أدب الرعب والعام

الحقيقة أقوى من الأوهام

بقلم : غيوم الماضي  – ليبيا

كأنه فارس من قصص الخيال لا ينقصه سوى ذلك الحصان الأبي
كأنه فارس من قصص الخيال لا ينقصه سوى ذلك الحصان الأبي

بسم الله الرحمن الرحيم

{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } .
صدق الله العظيم
سورة البقرة 《 الآية ١٠٢》.
 
* * * *
 
 
أنا بسمة كمال أبو سعد ، عمري 19 سنة ، أعيش مع جدتي  في مزرعتها ، فقبل خمس سنوات شب حريق بمنزلنا ومات كل أفراد عائلتي ، حرق معها أحلامي و دراستي أيضاً التي لم أعد اليها بعد ما حدث ، لم يتبقى لي سوى جدتي كي تبلسم لي جروحي الدامية  و توقظني من غيبوبة وحدتي الدائمة ، لا أنكر أنها تصب علي بعض غضبها ولكن من يلوم هذه العجوز المسكينة  فقدت أبنها وحفيدها المحبب ، أخي الياس ، ولكن لا هروب من تلك الجروح التي تؤلمني عندما تخبرني أنني الوحيدة الناجية  وتشعرني أنني سبب موتهم ، بل وكأنها رأتني أقتلهم بيدي .
 
 تمضي الأيام في مزرعتنا الصغيرة و ليس فيها ما يوصف ، ليست سوى منزل متوسط بطابقين بلون بني دافئ ، تحدوه تلك الشجرة العالية ، كرجل أرهقه السفر فيتكئ على حصانه تعباً و عطشاً ، و باقيه في جلستها الأبدية ، وأيضاً لدينا تلك البئر ، ويمكنكم تخيل حضيرة الدجاج  و إسطبل الأحصنة والأبقار  وبعض النباتات ، يمكنك تخيل كل هذا الجو القروي ، مع السماء الزرقاء التي يتخللها بعض السحائب المتسلل .
 
 وبينما أنا اكتب لكم قاطعتني جدتي الحنونة ، فعلينا زيارة صديقتها الحميمة ، أعطتني سلتان إحداهما مملوءة بالبيض و الأخرى ببعض الخبز والحلوى ، فمشينا على عجل حتى وصلنا منزل صديقتها  العمه حسناء ، كانتا لم تتحدثان عن اشتياقهما لبعض أكتر من حديتهما علي وعلى أن القطار يكاد يفوتني أم إنه فات حقاً ، بل إنه في الحقيقة لم يأتي أبداً ، بينما عيناي تنظران لهما بحزن وابتسامة المجاملة المعهودة لدي كلما تكلمت جدتي عن الموضوع ، وعدنا بعد حديث مطول وبعض الضحك وقصص العجائز  إلى منزلنا العجيب ،
 
 قد يبدو ظاهره من بعيد كأي بيت في القرية ، لكن ما أن تفتح بابه  فتشعر كأنك سافرت عبر الزمن ، وأنت تشاهد تلك الشاشة العملاقة والثرية الألماسية  وكل شيء من الهاتف إلى جميع الأدوات الكهربائية مع أثاثها الحديث الفاخر الذي يزين كل ركن ،
ولكن قد لا تعجب من المنظر لو كنت أحد جيراننا الذين لا يستطيعون النوم بسبب مولد الكهرباء الذي يجلجل بصوته الوحشي طوال الليل والنهار ، لأن قريتنا لا يصل لها لا كهرباء ولا ماء ، كانت جدتي تتحدث معي و أنا منسجمة في كتابة قصتي بهذا الهاتف الذي أهداه لي أبي قبل وفاته ، وهو كل ما تبقى لي من بيتي بل من عائلتي ،
 
 نكزتني جدتي وهي تمرقني بنظرة غضب من عينيها وهي تمضغ شيئاً ما يؤكل ، و أنا أنظر لها باتساع عيناي ألماً و واهتماماً وخوفاً ، فقالت لي جملتها المعهودة و كأنها تذكرني بمأساتي أو تحفظني إياها ” يا ابنتي إلى متى ستبقين عازبة جميع ، من في عمرك لديهم أطفال ومنزل إلا أنت ، وأنا في عمرك كان لدي طفل …….. الخ”
 
لا داعي لسماع باقي الكلام  فهو كلام كل أم وجدة على أي حال ، أغلقت هاتفي وعلقت نظري بالتلفاز أتظاهر بالتركيز ، بينما كلماتها لا تزال تتردد في عقلي …. ” اه يا جدتي … متى ستفهمين … لا أحد سيُعجب بفتاة نحيلة بشعر مجعد و وجه شاحب … و يتيمة ! ” قلتها وصوتي يرتجف بينما عيناي تحملقان في السقف بشرود في محاوله يائسة لإمساك دموعي المنهمرة ، صمتت لفترة ، لم أعهد سكوتها هكذا ، فنظرت لها نظرة استغراب ثم فهمت الأمر ،
 
 أنا لم أكن أرد على كلامها في هذا الموضوع من قبل، ولكن قلبي لم يعد لديه القدرة على الصمت ، أفاقت عندما لاحظت نظراتي بعد شرودها الطويل ، لو رأها المرء لظنها تمثال من شدة جمودها ، انحنت للخلف ولا تزال عيناها الزرقاويتان تحملق في بتفكير وهي تفرك خصلات شعرها الذهبي بشكل عشوائي وكأنها تقيم بضاعة ،
 
معها حق  فحتى وهي عجوز  فهي تبدو أجمل مني بكثير ، يا له من حظ ! قالت من بين أسنانها بجمود ” لما لا نزور الخالة رحيمة ؟ ”  أجبتها بغضب عارم ” أخ يا جدتي ألن تكفي عن الحديث عن أولئك الدجالين والسحرة ، فإن كلامهم كذب ولا نفع به و أن النصيب بيد الله ”  ردت ” لكن العين حق والسحر حق ” زمجرت بغضب ” اذاً تردين فك السحر بالسحر والسحرة كلهم كاذبون و إن صدفوا ” أخدت كأس الماء و دلفته دفعة واحدة في جوفها وكأنها تطفأ حريق في داخلها و ردت بعبارة واثقة ” إن الخالة رحيمة شيخة وتعالج بالقران وليس في ذلك عيب و لا حرام ، وستأتين معي غداً شئتِ أم أبيتِ ! ”  قالت الجملة الأخيرة بغضب وكادت تكسر كأس الزجاجي بين يدها وهي تعتصره ،
 
رددت عليها بينما أغادر المكان ، بينما أحاول إغلاق الموضوع حتى لا تموت من الغضب وتكون أخر ضحية من عائلتي كما تقول ” حسناً يا جدتي كما تريدين ، سأنام الأن فأنا متعبة وتصبحين على خير ” .
 
* * * * * * *
 
 
بعد ثلاثة أيام من زيارة خالتي رحيمة  لم يتغير أي شيء ، وهذا ما توقعته ، فلم أقبل الذهاب إلا لأبرهن لجدتي أن كلام الدجالين لا نفع منه ، وكنت أردد كلامي هذا لها كل يوم .
 
* * * * *
 
وبينما كنت أحرث بعض التراب  أفقت من شرودي على صوت ذكوري رزين ” أختي ، هل تعرفين منزل العم عدنان أبو سماح ؟ ” …. ” أختي هل تسمعنني ؟ ”  كان يكلمني و يحرك يديه أمام وجهي في محاولة فاشلة منه لإفاقتي ، بينما أنا أنظر اليه بتعجب ، فهذا الجمال الذي بوجهه الذي لم أرى مثله في حياتي ، وبشرته السمراء وعيناه الكحيلة و كتفيه اللتان تحجبان شعاع النور الذي من خلفه  يا لهذا الوجه الوسيم ! كنت أحدق بثبات و إعجاب ، بينما خصلات شعره الأسود تداعبها الرياح ، وكأنه فارس من قصص الخيال  لا ينقصه سوى ذلك الحصان الأبي ،
 
 قاطع شرودي صوت جدتي وهي تنادي ” بسمة ماذا تفعلين ، كل هذا هل تحرثين الأرض ؟ ” قلت في عقلي بسخرية ” هذا ما أفعله تحديداً ”  فتذكر ما كنت أفعل عندما حمحم الذي أمامي ، فقلت له ” نعم ، نعم إنه خلف منزلنا جهة اليسار ”  فتابع مشيته الهادئة الشامخة ، و ألتفت لي عندما لاحظ تأملي في وسامته وتبسم بغرور وسخرية .
 
* * * * * *
 
كانت تبدو كالحمقاء وهي تحملق بي وتبتسم تلك الابتسامة البلهاء ، وما كان لي سوى أن ابتسم على هذا الموقف المضحك .
 
* * * * * * *
 
وتابع السير بينما عيناي تتبعانه حتى وصل منزل عمي عدنان ، متجاهله نداءات وصراخ جدتي ، وعندما أغلق الباب أردفت قائلة ” نعم ، جدتي أنا قادمة “.
 
* * * * * *
 
وما إن دخلت الباب حتى رأيته يجلس على الكرسي المتمايل أمام موقد النار ، تلك جلسته المعتادة فقلت له مازحة ” مرحباً يا شيخ الشباب ، هل اشتقت لي ، وتجلس بانتظاري كما تركتك ؟ .
 
* * * * * *
 
ولم يهدئها ردي بل زادها غضباً وصراخاً ، وعندما دخلت منزلنا رمت بغضب جردل ومنشفه وأخبرتني أن أنشف المنزل بها ، ولكن هيهات ، مع تلك الابتسامة الحالمة على وجهي والفراشات حولي ، و جدتي لم تترك أي شتيمة عن كوني صماء وكسوله إلا وقالتها ، وما إن رأت أن كل ردي ابتسامة بلهاء ، زمجرت بغضب ” فتاة بلهاء ” ….  و أنا تابعت أمسح البيت و أغني وأتخيل أنني سندريلا و وجدت الأمير .
 
* * * * * * *
 
بينما كنت أمشط شعري المجعد على المرأة واضعة بعض الكريم عليه لعله ينصاع لأمري ويفك هذا التشابك اللعين ، وضعت قناع للوجه لأول مرة في حياتي ، فجدتي المسكينة كانت تشتريه لي بأغلى الأسعار لعلني أستخدمه و أشفق على بشرتي المسكينة ، ولكنني كنت أردف قائلة ” الجمال جمال الروح ” ولكن أنقلب كياني لما رأيته صباح الأمس ،  ذلك الوسيم اه يا قلبي المسكين ! رميت نفسي على السرير بينما أثبت القناع على وجهي و أفكر بمن سرق لي قلبي وعقلي وذهني .
 
* * * * * * *
 
استيقظت على قرع الباب  ” استيقظي ، لقد وصولوا ” هذا ما قالته لي جدتي وهي تحاول إيقاظي .
 
تذكر حينها أن هنالك من سيأتي لي خطبتي أو رؤيتي اليوم ، أو كما تقول جدتي ” قربتي أتت لتزورنا ” حسناً يا جدتي ، سأجهز بعد ثواني فقط ، استيقظت بسرعة و أزلت القناع وغسلت وجهي ، علي أن أعترف ، هذا القناع جعل بشرتي أصغر بخمس سنوات ، خرجت بسرعة من الحمام و أعدت ترتيب نفسي بسرعة أمام المرأة ، وضعت حمره خفيفة كي لا تلاحظها جدتي  و ارتديت حدائي واتجهت بسرعة لجدتي التي تنتظرني في المطبخ ، وفي خاطري تجول صورة ذلك الشاب الوسيم ، وكأي فتاة في العالم  أتخيل أنه من جاء لخطبتي  ” قومي بلف صوف الخروف الذي برأسك لماذا تتركينه مسدولاً أتظنينه حرير ؟ “
 
قالت ذلك جدتي بغضب بينما  تصر على أسنانها ،. أردفتها قائله بضحكة ” حسناً يا جدتي إنها مجرد زيارة ليس وكأنني سأخطب ” قلتها و أنا أتظاهر بالغباء ، ردت بعد زفير وهي مبتسمة  ” بل سوف تتزوجين ، لا بد من أن الخالة رحيمة قد فكت عقدتكِ و أتى نصيبك أخيراً يا ابنتي ” ثم دمعت عيناها وقالت وهي تحاول إخفاء دموعها ” لقد كبرتي يا بسمة ، لقد كبرتي وأصبحتِ عروس ”  كلماتها هذه وعيونها الحنونة أنستني ما قالته قبلها عن تلك الساحرة اللعينة ، فابتسمت و ارتميت في حضنها وقلت لها ” سأشتاق لكي جدتي كثيراً ، أبعدتني بسرعة حينما تذكرت الضيوف ، فأخدت السفرة و دخلت وقالت لي : أنتظري ربع ساعة ثم أدخلي .
 
* * * * * *
 
في بعض مناطق بلادي من عاداتنا أن لا تدخل البنت بالسفرة إلى العريس بل يدخل الأب أو الأخ أو لي أمرها ، وهي تدخل بعد خروج والد العريس وإخوته ، وعادةً تبقى أم العريس أو أخته مع والدتها وأخوات العروس ، ولكن في متل هذه القصة بسمة ليس لديها سوى جدتها .
 
* * * * * * *
 
حاولت ترتيب شعري بسرعة ، فعجباً لهذا الشعر رغم تجعده إلا أن له لوناً مميزاً ، فكان تحت أشعة الشمس عسلياً غامقاً ، وفي الإضاءة المتوسطة بنياً مائلاً إلى القصلي ، وفي الظلام أسود غامق ، و تتوسطه بضعة الشعيرات الشقراء و بعض الشيب الذي تقول لي جدتي عنه شيب سعد ، فما رأيت سعداً به ، رتبت فستاني  و مططت شفتاي لاعدل الحمرة  و تنفست الصعداء و دخلت بهدوء .
 
* * * * *
 
رميت نفسي على الوسادة الزهرية التي ترويها قطرات دافئة تنزل من عيني ، دخلت جدتي وهي تصفع الباب بقوة ، وما إن رأتني حتى تبدل غضبها حزناً على حالي ، فقالت بحنان ” يا ابنتي عليك بصلاة الاستخارة ، فإن لم تستريحي وشعرت بالضيق بعدها  فوعد مني أني لن أفعل إلا ما تردين …. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ” .
 
أُغلق الباب بينما أنا أنظر إلى الفراغ القاتل ، أتذكر ما حصل منذ لحظات قليلة ، عندما دخلت وجدت شاباً لا يخلو وجهه من الجمال ومعه والدته ، و لولا أن قالت جدتي لي ذلك لظننتها أخته ، لم تتفحصني الخالة ابدأً ، وهو ظل يحملق بي بإعجاب ، و ما زادني غرابة أنه قد حدد موعد الزفاف بعد أسبوع ، وعندما سألت الجدة فيما تحدثوا معاً ؟ قالت ” لا شيء ، حتى أنهم لم يسألوني عن أسمك أو عمرك أو أين والديك أو أي شيء أخر ” .
 
فعلقت بالقول ” يا جدتي لا يبدون أشخاص طبيعيين ، ألا تفهمين ؟ يبدون من المدينة ، كيف عرفوا عنا أياً كان ؟ ”  أردفت بقولها بينما تزفر بعمق ” بنيتي في الحقيقة أنا لم أشعر بالراحة لوجودهم ، ولكن ربما لأنني كنت أفكر بفقدانك ليس إلا … ولا تعجبي فربما كانوا جيرانكم في المدينة ويعرفون كل شيء عنكي ، كما أن الشاب وسيم وغني ويبدو أنه معجب بك لحد الجنون ، فهو لم يزل عيناه عنكي مطلقاً ، أهذا ما يسمونه الحب من أول نظرة ؟ ”  قلتها من بين أنيني ” حب !  عن أي حب يا جدتي ؟ أنتي لم تري نظراته لي ، كانت مخيفة جدتي ،
 
و أي جيران هؤلاء فنحن نعرف كل جيراننا ، فمالي أن رأيت وجهه مطلقاً لا هو ولا امه ” ، ” فيا ويلي لو يكون أحد أعوان رحيمة تلك  سلطته علينا ، فما به يعرف كل شيء عنا إلى هذا الحد ” قلت ذلك ويداي المرتجفتان تمسكان ركبتاي و وجهي موازياً للأرض ، فردت جدتي صارخة ” عليك بالزواج عاجلاً أم اجلأً ، فإلى متى سوف تبقين عزباء ؟ ”  فهمست في صمت ” إلى الأبد يا جدتي … هذه القبيحة ستبقى وحيدة للابد ” .
 
* * * * *
 
أمسكت هاتفي و أنا أقرأ بصوت رفيع خاشع :
بسم الله الرحمن الرحيم
{ بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ }.
سورة التوبة 《 الآية ١》.
إلى أن وصلت إلى قول الله تعالى :
{ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } .
سورة التوبة 《 الآية ٥١ 》.
و ظللت أكرر هذه الآية إلى نهاية السورة .
صليت صلاة الاستخارة وبدأت بالدعاء فشعرت بالضيق بعد ذكر أسمه في الدعاء ، ولقد كان هذا كافياً حتى أنسى هذا الموضوع و أريح عقلي وقلبي ،  فحمدت الله على ذلك و دعوته  و نمت بعدها نوماً عميقاً .
 
* * * * * * 
 
شعرت بشعاع الشمس يحرق جفوني ، ها هو الصباح قد أشرق ، أسمع صوت ديكنا و ديكة جيراننا يصيحون بصوته الجليل ، ففركت عيناي ونزلت بعد أن صليت الفجر لأجد جدتي قد حضرت لي الفطور اليوم  ” سوف أبكي كل يوم لتفعل لي هذا دائماً ”  قلتها بهمس وابتسامة الخباثة تعلو وجهي ، أشاحت لي جدتي وجهها بحنق ” هل قلتي شيء يا نكره الجميل يا …..”
 
 أسكتها بقولي بسعادة ” قلت صباح الخير جدتي الجميلة ، كيف حالكي اليوم ؟ ” كانت لترد لولا الطرق المسرع للباب  ” صباح الخير أيتها العمة إن المولد الخاص بكم يبدو معطلاً فهو يصدر صوتا مزعجاً جداً ، وأقول ذلك لأنني خبير في الألات الكهربائية ، فلو سمحتي لي يمكنني إصلاحه ؟ ”  حاولت تحديد الصوت الذي بدى مألوفا لي ،  فنظرت من تقب الباب لأجد ذلك الشاب الوسيم الأسمر الذي بدى وكأنه يحاول ترتيب شعره عندما لاحظني و أنا أسترق النظر خلسة ، ردت عليه جدتي وهي تحاول إغلاق الباب عندما لاحظت ما يجري ، أما أنا فلم أهتم واستخدمت النافذة بدلاً من ذلك ، وبدأت بقول ” هل تعرف كم أحبك أيها المجهول ، أم أنت مثلي وغرورك يمنعك من قول ذلك لي يا ….” انقطعت الكهرباء فخرجت مفزوعة أركض ، وما إن خرجت حتى باتت نظرات ذلك الشاب معلقة بي ، ربما هو مصدوم من شعري المنكوش فأنا لم أسرحه عندما استيقظت اليوم ،
 
ولكن ربما جدتي وهو لاحظا ما لم يخطر في بالي وقتها ، إلا عندما نكزتني جدتي وكادت أن تتقب خصري وهي تزمجر بين أسنانها ” أدخلي يا قليلة الأدب … فنحن في النهار ، فما خوفك من انقطاع الكهرباء ؟ “. نظرت بتعجب لها وما أن فهمت حتى ركضت إلى المنزل مسرعة وشعرت وكأن أحدهم سكب علي ماءاً بارداً ، ” يا إلهي لقد خرجت بملابس النوم أمامه ، يا له من عار ! ” قلتها و أنا أشعر كأنني فعلتها عمداً .
 
* * * * * *
 
دخلت العمة و خرجت وهي تحمل لي مصباحاً يدوياً ، فقلت لها ” شكراً يا عمتي”  كنت أحاول إصلاح ذلك المولد وكان كأنه من غابر الزمان ، علت في وجهي تلك الابتسامة اللعوبة وقلت في نفسي ” يا لها من فتاة ساذجة ! تخاف من الظلام لتخرج وهي ترتدي لباس حريري  لا يستر شيء ، ثم تركض بغباء فتفصح على جسدها الأنثوي أكثر ” ….. عدت للوراء …..”ها قد أنتهت ، يمكنكم تشغيل الكهرباء الأن ” قلتها بصوت عالي فردت العمه وهي تشكرني ” لقد أتعبناك معنا يا ولدي ” …. لقد صدقتي في ذلك يا عمه …..
 
* * * * * *
 
دخلت جدتي وهي تحمل المصباح ولا تزال نظرة الغضب تكتسح وجهها ، ” أنظري إلى نفسك وهذا الفستان الأحمق الذي لا يستر سوى ربع فخدك ولا يستر كتفيك سوى هذين الخيطين الحريرين ؟ ” ، قالتها في وجهي بغضب ولو كانت تنيناً لأخرجت لهيباً من النار لتحرقني ، ابتسمت بتعالي بينما أتناول الإفطار ، حسناً كل شيء قد حصل اليوم جميل ، وكنت لأقول أنه أسعد أيام حياتي لولا ما حلمت به اليوم أم كان ذكرى تذكرتها في منامي  حكيته لجدتي ، فأردفت قائلة ” حسناً ابنتي إنها قصة طويلة سأحكيها لكي ………”
 
وبدأت بسردها طويلاً و أنا أنصت بتمعن ؛ فكان ما حلمت به ( أن أبي كان يصلي الفجر قبل الأذان وهو يعلم …. ولم يكن يذهب لصلاة الجماعة لا في الجمعة ولا التراويح ، وبدى كأنه يقول لأخي : يمكنك شرب الماء اذا كنت عطشان أثناء أذان الفجر ) حسناً كل ذلك حدث بالفعل من قبل ولكن ما افزعني هو باقي الحلم ( فرأيت أخي وهو يشرب من نفس الكأس التي أعطتني إياه تلك المدعوة رحيمة ، واذا به يلتفت وقد كان يشبه ذاك الذي جاء ليخطبني يومها ، ثم اشتعلت النياران في المنزل على صوت ضحكات وصراخ ، فإذا بي أرتطم بشيء إذ به وسام  ) ذلك الشاب لم يكن ينقصه سوى أسمه ليكمل المعنى الحقيقي للوسامة ( وهو يقول لي أقرئي آية الكرسي ) وما إن قرأتها حتى استيقظت مفزوعة من الحلم .
 
فكان رد جدتي أنها لا تعلم قصة الصلاة ، ولكن يبدو أن المياه التي أعطتكِ إياها رحيمه كانت سحراً ، و أن الذي كان سيخطبك فكان أحد أعوانها من الجن والعياذ بالله ، وقالت لي وسط الكلام بفزع ” هل شربتي ذلك الماء يا حفيدتي ؟ ”  فأفقت من شرودي و أنا أقول ” لا ، لا … لم أشرب جدتي فقد سكبته ، عندما أغمضت عيناها وبدأت بقول ذلك الكلام الغير مفهوم ، علمت أنها ساحرة فخدعتها ” ،  فقالت بعد زفير كأنها تخرج همومها به ” الحمد لله أنكِ لن تفعلي ، و لأول مرة يكون عنادك ذو فائدة ”  قلت لها و لا أزال في حيرة من تفسيرها ” وما علاقة هذا بالبيت ؟ ”  قالت وهي تتكئ على الحائط وتنزل بعينيها للأسفل كمن يحاول التذكر ” إن أباك كان متزوجاً قبل أمك ” ، ” كيف ، ألم يكن أعزباً ؟ ” قلتها و أنا أحاول عدم تصديق الأمر . فردت ” نعم … ولا … لم يتزوج إمرأة بل تزوج جنيه والعياذ بالله ، وعندما عمل لكي سحر كي لا تتزوجي تضارب هذا مع وجود الجنيه ، فطلبت منه إخراجك من المنزل وخيرته بينك وبينها . فأختارك ، مما جعلها تحرق المنزل من الغضب ، أما نجاتك  فهو من علم الغيب  الذي لا يعلمه إلا الله.
 
*  * * * * *
 
كنت أجلس بصمت أكتب لها قصتي لعلي أطمئنها على حالي  و أريح قلبها المشتاق لي ، وكان في مطلعها ” أيا أمي …..
 
* * * * * * * *
 
مر شهر على هذا الكلام الذي لم أنساه وكأنه البارحة ، كان حالي معلقاً بذلك الشاب الذي يُدعى وسام ، عرفت من جدتي أنه كان بنفس عمري ، وكان يدرس في كلية مرموقة ، كما أنه يعمل في عمل مجهول  إنه  أعزب و يعيش مع عمه عند العطلات و والداه في المدينة ، كيف كان يأتي كل عطلة ولم ألاحظه ؟ يا له من حظ عاثر !.
 
*********
 
أتاني الرد على رسالتي التي كان مطلعها ” أيا أمي .. أيا أبي … أنني ابنكم وسام المجنون ، بعد التحية والسلام ، أرجو منكم الموافقة على الفتاة التي سأتزوجها … إنها فتاة جميلة تسكن بجانبنا ، كنت أراقبها منذ فترة ، فأصبحت أعلم جيداً طيبة أصلها ونقاء أخلاقها ، وأعلم جيدا حتى لو درت الأرض لن أجد فتاة بمثل عفويتها وصدق مشاعرها ، أما بعد ، كيف أنتي واخوتي و أبي ، هل انتم بخير ؟  والسلام عليكم و رحمة الله وبركاته ” .
 
كانت في ردها فقط كلمتان فهمت معناهما بمجرد قرأتهما فشعرت بالضيق فكان في مطلع ” وفقك الله ” …. أهذا كل شيء ؟ ليت لدي تلك الأم الحنون التي تكتب مقالاً كاملاً اذا راسلت أبنها …. أتمنى أن يكون بخير ، أخدت عمي وذهبت إلى من أنوي زيارتهم اليوم ، لكي أهدئ هذا القلب المشتاق …. فلن أتحمل العيش بعيداً عن ساكني ذلك المنزل مهما حاول .
 
* * * * * *
 
قالت لي جدتي أن جارنا العم عدنان و أبن أخيه عادا إلى المدينة مساء الأمس ، نفخت بضيق بينما أغسل الصحون وقلت في قلبي” يبدو أنه سيكتب لنا الفراق قبل الحب يا وسام ” ….طق طق طق …. كان الباب يدق بشكل مستمر … ” حاضر أنا قادمة حالاً ” قالتها التي ركضت وهي مسرعة جهه الباب ” بيت الخالة أم كمال ، أنا عمكم عدنان أتيت اليوم مع أبني أخي وسام وعائلته لكي نزوركم ونوصل الود وليكمل نصف دينه ..
 
 
النهاية………

تاريخ النشر : 2020-05-19

guest
30 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى