أدب الرعب والعام

ستموت الليلة – قصة قصيرة

بقلم : رمضان سلمي برقي – مصر
للتواصل : [email protected]

كانت امرأة قبيحة القسمات و بوجهها الأسود الجعد نبتت عدة شعرات طويلة بيضاوات
كانت امرأة قبيحة القسمات و بوجهها الأسود الجعد نبتت عدة شعرات طويلة بيضاوات
 
جريدة الأهرام..
الأربعاء ١٠-١١-٢٠١٧
” بالأمس اختفاء الكتاب الذي عُثر عليه في موقع الحادث الإرهابي الغادر الإثنين ٨-١١-٢٠١٧ في ظروف غامضة ؛ و تم إحالة المسؤولين عن خزانة الأحراز إلى التحقيق “.

*******
” ستموت الليلة “
يتردد صداها في رأسه ! لملم تلابيب معطفه ، عاد بظهره إلى الخلف ، عابس الوجه ؛ راح يتأمل الطريق من خلف زجاج نافذة الحافلة ؛ إنه المساء ؛ الشتاء بادٍ على طرقات المدينة وسكانها .

قليلون هم من يسيرون بالطرقات يرتدون معاطفهم الثخينة ، و هدوء أصاب مباني المدينة العتيقة في مقتل ، فغدت كالقبور وأعمق هدوءاً ، ونسمة هواء تشتد رويداً رويداً ، حاملة معها أوراق أشجار الزينة المُتراصة على جانبي الطريق واليابسة إلى أعلى ، و مداعبة لأهداب ثياب المارة.

الحافلة تسير بتؤدة ؛ عاد ببصره ، و بنظرات مستكينة ؛ طوق الحافلة من الداخل ، قليلون هم ركابها ، لا يربون عن عشرة من الطاعنين في السن ؛ رجالاً ونساءً ، هو الشاب الوحيد بينهم ؛ لم يتخط عمره الثلاثين عاماً ؛ يبدو نحيف الجسم ، متوسط القامة ، ذو وجه عابس و جبين معقود ،
فوق فخذيه  يقبع كتاباً عتيقاً ضخماً ، بدا من الجلد المدبوغ ، وكفاه موضوعان فوقه.

– تذاكر؟.
انتبه إلى قاطع التذاكر، أخرج من جيبه النقود،  نقده ثمنها ثم دس التذكرة بعد أن أخذها في جيبه ؛ و بادله ابتسامة جافة مُحياً ، ثم عاد لعالمه ،  وسرعان ما استحالت الابتسامة إلى عُبوس.
”ستموت الليلة“
لماذا تراوده من حين لآخر كالبندول ؟ لماذا يصدق تلك الترهات ؟.
لم يكن سوى حُلم مُريب ؛ حلم قلب كيانه  وغير مزاجه ليلة أمس ، كانت امرأة قبيحة القسمات ، و بوجهها الأسود الجعد نبتت عدة شعرات طويلة بيضاوات ، بدت له آنذاك قصيرة القامة ؛ لا تبين معالم جسدها إن كان نحيف أو ممتلئ ، و ترتدي جلباباً أسوداً فضفاضاً ، بذيول تُجرجر خلفها و فوق رأسها خمار أسود ينسدل من حولها أرضاً ، ولا يبين لها شعر، وتمسك في يدها كتاب ضخم ، تقرط عليه بقبضتها ذات الأصابع الرفيعة الطويلة المُنتهية بمخالب طويلة بيضاء ، وتحملق إلى الشاب في نومه طوال ليلته ، بعينين حادتين كعيني الصقر وكأنها تحفظ تقاسيمه كل ليلة ، وبالليلة الأخرى تنساها  فتعود لتأمُلها وحفظها من جديد !

كان الكتاب يُشبه نفس الكتاب الذي أسفل كفيه ؛ لا يدري ما سر التشابه ، ولا يتذكر سوى أنه وجد ذلك الكتاب مُلقى في طريق مقفرة ، وعليه بعض قطرات من الدماء الجافة ، لم يكترث ؛ ربما كانت دماء دجاجة ذُبحت أو يد جُرحت ! هكذا فكر لحظتها ، هم بالتقاطه ولكنه سمع صوتاً في أعماقه يأمره : ” أترك الكتاب و واصل طريقك في أمان ”.
لكنه لم يأبه أيضاً ، مُجرد وساوس عادية كما اعتقد.

هو عاشق للقراءة ولكنه لا يملك مالاً كثيراً لشراء الكتب ، ولن يفوِّت فرصة كهذه ، ولا يقتنصها ؛ ولكنه وجده كتاباً ضخماً عتيقاً ملؤه الرموز والنقوش والرسومات الغريبة ؛ خمَّن آنذاك أنها لغة قديمة أو لغة يجهلها ، و ربما كان عُمره مئات السنين، وقتئذ يبيعه لهواة تجميع الكتب القديمة والتحف التاريخية ؛ لعله يشتري بثمنه عشاءً فاخراً من لحوم و دجاج  عوضاً عن العدس والفول والجبن.

كل يوم يأخذ الكتاب معه إلى العمل و في طريق عودته يمر على حوانيت الكتب والفرشات والأكشاك عارضاً الكتاب للبيع ، ولكن دون جدوى ، لا أحد يريد شراؤه ! حينئذ يمشي خالي الوفاض صوب محطة الحافلات و يستقل إحداها ليعود إلى شقته صفر اليدين ! يقطن في شقة بالطابق الأرضي وحيداً ؛ وظيفة حارس الأمن التي يمتهنها لا تسعفه ؛ مُرتبها قليل و بالكاد يسد رمقه ، ولكنه يعود ويسمعها:
” ستموت الليلة “.

ليلة أمس قالتها له المرأة القبيحة بذلك الحلم  ثم انصرفت ، واستيقظ صباحاً فوجد ثيابه مُضرجة بالعرق و وجهه شاحب  و أوصاله مُفككة ، و وجد نفسه لم يمت كما قالت له المرأة : مُجرد أحلام.
يتذكر جيداً إن هذا الحلم لم يعرف طريقه إليه إلا منذ أن وجد الكتاب ، ولكنه تساءل كثيراً: هل للكتاب علاقة بالحلم ؟ ولكنه كان يستدرك نفسه سريعاً : لا توجد مثل هذه الخرافات إلا بالقصص والروايات.
” ستموت الليلة “.

توقفت الحافلة ؛ ركب رجل أربعيني هزيل الجسم ، يحمل حقيبة كتف سوداء ؛ ترك كل مقاعد الحافلة وجلس بجواره ؛ كان يرتدي بنطال قماش باهت و سترة مهترئة وعلى وجهه ابتسامة بدا أنها مُصطنعة.

– ستموت الليلة ؟.
فزع الشاب عندما سمعها من الراكب الجديد ؛ نظر إليه باستغراب وتعجب ، وسأله بصوت مُتهدج :
– ماذا قلت ؟.
تعجب الرجل و رُسمت على وجهه علامات دهشة ، ثم أجابه مُبتسماً :
– سألتك : هل ستنزل آخر خط سير الحافلة أم ستنزل في محطة قريبة ؟.
– أمُتأكد ؟.
– عجيبة ؛ مُتأكد بالطبع يا أخي الأستاذ !.
نضح العرق من جبين الشاب ؛ ظل مُنشدهاً للحظات و لا يدري ما بات يحدث له مؤخراً ، ربما كان الرجل على حق وهو من سمعها ” ستموت الليلة “ جراء خيالاته التي باتت تردد ذلك التحذير الوهمي كثيراً !.
ازدرد ريقه ، عاد بوجهه إلى الأمام شارداً ، لحظات وأفاق ، فلاحظ أن الرجل ما زال ينظر إليه ، عاد والتفت إليه قائلاً :
– آخر خط السير.
ثم أرسل بصره خارج الحافلة ، وعبثاً راح يشغل نفسه بتأمل الطريق ، وفجأة لمح المرأة القبيحة -زائرة الأحلام – تقف بجوار شجرة  وبيدها ذات الكتاب وتنظر له نظرات مُثيرة للرُعب ؛ ثم رفعت يدها وأشارت إليه بسبابتها ، ثم أشارت إلى الأرض و سمع صوتها في أعماقه مُصاحباً لإشاراتها يقول : ستموت الليلة ؟.

كل ذلك لم يتعد الثانيتين ؛ حينئذ صرخ الشاب مُستديراً ليخاطب الراكب بجواره :
– إنها المرأة التي …. لم يجد الراكب بجواره !
تصبب عرقاً ، أزدرد ريقه .
– ربما نزل !.
دمدم بها مُستغرباً ، بتعجب نظر الركاب له ، قال في نفسه: هل كان يعرفها لأنبهه ؟ يا لحمقي !
ثم نظر إلى الطريق ، كانت السماء قد أظلمت  وخلت الطريق من المارة ، فتح الزجاج ، اشرأب برأسه من النافذة و نظر إلى الخلف حيث رأى المرأة ؛ لم يجد أحداً ، عاد لجلسته وقد بدأت القشعريرة تفتت كل قواه و شعر بدوار جعله يُغمض عينيه و يفتحها كل فينة وفينة ، وعقله رافض وغير مُصدق لما يحدث ! ظهر على الطريق بجوار الحافلة أسطول سيارات فخمة من “المرسيدس” و “الجيب” ، سمع تمتمات الركاب من خلفه تردد:
– رئيس الوزراء و حاشيته يمرون من جوار الحافلة !.
– لقد سمعت بالأخبار أنه يتفقد الوزارات تلك الأيام بدون ترتيبات و يحاسب المُهملين !.
وقتئذ أفاق قليلاً و فرك عينيه ؛ أرسل بصره ليتأمل الموكب الجلل ، وجد ضباطاً من سيارات الشرطة والمُدرعات يشيرون لسائق الحافلة أن يقف جانباً حتى يمر الموكب ، صائحين:
– توقف جانباً يا حمار.
توقفت الحافلة جانباً ، تمتم السائق:
– ها قد أوقفها الحمار؛ تفضلوا يا بشر.

وقفت أمام الحافلة سيارة شرطة مشحونة بالمجندين الملثمين والمسلحين بالمدافع الرشاشة ومُدرعة وقفتْ من خلفها ، وبدأ تقاطر السيارات السوداء في أُبهة وبهرجة ، و راح الشاب يتأملها مُنبهراً ، مُتمنياً أن يمتلك ولو مقود من سيارة منهن أو فانوس ، أو عجلة ؛ مؤكد أن سعر أحدهم كفيل بشراء شقة تمليك بدلاً من السكنة في طابق أرضي من غرفة وصالة وحمام ، سكن مكتوم بلا نوافذ ، رائحة هوائه كرائحة جثة متعفنة !
اقتربت سيارة رئيس الوزراء من الحافلة.

” ستموت الآن “.
عاد النداء لينطلق من أعماقه مُربكاً يقظته ، ولكن هذه المرة أصبح أكثر دقة وتحديداً ؛ ارتجف جسمه و ازدادت وتيرة تدفق عرقه ، وفجأة سقط الكتاب أرضاً ؛ ارتعشت يداه وهي تنزل مع رأسه إلى أسفل لتلتقطه  و جحظت عيناه حينما وجد حقيبة الرجل الذي جلس بجواره قليلاً ثم اختفى منذ قليل مُلقاة تحت المقعد ومفتوحة ، تلوح منها كتلة سوداء لا يظهر من معالمها سوى عداد رقمي ، تتحول كل أرقامه ذات اللون الأحمر إلى أصفار متراصة بجوار بعضها البعض !.
” مُتْ الآن “

***
جريدة الأهرام..
الثلاثاء ٩-١١-٢٠١٧
”مقتل رئيس الوزراء في تفجير إرهابي غادر ليلة أمس ؛ أودى بحياة عشرين مواطناً ما بين شرطي ومدني و عشرة جرحى ، وتم العثور على أشلاء الشاب الانتحاري و بحوزته كتاب غريب  عليه بضع قطرات من دمائه، وتم ضمه إلى أحراز القضية ، و يُذكر أن الكتاب ما يزال سليماً بحالته ولم يتأثر بالانفجار…“

النهاية ……

 
*(القصة منشورة ورقيّا بكتاب قصصي مجمّع “صحائف إبليس” 2018)
 

تاريخ النشر : 2020-02-08

guest
8 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى