أدب الرعب والعام

الذي كان يموت كل يوم

بقلم : حسين الطائي – العراق
للتواصل : [email protected]

حدق في الفراغ بعد أن سحب نفساً عميقاً من سيجارته
حدق في الفراغ بعد أن سحب نفساً عميقاً من سيجارته
 
سلوكه يمثل للكثيرين سلوك مخلوق أدنى منا نحن من نحسب على العقلاء ، يجلس على الرصيف مقرفصاً يدخن سيجارة طلبها من أحد المارة ويبقى محدقا في الفراغ يتحسس رأسه الصغير الأقرع براحة يده ، عيناه غائرتان ويرتدي دائماً ذات البنطال القصير المخطط والمرفوع حتى منتصف بطنه ، ويمكن ملاحظة شفتيه تهمهم بما لا يمكن سماعه ، و حين يصل انفعاله درجة الطفح يبدأ بهز رأسه وعض أصابعه وفي فمه حسرة يلوكها لوحده بعيداً عن عالمنا ، الكثير من التساؤلات كانت تحيط به من قبل أبناء الحي حين لم يكن لديهم ما يتحدثون بشأنه ، لذا فقد تعددت الفرضيات التي قيلت لتعليل جنونه ، منهم من قال أنه عانى حب ضائع في أروقة الجامعة التي درس فيها الأدب الفرنسي ، وهناك من يردد قصة عودته في إحدى الليالي ماراً بالخرابة التي تتوسط الحي حين سمع قطتان تتكلمان مع بعضهما ونادته إحداهما بأسمه ، إلا أن هناك نمط من الأحاديث لا يدور إلا بين أفراد العائلة الواحدة حين يكون الصغار قد ناموا ، يقولون أن الحكومة قد اعتقلته في يوم ما وتعرض لأبشع أنواع التعذيب ، لم يكن أحد يعلم من كان يعنى بشؤونه وكيف تحول إلى هذه الهيئة يجوب الشوارع والأرصفة بعد أن كان شاباً وسيماً .

– أنا أحاول أن أثبت من الطرف العاقل في هذه المعادلة بعد أن كف أغلب شعور الناس من حولي عن العمل ، كان وجهه مشرقاً على غير عادته في تلك الليلة حين استوقفه (هاشم) بائع الفلافل ليعد له سندويشاً على حساب المحل في مقابل بعضاً من وقته غامزاً للزبائن ومستظهرا ً اهتماماً مفتعل فيما سيجود به هذا (القيس) العبقري.

– لقد اكتشفت أن (الريس) يحبنا لدرجة منعنا فيها من السفر لكي لا نفارقه ، ألا ترون كم هو مهووس بنا ؟ لو سنحت لي الفرصة للقائه ولو لمرة واحدة  لوضعت كفي على صدره ، أستشعر كم الهموم التي يحملها والسأم الذي تمتلئ به ساعاته ، ما من جديد وكل شيء يسير كما يريد هو ، أنا متأكد أن الضجر ملأ قلبه فلا أحد يشتكي أو يعترض والأيام متشابهات ، لا بد أن يختلف الوضع قليلاً وإلا ستثورون كلكم في يوم ما أيها الحمقى ، لا بد أن يشغلكم شيء ما لكي لا تستشعروا ثقل الساعات .

لم أفهم يوماً لماذا كان يواظب على حضور صلاة الجمعة من كل أسبوع إلا أنه لم يكن يدخل المسجد و يكتفي بالصلاة على الرصيف ويستمع للخطبة مقرفصاً كعادته في ظل الحائط المرتفع و بعد أن تنتهي يغادر بهدوء ، و حصل ذات مرة أن قام بضربه أحد الشيوخ وتركه بأنف ينزف ممداً وسط الشارع وقد حرص على أن لا يقترب منه أحد من المصلين رافعاً يديه محذراً .

كم هو صعب أن تفتقد الإحساس بالزمن والمكان والأصعب أن تعيش تلك العتمة من نفسك ولا مفر مهما حلَقت سيكون هناك جدار بانتظارك ليعيدك إلى تلك الزاوية التي اعتدت الجلوس فيها ودخان السيجارة لا يكف عن الخروج من جوفك !.

كان لي جولة مع بعض رفقاء المدرسة حين عدت مساء يوم للبيت فوجدته متكوراً تحت سياج أحد المنازل محدقاً في الفراغ ، كشف بعض الضياء عن آثار جروح وكدمات على جبينه والجهة اليسرى من وجهه ، عندما حاولت أن أستفسر منه عن سبب ذلك دفعني بكلتا يديه ثم قام بشتمي بعبارات بذيئة ، أخبرني صاحب الدكان المجاور أن مجموعة من الشباب قاموا بمضايقته لغرض المتعة إلا أن مزاجه لم يكن كما أرادوا لذا انهالوا عليه بالضرب بعد أن سحبوه من ساقيه في الشارع.

لم أعد أذكر بالتفصيل الكيفية التي انتهت بها حياة هذا الكائن ، ولكنني أتذكر تجمع الناس أمام بيتهم بحضور مجموعة من رجال الشرطة حين أخرجوه موضوع في كيس أسود

-مسكين .. وجدناه في سطح المنزل مُلقى على وجهه تحيطه بقعة دم بعد أن أطلق النار على نفسه.
– لقد تحدثت معه البارحة ، كان عائداً من جامعته وأخبرني بأنهم لا ينوون إعادته إلى مقاعد الدراسة ، و من ثم تشاجر معهم حين صرَح أمام الجميع هناك بأن زوجة رئيس الجامعة عاهرة.

لم يبق منه سوى بعض الأحاديث والقصص يتداولها الناس مع بعضهم ، أما والدته العجوز فقد حضرت سيارة فولكسفاكن قديمة خضراء اللون لتقلها إلى احدى المحافظات الشمالية حيث ستقضي ما تبقى من أيامها لدى شقيقها .

ربما كانت أكثر الأيام جنوناً هي تلك التي يقضيها الناس خلال فترة الحرب فتجدهم لا يعبئون بكم الصواريخ التي تنهال على رؤوسهم ، يذهبون إلى العمل أو جبهات القتال ، قد يكون خزين الحياة نفد من نفوسهم فما عاد لأي شيء معنى ، سيما حين تعيش في سجن كبير تعلم مسبقاً كيف سيكون شكل الغد وأن كل ما يحيطك له لون واحد وطعم الأكل الذي تتناوله حدده أشخاص يقبعون خلف المحيط بآلاف الكيلومترات ويطلقون على أنفسهم رعاة الإنسانية ولم أفهم يوماً أي أنسان يقصدون ولماذا يعتبرون ما يفعلونه هو عين العدالة الإلهية ، لقد نسجت سنين الحصار غشاء سميك حول قلوب الناس ولم تعد هناك عدالة حين كف هؤلاء الناس عن النظر إلى عين السماء ، أما أنا فلم أكن بمنأى عن الفعاليات الجنونية التي خضتها في تلك الأيام مع أحد أبناء الحي يطلقون عليه ابن الأستاذ ولم يكن هناك أي وجه للشبة بينه وبين أبيه مدرس الرياضيات ، فقد كان مصدر لكل المشاكل التي تجري بين أبناء الحي ولطالما وضع أبيه في حرج بسبب شقاوته وتطاوله على الآخرين .

-هل لديك الجرأة لتسلق السياج و دخول منزلهم؟.
– لا بد أنك تمزح !.
– أبداً ، أريد أن أعرف ماذا يوجد خلف هذه الجدران العالية ، ربما نجد شيئاً يستحق البيع فنتقاسم ثمنه مناصفة ، كما أنها فرصة مناسبة ، الشارع يغرق في ظلام دامس والطائرات ما زالت تقصف والناس في بيوتهم .
– أعلم أن وراء ذلك مشكلة ، ستتسبب بدخولنا السجن.
– أنت خائف كالعادة.
– لست كذلك ، لكنني لا أريد أن أتورط بمشاكل مع القانون.
-أي قانون ، وهل يوجد قانون في هكذا أوقات ؟ سوف أتسلق الحائط .

قام بحساب المسافة بينه وبين الجدار ثم رجع إلى الخلف عدة خطوات ، حرك يديه وساقيه كما لو كان يتهيأ للقيام بحركة بهلوانية وبقفزة واحدة كان يتدلى ماداً ذراعيه وساقيه تحاول تسور الجدار .

– ادفعني… والآن أعطني يدك .
– سنتعرض للمشاكل ، أعلم ذلك .
– يا لك من جبان .
لفحني تيار هواء بارد وأنا أنظر حولي لأتأكد من خلو الشارع ، و ما هي إلا لحظات حتى وجدت نفسي في بؤرة للقاذورات تحيطني الحشائش التي نمت جراء الإهمال ، أما الأرجوحة التي تتوسط الحديقة فقد علاها الصدأ وتبدو بساقها المكسورة ككائن غريب وأكوام الخردوات مكدسة على طول الحائط مع دراجة عتيقة منظرها يثير الحزن .

كنت الجزء الخائف في هذه المغامرة وإن لم أكن أبدو كذلك إلا أنني لعنت الساعة التي بقيت فيها مع هذا الصديق الغريب الذي انشغل بتفحص كل ما يقع في يده من أدوات .

– يبدو أنه لا شيء هنا يستحق البيع .
– وما الذي تنوي فعله الآن ؟ لا تقل لي أنك تريد دخول المنزل .
– لن أضيع هذه الفرصة ويمكنك أن ترحل إذا أردت ذلك .

لم أعقب ، انقطع التواصل بيننا بالكلمات ونحن نغوص في مستنقع الظلمة ، لم يكن في فمي سوى غصة الخوف ، و كلما ازداد السكون زاد إحساسي بما حولي وضجيج قلبي صار مسموعاً.

-أسمع ..أنا ذاهب .
لم يجبني ، كان يقف متخشباً في مكانه ، جذبته من ذراعة فمد أصبعه المرتجف ناحية البيت حيث يقف ظل رجل خلف احدى الشبابيك وفي يده مسدس صوب فوهته إلى رأسه الأقرع ليطلق رصاصة بلا صوت ثم يعيد المشهد وفي كل مرة يتفجر فيها دماغه .

لم أجدنا إلا ونحن نسابق الريح في الشارع بعد أن سحبني صديقي من ذراعي ولم أفطن إلى أنني دخلت المنزل بفردة نعل واحدة .

( أنا أحاول أن أثبت من هو الطرف العاقل في هذه المعادلة ، هل يمكنك أن تصف لي العالم من حولك مستخدماً حواسك دون عقلك ؟ هل يحتاج العالم أن يكون معقولاً لكي يكون قابلاً للعيش ؟ فالتعلم أنه ما هي إلا لحظة نعيشها أو نموت إلى الأبد ، نحن أموات ، هل تعي ذلك ؟ كل ما أردته هو لحظة أحيا بها العمر بطوله ، لا أن أولد من رحم أمي لتأكلني الأيام والسنين على مائدة الجنون ، كم أود العودة إلى جوفك يا أمي ربما حينها ستعيد الحياة صياغتي في موضع وظروف أخرى غير التي أعيشها الآن ، هل يا تُرى سأصبح ما أنا عليه اليوم ؟
هل قلت لك يوماً لماذا أعشق التأريخ ؟ لأنه يتحدث دائماً عن زمن لم أكن قد ولدت فيه بعد ، ألا ترى أن ذلك مقرفاً حتى الموت ! فمي لا يكف عن بصق الأسئلة تباعاً ، حياتنا عبارة عن سؤال كبير ، علي أن أعود الآن لكي أنهي القصيدة ، لم يبق سوى بيتان وبضع سكائر و قعر كوب قد جف قبل أن تجف أفكاري على الطاولة )

حدق في الفراغ بعد أن سحب نفساً عميقاً من سيجارته .
 
النهاية …….
 
القصة من وحي الخيال والرسم كذلك ، مبارك عليكم رمضان وكل عام وأنتم بخير.
 

تاريخ النشر : 2020-05-04

guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى