أدب الرعب والعام

ضوء الظلام

بقلم : عبدالعزيز صلاح الظاهري – السعودية
للتواصل : [email protected]

هنالك مخطط لجريمة على سطح الأرض لا تريد السماء للقمر ولا النجوم رؤيتها
هنالك مخطط لجريمة على سطح الأرض لا تريد السماء للقمر ولا النجوم رؤيتها

هل للظلام “ضوء” ؟
هذا ما رأيته بعيني قبل خمسين عاماً ، في الحقيقة لا يمكن لي وصفه ، ولا أريد أن أقسم لكم كي تصدقوني ، بل سأسمعكم شيئاً من أحداث تلك الليالي التي كانت سبباً في رؤيتي له .

حل الظلام و توقف الكلام  و بات الناس نيام ، وغمرت السماء نفسها بلحاف الغيوم السوداء ، ليختفي ما تبقى من ضياء ، فهنالك مخطط لجريمة على سطح الأرض ، لا تريد السماء للقمر ولا النجوم رؤيتها  إنها مقدمة لإحدى الروايات المرعبة التي كانت تحكيها لنا جدتي يرحمها الله قبل النوم ، لا أذكر أنني سمعت منها حكاية عن الحب ، فأغلبها قصص مرعبة أبطالها مخلوقات خرافية ، يبدو كما لو أن الحب والفرح عدو لنا خلافاً للرعب والخوف .

إنني أعتقد أحيانا أن هذه القصص خلفها سر ، و هذا بالطبع أقوله الآن بعد نظرتي المنطقية لأحوال الناس في ذلك الزمان .

لكن المضحك والمبكي في الأمر أن آبائنا وأمهاتنا كانوا يطلبون منا أن نكون رجالاً شجعاناً  و في نفس الوقت يرْوُون لنا هذه القصص ، أتذكر عندما كانت أمي ترسلني إلى منزل خالتي ليلاً  أنطلق كالبرق ، وعندما أصل منزل خالتي أقف ألهثُ كَالاً ، وقبل خروجي من منزلها أقف محدقاً في الظلام كطائرة تقف منتظرة الإذن بالإقلاع  و بعدها أنطلق.
يقشعر بدني وتزيد سرعتي عندما أقترب من بابنا ، وكأنني عند نهاية المدرج ، لشعوري أن شيئاً ما في اللحظات الأخيرة يكاد يمسك بي .

كم كانت تلك القصص المرعبة تَشُلُ حركتي ، تجعلني منكمشاً على نفسي .
فبمجرد حلول الظلام تظهر شخصيات قصص جدتي ، أسمع دبيبها وهي تقترب مني ، تحوم حولي ، وترعبني ، كانت عيني المختبئة تحت الغطاء لا تتوقف ، تدور في محجرها طيلة الليل ، وعندما أشعر بحاجتي لدورات المياه ، يخرج فجأة من قلب الظلام أطياف تلك الشخصيات ، فأرتعد وأغرق نفسي .

كم هو محرج هذا الأمر ! نعم لقد أثرت تلك القصص فيّ كثيراً ، وكانت سبباً في ظهور أمراض نفسية ما زلت أعاني منها حتى اليوم .

على كل حال نظرتي للّيل المخيف بدأت تتغير بفضل أحداثٍ سريعة متتابعة مزقت عباءته السوداء ، رمتها جانباً لتُرِيَني ضعفه وكذلك مفاتنه .
ففي أحد الأيام ، وكان ذلك بداية فصل الخريف ، ما زلت أتذكره ، صعدت سيارة لأول مرة في حياتي مع أبي ومجموعة من سكان قريتنا ، كانت وجهتنا السوق الكبير، الذي يتوسط القرى ، ما زلت إلى الآن أرى السيارة ، فهي مقيمة في ذاكرتي كذلك ، اسمها ” انترناشيونال ” كان الجميع يسميها “عنتر ناش ” ، لا أعتقد أنهم لا يستطيعون نطق الكلمة بل لأن اسم ” عنتر ” محبوب لديهم .

تحركت السيارة وكانت تتمايل بسبب الطريق الترابي الوعر ، ونحن في حوضها نتمايل مع إيقاعها و تمايلها ، لم تستغرق الرحلة طويلاً ، وصلنا مع طلوع الشمس ، كم كان المنظر ساحراً ، وأنا أرى السوق لأول مرة في حياتي وأرى قوافل الإبل والحمير محملةً بالبضائع تتهادى نازلة من التلال المحيطة ، متجهة إلى السوق .
ذهب أبي للتسوق ، وتركني بعدما أعطاني قرشين لأشتري بهما ما أشاء .

في ذلك اليوم رأيت بعينيّ تأبط شراً ، الذي كان اسمه يثير الرعب ، فبطولاته التي يصعب تصديقها كانت حاضرة في عقول الجميع ، أصبحتْ جزءً من تراثنا .
لم أشاهده من قبل ، بل سمعت المتسوقين يهمسون باسمه عند قدومه ، ويشيرون إليه .
كان رجلاً ضخماً ، يتعدى طوله المترين ، يتطاير الشرر من عينيه ، هبط من بعيره الذي يشبه الفيل ، و وقف بخيلاء ، فعم السكونُ المكان ، و بمجرد دخوله السوق تفرق الناس مفسحين له الطريق ، و في ذلك اليوم أيضاً رأيت شخصية أخرى كنت كثيراً ما أسمع عنها ، إنه مجنون ” عالية ” أو ” جان جن ” ، رأيته وهو يركض خلف الأطفال ، والذين كانوا يهتفون مرددين :
جان جن جن جننوه
أخذوا عالية وتركوه

دخل الأطفال مسرعين للممر الذي كان يقف فيه تأبط شراً ، يتبعهم جان جن ، وعندما شاهد الأطفال تأبط شراً تفرقوا في لمح البصر ، واختفوا كأنهم أفراخ حجل ، فاصطدم جان جن بتأبط شراً ، فلطمه لطمة سمع صداها من كان في آخر السوق ، فسقط جان جن بالقرب مني ، وقام من مكانه وانزوى بجانب أحد الدكاكين ، وجلس ودفن رأسه بين فخذيه للحظة ، ثم رفعه وحدق عميقاً في عينيّ ، أخافتني نظراته  فأشحت بعينيّ عنه  وأدرت ظهري وأخذت أتجول في السوق ، فرأيت فتىً في عمري  كان يراقبني ، تلاقت عيوننا  وكذلك فعلت أرواحنا ، اتجهت إليه وسألته : أين أجد الحلوى ؟ ابتسم وأخذني إلى أحد الدكاكين ، يبيع العسل والزبيب ونوعين من الحلوى فقط ، اشتريت منه لكلانا ، و بدأت صداقتنا ، خرجنا من السوق وجلسنا على ربوة تشرف على المكان ، و بدأ صديقي والذي يُدعى ” نشبة ” بقص قصته لي ، وكأني أعرفه منذ زمن طويل .

قال : هذا ليس اسمي الحقيقي ولكن لا أحد يعرفني بغيره ، من سماني بهذا الاسم هو زوج أمي ،
كم يكرهني هذا الرجل و يكره رؤيتي ، لكن الشيء الجميل أنه كريم مع أمي ، وأمي لا تبخل علي ، إنني حرٌ طليق ، أعيش منعزلاً ، أنام في النهار وأطوف بالليل والناس نيام .
فسألته :
ماذا تقصد ” أطوف بالليل ” ؟.
وهنا بدأ يخبرني بأمور كنت أجهلها ، كم كانت جميلة لم أسمع عنها من قبل ، جعلتني أنظر للّيل المخيف نظرة أخرى .

عدت من رحلتي التسويقية وأصبحت أطوف باللّيل مثل صديقي ، أسمع الهمسات ، أرى الحركات من خلال الثقوب العديدة المنتشرة على جدران الطين ، وفي النهار أندس بين النخيل لأنام في رقعة اخترتها بعناية بعيدة عن العيون ، ومع مرور الأيام أصبحت خبيراً  وأكثر شراهة ، لم أعد أكتفي بزيارات القرى القريبة ، بل أقطع المسافات ، وأغزو القرى البعيدة ، وخاصةً في فصل الشتاء ، صاحب الليل الطويل ، موسم الكلمات الدقيقة والرقيقة .
كانت الجبال والتلال هي القنوات التي أسلكها للوصل إلى غايتي ، كنت أتحاشى دائماً غابات النخيل في الليل ، رغم أنها صالحة ” لنشاطي المريب ” ، لأنها مسكن الجن والهوام ، كما تقول جدتي ، و في إحدى مغامراتي اللّيلية حصل ما كنت أخشاه ، شعر بي أحدهم فصرخ : ” حرامي ” ففررت .

استيقظ سكان القرية على الصرخة وصدى وقع أقدامي بين أزقة القرية الضيقة ، شعرت بالخطر ، فقررت أن أسلك الطريق الذي أكرهه ، وانطلقت كالسهم ، ودخلت غابات النخيل ، توغلت في الأحراش ، كنت أتحسس طريقي على ما تبقى من ضوء القمر الذي استطاع أن ينفذ من خلال سعف النخيل و يلامس الأرض ،

وبعد أن قطعت مسافة طويلة اختفى صوت مطارديّ  ولم يبقى سوى أصوات ساكني الأحراش  يشاركها صوت أنفاسي ، فشعرت بالأمان وتوقفت عن الركض ، في تلك اللحظة افتكرت أني بين الجن والهوام ، أنهم يحيطون بي ، ينظرون إلي ، فمساكنهم على الأرض فوق الجذوع والأغصان ، لذا ازداد إيقاع قلبي ، فأخذت أحدث نفسي هل أمشي على هون ؟ أخاف أن أصبح جان جن آخر ، أأركض ؟ أخاف أن أطأ أفعى ، أو اصطدم بجان .

وأخيراً اتخذت القرار الصائب ، توقفت وأخذت نفساً عميقاً و واصلت المشي بخطوات خفيفة على الأرض المليئة بالحشائش الجافة ، أرفع قدماً وأنزل أخرى بكل هدوء ، كانت عيني وجميع حواسي تعمل بأقصى ما لديها ، توقفت ، اختبأت خلف جذع نخلة عندما رأيت منظراً لن أنساه ما حييت ، رأيت جان جن يضرب تأبط شراً و يركله بقدميه ، ويُلوّح بعصاً غليظة في وجهه ، بينما كان تأبط شراً جاثياً على ركبتيه يطلب الرحمة منه .

كان جان جن يصرخ في وجهه مردداً : أتسخر مني أيها الأحمق ؟ وأنا من صنعك ، أهذا كل ما جنيته خلال هذا الأسبوع ؟.
– أقسم بالله أن هذا كل ما حصلت عليه .
– أتعلمُ لو اكتشفت خلاف ذلك ماذا سيحصل لك ؟.
– أقسم بالله أن هذه هي الحقيقة يا سيدي .
عندها صرخ جان جن قائلاً لتأبط شراً : هيا قم واغرب عن وجهي ، و ركله بقدمه .
و وقف برهة من الزمن ، طاف خلالها بنظره في المكان دافعاً رأسه للأمام وكأنه يستخدم حاسة شمه ثم غادر ، رأيته بعينيّ من خلف جذع النخلة التي كنت ملتصقاً بها ، فجأة رأيته يقف بجانبي ، لا أعلم كيف حصل ذلك ؟ التفتُّ إليه مذعوراً ، رأيت عيناه ، تذكرتهما ، تذكرت بريقهما عندما رأيته أول مرة في السوق ، فاندفعت المياه كالحمم ، وسالت بين قدمي ، فضحتني ، بينت ضعفي .
ابتسم جان جن وقال : بيت شعر كنت إلى وقت قريب أعتقد أنه هو قائله :
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
ثم مد يده وفتح كفيّ و وضع ثلاثة جنيهات ذهبية ، و أقفلهما ، وقال : أتعلم أن بلاء الإنسان هو اللسان ، الأذكياء يعرفون ذلك ، أتمنى أن تكون منهم .

تاريخ النشر : 2019-12-30

guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى