أدب الرعب والعام

هل كان لدي خيار آخر ؟

بقلم : مؤنس نورالدين بدرالدين – لبنان

أنا مجرد أب يحاول أن يلتقي بأبنه
أنا مجرد أب يحاول أن يلتقي بأبنه

 
قبل الذكرى السادسة لرحيلِك بقليل ، أُريد أن أعتذر ، لم أستطع الاحتفاظ بهديّتك التي لا تُقدّر بثمن ، فقداني لها جعلني أُغادر بعيداً ، بعيداً عن ذكرياتنا ، بعيداً عن مطعمنا ، وبعيداً عن أماكن تجوالنا ، بعيداً حتى عن قبركِ .

على مقعدي في القطار الذي يأكل الأرض بعد أن يطحنها وراءه ، تعود بي الذكريات إلى ما قبل أن ألتقي بِكِ ، هكذا كانت البداية :

صعدت في سيارة تاكسي متجهاً إلى مكان ما ، لم تكن الأماكن تعني لي الكثير ، أردت أن أبتعد قليلاً عن هذا الشارع ، لقد مللت من تكرار مشاهده ، سألني السائق إلى أين ؟ أجبته إلى الأمام ، سنتوقف حيث يغريني المشهد بالوقوف.

لم يمضِ على هذا الحديث دقائق حتى أتت سيارة فاقدة الفرامل لتصطدم بالتاكسي من ناحية السائق ، من قوة الصدمة طرت من زجاج السيارة المكسور إلى الشارع وذلك قبل ثانية واحدة من ارتطام التاكسي بسيارة ثانية ، عدم وضعي لحزام الأمان أنقذني ، لا أدري ما الذي أوحى لي بعدم وضعه.

الفحوصات في المستشفى أثبتت خلو جسدي من أي كسور ، قال لي الطبيب المعالج : أنت بخير ، ولكن ستبقى تحت المراقبة حتى المساء.
نجاتي من الحادث جعلتني أتساءل ، هل هناك شيء ما مكتوب لي أن أفعله بعد ؟ الوقت قد يُعلمني.

بعدها بأيام كنت أريد الذهاب من شارع إلى آخر ، اختصاراً للمسافة سرت عبر حديقة عامة صغيرة ، تقريباً في منتصفها كان طفل يلهو على سلّم حديدي شكله كالهلال كان يتعلّق فيه من رجليه ، كانت والدته تجلس على مقعد وتراقبه من مسافة لا تزيد عن ثلاثة أمتار ، فجأةً أفلت إحدى رجليه وبقي متعلقاً برجل واحدة ، بالرغم من عدم علو السلّم ومن وجود الرمل أسفله للأمان ، إلا أن سقوط طفل بهذا العمر الصغير وعلى رأسه كان من الممكن أن يؤذيه أو أن يشلّه ، ركضت والدته باتجاهه ، لكني كنت الأقرب والأسرع ، رميت بنفسي تحته و التقطته من كتفيه لحظة سقوطه ، الأم الهلعة تشكرتني جداً وطلبت مني الجلوس إلى جانبها كنوع من الشكر أولاً ، ولكي تلتقط أعصابها من جديد.

سألتني أين أسكن ؟ أجبتها في شقة صغيرة لا تبعد كثيراً عن هذه الحديقة.
تسكن فيها لوحدك ، أليس كذلك ؟.
أجبتها أجل لوحدي ، لكن كيف عرفت ذلك ؟.
لم أكن أعلم ، لكن عندما ذكرت بأن الشقة صغيرة أفقدتُها صفة العائلية.
وأنتِ أين تسكنين ؟.
على بعد بضعة مبان من هنا ، أنا و أبني لوحدنا ، أنا أدعوك إلى العشاء وأصر على ذلك ، لا أقبل الاعتذار ، هل ترى ذاك المبنى ذو الطوابق الخمسة وأمامه شجرة طويلة ؟ أجبتها أجل .

 قالت : الساعة السابعة أنتظرك في الشقة التي تقع شمالاً في الطابق الثاني ، لم أجد أي مبرر للرفض ، ليس لدي شيئاً أفعله ، لذلك وافقت وصلت إلى منزلها في الوقت المحدد ، حاملاً باقة وردٍ لها ولعبة لأبنها ، العشاء كان لذيذاً بالفعل ، قلت لها : ” ماري ” أنت أمهر طباخة عرفتها ، أجابت : لا تتعجب فعملي هو طباخة في مطعم . أصر ” ميشال” أن ألهو معه في لعبته ، كانت السعادة تتراقص في عينيه ، قالت ” ماري” إنه سعيد لأنها المرة الأولى التي يجد فيها من يلاعبه ، سألتها : و والده ألا يزوركما ؟ أجابت : منذ ولادة ميشال وهو غائب عنا ، لا أعلم عنه أي شيء ، فهو لا يحاول أن يتصل أبداً.

في اليوم التالي زرتها في المطعم ، تكررت زياراتي إلى منزلها وإلى المطعم الذي تعمل فيه ، إلى أن دعيتها ذات مساء لمشاهدة مطعم صغير اشتريته وهو متوقف عن العمل ، سألتني ما هذا ؟ : أجبتها : مطعمنا ، عليكِ أن تعملي في مكانٍ يستحق موهبتكِ وأن تكوني سيدة نفسكِ وأن تنالي ما تستحقينه ، ستكوني الطباخة والمسؤولة والشريكة في الأرباح ، أجابت : لماذا دفعت هذا المبلغ من أجله ؟ أنا أشعر بالذنب لأنك دفعته من أجلي ، أجبتها : دفعته من أجلِنا ، وهذا استثمار رابح خاصةً عندما تكون الطباخة أنتِ.

أمضينا أياماً في تجهيز المطعم ، جهّزنا غرفة صغيرة في داخله ل ” ميشال” لكي لا يكون بعيداً عنها ، في هذا الوقت كنت قد أحببتها ومن لا يفعل ذلك ، فهي جميلة ، ذكيّة ، مرِحة وتجيد الأحاديث الشيّقة.

منذ أن افتتحنا المطعم وحركة الزبائن لم تهدأ ، لقد أحسنت اختيار الموقع ، وأكل “ماري” الشهي ومعرفة الناس بها من المطعم السابق ، وأسعارنا الجيدة ، كل هذه العوامل تظافرت لكي تُنجح المطعم.

في النهار كنت أنا و”ماري” و”ميشال” دائماً في المطعم ، وليلاً في منزلها ، أصبحنا ثلاثي لا يفترق.
في العرس كان “ميشال” يبدو رائعاً في البذلة السوداء ، تستطيع أن تقول عريساً ذو ثلاث سنوات ، ” ماري” كانت ساطعة ، الحفلة كانت جيدة جداً ، بعدها أصبحنا عائلة واحدة سعيدة ، “ميشال” كان دائماً حولي ويناديني أبي ، دماثته ولطافته جعلاني أشعر من بداية الطريق بأنه أبني الحقيقي ، أمضينا أوقاتاً رائعة ، لقد كانت من أبحث عنه ، وأنا كنت من تبحث هي عنه ، وكنت أيضاً الرجل الوحيد الذي نال رِضا ابنها فهو لم يكن أبداً يحب الغرباء.

في عيد ميلاده الرابع جهّزنا كل شيء للحفلة ، في الدقيقة الأخيرة قبل بدأها تذكرت ماري عدم شراءها قبعة العيد ل ميشال ، أرادت أن تكون الحفلة كاملة لا ينقصها شيء ، قالت لي : دقائق وأعود ، لن أدعه يحتفل دون القبعة التي يحبها . صعدت إلى سيارتها وانطلقت ، انتظرناها لكنها تأخرت ، بدأ الأطفال حفلتهم ، قُرِع الجرس ، قلت في نفسي : بسبب السرعة نسِيَت مفتاحها ، فتحت الباب ، كان يقف وراءه أثنان من الشرطة ، قال لي أحدهم : السيد موريس ؟ قلت : أجل ، قال يؤسفني أن أخبرك أن زوجتك تعرضت لحادث سيارة ، قلت : حادث ! أين هي ؟ وكيف حالها ؟ أجاب : للأسف ماتت على الفور ، لقد صدمت سيارتها شاحنة .

جلست على الكرسي ، كان الأطفال يدورون في حلقة ، وكنت أشعر بأن المنزل يدور أيضاً عكس دورانهم .
انتهت الحفلة وتفرّق الأطفال ، بدأ ميشال يركض في أرجاء المنزل وينادي والدته ، لم
أستطع أن أقول له شيئاً ، هل سيفهم معنى ” ماتت ” ؟ لا أظن ذلك .
بالنسبة للأطفال ألأهل دائماً موجودون من أجلهم ، أخذته معي في اليوم التالي إلى الجنازة ، أردته أن يعلم قدر الإمكان ما حدث ، لقد فهم بأنه فقد والدته وبأنها لن تعود ، في المنزل لم يقل شيئاً لكنه كان حزيناً ، لم يلهو بألعابه كالعادة ، بل تسمّر أمام التلفزيون يشاهد نشرة الأخبار التي كنت أشاهدها ، بالطبع لم يكن يفهم منها شيئاً ، لكن كان عليه أن ينظر إلى شيء ما بدون أي تفكير ، غيّرت القناة إلى قناة الصور المتحرّكة ، كان ينظر إلى المشاهد للمرة الأولى من دون أن يضحك ، موت والدته سرق منه ضحكته.

في صباح اليوم التالي جهزّت الفطور وأيقظت ميشال لكي يأكل ، أجابني : لست جائعاً ، قلت له : بأنّه عليه أن يأكل لكي ينمو ويكبر ، سألني : إن كنت سأتركه وأرحل ؟ فأجبته : لن أتركك ولو لدقيقة واحدة ، سألني : هل أمي الآن ترانا ؟ أجبته : أجل ، قال : كيف ؟ قلت : أسئلتك أصعب من أن أجِد رداً عليها ، لكنها ترانا بطريقتها الخاصة ، تنظر إلينا من السماء كما يفعل الله.

إلى المطعم أتيت بطاهية جديدة ، حاولت التودّد إليه ، لكنه كان ينفر منها ، لم يكن يستسيغ فكرة دخوله إلى المطبخ و رؤية أمرأة أخرى هناك مكان والدته.
بدأ العام الدراسي وأدخلته إلى المدرسة ، سألتني المديرة إن كان سينتقل من وإلى المنزل في باص المدرسة أم سأوصله أنا ؟ أجبتها : طبعاً أنا من سيوصله.
في أعياد ميلاده كانت صورة والدته حاضرة ، كنت أشاهده يكبر سنة بعد سنة ، إحدى زبونات المطعم الدائمات قالت لي : لماذا لا تتزوج وتحضر له أماً جديدة ؟ أجبتها : لا أريد أن ألقي به في المجهول ، على الأغلب لن يتفق معها ، يكفيه وجودي إلى جانبه ، ويكفيني وجوده إلى جانبي.

في عيد ميلاده التاسع بدأت أنظر إليه وأنا أخطط لمستقبله ، كان الوقت ما زال باكراً للتخطيط للمستقبل ، لكن بدأت أفكّر بالمهنة التي ستناسبه ، لا أدري لماذا لم أصل سوى إلى طريق مسدود ، لربما شعرت بما سيأتي قبل حدوثه.

ذات يوم تلقّيت اتصالاً من مدرسته ، لقد أوقعه أحد المتنمرين أرضاً فانكسر أنفه ، قالوا
لي : بأنهم نقلوه إلى المستشفى ، سألتهم : إن كان قد أخبرهم بأن مصاب بسيلان الدم ؟ فأجابني الصوت القادم من الطرف الآخر : لقد كان فاقداً لوعيه ، ذهبت بسرعة إلى هناك ، سألت الاستعلامات عن غرفته ، ذهبت إليها وقابلت الطبيب المسؤول عنه خارج الغرفة فقال لي : إنه في العناية المشددة ، الكسر في أنفه سطحي ، لكن الضرر كبير في الغضروف الداخلي ، عادةً هذه ليست بمشكلة كبيرة ، لكن لطفل مصاب بالسيلان فهي كذلك ، الدم يتجمّع داخل أنسجته وخلف عينيه ، لقد تمكنّا من تخفيف الضغط وإيقاف النزيف ، إنها عملية مؤلمة لذلك اضطررنا إلى تخديره ، إنه فاقد الوعي الآن ، قد يستمر هذا الوضع بضع ساعات ، إنه بخير حالياً لكنه تحت المراقبة ، نخاف أن يعود النزيف من جديد ، لذلك حالته ما زالت تعتبر حرجة.

جلست إلى جانب سريره وأنا أمسك بيده ، حضنتها بين يدي ، بعد وقت قصير أتت جارتنا اللطيفة التي سمعت بالخبر ، حاولت أن لا تبكي لكنها ما أن وضعت رأسها على كتفي حتى انفجرت بالبكاء ، بعدها قالت لي : اذهب إلى المنزل لترتاح وأنا سأبقى إلى جانبه ، أجبتها : أرتاح ! أرتاح وقلبي ليس معي ، إنه كل شيء في حياتي ، تركتني قائلة : سوف أعود ، إن احتجت أي شيء اتصل بي.

ذات ليلة غفوت قليلاً وأنا جالس أمام سريره ، استيقظت بشكل مفاجئ ونظرت إلى السرير ولم أجده ، ظننت أنه في المرحاض ، فتشت ولم أجده أيضاً ، هل وصل إلى الكافيتريا ؟ ذهبت ولم يكن هناك أيضاً ، سألت في الاستعلامات عنه ؟ فقالت لي الفتاة : بأنه غادر ، تعجّبت وقلت : غادر دون أن أعلم ومن دون إذن الطبيب ؟ ركضت إلى الخارج وأنا أناديه باسمه ، بدأ يرد علي بصوت آتٍ من بعيد ، بدأت أدور في دوامة وأناديه ويجيبني ، قلت له : ميشال ، لا أراك ، أين أنت بالتحديد ؟ أرجوك حدد مكانك ، هز يدي وقال : أبي ، استيقظ ، لماذا تصرخ ، أنا ما زلت في مكاني.

أيام أمضيتها في المستشفى إلى أن عاد سليماً معافى ، ليالي لم أنم فيها ، كنت خائفاً عليه.
ذات صباح أوصلته إلى المدرسة كالعادة وعدت إلى المطعم ، لم أكن على ما يرام ، لم أعلم لماذا ، كنت كالطائر الذي يخشى هبوب العاصفة ، بعد حوالي الساعتين أتت إلى المطعم سيارة الشرطة ، ظننت بأنهم أتوا لكي يتناولوا طعامهم ، لكنهم ما أن دخلوا حتى توجّهوا مباشرة إلي ، قال لي أحدهم : السيد ” موريس” ( هُنا أصابتني قشعريرة ، هذه النبرة ومن ذات الشخص سمعتها من قبل ، هو الذي أخبرني بوفاة زوجتي منذ حوالي ستة أعوام ، شعرت بأن المطعم يدور بي ) قلت له بصوتٍ مُرتجف : أجل ، ثم تابعت : هل ميشال بخير ؟ هل حصل له أي شيء ؟ أجاب : لا تخف ، هو بخير لكننا نحتاجك في قضية صغيرة في مركز الشرطة ، سألته : ما هي القضية ؟ أجاب : هناك سيقولون لك.

أدخلوني إلى عند مسؤول المركز ، هناك طلب مني أن أجلس ، جلست فبدأ بالكلام قائلا : منذ سبع سنوات ونصف فُقد طفل من بلدة مجاورة ، لم نعثر له على أثر ، إلى أن قبض البارحة أحد مراكز الشرطة على إمرأة تتاجر بالأطفال ، من ضمن ما اعترفت فيه هو بيعها طفل لزوجتك ، هنا قاطعته قائلاً : لكن زوجتي لم تشترِ طفلاً ، ميشال هو ثمرة زواجها السابق ، أجاب : هذا ما أخبرتك به ، فهي لم تُرزق بأي طفل من زوجها السابق بل اشترت طفلاً من إمرأة أقنعتها بأنه طفلها وهي لا تريده ، زوجتك لم تكن تعلم بأن الطفل مسروق ، هذه كانت طريقة الامرأة في البيع ، لأنها لو اعترفت بسرقة الأطفال لما استطاعت بيعهم لأحد.

وتابع قائلاً : إذاً زوجتك بريئة من جرم الخطف ، لكنها لم تتحقّق من أصل الطفل ، مع ذلك هذه الجنحة تسقط عنها بسبب وفاتها ، أما بالنسبة لك فقد جرت الحادثة قبل معرفتك بزوجتك ، لذلك لا دخل لك بالقضية ، لكن الآن أصبحت أنت بالنسبة للولد غريب تماماً ، فهو لم يعد أبن زوجتك ولم تعد بالتالي وصياً عليه ، لقد أخذه والداه الحقيقيان اليوم من المدرسة وسيبقى عندهما ، ونظراً لأنه كان تقريباً مُختطف من قِبل زوجتك ، يُمنع عليك الاقتراب منه ، عليك بأن تبقي مسافة فاصلة لا تقُلّ عن مائة متر بينك وبينه ، أجبته : لكنه أبني ، أنا ربّيته ، أجاب : في نظر القانون أنت مُشتبه بالتستر على خطفِه.

وقّعت على أوراق عدم الاقتراب منه أو إزعاج أهله ، وغادرت المركز ، عُدت إلى المنزل ، جلست في غرفته بين أشيائه ، رحت أتأمل الألعاب التي كنت ألهو بها معه ، جلست على الأرض طويلاً إلى أن قفزت قائلاً لنفسي : لقد تأخرت على ميشال ، ثم عدت لأجلس ، لم يعد ميشال ينتظرني ، ولم يعد لي الحق باصطحابه ، كنت أريد سبباً لكي أراه ، لذلك حملت أغراضه وشهاداته المدرسية وذهبت إلى منزل والديه ، كيف عرفت عنوانهما ؟ كان يكفي أن أشغل التلفزيون الألماني على أي محطة لأرى صورة منزلهما وأسمع أخبارهما.

طرقت بابهما ، فتحت لي والدته قائلة : ماذا تريد ؟ أجبتها : لقد أحضرت أغراضه ، أجابت : لا نريدها فقد اشترينا له كل ما يحتاجه ، فأعطيتها شهاداته المدرسيّة قائلاً : في المدرسة هو متفوق وستفخران به كما كنت أنا فخوراً به وسأبقى ، أخذت الشهادات دون أي كلمة شُكر ، في هذه اللحظة كان ميشال قد سمع صوتي فركض إلي ، عانقني بقوة ، لم يتركني إلا بعد أن انتزعته أمه مني انتزاعاً ، قال لي : أبي ألن تدخل ؟ أجابت والدته : لا ، لن يدخل فالرجل على عجلة من أمره ولن يعود إلى هنا أبداً.

يقولون بأن العادة تصبح طبيعة ثانية ، لكن ما جعلني أواظب على ما كنت أفعله لم تكن العادة أو الطبيعة الثانية بل كان حبي له وشوقي لرؤيته ، كنت أستيقظ صباحا كالعادة في الوقت الذي كنت أوصله فيه إلى المدرسة ، أصل إلى هناك وأقف بعيداً ، أراه ينزل من سيارة والده ويدخل إلى المدرسة ، أشعر بالاطمئنان من أجله ، ها هو قد وصل وبصحة جيدة ، ثم أعود في ساعة الانصراف لأراه يصعد في السيارة عائداً إلى المنزل ، لم أكن لأغيب عن مشهد واحد ، كنت أشعر بأني ما زلت مسؤولاً عن سلامته ، إنه كل ما كان قد بقي لي من ” ماري”.

يوم العطلة كنت أذهب إلى الحديقة حيث كانا يذهبان ، كنت أجلس في السيارة وأراقبه من بعيد ، إلى أن أتيت ذات يوم و وقفت بعيداً في السيارة أنظر إليهم ، كان والده البيولوجي يسابقه ويلاعبه ، كانا منسجمان لكن ليس إلى حد الانسجام الذي كان يربطه بي ، الوقت سيكون الحكم ، عندما يكبر قليلاً هل سينساني أم سيبحث عني ؟ لا أدري ، قد لا تكون نهاية العالم بالنسبة له ، أنا سعيد لأجله ، لديه أم و والد وشقيقة صغرى  جميعهم يحبونه ، لكن مهما حاولوا لن يستطيعوا أن يملؤوا الفراغ الذي تركته ، أو على الأقل هذا ما أقنعت نفسي به كنوعٍ من المواساة ،

توجه والده ناحية عربة طعام لشراء شيء ما ، كانت لحظات ثمينة بالنسبة لي لكي أقترب و أكلّمه لكن هذا كان خرق للقانون لذلك لم أجرؤ على فعله ، في هذا الوقت كان ميشال يتكلم مع ولدٍ أكبر منه بقليل ، كلامهما تحوّل إلى شجار ، صرخ ميشال : أبي ، ركضت لمساعدته ، لقد نسيت نفسي ، لقد صرخ أبي وأنا والده ، كنت أقترب بسرعة ، والده البيولوجي اقترب أيضاً بسرعة ، ابتعد الولد عن ميشال وصرنا وجهاً لوجه أنا وميشال و والده ، نظر إلي ميشال وقال :

أبي ، لكن والده البيولوجي لم يدعني أقترب منه بل أخفاه خلف ظهره وقال لي : أنت تعلم بأن البوليس أمرك بعدم الاقتراب منه ، هذه المرة لن أشكوك للبوليس ولكن في المرة القادمة سوف تُسجن.

أحياناً يُجبر المرء على أن يتخذ قراراً لا يعجبه ، لأنه يكون قد وصل إلى مفترق طُرق في حياته ، عليه أن يواجه أو ينسحب من دون خسائر ، إن لم يكن القانون إلى جانبه فعليه أن ينسحب ، أن يذهب إلى اللامكان ، واللامكان هو النقطة المجهولة في حياته ، هو البعد عن أشياء وأشخاص أحبّهم ، كالمطعم الذي أنشأته ، أو كميشال الذي ربّيته ، هذه هي قواعد الحياة التي لا تتغيّر ، القواعد التي قد لا تناسبنا أحياناً.

لذلك ابتعدت عن كل شيء والحزن يأكلني ، أريد أن أرى ميشال ، لكن القانون يمنعني ، القانون الذي لا يعرف الرحمة ، بعت المطعم بثمن بخس ، حملت من أغراضي شنطة واحدة لم أنس أن أضع فيها صُور ماري وميشال ، وانطلقت نحو المجهول ظننت بأن الأيام تمحي الذاكرة ، كنت مخطأً ، هناك قسم من الذاكرة لا يُمحى ، لم أستطع أن أنسى ابتسامة “ميشال” عندما كان يركض باتجاهي لكي أحمله ، الآن هو يركض باتجاه شخصٍ آخر غريب ، مرت سنين وشوقي له تضاعف فعدت إلى المدينة التي كنت أسكن فيها ، لم أجد ” ميشال” أو أهله ، لقد رحلوا ، حاولت أن أستعلِم عن عنوانهم فدخلت في طريق مسدود.

في بلدٍ لا يعرف سوى القانون كان علي توكيل محام ، أوكلت محامي شاب يُدعى ” رايموند ” استخدم “رايموند ” جميع الطرق القانونية لكي يحصل لي على عنوانهم لكن لم يُسمح له بتقديم عنوانهم لي ، سألته عن أسم الصبي الآن ، هل ما زال ” ميشال” أم غيّروه ؟ فأجابني : ممنوع عليه إعلامي بالأمر ، سألته : إن كان يستطيع إحضار صورة حديثة له ؟ فأجاب : هذا خرق لتعهده القانوني ، قلت : وهل شاهدته وتكلّمت معه ؟ أجاب : لدقائق فقط عندما قابلت محامي أهله ، قلت له : ألن تستطيع أن تجعلني أراه لدقائق فقط لكي أعرف كيف أصبح شكله ، وكيف هو الآن تفكيره ، وهل ما زال يتذكرني ؟ أجاب ” رايموند ” : سأستأنف الحُكم ولنرى النتيجة.

في المحكمة رافع المحامي بشكل رائع ، مع ذلك النظام كان ضده ، محامية الأحداث قالت : بأن من مصلحة الصبي أن لا يراني لكي لا يضيع فكرياً بين أبوين ، لديه أب وأم وهو سعيد ولا يلزمه أي شيء آخر ، ظهوري في حياته من جديد سوف يربكه .

 خسرت الحُكم وابتعدت من جديد ، في كتابي الذي كنت أوقّعه أنهيته بعبارة : ( أنا ” موريس ” مجرد أب يحاول أن يلتقي بأبنه ) كنت أوقّع الكتاب بطريقة آلية عندما تقدم شخصٌ منّي ، سألته عن اسمه لكي أوقّع له الكتاب ، أجابني : المحامي “رايموند ” نظرت إليه فابتسم لي ، أعطاني مغلّفاً فتحته فوجدت فيه صورة حديثة لميشال ، تركت المكتب وتمشّيت مع المحامي ، سألته : هل هو من أعطاك إيّاها ؟ وهل ما زال يتذكرني ؟ أجابني “رايموند” : اسحب الصورة وانظر إلى خلفيتها ، على خلفية الصورة كان مكتوباً : والدي العزير ، ما زلت أذكر منزلنا وأذكرك ، أذكر طريقتك بمساعدتي في إطفاء شموع ميلادي ، أذكر والدتي ودموعها التي كانت تذرفها حين أمرض ، لن أنساك ، أحبك ، قبلاتي لك ” ميشال “.
 
 النهاية ……

تاريخ النشر : 2020-06-21

guest
62 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى