أدب الرعب والعام

أصابع الشيطان

بقلم : امرأة من هذا الزمان – سوريا

يا صاحب هذا الإصبع اللعين اقترب أيها الوغد واسمع
يا صاحب هذا الإصبع اللعين اقترب أيها الوغد واسمع

 

المكان : ضاحية من ضواحي مدينة دمشق.

الزمان : شهر كانون الأول من عام ١٩٩٧م.

كانت ليلة مظلمة ممطرة و كأن الأرض قد أعلنت الحداد فارتدت عباءة سوداء حالكة أسدلتها من سمائها إلى أرضها فلا نجمة في السماء ولا ضوء على الأرض ، الأمطار تهطل بغزارة كدموع ثكلى تبكي وليدها الوحيد الذي انتظرته بعد سنوات من العقم ، والرعد يتخلل تلك الظلمة فيضرب بسيف أقوى من نار لتعم الفوضى لثوان في نظام مراسم الحداد تلك ثم لا يلبث أن يعود كل شيء كما كان عتمة وبكاء .

اختلطت في تلك الأجواء الصامتة الصاخبة كل موجات الأصوات ، فمن هدوء قاتل إلى هزيم رعد يهز الدنيا ، ومن زخات مطر عنيفة إلى نباح خافت لكلب جائع.

جلس الأستاذ آدم أمام نافذة غرفة الجلوس ليراقب هذه الثورة الطبيعية على ضوء شمعة خجولة بالكاد تضيء نفسها.

– لم أشاهد في حياتي ليلة أكثر سواداً وأغزر مطراً من هذه يا حبيبتي.

– أجل يا حبيبي ، ولم يكن ينقصنا إلا انقطاع التيار الكهربائي حتى تكتمل المهزلة.

الأستاذ آدم بامتعاض : اللعنة عليهم ، ألم تعتادي على تهاون موظفي الكهرباء ؟.

فجأة أضاءت الدنيا كاملة ببرق تبعه رعد مدوي وكأن انفجاراً عظيماً قد حصل مقاطعاً الأستاذ و زوجته قبل حتى أن تنطق.

– بسم الله الرحمن الرحيم  (الله يمضي ها لليلة على خير ) قالتها ناديا بفزع شديد.

قهقه ضاحكاً : ماذا بك يا حبي ، هل خفت من الرعد ، وكيف تخافين وأنا معك ؟.

ضحك الأثنان سوية واقترب آدم إلى ناديا و ضمها بقوة على أريكتهم القديمة أمام مدفأتهم الجدارية وقال لها :

-أعدك سأحميك من كل شيء وسنبني أحلامنا سوياً ، سأدعمك حتى تحصلي على الماجستير وستدعمينني حتى أحصل على الدكتوراه ، سنجد وظيفتين في الجامعة  وربما لو حالفني الحظ قد أعمل في المتحف الوطني، قاطعته ناديا قائلة: و أنا قد يضحك لي القدر فأجد وظيفة مترجمة في السفارة الفرنسية ، يا الهي سنستطيع بذلك دفع أقساط منزلنا وسنشتري أثاثا جميلاً وننجب أطفالاً جميلين.

– حبيبتي أنا أسف لأنك اضطررتي أن تدخلي إلى بيتك وهو غير مكتمل التأثيث ، ولكن لن أنسى تضحيتك هذه و يداً بيد سنعوض أنفسنا وننسى كل هذا التعب……

قاطعته أصوات صراخ بنبرات متعددة وكأنه يعود لعدة أشخاص ، رجال على التحديد ، كانت الأصوات عالية ومخيفة وأصوات صفعات وضرب وصياح وشتائم بعضها يتوعد وبعضها يتألم ، يستطيع أي شخص أن يحزر بأنه عراك عنيف من نوع ما.

– ما هذا يا آدم ؟.

– لا ادري حبيبتي ، ربما بعض أفراد العصابات أو المشردين يتشاجرون على سيجارة أو قارورة من الكحول ، لا يمكن معرفة الوضع فالدنيا كما ترين عماء في عماء.

-اللهم لا نسألك رد القضاء بل نسألك اللطف فيه….

نظر اليها آدم بطرف عينيه و على فمه ابتسامة صفراء.

قالت له ناديا ببعض الغضب بعد أن فهمت نظرته.

– لقد اتفقنا أن تبقى آرائنا الدينية خارج علاقتنا الزوجية ، وأخبرتك أنني احترم منهجك وتحترم معتقدي لذلك لا تنظر إلي هكذا ثان…..

لم تكمل جملتها حتى قطع حديثها صوت طرق الباب بقوة ، جعل الصوت الإثنين ينظران لبعضهما بخوف وحيرة.

– أرجوك ، لا تفتح يا آدم وأمسكت يده بقوة.

– حبيبتي لا يمكن أن لا نفتح ، ماذا لوكان أحد من أهلك أو هلي ، ماذا لو كان جاراً أو محتاجاً ؟.

– إذاً اسأل من على الباب ؟ في البداية ثم أفتح ، ماذا لو كان أحد اطراف الشجار او….

قاطعها وهما يتجهان إلى الباب : سنرى…

وقفا خلف الباب وصاح آدم بصوت مرتجف : من على الباب ؟ كان يحاول أن يبدو حازماً وغير مكترث بكل مظاهر الخطر والرهبة التي حوله ، ولكن رجفة صوته كانت تفضحه ، لم يأتي رد ، أمسكت ناديا يده بقوة ، فأعاد النداء. ..

وهنا جاء صوت خافت من وراء الباب :

– أرجوكم أنقذوني…افتحوا لي…لقد هاجمني هؤلاء ال… وسمعا صوت سقطة على الأرض.

فتح الأستاذ آدم الباب ببطء شديد وخوف وتردد ونظر أمامه فيما كانت ناديا تحمل الشمعة واقفة خلف كتفه في محاولة منها أن تضيء له ولكن دون التهور والاقتراب.

أصيب الاثنان بالصدمة من المنظر الذي أمامهم ، شاب في الثلاثينات مغطى بالدماء من رأسه إلى أخمص قدميه وكأنه كان في حرب طاحنة ، امتلأ وجهه الأبيض الشاحب وشعره الأسود الطويل دماً وتمزقت ثيابه في موضع كل جرح حتى ليظن المرء أنه ضُرب بالسيوف ، كان يئن متألماً على الرغم من فقدانه للوعي ، لم يتخيل أدم أن تكون المعركة التي في الخارج بهذه القسوة والعنف ، و كردة فعل سريعة ودون تردد حمله بكلتا يديه و وضعه على كتفه وطلب من ناديا أن تسند طرفه الآخر على كتفها ، اقتربت منه بتردد وهي تتمتم بصوت خافت : ماذا لو كان مجرماً أو مدمناً أو ، لم تتجرأ أن ترفع صوتها لأنها كانت تعرف أن ردة فعل آدم ستكون مزعجة لها فهو لم ولن يقبل أن يتجاهل جريحاً بحاجته.

أدخلاه إلى غرفة الجلوس و وضعاه على الأريكة ، وضع آدم بعض الحطب في المدفأة ليزيد حرارتها وطلب من ناديا أن تحضر له غطاء وعدة الإسعافات الأولية من الخزانة.

أسرعت إلى غرفة نومهما وأحضرت أحد غطائين لا يوجد غيرهما ثم اتجهت إلى خزانة صغيرة في المطبخ والتقطت علبة الإسعافات.

– تفضل حبيبي ، قالتها وهي ما زالت غير واثقة بصحة ما يفعلانه.

– شكراً عزيزتي ، والآن هلا حضرتي له شيئاً ليأكله ؟ أكيد أنه سيستيقظ جائعاً بسبب كمية الدم التي خسرها .

– حسناً عزيزي ، سأحضر له بعض حساء الخضار الذي طبخته ظهراً.

– لا عزيزتي ، أقول لك أنه خسر دماً كثيراً ، أرجوكِ حضّري له بعضاً لحم الدجاج ، تعلمين من الدجاجة التي كنت ستحضرينها لأهلي عند زيارتهم.

هزت برأسها موافقة بأسلوب نفذ ثم أعترض و ذهبت إلى المطبخ تحضّر طعاماً للجريح الذي أصبح مادة دسمة لخيالات العروس الجديدة.

مضى ما يقارب النصف ساعة وهي في المطبخ وآدم مع الجريح يطببه تارة ويغطيه تارة أخرى ويزيد الحطب في المدفأة ثم يعود ليطمئن على الشاب “المسكين”.

– نادو ، نادو تعالي حبيبتي إنه يستيقظ ، رويداً رويداً يا أخي لا تتحرك حركات سريعة فأنت ما زلت جريحاً ولقد نزفت دماً كثيراً.

فتح الشاب عينيه ونظر حوله فرأى آدم جالساً بجانبه وناديا ترنو اليه بنظرات حذرة وهي تحمل سفرة طعام وتنظر إليه كمن ينتظر منه تقريراً مفصلاً عن اسمه و وضعه وتاريخ حياته.

– ما الذي حصل لي ؟ وأين جنود ال…

أسكته آدم مقاطعا وقال له : ليس هذا وقت الكلام ، أنت أكيد متعب ، تناول عشاءك والصباح رباح.

لم تتفهم ناديا من أين لآدم برودة الدم هذه وكيف سيسمح لغريب بالمبيت في بيتهما الصغير الذي بالكاد يتسع لهما ! فهو أكيد سينام في غرفة الجلوس وهما في غرفة النوم ولا توجد إلا هذه الغرفتان وغرفة صغيرة ( للكراكيب).

آذن الفجر وتسللت أضواء الفجر من نافذة غرفة النوم لتداعب جفني العروسين المنهكين مما حصل معهما ليلة الأمس ، استيقظ آدم من نومه و سحب يده رويداً رويداً من تحت رأس زوجته واتجه مباشرة نحو غرفة الجلوس ، تفاجأ لرؤية الشاب جالساً على كرسي قريب من النافذة وكان يبدو بصحة جيدة لشخص تعرض لكل هذا العنف ، لم يبق على وجهه إلا آثار طفيفة من بعض الجروح ، أما جروح جسده فقد تغطت بلباسه الذي لم يتعرض لأي ضرر ! ولّد هذا في نفس آدم مئات المخاوف والتساؤلات ، فكيف لشخص كان في البارحة على شفير الموت أن يقوم بكل هذه القوة ؟ و أين تلك التمزقات في ملابسه ولحمه ؟ وووو….

– شكراً لكم على مساعدتي ، لن أنسى فضلك ما حييت يا أخ.

– آدم إسمي هو آدم ، وأنت ؟.

– أنا مرة ، قالها وهو مبتسم ابتسامة عذبة لا تخلو من بعض الغموض.

– حسنا يا مرة سآتيك بكوب من القهوة ريثما تحضر لنا زوجتي الإفطار.

ابتسم له الشاب وهو يعرف بما في جعبة الرجل من أسئلة تدور حوله.

-استيقظي نادو حبي ، هيا حضري لنا الإفطار ،لقد استيقظ الشاب ولكن….

– ولكن ماذا ؟.

– يا مخادعة لم تستيقظي حتى عرفتي بوجودي ولكن ؟.

حبيبتي هذا الشاب يبدو بصحة جيدة وكأنه ليس الشاب الذي كان يصارع الموت البارحة ، بكامل وسامته ولباسه الأنيق على الرغم من شحوب بشرته الذي يذكرني بشخصيات أفلام الرعب الهوليودية.

– تفاجأت ناديا من كلامه.

قالت له : ربما نحن بالغنا في خوفنا ونظرتنا له حتى ظنناه بتلك الحالة السيئة ، و لا تنسى كان التيار الكهربائي مقطوعاً ، سأقوم و أحضر الطعام لنرى ما سيحصل ؟.

– ربما ! حسنا حبيبتي سأنتظرك مع مرة.

– مرة ؟ ما هذا الإسم ، هل هرب من أحد كتبك التاريخية ؟.

ضحك الاثنان وخرجا معاً من غرفتهم ، اتجه آدم إلى الشاب واتجهت ناديا إلى مطبخها.

ساد صمت قاتل فيما جلس الثلاثة حول المائدة ، و في عيون كل منهم أسئلة عدة وفضول قاتل ، كل واحد منهم ينتظر الآخرين ليبدأ الكلام.

– شكراً لكم على استقبالي و تطبيب جراحي مع أنكم لا تعرفونني.

– لا شكر على واجب ، نطقها آدم بحفاوة ، أما نادو فاكتفت بهز رأسها وهي ترسم ابتسامة مليئة بالنفاق فلو كان الأمر عائداً لها ما استقبلته ولا فتحت له الباب أصلاً.

– أشكركم على وجبة الإفطار اللذيذة هذه وعلى موقفكم الإنساني معي ، هذا أنتم يا بني آدم طيبون ومحبون لفعل الخير ، أو على الأقل بعضكم ممن لا يزالون على صلة بروح أبيهم آدم وخالقهم.

– آدم أنا آدم ، ولست بني آدم ، أقصد أنني ابن آدم ولكن….أووووه لقد فهمتم قصدي.

– يا بني آدم ، وما أنت هل أنت من بني شمروخ ، قالتها نادو متهكمة وهي تقهقه.

– كلا يا سيدتي ، أنا من بني إبليس وأبي من بني سموم ، قالها وقد انقلبت ملامحه من جمال شاحب إلى نظرات شيطانية مليئة استخفافاً.

– ضحك : يا لك من مراوغ يا مممممم مرة ، قالها كمن تذكر شيئاً ، إذاً لذلك قلت لي أن اسمك مرة نسباً لذلك الكيان الأسطوري المسمى بعزازيل أو أبي مرة.

أدار مرة وجهه إليه بسرعة وغضب شديدين وعلا صوته وقال : وعزة أبي لولا أنك داويت جراحي أثناء معركتي مع بعض جنود الله الذين يسمون الملائكة لحرقتك على كرسيك ، جمد الدم في عروق الإثنين ، ما هذا المختل العقلي الذي تورطا في إدخاله إلى حياتهما البسيطة وبيتهما الصغير ! ما كان آدم ليصدق بأي وجود غير ملموس سواء لخالق الكون أو عدوه وعدو عباده إبليس ، وما كانت ناديا المؤمنة لتصدق أن ابن الشيطان الرجيم كان في حرب مع الملائكة وكادوا أن يريحوا البشرية من شره وأنها و زوجها من أنقذاه من ذلك ، اعتبر كلاهما أنهما أمام مختل من الدرجة الأولى.

– أنا مرة ابن إبليس ، وأنا ابن أبي المفضل لذلك حمل لقب أبي مرة ، و حان الآن وقت مغادرتي لكي لا أقع في براثن أولئك الجنود البيض على الأقل حتى أتعافى من معركتي الأخيرة ، و كعربون شكر لكما مني سأقدم لكما هدية قيمة قد يدفع بعض بني آدم أرواحهم لأجل هدية مشابهة…..تفضلوا….

أخذ آدم على مضض من يد الشاب علبة خشبية سوداء وكأنها محروقة متفحمة ولها رائحة كبريتية قوية و واضحة ، فتح العلبة فوجد فيها ثلاثة أجسام تشبه أعواد خشب أو… قطع مرة سلسلة أفكار آدم في ماهية هذه الأشياء وخامتها.

– هذه ثلاثة أصابع من أصابع أحد مردتي و كل أصبع منها سيحقق لكم أمنية مهما كانت تلك الأماني بنظركم مستحيلة ، ما عليكم إلا أن ترموا أحدها في النار وتقولوا التعويذة التالية : يا صاحب الإصبع أقترب مني و اسمع ، ثم تقولوا أمنيتكم مباشرة ، وعندها ستصبح حقيقة ، قالها وهو يبتسم ابتسامة صفراء مليئة بالخبث ثم اتبع ذلك بقوله : والآن أذنوا لي ، يجب علي الرحيل ، لا أريد أن أورطكم وأورط نفسي في شيء لا تطيقونه.

خرج مرة من الغرفة بخطوات بطيئة وبرود دم فظيع ، لحقه آدم وهو ما زال مدهوشاً وعاجزاً عن الكلام وفتح له باب المنزل.

– الوداع أستاذ آدم.

– الوداع يا مرة.

كل هذا حدث على مرأى ومسمع من ناديا الصامتة والغير مصدقة لما حصل.

– إذاً ها قد رحل الشاب وترك لنا ما يبدو أنه أصابع محنطة لنوع من القردة ، يا للهول ! لا أدري ما كان من الممكن أن يفعله بنا هذا المختل ، قال مرة ابن ابليس قال ، و ضحك طويلاً ، لولا العيب والحياء لقلت له ما شعورك وأنت ابن مكب نفايات خطايا البشر جميعاً وشماعة تعليق أي ذنب يرتكبه الحمقى اللا مسؤولون ؟ ربما معك حق يا عزيزتي لم نعد في الزمان المناسب لمساعدة الغرباء مع هذا الكم الهائل من الحمقى المتواجدين في أزقة بلادنا.

فتحت ناديا عينيها وكأنها ما زالت تحت تأثير صدمة وأخذت الصندوق الأسود من يد آدم فتحته وألقت نظرة ، فإذا بها ٣ أصابع بنية مجعدة منظرها يثير الاشمئزاز و رائحتها كالكبريت.

– إذاً ماذا الآن….

– ماذا الآن ؟ حبيبتي هل صدقته ؟ هيا ضعي ذلك الصندوق في علبتي الخشبية التي في المكتبة وتعالي نكمل إفطارنا

 

********

 

المكان : منزل الدكتور آدم.

الزمان : عام ٢٠٠٥م.

-هيا يا جودي أسرعي يا ابنتي لقد اقترب موعد وصول والدك.

– حسناً ماما لقد أنهيت ترتيب المائدة والصحون ولم يبق إلا أن تنتهي من تحضر نجمة الطاولة

–  حسنا عزيزتي لقد انتهيت من تحضير النجمة الدجاجة المحمرة وها هي معاليها تنتظر حضور الأستاذ بابا لتنور طاولتك  ، و سام أين هو أنا لا اسمع صوته ونحيبه المعتاد في مثل هذا الوقت ، أين العشااااااء يا ماماااااا ؟ لقد متنا جوعاً.

– استطيع سماعك أستاذة ناديا ونعم لقد مت جوعاً ولكن أعتدنا تأخر السيد بابا اليومي بسبب المواصلات ، ربما يوماً ما سيصبح لدينا سيارتنا الخاصة ولا نضطر للانتظار حتى السابعة لتناول طعامنا.

قاطع تلك المحاورة الظريفة بين ناديا وابنها سام وابنتها جودي صوت طرق على باب المنزل.

-إنه أبي سأفتح ماما ، أما أنتن فأنهين تحضير المائدة.

– مرحباً أبي.

-أهلاً ببطلي الصغير ، تعال وأعطني قبلة.

– أنا لست صغيراً أبي ، أنا في ١٨ وقد كبرت على القبلات.

– لو أصبحت أبا لعشرة أولاد ستبقى بطلي الصغير وأجمل ما حصل لي في حياتي أنت وأختك وطبعاً أمك.

اجتمع الأربعة على طاولة مستديرة في زاوية غرفة الجلوس و أمامهم بعض أطباق السلطة والمخلل و دجاجة محمرة في وسط الطاولة.

– سلمت يداك حبيبتي ، إذاً كيف كان يومك في العمل ؟ وأنتما أيها الصغيران كيف كانت المدرسة ؟.

– الحمد لله حبيبي ، كان يوماً عادياً في المدرسة والتلاميذ والدروس ولا شيء جديد ، أنت أدرى الناس ببيروقراطية نظامنا التعليمي.

– طبعاً حبيبتي ، وأنت يا سام كيف البكالوريا معك ، أريد علامات كاملة وكلية مرموقة ها ؟.

استمر الحوار على طاولة الطعام حتى أنهت الأسرة عشاءها و وضبت الأبنة الطعام فيما كانت الأم تحضر بعض الشاي وآدم وابنه جالسان أمام نشرة أخبار الثامنة مساء ، وفجأة انقطع التيار الكهربائي.

– يا إلهي ما زال الوقت مبكراً على النوم يا أبي ما الذي سنفعله في هذه الظلمة .

دخلت ناديا وهي تحمل أبريق الشاي وتبعتها جودي وهي تحمل الكؤوس وقالت بحماس.

– أرجوك يا دكتور آدم حدثنا عن بعض القصص التاريخية التي قضيت عمرك تدرسها.

– حسناً حبيبتي ، إمممممم ماذا سأروي لكم ؟ إنها هي ، اليوم سأحدثكم عن قصة كنت أنوي أن أخبركم بها منذ زمن ولكن ليست من التاريخ الروماني أو العربي بل قصة حدثت لي ولأمك قبل حتى أن تلدا.

– حبيبي أتمنى أن لا تكون القصة التي ببالي….

– هل تتذكرين يا جودي الصندوق الخشبي الذي رأيته عندما كنتي تساعدين ماما بتنظيف مكتبتي ؟.

-أجل يا بابا ، تلك التي تحتوي أشياء غريبة ، غليونا قديماً ، فاتورة كهرباء ، قلم رصاص صغير ، زرا من قميصك ، سواكا…ساعة مستديرة….ما أجمل أشيائك يا أبي ! عندما أفتح باب مكتبتك وصندوقك الخشبي أحس بأنني دخلت إلى كهف علي بابا ، ولكن ذلك الصندوق الأسود برائحته الغريبة الذي يحتوي ثلاثة أعواد هو ما لم أفهمه ، وقد أخبرتني يومها أنك ستروي لي قصته لاحقاً ونسيت كعادتك.

قاطعتها ناديا بمحاولة منها لإلهائها عن الصندوق الأسود : يا الهي قلت لك أنها نسخة منك في حبها للتاريخ كم تعشق الأنتيكا و رائحة الغبار ، أنا متأكدة أنها ستصبح مثلك بروفيسورة في علم الآثار والمتاحف.

– كم أتمنى ذلك يا ماما ، الدكتورة جودي تبحث عن سر التحنيط الفرعوني ، الدكتورة جودي تنقب عن مدينة الذهب المفقودة.

قاطعها سام قائلاً : الدكتورة جودي لا تستطيع حتى إيجاد دفتر التاريخ في حقيبة مدرستها ، ضحك الجميع و بدأ آدم في سرد القصة التي حدثت منذ ١٨ عاماً مع مرة المختل عقلياً ، وكانت ناديا تغص في كل رشفة شاي لأنها حتى اليوم كانت تتساءل ماذا لو جن جنون هذا المختل وقتلهم ؟ ماذا لو هاجمهم أفراد العصابة التي كانت تتبع ذلك المجهول ؟ ولكن السؤال الأكثر إخافة كان ماذا لو كان حقيقياً كل ما قاله و أنهم فعلاً التقوا بإبن إبليس اللعين وأعطاهم أصابع مارد بثلاث أماني كالفانوس السحري وعلاء الدين ؟ هل يستطيعون فعلاً تحقيق أمانيهم وبالتالي سعادتهم بذلك الصندوق ؟ أم أن استخدامه سيكون كفتح صندوق باندورا ؟ وكما قالت لهما أمها عندما أخبراها ما حصل معهم في اليوم التالي للحادثة ، لا خير يأتي من الشيطان حتى لو كان الأمر في الظاهر جيداً ، و لماذا كل ما تحاول التخلص منها ينهاها آدم عن ذلك ويقول أنها شيء غريب يرغب الاحتفاظ به كذكرى من حادثة فريدة مرت في حياتهم ، كل هذه الخواطر والأسئلة كانت تدور في عقل ناديا المستمعة الصامتة فيما ولداها كانا ينصتان بشغف ويطرحان الأسئلة عن كل تفصيل صغير في تلك السهرة العائلية البسيطة.

بعد سنتين من تلك المحادثة أصبح سام طالباً في كلية الهندسة وأصبحت جودي في الثانوية العامة ، ناديا أصبحت موجهة عليا في قسم اللغة في مدرسة اللايك الفرنسية وآدم أصبح نائب مدير المتحف الوطني في دمشق ، كانت حياتهم هادئة وسعيدة في بيتهم الصغير البسيط حتى أتى ذلك اليوم المشؤوم ودخل سام إلى المنزل غاضباً حزيناً..

– ما بك عزيزي ، ما الذي يزعجك ؟.

-لا شيء أمي ، فقط اتركوني وشأني ، أغلق باب غرفته بقوة في وجه أمه ، غرفته التي كانت غرفة الكراكيب سابقاً.

– يا إلهي ما الذي يحصل لهذا الفتى ، منذ أن أصبح في سنته الجامعية الثانية و قد تغيرت أحواله تماماً.

– أمي أنا سألت صديقته ياسمين عن تغيره وقالت لي أنه يتعرض للتنمر من بعض الطلبة الأغنياء من أولاد أصحاب المراكز العليا ، هل تتذكرين تلك الشابة الجميلة ليا التي يحدثنا عن حسنها وأناقتها ، أنها احدهم فهي دائماً تخبره بأنه لو كان أغنى ولديه سيارة لما فوتت فرصتها مع شاب بوسامته وذكائه.

– يا آلهي هذا ما كان ينقصنا ! أنتما تعرفان أننا نحاول اقصى ما لدينا من جهد لتقديم الأفضل لكما ، ثم أنني والله أفضل ياسمين ببساطتها وطيبتها وجمالها الهادئ على تلك المتعجرفة ليا…

في هذه الأثناء كانت النار تأكل قلب وعقل آدم حقداً وكرها لما يتسب به له أولئك الحمقى من حرج وخجل أمام باقي الطلاب على الرغم أنه أوسمهم وأكثرهم تفوقاً وثقافة ولكن المال يعز ناس ذليلة ويذل ناس عزيزة ، كان مستعداً لفعل أي شيء ليبرد نار قلبه ، وهنا خطرت في باله فكرة “شيطانية ” بكل ما تعنيه الكلمة.

استغل سام انشغال ناديا وجودي في المطبخ وخرج من غرفته مدفوعاً بتهور وحاجة عظيمة ليرد اعتباراً سلبه منه بعض الحمقى الرأسماليون كما يصفهم والده دائماً ، دخل إلى غرفة الجلوس واتجه مباشرة نحو مكتبة أبيه و فتحها بإصرار و بحث عن الصندوق الخشبي و بداخله رأى صندوق شيطان القصة التي رواها لهم أبوه ، صراع نشب بداخله بين صوت يقول له أنت المثقف الواعي ستصدق ترهات شخص مختل يدعي أنه أبن ابليس ، وصوت يقول له ما هذا التهور تحقيق الثروة لا يكون بهذا الشكل فالطرق المختصرة للضعفاء ، وصوت أنثوي يتلخص بعتاب أمه له لاستعانته بالشيطان سواء كان صادقا أو كاذبا ، وبين هذه الأصوات المتصارعة بداخله حمل أصبعاً من الأصابع و وقف أمام المدفأة وقال بكل إصرار: يا صاحب الإصبع اقترب مني و أسمع ، أريد أن نصبح اغنياء ، بل أغنى الأغنياء ، أريد مالاً وسيارات وبيوت فاخرة ، و رمى الإصبع الذي بيده ، رماه لحظة دخول أمه الغرفة.

لم تكن اللحظة التالية كافية لناديا لتفتح فمها فقد سطع ضوء كالبرق في الغرفة جعل سام يُصاب بدوار شديد وآلم مبرح في عينيه فظن أنه أُصيب بالعمى.

راح يفرك عينيه لثوان و ربما كانت دقائق لم يكن الموقف ليسمح له بالتدقيق في المدى الزمني ولكنه عندما فتح عينيه و رأى ما حوله تفاجأ بشدة ، فمع أن نظره كان مشوشاً إلا أنه متأكد أن هذا ليس منزله وهذه ليست غرفة جلوسهم.

أصبحت الرؤيا تتوضح شيئاً فشيئاً ، غرفة واسعة بأثاث مخملي ملكي ، الجدران المزينة والستائر المتعددة الطبقات وطاولة الطعام السيراميكية بأوانيها الفضية وصحونها الصينية والتلفاز الضخم ذو الشاشة المسطحة.

– يا إلهي ! هل أنا ميت وفي الجنة ، هل أحلم ؟ لا بد أن أمنيتي تحققت ، يجب أن أتأكد ، سأخرج للبحث عن أمي و جودي وأبي.

خرج سام من الغرفة ليجد نفسه في غرفة أخرى أجمل وأكبر وأوسع و فيها سيدة غريبة تقوم بالتنظيف.

– من أنت يا خالة وأين أمي ؟.

-العفو منك يا أستاذ سام ، أنا أم صالح خادمتكم والمدام في غرفتها تتهيأ للخروج مع صديقاتها.

– خادمتنا ! و أين غرفة أمي ؟.

– يبدو أنك متعب أستاذ سام ، هل ترغب بفنجان من القه….

قاطع حديثها طرق على الباب واتجهت لتفتحه فإذا بجودي تدخل المنزل وبصحبتها شاب تبدو على هيئته ردائه الأخلاق.

– من هذا يا جودي ؟ وما هذا اللباس الذي ترتدينه؟ قالها بغضب.

-هذا صديقي من المدرسة ، ثم ما علاقتك أنت ؟.

تعالت أصواتهم لتظهر نادو من أعلى السلم بلباس فخم وفاضح بعض الشيء وشعر مصبوغ وبشرة لعبت بها عمليات التجميل من شد ونفخ تخاطبهم بأسلوب غريب لم يعهده سام في أمه الرزينة المحترمة.

– ما بكما يا صغيري ، لماذا أصواتكما تملأ القصر ، لقد أتعبتما نفسيتي.

– أمي ، ما الذي حصل لك ، وكيف تسمحين لجودي بإحضار أصدقاء من هذا النوع إلى بيتنا ؟.

ضحكت و أردفت قائلة : هذا النوع …هل أنت سكران يا أخي ، انظر إلى نفسك في المرآة ، ثم إن صديقي هو أبن سفير و ليس هذا النوع….

قاطعها رنين هاتف محمول بنغمة أحدى أغاني الميتال السوداء ، نظر سام حوله ليرى هاتف من هو متوقعاً ، أنه هاتف ابن السفير ، ولكنه تفاجأ بأمه تقول له : ألن ترد على هاتفك ؟ يا الهي هاتف من أغلى الماركات في جيبه لم يكن ليحلم بحمله طيلة حياته ! نظر سام إلى الهاتف وضغط السماعة الخضراء لتظهر له بمكالمة فيديو ، إنها هي ليا بجمالها المثير وشعرها الأشقر وعيناها الخضروان ، ثم نظر لصورته على جانب المكالمة ،  يا للهول شعره كأشواك القنفذ وملون بالزهري والأزرق و ما هذا ؟ هل هذا حلق في حاجبه !.

-هاي بيبي ، كيف حالك اليوم ؟ ألن تأخذني اليوم لنسهر في النادي الليلي ؟.

-أهلاً ليا ، أي سهر ، ثم منذ متى وأنا بيبي…

– سامو يبدو أنك دخنت بعض الحشيشة ثانية ، قلت لك حبيبي لا تدخنها لوحدك إلا أن نكون معاً ، حسناً لقد أزعجتني ،المهم اذا أتيت في الثامنة تعال وخذني بالبورش البرتقالية ، إنها سيارتك المفضلة لدي…

أغلق سام السماعة وهو ما زال مندهشاً ومصدوماً كمن رأى جان ، ثم بادر بالسؤال : وأين هو أبي ؟.

– والدك في مصر لديه محاضرة عن الآثار الفرعونية وسيبقى هناك أسبوعاً ، ألم توصله بنفسك البارحة إلى المطار ؟ يا إلهي يبدو أنك متعب يا سام من كثرة السهر والشرب مع أصدقائك.

خرج سام من الفيلا مسرعاً و اتجه نحو رجل يبدو أنه خادم أيضاً ، كان واقفاً عند باب الفيلا ، سأله : أين سيارتي.

– أي واحدة منها يا سيدي ؟.

– دلني إلى المرآب و أنا سأختار.

اتجه الخادم وسام إلى المرآب الضخم ليجد فيه ما يزيد عن ١٠ سيارات من أحدث طراز ، أختار البورش و خرج من المنزل مسرعاً غير مستوعب لما يحصل بعد ، لم يدري لماذا لم يشعر ولو بقليل من السعادة بعد امتلاكه كل ما لم يكن يجرؤ أن يحلم به ، لقد شعر بالخوف لما حل بوالدته وأخته و بنفسه ، ثم سأل نفسه : و أبي يا ترى كيف هو ؟ هل أصيب بجنون الثراء مثل باقي أسرته ؟.

أخرج هاتفه وبحث عن اسم والده ، ها هو “DAD”….

اتصل به ليجيب آدم على الهاتف بسرعة:

-ها هو أبني الغالي ، ماذا هناك حتى تذكرت أباك العجوز؟.

– أبي أين أنت ؟.

سمع من جانب أبيه ضحكة أنثوية غريبة ، فأردف بسرعة : و مع من ؟.

– أنا في شرم الشيخ ، أخبرتك أنني سأبقى مع عشيقتي باتريشيا أسبوعاً ، و ربما تساعدني مع الوفد الروسي في إنهاء الصفقة التي حدثتك عنها سابقاً ، ما بك سام هل أنت مريض ؟ هل حست والدتك بشيء أو سألتك عن شيء ؟.

– لا ، لا بابا ، لا شيء ، أنا مشوش قليلاً.

احس سام بخناجر تطعن قلبه ، ما الذي حصل لأسرته السعيدة الأخلاقية ، من أم أستاذة في أرقى معاهد دمشق إلى أربعينية متصابية لا يهمها إلا صديقاتها وجمالها وزينتها ، ومن أخت متفوقة مهذبة إلى مراهقة وقحة غير محتشمة تصاحب الشبان ، من أب بروفيسور في علم الآثار يعشق أسرته وعمله إلى خائن لها ، وهو نفسه قد تغير من مشروع مهندس ناجح إلى متهور يلون شعره و يزين وجهه بالحلي  ، يا إلهي ما الذي اقترفته يداي ؟ قال في نفسه: و ياسمينتي ما هو دورها في هذه المهزلة ؟ سأبحث عن رقمها ، بحث عنه طويلاً وكان في آخر سجل مكالماته ، لم يخابرها منذ اشهر ، اتصل بها.

– الو ياسمين كيف حالك ؟.

– من معي ، سام هل هذا أنت ، ما المناسبة لتحادثني؟ لم يقترب حتى موعد الامتحانات لتتصل بي وتطلب مساعدتي ؟.

– ياسمين اشتقت لك ، كيف لم أحادثك منذ أشهر ؟.

– سام ما الذي تقوله ، لم تحادثني منذ أن ارتبطت بليا وقد أهنتماني أمام جميع الطلبة في القسم ، أرجوك امسح رقمي من عندك و أنسى أننا كنا في يوم أصدقاء.

لم يتحمل عقله وقلبه كل هذه الصدمات ونسي أنه يقود سيارته بسرعة فائقة على الطريق الدولي ، دارت الدنيا به فلم يعد يعي شيئاً مما حوله ، أحس بأنه في كابوس ، ولم يوقظه من غفلته هذه إلا أضواء شاحنة ضخمة متجهة إليه ، كان آخر ما رأته عيناه عشرات السيارات تمشي معاكسة له وسائقوها غاضبون وكأنهم يوجهون له الشتائم وأضواء الشاحنة المضطربة تحاول إيجاد طريقة لمنع حدوث مجزرة على الطريق.

– مساء الخير ،  حضرتك هل تعرف صاحب هذا الرقم ، فرقمك آخر رقم اتصل به ؟.

– أجل ، من معي ؟ هل حصل مكروه لسام ؟.

– معك عنصر من الدفاع المدني ، أسف لما سأنقله لك ولكن صاحب هذا الرقم قد توفي في حادث سير على الطريق الدولي ، شاب في العشرينات ويقود سيارة بورش ، أتمنى من حضرتك أن تحضري أو يحضر أهله للتعرف على الجثة واستلامها ……البقية في حياتكم

 

****************

 

المكان : فيلا الدكتور آدم.

الزمان : بعد شهر من الفاجعة.

– طمني يا دكتور ، كيف أصبح وضعها ؟.

– لا أعرف ، ماذا أقول لك يا أستاذ آدم ! انهيار عصبي شديد ، لقد حقنتها بإبرة مهدئة وستنام على الأقل لساعتين ، يبدو أنها و حتى الآن لم تستوعب الصدمة.

– وماذا علينا أن نفعل بشأن ذلك يا دكتور ؟ هذه المرة الثامنة منذ شهر التي تصاب فيها بنوبات الغضب والبكاء هذه ، لم تترك شيئاً في البيت إلا وكسرته ، لقد تعبنا معها يا دكتور.

– أعراض كهذه تكون عادةً طبيعية جداً عند أم تعرضت لما تعرضت له الأستاذة ناديا ، لا تنسى أنها رأت ابنها الوحيد جثة هامدة أمام عينيها ، عليكم مراعاتها ومحاولة إشغالها عن التذكر بأنشطة في الخارج كرياضة المشي والنزهات وما شابه ، المهم أن تبتعد عن جو المنزل والفراغ الذي تركه المرحوم.

عم الهدوء في المنزل لساعتين ونصف تقريباً إلى أن استفاقت ناديا وبدأت بالعويل والنحيب ، لم يعد آدم يقوى على التعاطي معها فأرسل لها أم صالح تواسيها وتسليها.

– سيدتي هل تسمحين لي بالدخول أرجوك لقد حضرت لك فنجاناً من البابونج ؟.

– ادخلي يا أم صالح ، هل أتى سام من الكلية أم ما زال في دوامه ؟ لماذا أنتِ صامتة ، أجيبيني ؟ أكذبي علي قولي أنه في غرفته ، قولي أنه نائم في فراشه الدافئ ، فتراب القبر بارد جداً يا أم صالح ، لقد رجوت القبر أن يخفف عنه في وحدته كي لا يعاني من الخوف ، وتوسلت الدود أن لا يأكل تلك العينين العسليتين ، لقد كان الوقت مبكراً على تلك العينين أن تمتلئا بتراب اللحد ، يا ريتني قبل أن أبكيك بكيتني أنت يا ولدي….آاااااه سااااااااام…..

-أرجوك يا سيدتي أهدأي ، هذا أمر الله والموت حق.

ضمت ناديا أم صالح و راحت تبكي بحرقة وأم صالح تبكي معها ، ظلت تبكي حتى خارت قواها فلم تعد قادرة على الجلوس ، مددتها أم صالح في الفراش وخرجت من الغرفة ، أغلقت عينيها و راحت تتذكر أيام حملها به ، يوم أنجبته في المشفى ، تذكرت نظرته الأولى و تلك العينين الواسعتين ، تذكرت كلمته الأولى وخطوته الأولى و يومه الأول في المدرسة ، تذكرت نجاحه في الثانوية و دخوله الجامعة ، ثم ما هذا ؟ إنه سام واقف أمام المدفأة في بيتهم القديم وهي عند الباب وفجأة وميض قوي جعلها تقفز من سريرها.

– ما هذا الضوء الذي آراه منذ شهر ، و في كل مرة أتذكر صغيري واقفاً أمام المدفأة  غاضباً و بيده…بيده…أجل إنه ذلك الصندوق اللعين ، ولكن هل يُعقل ؟ لا ، لا مستحيل ، ولكن ماذا لو ؟…. صاحت ناديا بصوت مدوي لأم صالح التي جاءت مهرولة من خوفها .

– الصندوق الخشبي ، صندوق سيدك القديم أين هو؟ هل عرفتيه أخرجيه بسرعة ؟.

دخل آدم وهي ما زالت تمتم كالمجنونة و قال لها : ما بك يا ناديا أرجوكِ لقد تعبنا ، هل تذكرين زوجك ، هل تذكرين ابنتك ؟ انظري إلى نفسك يكفي ، يكفي…

– آدم أنا أتذكر جيداً ، دخلت إلى الغرفة و رأيت سام أمام المدفأة  و كان يرمي فيها أصبعاً من أصابع الشيطان مرة ، ولذلك أصبحنا أغنياء …..

– حبيبتي لقد أصبحنا أغنياء لأنني بعت دفعة من آثار المتحف النادرة في السوق السوداء على أساس أنها تالفة ، هل نسيتي أنك من وافقني لفعل ذلك.

– ولكن ما الذي دفع رجلاً نزيهاً مثلك و سيدة مشهود لها بحسن الخلق مثلي لفعل ذلك ، وكيف لم تكتشف إدارة المتحف و هيئاته أمراً كهذا ؟ أكيد أنه هو مرة لا غيره.

– حبيبتي هل جُننتي ؟ أظن أنك أصبحتي مثل مرة ذهانية ومتخيلة.

-سأثبت لك ذلك ، ركضت إلى خزانة آدم ، فتحتها و راحت تبحث حتى وجدت ذلك الصندوق ، بحثت داخله فرأت العلبة السوداء ، نظرت داخلها و رأت ما أكد فكرتها ، لقد كان في العلبة إصبعان فقط.

– أنظر الآن هل صدقت كلامي ؟.

-عزيزتي هذا الصندوق هنا منذ ٢٠ عام أكيد أن أحدهم عبث به أو….

لم ينه جملته حتى هرولت ناديا إلى المطبخ ومعها أصبع من الإصبعين و لحقها آدم ، وقفت أمام الموقد المشتعل تحت إحدى ألأواني وقالت بحرقة أم ثكلى:

– يا صاحب هذا الإصبع اقترب مني واسمع ، أتوسل إليك أعد لي أبني وحيدي…أرجوك…

رمت الإصبع في النار قبل أن يستطيع آدم الإمساك بها و إنهاء هذه المهزلة قبل أن تتمادى نادو بلاعقلانيتها ، ولكن ومض ضوء قوي كبرق أعمى بصر الإثنين وأفقدهما توازنهما ، وكالمرة السابقة ما لبث أن بدأ الوضوح يقتحم تلك الرؤية الضبابية وبدأ الاثنان يستعيدان توازنهما ، ركضت ناديا إلى غرفة سام ولكنه لم يكن هناك ، صاحت للجميع ، آدم ، جودي ، أم صالح و زوجها الحارس و راحت تقول : أين سام ، ألم يعد إلى الحياة ؟ وقف الجميع ينظر إليها بحسرة ويقول كل منهم للآخر هامساً : لقد جُنت المرأة بالتأكيد.

– قلت لك يا زوجتي لن يعود للحياة وهذه الأشياء اللعينة ليست إلا أصابع قرد محنطة محشوة بنوع من المتفجرات الخفيفة ربما ، انظري إلى نفسك.

نظرت إليه ناديا و راحت تضحك وتبكي بهستيرية و تقول : ما أغباني كيف ظننت بأنني سأستعيده ، لم يعد أحد قبله من هذا السفر حتى يعود هو.

أخرجت علبة سجائر كانت في جيبها و خرجت إلى الشرفة و راحت تدخن السجائر بشراهة الواحدة تلو الأخرى بيد مرتجفة وشفاه جافة ، مضت ساعة وهي على هذه الحال ، غابت الشمس و بدأ الظلام يتسلل إلى السماء.

خرج إليها آدم ليدخلها لكنها رفضت ، بقيا على ذلك الجدال حتى حل الظلام في الأرجاء.

سمعت ناديا أثناء جدالها مع آدم صوتاً تعرفه جيداً يصيح : أمي ، سألت آدم : هل سمعت ؟ أجابها : سمعت ؟ ماذا ؟ لم يكمل جملته حتى سمعا الصوت مرة أخرى كان خافتاً ولكنه واضح ما كانا ليخطئاه ولو بين الف صوت.

– أمي أميييييي أمي…..

جمد الاثنان من شدة خوفهما ونظرا تجاه الصوت القادم من خارج أبواب الفيلا ، كانت الدنيا ظلاماً ولكنهما استطاعا تميز جسد رجولي ضخم يمشي تحت عامود الإنارة : يا إلهي ، إنه هو بجسمه الرياضي وأكتافه العريضة وصوته الرخيم ! كان يمشي مترنحاً وكأنه مخمور ، لم يستطع الاثنان تصديق ذلك و راحا يركضان باتجاه باب الفيلا وهي تقول لآدم : قلت لك ، قلت لك ، كانت المسافة عادةً ما تحتاج لدقيقتين أو ثلاث للوصول من المنزل إلى الباب الرئيسي ، ولكن هذه المرة تطلب الوصول عمراً ، أحسا بأنه أصبح في الطرف الآخر من الأرض ، وهنا خرج الحارس ليرى من أمام الباب وعندها أطلق صرخة مدوية جعلتهما يقفان كشجرتين جامدتين ، هجم ذلك الشيء على الحارس وباغته فعض رقبته و راح يهشم وجهه بيديه ، جمد الدم في عروق الزوجين عندما شاهدا ذلك الشيء يقترب منهما بعد أن انهى حياة المسكين أبا صالح ، وهنا صُعق الاثنان مما شاهداه.

نعم إنه سام ، فعلاً سام حي و يمشي ولكن بجثته المتحللة ولحمه الأزرق المسود و عين فارغة المحجر وأخرى متدلية على خد خالي من اللحم ، لأن لحمه كان يتساقط عن وجهه ، وكان فمه مليئاً يمضغ لحم ذلك المسكين ، وجهه مغطى بالدم ، كان على بعد بضع خطوات منهما ،عندما راح ينادي أمي أمييي ، أيقظت رائحة اللحم المتفسخ النتنة آدم و زوجته من صدمتهما ودفعت الأدرينالين في عروقهما ، فراحا يركضان بسرعة وجثة الشاب خلفهما ، من حسن حظهما أنه كان بطيئاً مترنحاً وإلا كان قضى عليهما.

– جودي أم صالح تعاليا إلى هنا ، هيا أغلقا كل نوافذ المنزل بسرعة.

خرجت جودي من غرفتها مذعورة من صراخ أمها و أبيها.

– ما بكما ، أرجوكما أخبراني ؟ الحياة لم تعد تطاق في منزل المجانين هذا.

– سام ، سام حي ، لقد عاد من القبر ، عاد من الموت ، ولكن ولكن… قالتها نادية وهي ترتجف خوفاً.

– يبدو أن أصابع الشيطان اللعين هذه حقيقة يا جودي ، هيا أغلقي النوافذ ، أخوكِ قد عاد مسخاً متوحشاً ، لقد قتل أبو صالح وأكل لحمه أمام عينينا.

صرخت أم صالح و راحت تبكي ولكن أسكتها صوت طرق على الأبواب ، طرق همجي عنيف ، دفعهم بسرعة وبغريزة البقاء ليغلقوا كل منفذ في المنزل ولكن بعد فوات الآوان ، دخل سام من باب المطبخ المخصص للخدم وهجم على الأربعة في الغرفة ، أمسك يد جودي وقام بعضها وسط صراخ الجميع ، كل هذا وهو ينادي أمي ، أمي ، استطاعوا تخليصها من يديه والركض إلى السلالم للوصول إلى غرفة النوم الرئيسية في الطابق العلوي ، كانت الفتاة تنادي وتبكي وهي مذعورة :أخي تحول إلى زومبي يا أمي….

– كلا يا ابنتي ، لم يتحول إلى زومبي ، نحن لسنا في فلم أمريكي غبي ، إنها أمنيتي الساذجة

– لقد حذرتنا جدتك من التعامل بهذه الأصابع الملعونة ، لا خير يأتي من الشيطان ، لا خير يأتي من الشيطان…..

أسرع الجميع ودخلوا غرفة آدم وناديا وأغلقوا الباب خلفهم وكل النوافذ ، وضعوا  كل ما استطاعوا تحريكه من أثاث وراء الباب و أنفجر الجميع بالبكاء من شدة الخوف والتعب.

بدأ الميت الحي يدق الباب بقوة عظيمة تكاد تخلعه من الجدار لولا الأثاث الثقيل ورائه ، تعالت أصوات بكائهم وصراخهم.

نظرت نادو في عيني جودي المتألمة الخائفة و قررت أن تنهي هذه المهزلة ، ركضت إلى الصندوق الخشبي ، كان ما يزال مفتوحاً والصندوق الأسود بداخله ، وفي الصندوق اصبع ملعون واحد ، أخذت الإصبع وسط ذهول الجميع ومحاولة آدم منعها.

– توقفي ، ارمي هذا اللعين أرضاً ، ألا يكفي ما جلبه لنا من متاعب حتى اللحظة ؟.

– سأنهي هذه المهزلة اللعينة ، لعنك الله يا مرة الوغد ولعن أباك ، نار ، أريد ناراً.

لم تجد نادو أمامها إلا قداحة سجائرها ، أشعلت النار في السرير وقالت بغضب ممزوج بحزن وكره و قهر:

– لا خير يأتي من الشيطان ، لاخير يأتي من الشيطان ، يا صاحب هذا الإصبع اللعين اقترب أيها الوغد واسمع ، أريد أن ننسى كل هذا ، أن ننسى كل شيء منذ التقينا بصاحبك الحقير وحتى اللحظة.

سمع الجميع صوت ضحكة خبيثة عالية مستهزئة تصدح في أرجاء الغرفة و سطع الضوء القوي في الغرفة للمرة الأخيرة…

 

النهاية ………

 

تاريخ النشر : 2019-12-24

guest
58 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى