أدب الرعب والعام

مجرد حلم

بقلم : عبدالعيز صلاح الظاهري – السعودية
للتواصل : [email protected]

جمعت الذئاب وأخذت تعوي من كل اتجاه و كان هذا الصوت الأكثر رعبًا سمعته وشعرت به في حياتي
جمعت الذئاب وأخذت تعوي من كل اتجاه و كان هذا الصوت الأكثر رعبًا سمعته وشعرت به في حياتي

منذ أن علم جاري بتقاعدي لم يتوقف عن دعوتي لمرافقته إلى حضيرة أغنامه التي تبعد 350 كم ، ففي كل مناسبة تجمعنا يحتضنني ويهمس في أذني بنفس الجملة ، كنت أتهرَّبُ منه باختلاق الأعذار الكاذبة ، لكن جاري لسبب ما لم يتوقف عن دعوته لي حتى أصبحت أكره لقائه ، المهم أن طلبه المتكرر جلب لي الصداع واستقر في رأسي وظهر تأثيره على شكل حلم ، ففي أحد الليالي حلمت بأنني داخل شاحنة محملة يقودها جاري ، يتوسطنا أبنه ذا الثمانية أعوام على الخط السريع ، كنت أتلوى على فراشي ، أُحدّثُ نفسي وأتساءل بضيق :
كيف صعدت معه السيارة ، و كيف ستنطوي هذه المسافة و بماذا ستنتهي ؟.

بينما كان جاري يثرثر معي و يداعب ابنه و يجيب على أسئلته التي لا تنتهي بسعادة و فرح جعلته لا يلاحظ تعابير وجهي التي رُسم عليها بوضوح كراهيتي له ولأبنه ، و بعد أن قطعنا 280 كم انحرفنا يساراً تاركين الطريق المعبد خلفنا ودخلنا طريقاً رملياً وعراً ، كانت الشاحنة تنحرف وترتفع وتهبط و أبنه يطير من حضني إلى حضنه ، وهو مبتهج مستمر في سرد قصصه التي لا تنتهي ، فجأة انحرفت الشاحنة واصطدمت بكثيبٍ رمليٍ ، ففتح باب الشاحنة وسقطت على الأرض ، فاستيقظت وإذا أنا على سريري  نظرت حولي ، حمدت الله و قمت من سريري ، تجولت في الغرفة ، شربت كوبَ ماءٍ باردٍ أُرطّبُ حلقي وفمي الجاف ، و عدت لفراشي ، تمددت وغمرت نفسي باللحاف ، شيء لا يُصدق ، عاد الحلم لي مرة أخرى . رأيت جاري ينزل من الشاحنة تاركاً أبنه نائماً على فخذي وهو يصرخ على عامله : ادريس .. ادريس.
فخرجتْ من بيت شَعَر أو خيمة منتصبة على الرمال امرأةٌ  عرفتها ، إنها أمه ! قالت : إن ادريس ذهب لتوديع أبن عمه و سيعود يوم غد ، عاد إلى الشاحنة وفتح بابها وسحب ابنه من رجله وهو نائم وكأنه يسحب إحدى أغنامه ، وهو يردد : استيقظ .. استيقظ ، اذهب إلى جدتك ، قام الصبي يترنح واتجه حيث أشار أبوه .

التفتَ إلى حوض الشاحنة ، تسمر في مكانه لثوانٍ  ، كنت أعلم أنه يفكر في حُمولة الشاحنة ، ما عساه فاعلاً بها بدون عامله – ترجلتُ من السيارة ، كنت اشعر بصداع و دوارو ، كانت قدماي مخدرتان و لم أستطع الوقوف ، فجلست على الأرض وأخذت أراقبه وهو يُنزل الحمولة ، لم أساعده ، لم تفلح معي نظرات الاستعطاف والاحتجاج التي كان يرسلها إلي ، تجاهلتها وأخذت أتمتم مقنعاً ذلك الأحمق بداخلي : أكيد لو ساعدته سأعود لأهلي بعاهة ، إن نوعية هذا العمل خطيرة بالنسبة لرجل مثلي تجاوز الستين ، يكفي أنني جئت معه لهذا الركن المظلم من العالم .

اقترب مني كلبه وأخذ ينظر إلي بعينيه الناعستين و هو  يعبر لي عن وده بهز ذيله هزات متلاحقة يرافق هذه الحركة صوت مخنوق صادر من أنفه  وجلس بالقرب مني يراقب سيده وهو ينزل الحمولة ، وما أن انتهى جاري ونفض يديه حتى سمعنا صرخة قادمة من الخيمة تتبعها صيحة استغاثة ، لقد لدغت حية الطفل ، فأسرع الأب وحمل ابنه تتبعه أمه وصعدا الشاحنة بدون أن يلتفت إلي وغادر مسرعاً ، تركني واقفاً وحيداً خلفه ، أخذت أراقب عمود الغبار الذي يتبعهم حتى تلاشى واختفى ، نظرتُ وإذ بي وسَطَ أرضٍ جرداء  بقربي أغنام ، كلب ، بيت شعر ، حظائر مشرعة أبوابها ، وشاحنة تحمل صهريج ماء ، لقد رحلوا وتركوا كل شيء خلفهم ملقاً على الأرض .

اقترب مني الكلب وكأنه يريد مواساتي بمعزوفة من نباحه ، وعندما رآني أُزبِدُ وأُرعِدُ وأضربُ قدمي بجنونٍ على الأرضَ توقف عن التودد وأخذ يراقبني عن بعد ، أطرقتْ صامتاً للحظات ثم صعدت الشاحنة وأخذت أبحث عن مفتاحها في الصندوق ، تحت المقاعد ، وفي كل مكان ، وعندما فقدت الأمل مددت ظهري على المقعد وأخذت أراقب غروب الشمس في الأفق ، كانت بعض الأغنام ما زالت خارج الحظائر تلتهم البرسيم ، وتتصفح الأرض باحثة عن ما تساقط من الحبوب .

حل الظلام ، خيم السكون ، وبرز ما تبقى من القمر ، تحيط به النجوم المتلألئة ، وأخذ النعاس يتسلل إلى جفوني ، أحسست بحركة غريبة ، وسمعت نباح الكلب ، علمت أن هنالك أمر ما.

ازداد نباح الكلب وكثرت حركته ، عندها سمعت ذئباً يعوي بصوت قوي مرتفع ، لتستجيب له الجبال بالعواء ، تجمعت الذئاب وأخذت تعوي من كل اتجاه ، كان هذا الصوت الأكثر رعبًا سمعته وشعرت به في حياتي ، لم يجدي نباح الكلب و لا بوق الشاحنة المزعج أو أنوارها في إيقاف هجوم الذئاب ، خاصةً بعد سماع صوت ثغاء الأغنام المرتفع ، كان ذلك الصوت المشؤوم يشجعها ، يدفعها ، يسيل لعابها .

دقائق عمت الضوضاء المكان ، وبدأ الهجوم ، عندها لم أجد حلاً سوى إدخال إصبعي في أذني ، فأصوات الاستغاثة التي تصدرها الأغنام مزعجة ومرعبة جدّاً ، و بعد معركة طاحنة لم أرَ إلا جزءاً يسيراً من أحداثها ، خيم السكون ، لم أعد أسمع نباحاً ، ثغاءً ، أو عواءً ، سوى أنين الضحايا الذي يملأ الوادي ، ظللت حبيساً داخل الشاحنة حتى طلع الصباح وانجلى ما كان مخفياً تحت ظلمة الليل .
بدا المشهد مرعباً ، لقد رأيت المجزرة بأم عيني ، فقد افترشت أرضية الوادي بأغنامٍ قُطعت أعناقها وأخرى أُصيبت بجروح بالغة ، تتلوى من الألم ،
نظرتُ للحظائر ، كانت فارغة ، لقد فر ما تبقى من أغنام ، وتفرقت في الوادي لدى محاولتها النجاة من تلك الأنياب ، والمشكلة أنها لحمقها لا تدري أنها مهاجرة طوعاً إليها ، وقفت لساعاتٍ أفكر متأملاً عن الحكمة الإلهية التي أجهلها عن طباع هذه الذئاب التي تخالف جميع الحيوانات المفترسة الأخرى ، بالطبع لم أقارنها بطبيعة الإنسان ،

ترجلتُ من الشاحنة وأخذت أبحث عن صاحب العينين الناعستين ، فرأيته على بعد مائتي متر جثة هامدة مسربلاً بدمائه ، نظرت إليه بشيء من الأسى والحسرة ، و قاومت دمعة ترقرقت في عيني ،
فجأة سمعت صوت دراجة نارية ، التفت فإذا به الراعي متوجه إلي ، و بمجرد اقترابه مني انحرفت دراجته النارية واصطدمت بصخرة وحلقت عالياً وارتطمت بالأرض و أخذت تتقلب متوجهة إلي ،  فقفزت في الهواء فسقطت من على السرير أصرخ مذعوراً كمن به مس .

بعد يومين من هذه الحادثة أو الحلم قابلت جاري مصادفةً وطلب مني طلبه المعهود ، فصرخت في وجهه بغضب وأجبت بصورة قاطعة : لا …
فانفجر جاري ضاحكاً وقال : هل تكره الذئاب ؟.
 
النهاية …….

تاريخ النشر : 2020-01-17

guest
19 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى