أدب الرعب والعام

هل من مفر ؟

بقلم : عازف الليل – المغرب

استيقظ فائز جالساً على كرسي مكبلاً بالأغلال في مكان يبدو أنه قبو المنزل
استيقظ فائز جالساً على كرسي مكبلاً بالأغلال في مكان يبدو أنه قبو المنزل

 
جالس كعادته يشاهد التلفاز ، رن هاتفه في مكان ما في الغرفة ، إنه دائماً يهمل مكانه و لا يتذكر موضعه ، ولو كان يضعه في جيبه لما تعذب كل هذا العذاب ! أخذ السيد بشير هاتفه ذو الإصدار القديم الذي يصدر رنة بسيطة ، نعم بالتأكيد مثل هاتف أبيك.
أخيراً قرّب هذا الجهاز إلى أذنه ليقول تلك الجملة الشهيرة عند تلقي مكالمة ما : ” آلو من معي ؟ “.

– هل أنت هو السيد بشير عابدين ؟.
– نعم ، بشحمه و لحمه.
– نحن نعلمكم أنه يجب الحضور إلى مكتبنا من أجل تسلم رخصة البناء ، إنه أمر ضروري.
– و متى يتعين علي الحضور ؟.
– يومين على أكثر تقدير ، يا سيدي.
– حسناً ، شكراً من أجل إعلامي.

أغلق السيد بشير الخط ، و هو يفكر جيداً  فيما سعه توا ، تبدو على ملامحه عدم الرضى بالذهاب ، و الأمر أن بشير يعمل في مكتب للعقارات ، و قد كلفه رب عمله بالإشراف على أحد الصفقات بشراكة مع إحدى المؤسسات ، و لو تمت بنجاح لحصل السيد بشير على ترقية ينتظرها منذ دهر ، لذا ما الأمر الغريب في القصة ؟ موظف تلقى مكالمة تخبره عن رخصة بناء لصفقة العمر كل شيء يبدو على ما يرام ، أو ربما أحسن ! لكن ما الخطب يا سيد بشير أرجوك أخبرنا ! تكمن المشكلة أن أخ السيد  بشير سيغادر بعد يومين بالتحديد إلى أرض الغربة ، و الأمر لا يحتاج إلى لف و دوران ، يريد السيد بشير قضاء بعض الوقت مع أخيه الذي لا يرى وجهه إلا مرة كل ثلاث سنوات ، إذاً ما الذي سوف يفعله ؟ البقاء لتوديع أخيه العزيز ، أم الذهاب من أجل إحضار ورقة قد تجلب له حفنة من الأموال ؟ هنا شكر بشير ربه على ذريته ، و بدون تضييع و لو دقيقة واحدة توجه بشير إلى غرفة ابنه الشاب مروان ذو الأربع و العشرين سنة ، دق على باب غرفته ثلاث دقات كانت كافية لكسر الموجات الصوتية لتلك الموسيقى الصاخبة التي ملأت أرجاء الغرفة.

– ما الأمر يا أبي ؟ ماذا هناك ؟ قالها مروان بدون أن يفتح الباب لأنه كان مستلقي على السرير.
– أريدك في أمر هام يا بني.
– و ما هو هذا الأمر يا أبتي ؟ أجاب بفضول.
– إني أطلب منك الذهاب لإحضار رخصة البناء التي كُلفت بها مؤخراً.
– أووه ! أنا أسف يا أبتي ، إنك تعلم أن لدي مباراة مهمة الأسبوع القادم في كرة القدم ، و أنه علي التدريب من أجل ذلك.
– نعم لقد نسيت أمر المباراة ، لا مشكلة يا بني.
 عاد بشير إلى غرفة الجلوس ، مشاهداً التلفاز بعينيه فقط لا بعقله الذي كان يفكر في أمر الرخصة ، فجأة دخل ابنه فائز ذو العشرين سنة ، فش السلام ، لكن لم يرد والده على غير العادة ، الذي كان يوصي دائماً بتحية أصحاب الجنة.
–  السلام عليكم  يا أبي ، كررها فائز.
– و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته ، فائز لقد عدت ؟.
– نعم ، و صلت لتو ، و أنت يا أبي ما بك ؟ أرى أن هناك شيء يشغل بالك.
– أصبت يا بني ، لقد اتصلوا بي اليوم ، و أخبروني أنه يتعين علي الذهاب من أجل أخذ رخصة البناية التي كلفت بها.
– و ما المشكلة ؟ ألم تكن تنتظرها بفارغ الصبر؟.
– بلى يا فائز ، و لكن المشكلة تكمن في موعد الاستلام ، فهو يتزامن و تاريخ عودة عمك إلى أرض الغربة.

همس فائز لنفسه “مروان لديه مباراة مهمة ، نعم لقد وجدتها ! ” ردد فائز ” أبي لدي فكرة ، لماذا لا تسمح لي بالذهاب بدلاً عنك ؟ فهم لن يمانعوا بالتأكيد ، فأنا ابنك.
– لكن يا فائز، قد تكون الرحلة خطيرة بالنسبة لك ، ما لبثت سوى عام عن حصولك على رخصة القيادة منذ عام فقط ،  ناهيك أن العاصمة تبعد عن مسقط رأسنا بمائتين كيلومتر.
– لا تقلق يا والدي ، فأنا سائق ماهر، إن الله خير حفظاً ، ثم بفضل دعاء الوالدين لن يصيبني مكروه بإذن الرحمن ، قالها فائز بكل ثقة رافعاً إبهامه لأبيه.
تبسم السيد بشير في وجه فائز و قال:
– ما دمت مصراً يا ولدي ، ففعل ما تشاء ، ربّت بشير على كتف فائز و قال جملة كثيراً ما يكررها :
– وفقك الله يا فائز و جعلك من الفائزين.
في زوال اليوم التالي ، بعد أن تناول وجبة الغذاء ، وضع فائز في صندوق السيارة ما يحتاجه من متاع ، قبّل يدي والديه طالباً منهما الدعاء بالتوفيق ، فلم يبخلا عنه في ذلك بطبيعة الحال.
 
 ركب فائز السيارة ثم أخرج رأسه من النافذة ملتفاً إلى الوراء ، لوّح بيده و كان أخر شيء قاله : ” سأعود في المساء إن شاء الله ، فإن لم افعل فأعلموا أني بِتّ هناك في أحد الفنادق و ليكن الغد موعد عودتي بإذن الله”.

بسمل فائز بعد تلاوته دعاء الركوب ، فحرك سيارة والده ليمضي في طريقه ، بعد مدة قصيرة ، اندثرت من عقله الإرشادات التي قدمها له والده للوصول إلى وجهته ، لكن هذه  ليست مشكلة عويصة ، فنحن في عصر التكنولوجيا ، لذا قرر فائز ببساطة استخدام (الجيبي إس) ، و بالفعل هذا ما فعل و أكمل طريقه بسلام و أمان.
 بعد فترة من الزمن لمح فائز إلى المحطة ، فوجهه أحد العمال ببذلته و قبعته اللتين تحملان شعار المحطة بالتأكيد.

ترجل فائز من السيارة تاركاً إياها تتناول مقداراً من الوقود ، فوجد فرصة ليرتاح هو الأخير و يشرب فنجان قهوة ، اقترب منه العامل الذي استقبله فبادره بالكلام:
– هل ستسلك هذا الطريق  يا سيدي ؟.
– نعم ، يجب علي الذهاب إلى العاصمة ، فلدي عمل هناك.
– إذا كنت متجها إلى العاصمة فلماذا لم تسلك الطريق الوطنية ، فهذا أفضل ؟.
– في الواقع ، أنا استخدمت تطبيق تحديد المواقع ، و لم أنوي اختيار طريق محدد.
– لقد فهمت ، لكن لا يجدر بك عبور هذه الطريق ، فهي موحشة ، ونشاطها شبه منعدم ، تكاد ما ترى فيها أثراً لإنسي ، إنها لا محالة مكان يعج باللصوص و القتلة.
تحدث فائز كأنه يدحض ما قاله العامل :

– أنت تتكلم فقط ، لم تكن شاهداً على أي مما أدعيت.
– أنت محق فعلاً ، لكن لقد سمعت من أشخاص موثوقين أن ذلك الطريق كان مسرحاً للكثير من جرائم القتل ، و أن كثيراً من الناس لم يرى لهم أثر بعد أن سلكوا هذا الطريق المشؤوم.
– يجب أن أستأنف طريقي لكي لا أتأخر.
أخذ فائز شطراً من المال الذي أعطاه أباه ليدفع للعامل رزقه.
فشكره هذا الأخير ، ركب فائز السيارة غير مصدق للكلام الذي تفوه به العامل ، معتبراً إياه مجرد ثرثرة كما هو معلوم من طرف الكثير من العمال الذين نحتك بهم في حياتنا اليومية ، لكن لا يمكن النكران أن ذاك الكلام هز في داخله كوكتيلاً من القلق و الرعب ، لكن سرعان ما تعوذ من الشيطان الرجيم و صب تركيزه على المهمة التي وملت له من طرف والده.
مواصلاً طريقاً قد سمع عنه ما تقشعر له الأبدان و تشهق له الأنفاس ، و ممن ؟ من رجل قضى نَحْبَهُ في محطة بترول، بنقضّ على كل زبون مباغتاً إياه بالنميمة ، يريد أن يفعل أي شيء من أجل التخلص من رتابة العمل.

إن فائز لسالك في درب ، لا تدب فيه مثقال ذرة حياة ، لا إنسان و لا حيوان ، باستثناء بعض البوم و الغربان ، كلما تمالك نفسه إلا و تملكه هاجس من الخوف ، ها هو ذا يفكر بالإسراع والخروج من ذاك المكان قدر الإمكان.
على جانبي الطريق غابة مظلمة موحشة تتحدى أشعة الشمس التي بقيت حائرة بشأن نورها الذي أصبح عتمة وسط ظلال مخيفة.

في هذه الأثناء يقود فائز السيارة مستمعاً للقرآن في المذياع ، بلا شك إنه أفضل وقت لسماع كلام الصمد ، على مسافة 15 متر تقريباً ، كان هناك شخص يلوح بيده كأنه يطلب منه التوقف ، يا إلاهي ! إنها أول مرة يشهد فيها كائن بشيري في هذه المنطقة الشبه معزولة ، آثر فائز التوقف له ، فقد يكون هذا الرجل ضحيه ل (جيبي إس) كما حدث لصديقنا ، أو ربما قد تقطعت به السبل ، فنحن في القرن الواحد و العشرين ، ما أسوء شيء قد يحدث ؟ هذا ما تبادر في ذهن فائز ، تمت عملية التوقف لشخص مجهول لا تعرف نواياه إن كانت خبيثة أم طيبة.

دنا الرجل من السيارة بضع خطوات ، حنى جسده من أجل رؤية فائز بوضوح ثم حرك شفتيه قائلاً :
– مرحباً ، أيها الشاب لقد تعطلت سيارتي بالجوار، أيمكنك أن توصلني إلى منزلي ؟ فالطريق تكون رائد للمارة فيما ندر.
– نعم ، أعتقد أنه يمكنني فعل ذلك ، و أين يقع منزلك ؟.
أجاب الرجل الذي كان في عقده الخامس و شارف عن توديعه :
– منزلي في مكان ما في هذه الغابة .
رد عليه فائز باستغراب:
–  ما هذه الغابة ؟.
تكلم الرجل بتفهم :
– بلى ، لكن لا تجزع ، فطريق بيتي غير معقد ، يكفي أن نتخذ طريق قد يكون برياً لكنه مريح في نفس الوقت.
– و ماذا بشأن سيارتك ، أستتركها هنا ؟.
– سأعود لها غداً و أبحث عمن يصلحها ، من ذا الذي سيسرقها في هذا المكان النائي على أي حال ؟.
– حسناً كما تشاء ، هيا أصعد يا عمي.
نظر الرجل إلى فائز كمن يرغب بالسؤال :
– أنا إسمي توفيق و أنت ما اسمك يا بني ؟.
– تشرفت بمعرفتك يا سيدي ، إسمي هو فائز .
نظر الرجل إلى فائز بنظرة مخيفة فتكلم :
– إنها لمغامرة منك إذ سلكت هذا الطريق فهو معروف بسمعته السيئة.
تبسم فائز ابتسامة صفراء في وجه توفيق و بعد العديد من الإرشادات “توجه من هنا “، “يسار” ،”يمين” ظهر بيت خشبي من مسافة ليست ببعيدة. قال توفيق:
– لقد وصلنا إلى مرادنا ، أترى البيت المطل علينا ، حسبك هناك يا فائز.

– الحمد لله على سلامتك يا سيد توفيق.
خطر للرجل فكرة ما فقرر طرحها على فائز:
– لما لا تبقى لتبيت عندي الليلة ، فأنا أخاف عليك من شر مجرم إذا أجرم ؟ لأنه لم يبقى إلا نصف ساعة على الغروب.
و قد بقي لك من موضع العاصمة ثمانون كيلومتر.
 رفض فائز الفكرة بحجة أنه لا يريد الإثقال عليه ، لكن بعد محاولات إقناع عديدة من طرف توفيق ، أرضخ فائز نفسه للأمر فوافق أخيراً.
تقدما الإثنين إلى منزل ذو طابقين ، يعود لرجل كان يتربص على حافة الطريق بأي شخص يمكن أن يباغته ، إلى أن بعث له الله غلاماً يُدعى فائز كان متجهاً إلى العاصمة قصد قضاء غرض لوالده. كان فائز يحدق في المنزل بتمعن ، فقد لفت انتباهه الخشب الذي بني منه و سطحه الحاد – كما لو أنه مثبتا قدميه في مدينة أوروبية – و على عكس جميع المنازل التي آلفها.

دق توفيق الباب ، ففتحت له إمرأة في أواخر الثلاثينات ، أنيقة ذات جمال لا بأس به ، تضع ملمع شفاه أخذ من شفتيها ما يأخذه الطلاء من الحائط ، اتجهت مقلتي عينيها العسليتين إلى فائز مباشرة ، انقضى الصمت فتكلمت :
– هذا أنت يا عزيزي ؟ قد عدت ، و يبدو أنك قد أحضرت معك ضيفاً.
و نِعْمَ الضيف ، هذا الشاب الطيب قد ساعدني عندما راني على قارعة الطريق و قد تعطلت سيارتي ، لأجد مقعد بجانبه أوصلنا نحن الإثنين إلى هنا و قد رغّبته للمبيت عندنا ، لأن الوقت لن يسعفه في سفره.
تحدثت المرأة برضى : ” هكذا إذاً ، حسن ما فعلت ” نظرت في وجه فائز فقالت:
– إذا حل الليل في هذه المنطقة ، فلن يرحم أحداً .
أردف توفيق قائلاً :
– فائز أريد أن أقدم لك زوجتي ماريا ، ماريا هذا فائز.
تبسمت ماريا فقالت:
–  سررت بلقائك يا فائز .
– شكراً لكي يا سيدتي.
دخل توفيق بعده فائز الذي رحبت به ماريا ترحيباً ، استأذن الفتى دخول الحمام ، فلم يمانعا الزوجين إطلاقاً ، و بعد انتهائه من استعماله طلب فائز من ماريا سجادة من أجل صلاة المغرب ، فأخبرته أنهم لا يملكون مثلها ، هنا استغرب فائز فهذه أول مرة يدخل منزلاً و لا يجد فيه سجادة صلاة ، فتحاشى الموضوع  أن أستخدم سترته النقية بديلاً.

 استفسر فائز مجدداً ، و لكن عن اتجاه القبلة هذه المرة ، فبينت له عدم المعرفة بذلك ، تعجب فائز مع نفسه سراً :” هل هؤلاء القوم ليسوا من المصلين؟ ” و لأن تقريباً لكل مشكلة لها حل نظر إلى الخارج عبر النافذة للتحري عن اتجاه الشرق، كون العاصمة تصب في نفس الاتجاه ، فرش سترته في ركن من أركان بهو ما هو بغرفة ، أقام الصلاة و كبر فشرع في أداء الفريضة.

عند انتهائه من التسليم ، رفع يديه إلى السماء يدعو الرحيم ، فسمع صوت ماريا ينادي :
– هيا جميعكم تعالوا لتناول العشاء فهو جاهز. ألتحق فائز بكتيبة متناولي الطعام بعد توفيق الذي قابله بابتسامة ، صاحت ماريا قائلة:
– روعة ، سناء اهبطن لتناول وجبة العشاء يا صبايا !.
و ماهي، إلا لحظات حتى صدر صوت نزول من الدرج ، نظر فائز على يساره ليشاهد فتاتين قادمتين إلى المائدة، فجررن مقعدين خشبتين فجلستا ، بلع توفيق مضغته فقال :
– يا صغيرتيْ ، أقدم لكما فائز ، الشاب الذي رضي بتوصيلي بعد أن عانيت من مشكلة في سيارتي ، أشار توفيق إلى فائز:  هذه سناء و هذه روعة.
فقالت روعة بلهجة غير لبِقة نوعاً ما:

– اسمك فائز؟ هذه أول مرة أسمع بشخص بهذا الاسم.
أجاب فائز بعفوية:
– أبي من سماني بهذا الاسم ، فهو يتلو دائماً على مسامعي” وفقك الله يا فائز و جعلك من الفائزين” .
تبسمت سناء في وجه فائز مصرحة :
– أتعلم يا فائز ؟ أنت أول ضيف شهدناه منذ فترة ، يسعدني وجودك هنا لتكون أنيساً لنا.
حك فائز مؤخرة رأسه فتكلم بهجل :
– هذا لطف منكي يا سناء.

كانت سناء فتاة في الثامنة عشر من عمرها و يبدو على وجهها ملامح من الرقة و الطيبة ، أما روعة ذات الإثنين و العشرين عاماً  كانت اللامبالاة بشيء من أبرز خصالها.
أنهى الجمع تناول الطعام الشهي ، نهضت سناء لتجمع الأطباق التي تغطيها بقايا الطعام من المائدة ، إلا أن روعة لم تتحرك من مكانها فأمرتها أمها بمساعدة شقيقها، فاتضح أن هذه الفتاة العنيدة مصرة على رأيها ، و بالرغم من معاتبة توفيق لها بخصوص هذا التصرف الصبياني ، نظرت إليه نظرة واحدة ، كان عدم الاهتمام عنوانها ، لاحظ فائز ما يجري حوله فخاطب ماريا قائلاً :

– لا يا سيدتي ، فأنا سأتولى حمل هذه الأطباق إلى  المطبخ.
– شكراً لك يا فائز، فنظرت ماريا إلى روعة فتحدثت:
– أرأيتي ما فعلتي ؟ الأن بات ضيفنا هو من يخدمنا.
دخل فائز إلى المطبخ ، فوجد سناء منشغلة في الجليات ، فكان الماء و الصابون حليفين أساسيين لليدين في هذه العملية ، ألتفت يد سناء خلفها لترى فائز و الأطباق بيديه فحادثته:
– لماذا تكبدت كل هذا العناء، ألم تعلم أنك في ضيافتنا ؟.
أجاب فائز و الابتسامة لا تفارقه.
– لا عليك يا سناء ، فأنا هكذا بطبعي ، أحب تقديم المساعدة فيما يخص الأعمال المنزلية.
سناء ممازحة :
– و يبدو أنك على دراية بأمور المطبخ ، هل تجيد الطبخ ؟.
أجاب فائز بطريقة كوميدية :
أتسألينني ؟ أنا محترف في الطبخ لدرجة أني أقلي البيض بقشرته.
ضحكت سناء حتى بدت نواجدها.
أردف فائز :
– و الأن دعيني أساعدكِ في غسيل الأطباق .
أجابت سناء بغير رضى:
– لا يا فائز ، أنا لا أريد أن أحملك المزيد.
قال فائز بامتنان :
– أرجوكِ دعيني أساعدكِ ، فهذا لا شيء أمام إكرامكم اليوم تجاهي ، أنتم حقاً أناس طيبون.
 ما إن سمعت سناء هذا الكلام، تحول وجهها ذو الابتسامة العريضة إلى لوحة من الكآبة و الحزن، يا ترى ما الذي عكر صفوتها ؟.
تنهدت سناء و قالت بصوت خافت نوعاً ما :
– في الواقع نحن لسنا كذلك يا فائز.
تسأل فائز باندهاش :
– ماذا تقصدين يا سناء ؟.
فجأة دخلت ماريا إلى المطبخ، و يبدو أنها سمعت ما سمعت من حوار الشابين ، فكلمت سناء:
– يبدو أنكِ أكثرتي من سؤال فائز ، دعي ضيفنا في حال سبيله ليرتاح ، كنت متوجهاً إلى العاصمة فلدي عمل مهم علي أن أنجزه هناك.
قدم فائز قولاً لماريا كان مفاده :
– لا يا سيدتي ، ليس لسناء ذنب فيما ذكرتي ، إنما أحببت مشاركتها في غسيل الأطباق.
أجابته ماريا بكل برودة :
– لا داعي لذلك ، سأتولى الأمر أنا.
لم يود فائز إطالة الحديث ، فالسيدة مصرة ، قائلاً :
– كما تردين يا سيدة ماريا ، هيا اعذراني.

خرج فائز من المطبخ تاركاً الأم تهمس لابنتها بكلام غير مسموع ،  بحث فائز عن توفيق ، فعثر عليه جالساً في الصالة ، فاستأذنه بالذهاب إلى الخارج بقرب المنزل ليشم بعض الهواء فلم يكن للرجل مانع ، خطوة بخطوة لامست يده المقبض النحاسي، استجاب الباب بالفتح.
وجد فائز، النسيم يستقبله بعليله ، و الليل بسكونه. شهق فائز شهقة كبيرة مهدت لثنائي الأكسجين طريقاً لولوج صدر يريد أجوبة لأسئلة كثيرة ، جلس فائز على أحد الدرجات في الفتاء الأمامي، لمدخل المنزل الخشبي ، استحوذت أطياف التساؤلات على روح الصبي ، فراحت تصول و تجول في أعماقه بكل حرية.

” ما حكاية كل هؤلاء القوم ؟ لماذا اتخذوا من هذا المكان المعزول مسكنا لهم ؟ و إن كانت هذه المنطقة عريناً للسفاحين و القتلة كما يُقال ، فلما لم يفكروا في مغادرها ؟ أو بالأحرى كيف لم يصبهم مكروه هنا ؟ يا إلهي علمني مما تعلم !”.
بينما كان فائز غارقاً في بحر التساؤل اقتربت سناء منه لتجلس بقربه ، و تقدم له كوباً من الشاي ، فتبسم هو الأخر في وجهها و شكرها على لطفها.
بادرت سناء الحديث قائلة :
– ما أجمل هذه النجوم في السماء يا فائز !.
– لن تكون بمثل جمالك يا سناء.
همزت سناء خجلاً فقالت :
– حدثني قليلاً عن نفسك ، أريد أن أتعرف عليك أكثر يا فائز.
– حسناً ، إسمي فائز عابدين ، عمري عشرون عاماً ، أدرس في شعبة الكمياء السنة الجامعية الثانية.
– واو ، هذا رائع !.
– و أنت في أي سنة تدرسين ؟.
– هذه السنة سأحصل على شهادة الباكلوريا ، لا أذهب كثيراً إلى المدرسة بسبب البعد ، لكن يذاكر والديْ معي بين الفينة و الأخرى.
 ظن فائز أنها فرصة مناسبة لكشف اللغز الذي ضايقه ، فسأل سناء :
– لماذا اخترتم يا سناء السكن في هذا المطرح الموحش بعيداً هن المدينة ؟.
تناولت سناء شربة شاي بتوتر فأفصحت :
– هذا القرار يرجع لأبي ، فنحن نقيم هنا منذ زواج والدي و لم يصبنا أي مكروه.
– لقد حدثتني عن رأي أبيك ، لكن لم تخبريني برأيك.
تحدثت سناء و كان الحزن واضح على وجهها :
– بالطبع أنا لا أحب العيش هنا ، أريد أن يكون لدي أصدقاء يمازحوني و أمازحهم ، نضحك و نتسلى  من هم مثلك يا فائز.
–  و ماذا بشأن زملائك في المدرسة ؟.
– صراحة لم أبني علاقة مع أي منهم فأنا لا أراهم إلا قليلاً.
أجابها متأثراً بقصتها الحزينة:
– لا تقلقي يا سناء ، سيأتي اليوم هذا اليوم إن شاء الله ، و إن أردتِ فيمكنكِ اعتباري أول صديق لك.

– حقاً ؟ شكراً لك يا فائز ، أنت شاب رائع.
– لا دعي للشكر يا سناء ، هيا لندخل فالجو أصبح أبرد .
أشرع الإثنين بالدخول ، سمع فائز نباح كلاب ، ألتفت على يساره ليجد كلبين ضخمين من نوع الراعي الألماني ، أرتعد فائز خوفاً ، فطمأنته سناء بأن وظيفتهما الحراسة فقط و لن يؤذيانه.
 لم تبغي الليلة أن تنتهي، و العائلة المضيفة و فائز يتسامرون و يضحكون ، حتى حان موعد النوم ، صاح توفيق قائلاً :
– رافقي يا سناء الضيف إلى الغرفة الإضافية لتكون مستقراً له ، وأنت يا ولدي فائز سنوقظك غداً باكراً لتستأنف رحلتك.
تمنى فائز ليلة سعيدة للجميع و غادر.
أوصلته سناء إلى الغرفة و قبل أن تفتح له الباب خاطبته قائلة :
– شكراً لك يا فائز على ما فعلته ، ربما هذه أول مرة أجد احد ما عدى عائلتي يحادثني و يسليني كما فعلت اليوم.
ثم مسكت يديه مترجية:
– أرجوك يا فائز تعال لتزورنا مرة أخرى ، سأعلم أبي ليعطيك رقم هاتفه.
– و لو ، بالتأكيد ، أعدك بذلك ، و لكن عليكم أن تزورونا أنتم أيضاً في يوم ما.
– أنا موافقة ، هذا من دواعي سروري.

ودعت سناء فائز ثم انصرفت ، اشفق فائز على هذه الفتاة المسكينة التي تحلم بغد أفضل ، لن يكون هذا المنزل المفقود سجناً لها وسط غابة ، لا تسمع فيها لاغية ، سوى صوت الأشجار و الوحوش. غرس فائز في ذهنه فكرة مجابهة أنانية توفيق ، راجياً من نفسه  أن يقنعه غداً بضرورة الوقوف مع راي ابنته ، قفز الفتى على السرير ممهداً جسداً أرهقه في يوم لم يتوقعه من الأصل ، غفى قليلاً ليستيقظ مع رغبة تتملكه بالذهاب إلى الحمام ، قرر النهوض بدون أن يصدر صوتاً لكي لا يوقظ النائمين ، فتح الباب ليرى الحمام في أخر الممر، توجه إليه بخطوات بطيئة من دون أن يصدر أية جلبة ، لكن ما هذا الذي سمعه ؟ فاستوقفه جاثماً مكانه ، ” أتودان القيام بهذه الأمور الشنيعة مجدداً ؟ ” إنه صوت سناء الباكي و يبدو أنه صادر من غرفة نوم الأبوين ، أعتقد فائز للوهلة الأولى أن الأمر يتعلق بما أفصحته سناء بخصوص الانتقال من هذه المنطقة ، و هي بصدد مناقشة والديها بهذا الأمر ، قرر المضي قدماً فهو لا يحب التجسس ، لكن حالما سمع صرخة سناء قائلة : ” لكن لقد أخبرتماني أنكما ابتعدتما عن هذا الشر”.

تحتم على فائز البقاء للإنصات ، إن هناك حتماً أمراً مريباً.
تكلمت الأم بحَمِيّة :
– عن أية توبة تتحدثين يا فتاة ؟ هذا الفتى يبدو سليماً و معافاً و أعضائه ستُدر علينا الملايين يا جاهلة.
ردف توفيق بزمجرة :
– بعد أن نتأكد أنه يغط في نوم عميق سنقصده و نذبحه ذبحة الخراف.
بكت سناء بحرقة :
– فائز لن يستحق هذا ، فائز المسكين لا يستحق الموت بهذه الطريقة.

بقي فائز مصدوماً من هول ما سمع ، تخثرت الدماء في عروقه فلم يعد يحس بشيء ، لم يكن يدري أنه في وكر الحيات بعينه ! لم يكن يدري أنه حفر قبراً لنفسه عندما قرر التوقف لشخص غريب ، من ذا الأحمق الذي يعرض ضيافة على شخص رأه لأول مرة في حياته ؟ هل هو ساذج لهذا الحد ؟ لا ، ليس كذلك ، بل فائز هو الساذج .
”  رب ماذا سأفعل؟ رب نجني من توفيق و عمله و نجني من القوم الظالمين “.
هذا ما ردد في داخل الشاب المسكين ، جمع فائز رباطة جأشه و قرر الخروج من ذاك المنزل بأي ثمن كان.

نعم الباب ، يجب التوجه إليه ، و ما كان فائز أن يفعل حتى كانت اللعينة روعة جالسة على الكرسي للتصدي للهارب إذا نوى الفرار، كان فائز يطل عليها من أعلى بحرص لكي لا تراه ، فكر أنه لا يجدر به النزول إلى هناك فلربما أنها تملك سلاحاً ستقنصه به شر قنص.
 ففي النهاية هؤلاء القوم مجرمون و قد توقع منهم أي شيء خبيث ، من أين سيهرب الأن ؟ تذكر النافذة التي كانت في غرفته إنها خياره الوحيد. انطلق هناك بحذر كي لا يتمكن منه أحد ، فتح النافذة و أطل إلى الأسفل ، يا إلهي إنه ارتفاع ذو عشرة أمتار، ارتفاع كاف لكسر أحد أضلاعه توكل فائز على الله داعياً : ” هؤلاء القوم يريدون أن يقتلوني ، اللهم أخرجني من هذا الجحيم كما أخرجت يوسف عليه السلام من غيابات الجب.”  تذكر فائز حركة كان قد شاهدها في أحد البرامج التلفزيونية ، تمكنه من تفادي الإصابات ، إذا ما قفز من ارتفاع عالي ، ما إن نفذت بالشكل الصحيح ، تكمن الحركة بالسقوط على الركبتين مع شقلبة أمامية بسرعة ، بسمل فائز فوثب ، بالرغم من امتلاكه جسماً رياضياً متوسطاً إلا أنه نفذ الحركة بحذافيرها ، ربما بسبب تدفق الأدرنالين ، إنه يرى سيارته توجه إليها مسرعاً ، وضع يديه في جيبه، لكن تكن هناك ، غير معقول ! إنها الطامة الكبرى ! لقد تذكر أنه نسي المفاتيح في الغرفة ، لم يكن لديه الوقت لكسر الزجاج ، و تحريك المحرك من خلال خلق تماس كهربائي بين أسلاكه ، تماماً كما يفعل اللصوص ، أصلاً في النهاية جرس الإنذار سيفضحه إلى أن يجد رصاصة في رأسه ، لذا حرك ساقيه للريح على الفور ، فطنت العصابة للهرب بسبب صوت الارتطام على الأرض و نباح الكلاب.

ركض توفيق إلى الغرفة فوجدها خالية ، أثار ذلك سخرية لدى توفيق فقال :
– يا له من غبي ! لن يستطيع الهروب لأي مكان فهذه الغابة حفظتها عن بكرة أبيها.
ماضياً قُدماً بخطوات متثاقله ، تعقه حشائش حقيرة و أشواك سدر حقيرة تنغرز في جسده مثل انغراز إبرة الخياط في الثوب ، لا يرى منها شيء في ليلة ظلماء حالكة لا بدر فيها و لا قمر ، لم يكترث فائز لأي مما ذُكر، همه الأكبر هو لإفلات من أولئك السفاحين ،  بعد كر و فر لمح نقطة بيضاء متحركة من غير بعيد ، انطلق إليها كالبرق متجاوزاً جميع العقبات ، إنها لمركبة لا محالة ، اقترب منها فكانت نظريته صحيحة ، لكنه يقف على جرف عالي قليلاً ، من المستحيل أن يقفز، فالصخور المسننة القابعة بالأسفل سوف يرديه قتيلاً بدون شك فليس كل مرة تسلم الجرة ، فجأة سمع فائز نباح كلاب قادمة إليه ي، ا إلهي إنها كلاب توفيق ! كان الطريق الذي تتقدم فيه السيارة أسفل الجرف الذي كان فائز واقفاً عليه ، كانت السارة تبعد بضعة أمتار عن فائز ، حاول فائز أن يشير إليها ، نادى على السائق بأعلى صوت لكن بدون جدوى ، أنياب الكلاب تقترب ، هل من مفر ! تحرك فائز من مكانه ، بذل جهداً للنجاة ، أدار الجسد إلى الخلف فتلقت جبهته ضربة من بندقية توفيق ، فسقط مغشياً عليه.
 استيقظ فائز جالساً على كرسي مكبلاً بالأغلال في مكان يبدو أنه قبو المنزل.
حملق فائز بعينيه فصرخ بأعلى صوت :

– أتركوني أيها المضطربين ، ما أنتم فاعلون بي؟.
اقتربت روعة فصفعته برفق و رددت :
– لا شيء ، سنقتلع قلبك و كليتك فحسب.
فضحكت ضحكة سخرية.
قال توفيق بفخر:
– عند بيع أعضائه ، سأشتري لك ما تحبين من مجوهرات ، يا عزيزتي ماريا.
ضحكت ماريا فاستطردت الحديث :
– لقد انتظرت تلك اللحظة بفارغ الصبر.
أما سناء ذات القلب الرقيق فلم تتفوه بكلمة ، كانت تمني النفس بأن تنقذ فائز من هذا الكرب العظيم. كان فائز ينظر لهؤلاء المتوحشين نظرة اشمئزاز ، مستحيل أن يكونوا بشر ، حتى الحيوانات أشرف منهم بل الحشرات.
 كيف تطاوعهم نفسهم للوصول لهذه الدرجة من الانحطاط الدنيء ؟  و يحسبون حيوات الناس سلعة تُباع و تُشترى ، يحسبونه هينا و هو عند الله عظيم. قاطعت سناء كل تلك القهقهات التي أصدرها توفيق الزنديق و زبانيته بصيحة آمرة:
– ماذا تنتظرون ، دعوة ؟ فلنسرع بذبحه ، روعة ، أمي ، اذهبا و أحضرا بعض أدوات التقطيع و الأوعية لنضع فيها الأحشاء ، أما أنا سأبقى لأساعد أبي إن احتاج أمراً ،  قالت ماريا :

– أرأيت يا توفيق ؟ الفتاة عادت إلى رشدها أخيرا.ً و أنت يا روعة تعالي معي.
انصرفت الأم و أبنتها ، فبقيت سناء مع أبيها ، حدق فائز إلى سناء بعيين تملاهما شرارة الغضب فقال:
– قلتِ لي أنكِ تحتاجين أصدقاء تتكلين عليهم، و أنا صدقتكِ و وهبت لكي نفسي صديقاً ، أهكذا تجازيني أيتها الوغدة ؟ .
لم تجب سناء بكلمة ، بل واجهت الحائط ، و عيونها تذرف دموعاً ، في هذه المرة واجه فائز نظراته للمجرم توفيق فصاح  في وجهه:
– و أنت قلت أنك بحاجة ماسة ليد العون و أنا قدمتها لك ، هل هكذا ترد لي المعروف ؟.
– اسمع أيها الساذج اللعين ، أنت لست أول شخص تنطلي عليه هذه الخدعة ، فقد أجريتها على الكثير من الحمقى ، و كلهم تحت التراب الأن.
– إذاً سلبت الأرواح للعديد من الناس أيها الشياطين ؟.
– و ستكون واحداً منهم بعد قليل.
– إذا أردت قتلي فأعلم أن الله هو من أراد ذلك و نحن بمشيئة ربنا لراضون.
– تظاهرك بعدم خوفك من الموت يضحكني.
– الموت على يد أمثالكم شرف لي ، لأني سأذهب إلى ربي شهيداً.
تناول السفاح سكين حاد و وضعه على رقبة فائز فقال بسخرية :
– حسنا سأحقق لك أمنيتك.
تبين لفائز أن نهايته قد حانت فبدأ بنطق الشهادتين :
– أشهد ألا إلاه إلا الله…
السكين لم تقطع الوريد، و فائز لم يمت.

نعم إنه أمر متوقع ، سناء المسكينة تضرب توفيق بمقبض المطرقة ليقع على الأرض فاقداً للوعي. وضعت يديها في جيب هذا الأخير مخرجة مفتاح السلاسل التي قُيد بها فائز الذي تمكنت سناء من فك وثاقه ، بقي فائز متفاجئ من هذا السلوك ، فالفتاة التي كانت صارمة بخصوص ذبحه ، ها هي الأن تطلق سراحه ، إنه أمر عجيب !.
خاطبت سناء فائز :

– ثق بي يا فائز أرجوك ، هيا اتبعني سأخرجك من هذا الجحيم ، أنا لم أرسل أمي و روعة خارجاً إلا من أجل إلهائهما ، إنك أفضل شخص قابلته في حياتي و لن أسامح نفسي إن مت ، أحس فائز إن كلامها ينبع من القلب و أن هذه الفتاة ستنجيه من كيد الكائدين.
صارح فائز سناء:
– سنخرج من هنا إن شاء الله ، و سنذهب إلى الشرطة للإبلاغ عن هؤلاء المجرمين ، أنا متأكد أنكِ لم تشاركيهم في أي من فعلتهم.
– مستعدة للذهاب معك إلى أقصى الأرض يا فائز.

أنطلق الإثنين بكل سرعة و مرونة للوصول إلى باب المخرج ، و بينما سناء تركض انجذبت عينيها إلى الأعلى حيث روعة واقفة ممسكة بندقي ة، يا إلهي إنها تصوبها باتجاه فائز مباشرة ! انبعث صوت بداخل سناء يقول : ” لا ، مستحيل أن يموت هذا الشاب ،  إنه من رأيت فيه أملاً منقطع النظير، لن أترك رصاصة غبية تحرمه من حياته ” و بكل شجاعة و إقدام ألقت سناء بنفسها متلقية الطلقة بدلاً عن فائز ، ضحت بحياتها من أجل شاب قابلته منذ ساعات قليلة ، هذا مشهد من يراه سيظن  أنها تعرفه منذ سنوات ، سقطت سناء على  الأرض و الدماء تخرج من صدرها ، بقيت روعة مصدومة مما فعلت لقد أردت شقيقتها الصغرى ، يبدو هذا أنه قد زلزل مشاعر في دمها البارد ، عندما رأى فائز سناء ممدة على الأرض لم يتمالك نفسه أبداً و قصدها مباشرة و الدموع تنغمر منه كالنهر فكان يبكي و يقول لها :
– تمالكي نفسكِ يا سناء ، ستعشين، أرجوكِ لا تموتي ، أنا لن أتحمل فراقك.
تكلمت سناء بصعوبة شديدة و الدماء تملئ فمها:

– إذ..هب يا فا..ئز إن..هم قا..دمون.
صرخ فائز بهستيريا :
– لن اذهب بدونكِ ، لن أذهب بدونكِ أبداً.
الأخت كبرى في الطابق العلوي لا تستوعب ما جرى ، و أم مصدومة ببركة الدماء التي تغرق فيها فلذة كبدها ، كانت ماريا تحمل سلاحاً تحول الحزن إلى كراهية شديدة تجاه فائز ، لاحظت سناء المستلقية ذلك و أدركت أن أمها تريد إطلاق النار عل فائز، فضربت بساقها بكل ما بقي لها من قوة تلك الطاولة التي وضع عليها قنديل زيتي ترك مضيئاً  تحسباً لانقطاع الكهرباء في تلك المنطقة ، لأن هذا الأمر يحدث في كثير من الأحيان.

انكسر الزجاج و انتشرت النار بسرعة في ذاك الخشب الغني بالكربون، و تلك المفروشات سريعة الاشتعال ، أبتعد فائز من ألسنة اللهب ، فألقت سناء شيئاً ما بجانبه و كان أخر شيء قاله : ” شكراً يا فائز” جثى فائز على ركبتيه غير مصدق لما رأه. بكى أشد بكاء في حياته ، كان يتمنى أن يفعل أي شيء و لو كان يسيراً لإنقاذها لكن مشيئة الله كانت أولى ، كانت النيران تأكل البيت رويداً رويداً و كان الوضع الذي يقف فيه فائز هو الوحيد الذي بقي سليماً ، لكن بشكل مؤقت ليس إلا ، نظر فائز إلى ما رمته سناء تجاهه فعرف أنه مفتاح سيارته ، خرج من وكر الثعابين ذاك الذي سيصبح رماداً بعد قليل.

اْفرغ فؤاد فائز و ضاقت به الأرض بمصراعيها. لم يركب السيارة إلا بعد نحيب مطول ، كان يأن من الألم ، وجع فراق شخص غالي لدى الجنان ، و من لن يفعل ذلك ؟ نظر إلى المقعد الذي بجانبه و لم يجدها ، تمنى لو كانت هناك ، تمنى لو وفى بوعده ، لو ساقها لحياة الحلم.

عاد فائز إلى الديار، عانق والديه المُحِبّين، و الدموع تنغمر من عينيه، و قلبه المحترق أشر حرق ، لو كان من بني الإنسان لقال : ” لن تنطفئ شمعتك داخلي ، لن تسقط و رقتكِ من شجري ، لن تغرب شمسكِ أبداً ، ستظلين ها هنا يا سناء “.
 
 
النهاية ……

تاريخ النشر : 2020-05-20

guest
8 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى