه سيظهر مجدداً ليفتك بالمزيد من الكائنات الضعيفة ؟.

– ربما الموت لا يموت ، أو ربما الموت مجرد مرض لعين سيجد له العلماء دواءً ذات يوم كما يقول العم سلمان .

تنهد عمار في حيرة .

– ما بك يا فتى ؟ إن العم سلمان رجل عجوز قضى جل عمره في المعتقلات و مع المجانين .

– أو ربما حينما يعيش إنسان متعقل أو متفكر في قطيع من المجانين ، يظن المجانين أنه المجنون الوحيد بينهم .

ربما العم سلمان هو ذاك المتعقل الوحيد في قطيع المجانين .

فيما كان عمار يتفكر في أسئلته قاده بصره لرأي فيلسوف آخر مثير في آراءه و أفكاره هو أبيقور.

“و قد دعا أبيقور تلامذته و مريده إلى التأقلم مع الموت ، و عدم الخوف منه ، فقد اعتمد في فلسفته على مذهب حيوية المادة و التي تعتبر أن العالم يتكون و يتألف من ذرات غير مرئية تختلف في الحجم و الوزن و الشكل ، و أن هناك ذرات مستديرة و نارية توجد في الصدر تشكل النفس ، و أن النفس هي نتاج تلاق عرضي بين الذرات و أنها تتكون مع الجسد و تفنى بفنائه و بذلك ينفي ابيقور بشكل قاطع عذبات النفس بعد الموت .

و كان أبيقور يعتبر أن الخوف من الموت هو العقبة الكبرى في سبيل السلام العقلي ، و يدعو إلى التغلب على ذلك الخوف فيقول بهذا الصدد :

(عليك الاعتياد بأن الموت لا يعني شيئاً بالنسبة لنا ، فالخير كله و الشر جميعه يكمنان في الحس ، لكن الموت حرمان من الحس ، من هنا فإن الفهم الصحيح هو أن الموت لا يعني شيئاً بالنسبة لنا ، وذلك يجعل فناء الحياة أمراً يمكن الاستمتاع به لا لأنه يضيف إليه مدى لا نهائيا من الزمن و إنما لأنه يستبعد شوق الإنسان للخلود ، فليس هناك ما هو مرعب في الموت ، من هنا فإنه في تكاسل يتحدى ذاك الذي يقول بأنه يخشى الموت لا لأنه سيكون مؤلماً حينما يحل ، و إنما لأن توقعه أمر مؤلم ، فإذا لم يكن يؤلم عند حدوثه فلا يثير توقعه إلا خوفاً أجوف ، و هكذا فإن الموت و هو أعظم الشرور ، لا يعني شيئاً بالنسبة لنا حيث أنه طالما كنا موجودين فإنه غير موجود ، و لكنه حينما يحل فإننا لا نكون موجودين ، و هكذا لا يثير القلق في الأحياء و لا الموتى ، فهو بالنسبة للأوائل ليس موجوداً ، أما الأخرون فإنه لا يصبح لهم وجود حينما يحل).

و استطاع تلميذ أبيقور ، الفيلسوف لوكريشيوس قاروس (55-96قبل الميلاد) طرح مجموعة من الحجج تأييداً لرأي معلمه ، ففي كتابه الثالث طبيعة الأشياء قدم لوكريشيوس سلسلة من الحجج تأييداً لفناء النفس قائلاً :

(الموت لا يعني شيئاً بالنسبة لنا، و لا يعنينا مثقال ذرة ، حيث سبق و أن تمت البرهنة على أن طبيعة العقل فانية ).

كما حاول تبديد الخوف حتى أولئك الذين يؤمنون بوجود نفس أو روح مستقلة تبقى بعد الموت فيقول :

(حتى إذا ما افترضنا طبيعة العقل و قدرة النفس على الإحساس  بعد انفصالهما عن جسمنا الذي يتحول إلى كيان واحد بفضل الرابطة الموحدة بين الجسم و النفس و القائمة على التزاوج ، فإن ذلك لا شيء بالنسبة لنا ، و إذا ما قدر للزمن أن يجمع مادتنا بعد موتنا ، و أن يضعها من جديد في الوضع ذاته الذي هي عليه الآن ، و أن يهبنا مرة أخرى نور الحياة فإن هذه النتيجة ، بدورها لن تعنينا على الإطلاق طالما أن سلسلة وعينا الذاتي قد تفككت حلقاتها.

و من هنا فإن من يشكو من أنه ولد فانيا يبالغ في الأنين ، و هو لا يرى أنه بعد الموت الحقيقي لن تكون هناك ذات أخرى باقية على قيد الحياة )

و إن كان لوكريشيوس قد راهن بأن الخوف من الاحتضار خوف بلا أساس ، و أن الموت يأتي سريعاً مباغتاً و على نحو غير مؤلم ، إلا أن رأيه أعتبر غير مقنع في أوساط العامة خصوصاً في مدى كراهية التوقف عن الحياة .

فحينما يشعر البشر أن تلك المتعة التي وهبت لهم و هي الحياة تكون حاضرة ثم تختفي فجأة ، فإن رد لوكريشيوس عليهم :

(إنهم يتصرفون كما لو أنه بعد موتهم سيكون هذا الموت واحداً من مآسيهم الرئيسية ، كما لو كان التوق إلى أي شيء سيقهرهم )

و هنا يقدم لوكريشيوس برقية تعزية من الحياة و ما بها من عذاب و آلام.

(سوف ترقد و لن تستيقظ مرة أخرى

و عندما تفارق الحياة تتخلى عن ألمك العنيف.

و أسوأ ما يمكن أن يحل بك  إذا أصاب التقدير

هو سبات عميق و ليل طويل طيب .

موجود يفنى ، و موجود آخر يظهر

يتغير لكنه لا يضيع فالطبيعة تعطي و تأخذ ،

يتعين العثور على مادة جديدة للأشياء المقبلة

و هذه يتعين أن تبلى كسابقتها ، و أن تمتثل لحكم الطبيعة ، الأشياء كافة لها أوان للازدهار و الانهيار و من فناء أحدها يولد الآخر.

فالحياة لا تقتصر على هذا أو ذاك

إنها تمنح للجميع للاستخدام ، و لا تمنح لأحد للتملك .

لكن هناك كل شيء ساكن في ذلك الرقاد الخالد فكل الحكايا الكئيبة الموحشة التي ينشدها الشعراء تثبت صحتها على الأرض لا في الجحيم ” كلما تعمق عمار في قراءة المزيد  وجد نفسه في حيرة ما بعدها حيرة ، و رغم ذلك فرغبته العاطفية و القلبية اتجاه أمه تجعله يميل لكفة آراء أولئك الفلاسفة الذين يؤمنون بوجود حياة أخرى بعد الموت.

و مع اقتراب عمار من إنهاء قراءة الكتاب  كان يمني النفس في العثور بالصفحات القليلة الباقية على أجوبة وافية على أسئلته .

” تأثر المصريون القدماء بالموت ، و حاولوا الاستعداد له مادياً و نفسياً ، حيث اعتبروا الموت مجرد بوابة لعالم آخر تحكمه القوى الإلهية المتعددة المهمات و الأفكار ، ففي كتاب الموتى المصري الذي يعود تاريخه إلى 3500 قبل الميلاد ، تناول رحلة الروح الإنسانية في دار الخلود باعتبارها يقيناً حقيقياً و باعثاً على البهجة على الأقل كالوجود الأرضي .

و قد مزج المصريون القدمي بين البشر و الآلهة ، فاعتبروا أن حاكم البلاد بمثابة إله لكونه نصف بشر و نصف إله ، و هو صلة الوصل بين عالم الأحياء و عالم الموتى .

و في نفس السياق حاولت القبائل البدائية إيجاد صلة وصل بين العالم المادي و العالم الآخر .

حيث اعتبرت قبائل أوجيبوا في شرقي الولايات المتحدة الأمريكية و كندا ، أن الميت يبقى واعياً على نحو ما كان و هو على قيد الحياة ، و أن موته يَحُول فقط في التواصل مع الأحياء بطريقة يمكن التعرف عليها ، بينما روحه تبقى واعية بصورة كاملة و مفعمة بالأشواق و الرغبات الإنسانية في أرض الموتى ، و أن عودته إلى الأرض مرة أخرى تبقى قائمة .

و في نفس السياق اعتبرت قبائل تاسمانيا و ساموا و الأينوس في شمال اليابان ، أن لكل إنسان بديل روحي يبقى بعد الموت ، و أن تلك البدائل تظهر على شكل أشباح أو أثناء المنام .

بينما ذهب سكان الإسكيمو الأصليين في اعتقادهم ، أن الميت يولد من جديد في رحم إمرأة حبلى .

أما قبائل الهوبيس في أريزونا ، فيؤمنون بأن للأموات أجساماً أثيرية غير مرئية .

أما أبناء الفيتوتا في الأمازون  فيظنون أن للبشر و الحيوانات أرواحاً مطابقة للشكل، و إن كانت غير مادية .

فهذه الآراء المتشابهة نوعاً ما بين عدة قبائل بدائية تعيدنا لرأي هوميروس و المتمثل في أن الإنسان يملك نفسين ، نفس للتنفس و هي الروح الفانية و النفس الخالدة ، فبينما تفنى الأولى بمغادرتها الجسد تلوذ الثانية بالفرار إلى عوالم أخرى .

و إن رجحت قبائل بدائية في جزر الكاريبي على مقدرتها على إعادة الحياة للميت عبر طقوس و تعويذات سحرية معقدة ، فإن قبائل بدائية في أدغال إفريقيا ترى أن بالإمكان عقد صفقة مع الموت ، عبر منحه جنين تم الحصول عليه من إمرأة حامل في شهرها السابع ، بالاستعانة بطقوس و تعويذات سحرية خاصة تمجد الموت و تقدسه .

فتُسكب الدماء الطاهرة للجنين بعد الصفقة على قبر الميت كانت ذكراً أو أنثى ، فتعود الحياة من جديد لبقايا الجثة ، و تُعرف الصفقة بروح طاهرة نقية ، مقابل روح مدنسة بملذات الحياة “.

قبل أن ينهي عمار قراءة آخر جملة في الكتاب شعر بصداع حاد في رأسه ، و ارتفاع في حرارة جسده .

رمى الكتاب جانباً و قد ضاقت نفسه به ، حاول الوقوف لمغادرة القاعة لكنه لم يستطع ، رغب في الصراخ بأعلى صوته و طلب المساعدة ، لكن شيئاً غامضاً كان يكبح صوته المختنق .

زحف على يديه و ركبتيه ، و فجأة انفجر المصباح الكهربائي فساد ظلام دامس و عتمة موحشة و مخيفة ، و قبل أن يستوعب عمار ما يحدث له ، قوى غامض قذفته من على المنصة فسقط و أُغمي عليه .

……………………

في منزل نرمين جلست زهرة بقربها في البهو يتبادلان أطراف الحديث ، و قد بدت على ملامح نرمين الوهن و الإرهاق الشديد ..

فخاطبتها زهرة بنبرة مرتابة :

– ما بك يا نرمين ؟ تبدين منهكة واهنة القوى.

نرمين بنبرة خافتة :

– لا شيء ، مجرد إرهاق بسيط يا زهرة ، جل الحوامل يعانين من هذه الأمور .

رمقتها زهرة بنظرة متأنية ، فيما حاولت نرمين تلاشي تلك النظرات الحادة.

ثم هتفت زهرة :

– أنظري لي جيداً و لا تتحاشي نظراتي ، هناك شيء تخفيه عني بسبب الحمل ، صارحني يا نرمين  أرجوك.

خلالها أطرقت نرمين بوجهها باكية ، ففزعت زهرة لما أصاب صديقتها فدنت منها و ضمتها لحضنها برقة متوجعة لوجعها .

 

11.

خرقت أنفاس عمار الحارة و أنينه ذاك الصمت الرهيب ، كمن زج به في عالم الأموات المظلم ، تحسس بيده ما حوله فلم يجد شيئاً غير الفراغ ، حاول الصراخ بما أوتي من قوة ، لكن صرخاته لا صدى لها ، انتابه فزع و خوف شديد ، و فجأة دوى صدى صوت غليظ مرعب  زاد من هلع و تعرق و ارتجاف عمار الذي أوصد أذنيه بيديه في رهبة و خنوع.

و هنا هتف ذاك الصوت المخيف:

– أنا الموت ، أنا الموت يا عمار ، سمعت أنك تسأل عني ، هأنا جئت لأصارعك نداً لند .

هيا تحرك نحوي كرجل و واجهني ، و كفى جبناً ، واجه مصيرك ببسالة ، فحينما يدق الموت بابك لا أحد يمنعه عنك .

ثم تعالت ضحكات صاخبة في المكان.

كان جسد عمار يرتجف بشدة من هول الموقف ، لكنه حاول استعطاف الموت بنبرة خافتة مترددة و متقطعة :

– أنا.. آسف.. يا .. سيدي .. أرجوك .. لا تؤدني ..

عاد صوت الموت مجدداً بنبرة أقل حدة :

– لن يمسك مكروه ، لأن وقتك لم يحن بعد .

دنا الموت من عمار حتى لامست أنفاسه الكريهة وجهه ، ثم هتف به :

– أفتح عينيك يا عمار و أنظر لأمك .

أحس عمار بضوء شفاف ينفذ من جفنيه ، فتح عينيه باطمئنان ، كان يفصل بينه و أمه ممر من نور ، تطلع عمار لأمه بلهفة و شوق ، حيث بدت كأميرة فاتنة بفستانها الأبيض و تاجها المرصع بالألماس و اللؤلؤ ، رمقته بنظرات عميقة ، ثم هتفت له برقة :

– قريباً يا بني سنكون معاً ، معاً للأبد هذه المرة .

هتف عمار و قد دمعت عيناه :

– أحبك يا أمي ..

– و أنا أيضاً يا بني أحبك .

و شيئاً فشيء أختفت الأم ، ثم الممر ، و عاد الظلام الدامس ليسود من جديد ، تمكن الأسى و الحزن من عمار ، و رغم ذلك فقد انفكت عقدة لسانه و بدا أكثر ثقة في مخاطبة الموت .

– أيها الموت المبجل ، إني أنحني لك إكباراً و إجلالاً لمقامك العظيم .

وأتمنى أن تقبل مني قرباناً طاهراً لجنين في شهره السابع ، تقرباً من حضرتك العظيمة و رغبة في عودة أمي لي مرة أخرى ..

هتف الموت بحبور :

– لك ذلك يا عمار ، لك ذلك يا عمار .

…………………………..

مرت بضعة أسابيع على حادثة قاعة الفنون تغيرت فيها شخصية عمار بشكل مريب ، حيث أصبح شارد الذهن و ميالاً للانطواء على نفسه طوال الوقت ، حتى أن تواصله وحديثه مع العم سلمان قل بشكل أثار استياءً و حزناً لدى الأخير ، و الذي كان يعتبر عمار بمثابة الابن الذي لم يُرزق به ، أما علاقته بالدكتورة نرمين فغلب عليها الفتور و لامبالاة ، مع انشغال نرمين بحملها و مشاكله ، كما لم يعد عمار يقدر مقامها كالسابق أو يأبه بنصائحها أو يأخذ بكلامها .

و ذات يوم في حدود الساعة التاسعة صباحاً ، تلفن مدير المستشفى للدكتورة نرمين التي كانت في منزلها.

استيقظت نرمين من النوم  و ردت بصوت متعب:

– من معي .

– مرحباً دكتورة نرمين ، معك الدكتور علي مدير المستشفى .

هتفت نرمين بمجاملة:

– مرحباً  دكتور علي ، لقد سُعدت باتصالك .

لكن الدكتور علي بدا متوتراً :

– دكتورة نرمين ، عليك الحضور فوراً للمستشفى .. لأن أحد المرضى الذي تشرفين على حالته قد فر البارحة ليلاً من المستشفى .

انقبض قلب نرمين ، و هي ترد بقلق :

– من تقصد يا دكتور علي ؟.

صمت الدكتور علي لوهلة ، ثم قال:

– عمار ، يا دكتورة نرمين .

هتفت نرمين في دهشة :

– يا إلهي ، لا أستطيع التصديق !.

– الشيء المريب في الأمر يا دكتورة نرمين ، أني اتصلت بعمه الذي يرعاه ، و أكد لي أنه لم يقصد منزله للحين .

تنهدت نرمين و بنبرة متوترة :

– حسناً ، يا دكتور علي سأتي حالاً للمستشفى ..

…………..

استيقظ العم سلمان على وقع مفاجأة فرار عمار من المستشفى ، و الذي ترك له رسالة وداع مكتوبة بخط يده مع كتاب الموت بالقرب من سريره .

(شكراً لك يا عم سلمان على كل شيء قمت به معي ، فقد كنت أفضل صديق عرفته .

و أيضاً أشكرك على الكتاب الذي استعرته منك و الذي علمني الكثير حول الموت ، لم أعد بحاجة للمكوث بالمستشفى ، أظنني أصبحت على ما يرام ، صديقك العزيز و الوفي عمار ).

دمعت عينا العم سلمان و هو يقرأ الرسالة ، قفز من مخدعه و قصد عنبر عمار ليتأكد بنفسه أن الأمر ليس دعابة من دعابات عمار ، لكن الخبر كان صحيحاً.

مر الشهر تلو الآخر و ظل اختفاء عمار الغامض قائماً طيلة تلك الشهور ، خصوصاً و أنه لم يقصد منزل عمه الذي يرعاه طيلة مدة اختفائه.

12.

في منزلها كانت نرمين تمسك بأسفل بطنها المنتفخ و قد بلغت شهرها السابع ، حيث بدت في حالة شاحبة مصفرة مثيرة للقلق، و هي تذرع أرضية شقتها ذهاباً و إياباً بخطوات متهادية ، مطلقة العنان لأنينها و تأوهاتها بين الفينة و الأخرى .

كانت نرمين في انتظار قدوم أخ زوجها الذي تلفنت له منذ ربع ساعة لينقلها إلى المصحة ، ثم تلفنت لصديقتها زهرة لمرافقتها ، حيث أبدت الأخيرة استجابة فورية ، و قبل أن تنهي نرمين المحادثة مع زهرة ، ترامى إلى سمعها طرق على باب الشقة ، فأنهت المكالمة و توجهت نحو الباب و فتحته ظناً منها أن أخ زوجها هو من حضر ، فشعرت بالارتياح و الطمأنينة قليلاً .

و أثناء فتحها للباب ، و دون أن ترى من خلفه ، هتفت معاتبة أخ زوجها :

– لقد تأخرت كثير يا …

و حينما رأت من كان بالباب  تسمرت في مكانها من وقع المفاجأة و هي ترنو له في ذهول ، ساد صمت قصير خرقه صوت نرمين المتحشرج :

– عزيزي عمار، أين كنت ، لقد بحثناً عنك في كل مكان ؟

كان عمار مغطى الرأس بملامح حادة مرعبة ، و عينين محمرتين كالجمر ، و هندام متسخ من القذارة ، بدا كمن خرج لتوه من الجحيم.

أثارت نظراته المريبة ، و أنفاسه المرتفعة الحارة ، الخوف و الرهبة في نفسية نرمين ، فصاحت برعب :

– إنك لست عمار ، إنك الشيطان .

ارتسمت ابتسامة ماكرة مخيفة على وجه عمار ، أزاحت الستار على أنياب مرعبة كمصاصي الدماء ، حينما لمحتها نرمين ارتجفت بشدة و صرخت بأعلى صوتها :

– النجدة .. النجدة ..

تراجعت نرمين إلى الوراء عدة خطوات لتوصد الباب ، لكن عمار باغتها بلكمة قوية في بطنها مباشرة ، فصدر عن نرمين صرخة مدوية اهتزت لها أركان الشقة لتسقط على الأرضية مغمى عليها.

أوصد عمار باب الشقة بهدوء ، ثم ألقى نظرة متأنية لنرمين التي كانت تنزف بغزارة ، و بعدها مشى بخطوات مستهترة يبحث عن المطبخ ،

ولج المطبخ و ما زلت ملامح الشيطان تسكنه ، مد نظره في المكان يبحث عن شيء إلى أن وقع بصره على سكين حاد كبير ، رفعه بهدوء أمام وجهه كمرآة فظهر انعكاس مرعب لملامح الموت على السكين ، ابتسم بمكر ثم عاد لنرمين المستلقية في دمها ، كان عمار يتفكر في إخراج الجنين من بطنها كقربان طاهر للموت .

لكنه كاد يجن حينما رأى نرمين وقد اختفى بطنها المنتفخ ، فانحنى على جسدها ، ثم أمسك برقبتها الناعمة بكلتا يديه ، و هز رأسها بشدة و هو يسألها كالمجنون بصوت هستيري غاضب :

– أين هو جنينك يا دكتورة نرمين ؟.

كانت هلوسات الموت تطارده ، أعاد طرح السؤال مراراً و تكراراً.

و فجأة كمن استفاق من كابوس مرعب ، هتف بصوت خافت كصوت عمار الحقيقي :

– دكتورة نرمين ، من فعل بك هذا ؟.

كانت ملامحه مصدومة مما فعلت يداه ، بكى و انتحب بحرارة ، فكر في حملها و نقلها لأقرب مصحة ، و لكن بمجرد أن رفع رأسه رأى الموت شاخصاً أمامه بعظمته و جبروته و دهائه يراقبه و يتلذذ ببكائه و انتحابه .

وقف عمار على قدميه و هو يحمل سكينه الحاد ، ثم رفعه في وجه الموت و صاح بكبرياء :

– لن تحصل عليها أيها الحقير مرة أخرى .

هنا خاطبه الموت بصوت هامس:

– هذا ما كنت أنتظره منك يا عمار ، صراع حتى النهاية ، ثم أبتسم بمكر .

و في لمح البصر هرول عمار نحو الموت و هو يلوح بسكينه الحاد باتجاهه ، لكن الموت كان كالطيف أمام ضربات عمار ، و أمام عياء و تقهقر عمار دوت في المكان ضحكات صاخبة صادرة عن الموت هزت الشقة هزاً .

تراجع عمار نحو نرمين و عيناه تذرفان دماً قاتماً ، ألقى نظرة كئيبة لنرمين ، ثم هتف بنبرة هامسة حزينة :

– أنا آسف يا أماه ، لم أستطع حمايتك هذه المرة أيضاً من الموت اللعين .

وقبل أن يكمل جملته تلقى عمار ضربة قوية على ظهره  وقع على إثرها بجسده على جسد أمه نرمين فاخترقه كطيف ، و شيئاً فشيئاً تلاشى الاثنان في عالم الأموات..

 

13.

( كلما حاولت التحرر من عبء الماضي المرير ، أجد أن هناك حصاراً يطوقني من كل اتجاه ، حصاراً يقودني نحو الموت )

أخر ما كتبه العم سلمان كرسالة انتحار عُثر عليها فوق سريره ، قبل أن يرمي بنفسه من سطح المستشفى نحو الحديقة و تنتهي قصة حياته ، وذلك مع بزوغ أشعة صباح جديد .

طوقت السلطات الأمنية المستشفى ، و بدأت الفرقة العلمية المتخصصة في الجرائم تحقيقها لسبر أغوار هذه الفاجعة ، خلالها كان الدكتور ياسر المشرف على حالة العم سلمان مصدوماً من وقع الحادث  و هو يجيب على أسئلة المحققين بنبرة حزينة:

– كان في الشهور الأخيرة يتهيأ له أمور غريبة عن وجود شخص مجهول يُدعى عمار ، دخل المستشفى كمريض ، تارة يتحدث على أنه صديق ، و تارة أخرى يتحدث على أنه أبنه الذي رُزق به من زوجته الدكتورة نرمين.

قاطعه المحقق متسائلاً :

– و أين هي الدكتورة نرمين الآن ؟.

– كانت تعمل بهذا المستشفى منذ تسعة عشر سنة ، و توفيت هي و جنينها في شهرها السابع إثر نزيف حاد أثناء نقلها للمصحة .

– و هل سبق أن كان من بين مرضاكم في الآونة الأخيرة شخص يُدعى عمار؟ .

أومأ الدكتور ياسر رأسه بالنفي .

– لا ، يا سيدي .

– هل تظن يا دكتور أن سبب انتحار السيد سلمان هو عدم قدرته على نسيان الماضي المرير؟ .

تفكر الدكتور ياسر لوهلة ، ثم قال:

– رغم المشاكل الكثيرة التي كانت بين الزوجين ، إلا أن السيد سلمان كان يحب زوجته بشكل كبير ، و زاد عشقه لها بعد أن حملت بابنهما الأول بعد سنوات طوال من الانتظار و العلاج ،

و لكن ما زاد من وجع و حزن السيد سلمان أن زوجته توفيت أثناء اعتقاله بتهم سياسية ثقيلة ، دون أن يراها و لو لمرة أخيرة .

المحقق و هو يكتب بعض المعلومات على مذكرته الصغيرة :

– و ما قصة دخول السيد سلمان للمستشفى للعلاج ؟.

– قضى السيد سلمان عشر سنوات من حياته وراء القضبان ، و حينما خرج من السجن كان ضائعاً بلا هدف بعدما فقد عمله كأستاذ جامعي ، و فقد أيضاً زوجته ، فقاده الفراق و الحزن العميق إلى الاكتئاب و الانغماس في تعاطي المخدرات ، و منذ أربع سنوات و نيف قام السيد إبراهيم أخ السيد سلمان بوضعه في المستشفى للعلاج ، لكن طيلة تلك المدة لم تتوقف معاناته الشاقة ، رغم هدوئه و مرحه مع المرضى و حبه للجميع ، رحمة الله عليه كان إنساناً طيباً مسالماً و محبوب من طرف الجميع.

وضع المحقق مذكرته الصغيرة في جيبه ، ثم صافح الدكتور ياسر قائلاً :

– نشكرك يا دكتور على رحابة صدرك ، و لنا لقاء قريب لإكمال مجريات التحقيق إذا أمكن.

– على الرحب والسعة

…………………….

نعود بذاكرة الزمن إلى ما قبل تسعة عشر سنة .

الدكتورة نرمين لحارس المستشفى بنبرتها الرقيقة المعهودة:

– يا عم يوسف ، إذا سأل عني أي شخص أخبره أني ذهبت لتناول وجبة الغذاء في المطعم المجاور للمستشفى ، و سأعود بعد نصف ساعة أو أقل .

– حسناً يا دكتورة ، في أمان الله .

قصدت الدكتورة نرمين المطعم و تناولت غذائها بسرعة ، و همت بالمغادرة ، و لكن أثناء خروجها من مدخل المطعم تسمرت في مكانها في دهشة بعد أن ألتقت وجها لوجه مع شخص ليس بغريب عنها ، تبادلت مع ذلك الشخص نظرات طويلة عميقة صامتة ، خلالها كانت الذكريات تزاحم بعضها البعض في مخيلتها.

لم يكن ذلك الشخص سوى عماد حبها الأول منذ الثانوية حتى الجامعة إلى أن غادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة عمته بهدف إكمال دراسته ، و أثناء مغادرته للبلاد وعدها بأنه سيعود بعد سنة أو سنتين ليتزوجا و يرحلا معاً إلى أمريكا ، و لكنه بعد بضعة شهور من وصوله إلى أمريكا انقطعت اتصالاته بها ، و أخباره بشكل مطلق.

كانت نرمين تمني النفس برغبة جامحة في الارتماء بين أحضانه ، و البكاء بحرقة و عتابه على تخليه عنها ، لكن الكبرياء و عزة النفس منعتها من ذلك .

حاولت نرمين تفاديه و المغادرة ، إلا أن عماد أمسك بمرفقها برقة ، و دنا منها بهدوء ، و بصوت هامس حزين :

– أنا آسف يا نرمين ، لقد افتقدتك كثيراً في غيابي ، أتمنى أن تسامحيني و تغفري لي .

تنهدت نرمين من الأعماق ، ثم ردت بجفاء :

– لا عليك يا عماد ، هذه هي الحياة ، كل يأخذ نصيبه .

و بنبرة مترددة:

– هل أستطيع أن أتحدث معك قليلاً يا نرمين .

تفكرت قليلاً ثم تطلعت لعينيه الحزينتين :

– الآن لا يمكنني ، علي العودة فوراً للمستشفى لإكمال دوام عملي .

بدا عماد أكثر إلحاحاً :

– ما رأيك أن نلتقي غداً هنا في نفس الساعة ، عندي لكي الكثير من الأمور التي أرغب في قولها لكي .

ترددت نرمين لوهلة ، لكن إصرار عماد و رجاؤه لها  جعلها تستسلم لتلك المشاعر الجياشة القديمة .

في اليوم الموالي كانت نرمين أكثر صرامة و صراحة مع عماد ، عاتبته بشدة بسبب تركه لها و قطع صلة الوصل بينهما ، إلا أن عماد استطاع باعتذاره المتكرر و تبريراته الكثيرة عن المشاكل و الظروف السيئة التي مر بها في أمريكا ، من جعل نرمين تتخذ منه موقفاً أقل حدة ، بل جعلها تميل له شيئاً فشيئاً من جديد.

توالت الأيام و استطاع عماد أن يستدرج نرمين في الكلام ، فحكت له المشاكل التي تمر بها مع زوجها سلمان و خياناته المتعددة و إدمانه للكحول ، و إهانته الجارحة لها حينما يصفها بالمرأة الناقصة لعدم قدرتها على الإنجاب حتى الآن أثناء احتدام الخلافات بينهما.

ذرفت نرمين دموعها أمام عماد دون أن ترى ذلك ضعفاً منها ، فعماد ليس مجرد شخص عادي مر في حياتها بل هو حب حياتها الذي اختطفته منها أرض الأحلام أمريكا .

و ذات عشاء أمسك بكلتا يديها قبلهما مطولاً برفق و نشوة كما كان يفعل في الماضي ، و تمنى أن تعود له مجدداً ، أما نرمين فلم يختلجها أي اعتراض على تصرفات عماد نحوها ، أو أي تأنيب للضمير اتجاه زوجها سلمان ، الذي لم يعد ذلك الزوج الذي ترغب في الاستمرار معه رغم يقينها بعشقه لها رغم كل الخلافات و المشاكل بينهما .

اتفق الاثنان نرمين و عماد على الزواج و الهجرة إلى أمريكا ، بعدما أن يحصل كل منهما على الطلاق ، لم يكن الاتفاق مجرد كلام في مقهى أو مطعم أو في حديقة عامة ، لكن عماد استطاع أن يقنع نرمين بحقهما في ممارسة الحب كعاشقين ، فقصدا غرفة في فندق صغير  و هناك مارسا الخيانة سوياً حتى النشوة ، بعدها غادر عماد إلى أمريكا لظروف عمله و أيضاً لتسوية نزاعاته مع زوجته الأمريكية ، لكن التواصل بقى بينهما عبر الهاتف ، صارحت نرمين زوجها سلمان برغبتها في الطلاق  لكنه رفض بشدة و ترجاها و وعدها بأنه سيتغير إن عدلت عن فكرة الطلاق ، لكنها رغم ذلك تركت المنزل  و توجهت للاستقرار مؤقتاً في فندق صغير قرب المستشفى و بدأت إجراءات الطلاق ، مرت عدة أيام أخرى حينما شعرت نرمين ببعض التعب و الوجع ، لتكتشف أنها حامل ، كانت فرحة نرمين لا تُوصف  فبعد سنوات من الانتظار ، ها هو جنين في أحشائها و من شخص تعشقه هو عماد ، كانت تظن أن عماد سيتقاسم معها فرحتها حينما تخبره ، تواصلت معه سريعاً عبر الهاتف و أخبرته ، لكن ردت فعله كانت باردة و غير مبالية.

نرمين بنبرة ترجي :

– عليك القدوم و الاعتراف بابنك يا عماد ، أرجوك لا تتخلى عني ، لقد قدمت أوراق الطلاق إلى المحكمة و قريباً سأحصل على حريتي.

تفكر عماد ملياً في رده القادم لوهلة من الوقت ، بينما نرمين في توتر شديد .

– عليك أن تتخلصي منه يا نرمين ، إني حالياً أعاني مشاكل كثيرة مع زوجتي اللعينة ، إنها ترغب في تدمير مستقبلي و الزج بي في السجن ، أنا آسف يا حبيبتي ، لكن ليس في مقدوري فعل أي شيء لكي .

قاطعته نرمين بانفعال و غضب من كلامه:

– بعد سنين من الانتظار ، تريد مني التخلص من أبني ، أيها الوغد ، الجبان ، الخسيس .

و قبل أن تسترسل في شتمه ، أنهى عماد المكالمة .

جعلتها المكالمة في صراع داخلي ، و سؤال ملح حول ما ستفعله في مستقبل الأيام فحملها سينكشف عاجلاً أم آجلاً ، ما جعلها مضطرة للبحث عن حل سريع يخفي خطيئتها ، و لم يكن أمامها خيار سوى أن توهم زوجها سلمان بأنها حامل منه أخيراً .

سعد سلمان بخبر حمل زوجته  ظناً منه أن ما في أحشاءها هو ابنه الذي تمناه طويلاً ، حتى أنه عاهد نفسه بتسميته عمار على أسم والده إذا كان ذكراً.

توالت الشهور إلا أن الوجع و الألم لم يكن يفارق فترة حمل نرمين، و التي أصرت على الاستمرار في حملها رغم تحذيرات الأطباء لها ، أثناء ذلك اعتقل سلمان الذي كان أستاذاً للفلسفة في الجامعة أثناء مشاركته في مظاهرات مطالبة بالحرية و الديمقراطية و زج به في المعتقلات السرية ، و رغم محنة زوجها  حاولت نرمين الصمود في وجه كل ما يحدث لها من مشاكل مستعينة بأخ زوجها إبراهيم ، و صديقتها المقربة زهرة ، و في الشهر السابع من حملها تعرضت نرمين لوجع حاد ، حيث بدت حالتها يُرثى لها و الموت يحوم حولها ، و في سيارة الإسعاف التي كانت تنقلها للمصحة أمسكت نرمين لآخر لحظات حياتها بيد صديقتها زهرة ، و أشارت لها بأن تقترب منها ، لأنها ترغب في إخبارها بسر مهم .

كانت زهرة تبكي بحرقة ، فدنت من نرمين حتى لامست أذنها فم نرمين ، و هنا همست لها بسرها بنبرة مرتجفة متقطعة:

– أريدك يا زهرة أن تطلبي من سلمان أن يسامحني و يغفر لي ، و أن تخبريه أن ما كان في أحشائي ليس ابنه ، لقد خنته مع حبيبي السابق عماد .

ثم شهقت نرمين شهقة قوية فارقت خلالها الحياة مع جنينها.

………………….

حافظت زهرة على سر نرمين في أعماقها دون أن تخبر به أحد حتى أقرب المقربين منها ، و فكرت طيلة سنوات عن الطريقة المثلى لإخبار سلمان المنهار نفسياً  حينما يغادر السجن ، و لذلك استمرت زهرة في صراع داخلي طويل إلى حدود الأسبوع الذي كان سيطلق فيه سراح سلمان ، حيث تعرضت زهرة لحادث مروري أدى إلى وفاتها ، و بذلك مات سر نرمين معها إلى الأبد دون أن يعرفه سلمان.

……………..

” من ذا الذي يعرف إن كان ما نسميه بالموت ليس حياة ، و أن الحياة ليست موتاً “

من أقوال المفكر و الكاتب المسرحي اليوناني : يوربيديس (480 ق.م – 406 ق.م)

النهاية ……..

 

تاريخ النشر : 2019-12-15

guest
34 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى