أدب الرعب والعام

قبضةٌ من نار

بقلم : ايناس عادل مهنا – سوريا

رأيتُ عينان زاهيتان بلون الرماد ، زاهيتانِ لدرجةٍ انعكاس صورتي فيهما
رأيتُ عينان زاهيتان بلون الرماد ، زاهيتانِ لدرجةٍ انعكاس صورتي فيهما

جوري.

يا لهُ من اسمٍ دافئ ، كتلك الوردة الجورية المخملية التي بزغتِ لي من خلفها ذاتَ يوم ، كنتُ أتأملُ تلكَ الأزهار كلَ يومٍ صباحاً حينما تداعبُ نسمات الفجر وجهي ، أختلسُ لحظاتٍ من الزمان أمام حديقة هذا المنزل المهجور بحراسة البواب الذي يقوم بالسقيا ، كان يتضايق من وجودي بادئ الأمر ثم ما لبث أن اعتاد على تطفلي على أزهار هذا الدار ، بل وكأنني والبواب وريحُ الصباح وزهراتُكِ الندية عقدنا اتفاقية صداقةٍ أبدية ، فما إن أتقدم ناحية السور الأزرق حتى يتنحنح الهواء مُطلقاً نسماته الندية المحملة بعبق الورد المحشورِ في ذلك الأصيص ، يشرقُ وجه العم خالد فأحييه بابتسامةٍ ودودة ، و رغم تعلقي الشديد بتلك الزهور لم أستطع حتى أن أقطف إحداها خشية أن تموت ، وكيفَ لي أن أقتُلَ أرواحاً تبهج صباحي وتحييني بعد كدر الليل الطويل ؟.

كان منزلنا يقبع في نهاية الشارع ، ومنزل الزهور يتخذُ زاوية البناء الطويل وكأنهُ بزهوره لجنة استقبالٍ لأهالي الحي .
جوري هي تلك الزهور التي يكثر انتشارها في مدينة الياسمين ، دمشق ، ولكن وكما أن لكلِ شيْ أوانه ، تذبلُ روحي بالتزامن مع ذبول الزهور في غير موسمها ، لكني أعيشُ على أمل اللقاء بها مجدداً حينما تحيا ، لتحيا روحي برفقتها من جديد
*******

ذلك اليوم لن أنساه ما حييت ، كنتُ قد صرتُ بالسنة الثالثة من الجامعة حينما كانت تلك الزهور تتألقُ على غيرِ عادتها صباحاً بل وكأنها ترقصُ طرباً وتتمايلُ على أنغام النسمات العليلة وكأنها موسيقى تتمايل على أثرها سيقان الزهور وأوراقها زاهية الخضرة ، اقتربتُ أكثر من الزهرة حينها لأشتم عبقها الذي كان ممتزجاً برائحةٍ غريبةٍ جداً هذا اليوم ، وكأنها خليطٌ من ألفِ نوعٍ وصنفٍ من العطور ، أغمضتُ عيناي وعندما حررتهما مجدداً لأرى جمال الكون المتجسد في زهرة ، رأيتك.

بل رأيتُ عينان زاهيتان بلون الرماد ، زاهيتانِ لدرجةٍ انعكاس صورتي فيهما ، و رأيتُ نفسي داخل عينيكِ ، صورتي متشابكةٌ مع خيوط قزحيتيك اللؤلؤيتين ، انفرجت عيناي لأستوعب الصورة و تراجعتُ قليلاً عن الزهور ليتسع مكان الرؤيا ، ويتسع الكون مجدداً ويفسحُ عن معجزةٍ جديدةٍ فيه ، معجزةٍ تتجلى بشفاهٍ وردية مرسومةٍ بريشة أعظم فنان ، سبحان ما أبدعكِ ! سبحان من أبدع خيوطُ الحرير السوداء المنسدلة على كتفيكِ كشلالٍ من نبيذٍ حلو تحت وشاحٍ أبيض وكأن كلُ خُصلةٍ من خصلات شعرك الناعم المتناثرة من تحت وشاحك تتراقص مع الزهور هذا اليوم ، العجائب الدنيوية سبعةُ كانت و زادت اليوم واحدة !.
– جوري !.
استدرتِ أنتِ مباشرةً للخلف وتطلعتُ أنا خلفكِ ناحية هذه السيدة التي تقدمت بابتسامةٍ مقتضبة:  
– تفضل يا بني !.
تنحنحتُ معتذراً :
– آسفٌ لإزعاجك ، لم أعرف أن هذا البيت مسكون ، كنتُ معتاداً على رؤية الزهور كل يوم.
تبسمت السيدة بلطفٍ مجيبة : انتقلنا البارحةَ .
سألتها بعدما استبينت لهجتها المختلفة : هل أنتم من حِمص ؟.
أومأت السيدة وقد انحسرت دمعةً بمقلتيها جعلتني أرتعد لا اردياً وأجابت :
– الأوضاعُ سيئةٌ بحمص ، لم يعد لنا مكانٌ هناك فآثرنا الانتقال إلى دمشق.
حمص…الحرب…التشرد..القتل…التدمير…التهجير, ياااه نسيتُ لدقيقتين أن الدمار يغلفُ سماء المدينة ، وكأنني تلقيتُ صفعةً عنيفة لأستفيق من هذا الحلم على الكابوسِ الذي يجثم على كياننا منذُ سنواتٍ لم نعد نحصيها .
حضرت نسوة المنازل المجاورة للترحابِ والمساعدة فانسلختُ عن السور مبتعداً على وعدٍ خفيٍ باللقاء.
*************

علمت ذلك اليوم أن اسمكِ جوري وكنتِ كالزهرة من بينهن تتسابقن بالجمالِ والفِتنة لولا تلك السحنةُ الذابلة المكللة بالسواد ونحنُ يا جوريتي ذابلين كذلك.

لم تتجاوزي الثمانية عشر عاماً على ما يبدو ، ولم يتجاوز عُمري أنا الدقيقتين ، منذ بزغت عيناكِ لتشرق روحي وأبدأ أنا باحتساب الزمان ، ومن حينها صارت اللهفةُ ممزوجةً بليلِ كل يوم لانتظار هذا الصباح الاستثنائي للقائك ، صارت أصواتُ المدافع تتعاظمُ حدتها بالليل ، فصرتُ فجأةً أخافُ وحدتي بعدما كنتُ قد اعتدتُ عليها سابقاً ، والدي قد توفاه الله منذُ عامٍ ونيف ولم أعرف والدتي قط لأنها توفت منذ كنتُ في سنواتي الأولى ، أما شقيقتي الكبرى التي رعتني بشكلٍ فعلي قد تزوجت وطوت صفحة مكوثها بسوريا لتهاجر مع زوجها وتصارع الحياةَ بشكلٍ آخر لا يقلُ قسوةً عن العيش بداخل الوطن ، و رغم ذلك كان أمل لقائك صباحاً يكللني ببعض السكينة ، تتلاشى الأصواتُ من حولي لدقيقتين حينما أمرُ بجانب زهرتي ، تتحولُ ريحُ البارودِ والرصاص لعطرٍ جوريٍ فاخر.

 كنتُ سابقاً أتناسى الحرب باستنشاق عذوبة الورد والآن أتناساها بأنفاسٍ باتت تشتم تلك الزهور وأنامل تتلمسها وتسقيها وعينان تراقبانني بخجل ! .
وتجرأتُ ذاتَ يومٍ لأهمس من خلف السور بعدما توقفت كعادتي :
– سبحان الله ، جميلةٌ جداً هذا اليوم !.

نظرتِ لي بحدةٍ حينها وأنتِ تسقين الزهور لكن وجهي أشرق بابتسامةٍ بريئة لأستطرد: أقصدُ الزهور طبعاً ” أشحتِ بوجهكِ عني و وليتِ مبتعدة ولم أقدر أنا أن أبتعد وكأن هذا السور سيخلدُ قصةَ حبٍ تُضافُ لتلك القصص التي خلدها ، التاريخ ، هكذا ظننت حينها ولم أعرف أن قصتنا تلك كحالتنا ستكونُ على هامش التاريخ ! .
 
وتوالت الأيام و صباحاتي الاستثنائية المتمثلة بالدقيقتين ! أكنتِ تنتظرينني كل يوم أم هذا ما تهيئ لي . و ربما لم تكوني كذلك ، بل تنظرين لبنات جيلك وهن يذهبن للمدرسة في حين أنكِ قد اضطررتِ لتوقيف دراستكِ بسبب سوء الأوضاع وإغلاق المدارس في معظم مناطق وبلدات حمص والآن أنتِ في دمشق ، لكن العامُ الدراسي على وشك الانتهاء ، وكم كنتُ أتمنى في تلك الأيام أن أختلق حديثاً معك ، أياً كان لكنني لم أتجرأ ، عندما عدتُ ذات مساء لاحظتكِ تجلسين على أضواء النيون الأبيض أمام باب الدار تقرئين كتاباً ما وتسمعكِ والدتك ،

كنتِ وكأنكِ تروين إحدى الحكايات لأزهارك ، وأيقنتُ أنها تسمعكِ وتتمايلُ على أنغامِ همساتك الدافئة فتلوح بأوراقها طرباً وتنشرُ ريحها فرحاً, كان وجهكِ مختلفاً عن السابق وكأن الروح قد ارتدت إليكِ وكم كنتُ أتمنى أن أنضم لمجلسكما البسيط تلك الليلة ، لكنك وكأنك داخل أسوار قلعتكِ تحتمين خلفها فلا أراك إلا من ورائها ، وكم تمنيتُ أن أزيل هذا السور الذي يصنع حاجزاً بينا ، لمعت ببالي للحظاتٍ تلك البوابة السحرية التي سأصل فيها إليكِ بل و كأنني عرفتُ كيفَ سأزيل هذا الحاجز ، عدتُ إلى المنزل وانتقيت كتاباً من مكتبتي المتواضعة و أنا أتخيلُ كلماته بصوتكِ الشجي ، ودون أن أتحدث صباحاً عبرتُ خطوتين مجتازاً بوابة السور وسلمتكِ الكتاب بابتسامةٍ ودودة فتساءلت بارتباك : لما ؟.

– ستقرئينه وسأعطيكِ المزيد ، أدركتُ أنكِ تحبين القراءة .
برقت عيناكِ الذابلتين بلمسة أملٍ رقراقةٍ وتناولتهِ مني بامتنان مجيبة : كنتُ أحلمُ بارتيادِ جامعة الحقوق لكن حُلمي تلاشى ، فصرتُ أقضي وقتي بالقراءة ، ربما هرباً من الواقع.
أجبتكِ حينها بثقةٍ عمياء : ستستكملين دراستكِ في السنة القادمة ” وكأنني من يملكُ زمام الأمور ، وبغباءٍ تغافلتُ عن اختيار القدر ، تمنيتُ أن تطول تلك اللحظة وأنتِ تنظرين لي ، هل تستمدين مني الشجاعة أو الأمل ! أشحتِ بوجهكِ عني لتغرب شمس روحي وقلتِ تهمسين:
– والدي كان يخبرني دائماً ، أننا والأجيال القادمة من سيبني الوطن .
– ما دُمنا على هذه الأرض ، سنواصلُ مسيرنا وسنبني أمتنا من جديد.
 
وعلمتُ ذلك اليوم أن والدك اُستشهد قبل انتقالكم بأسابيع قليلة ، ذبلت ورقته وتساقطت لتروي أرضَ حمص الأبية ، و متأكدٌ أن مكان استشهاده وتحت الأطلال المدمرة انبثقت برعمةً ككلِ شهيدٍ على أرضنا ، لا يوجد بقصتنا ما أحكيه و أرويه لأحد ، أخشى أن أدنس بحديثي رونق تلك الحالة الطاهرة التي مررنا بها ، نحنُ نُحب ، نعشق تفاصيل هذا الحب العذري ولا يوجد ما نحكيه ، لأن وطننا كان يحكي كل شيء عنا ، يروي قصص أبطاله وممثليه وحتى أوغاده ، لن يشعر بالحب أو الحرب إلا من مر بهما ، و نحنُ يا جوريتي مررنا بكلتا الحالتين بل ومررنا بالحصار.
 
أيامنا صارت تتلون كألوان الطيف الدامي ، اصطبغت الأجواء بألوان الغبار والتراب والنار والدم ، يتعالى صُراخ الناس من حولنا وتتعالى تكبيرات الرجال غضباً وقهراً ، وفجأةً صار الحي وكأنه جزءٌ من جهنم ، ازدادت الاشتباكات تسابقت الدماء لتعبر أروقة الحي لتصبغها, جميعُ زهورك الجورية الملونة صارت فجأةً ذات لونٍ أحمر ، أوراق الأزهار والأشجار سالت دمائها ودياناً ، تمسكتِ بسور منزلك وقلتِ تهمسين:
– أنا خائفةٌ يا إبراهيم.
أنا كذلك خائفٌ ياجوري ، خائفٌ من ألا ألقاكِ مجدداً و خائفٌ من ذبولك كأزهارك التي بدأت تتشيع جثامينها وتتساقط كشهداء سوريا.
 
انتهى الصيفُ في دمشق ، انتهى الربيع والخريف ، ولم يتبقى سوى شتاء تشرين ،تعرت الإنسانية وتجسدت بأبشع صورها من حولنا وهاجرت الطيور هرباً لمكانٍ أكثر دفئاً وأماناً ، ليتني أملكُ مكاناً آمناً أحملكِ إليه وأطير ، ليتني أملكُ حبةَ قمحٍ أغرسها داخل فمك فأسد جوعه أو رشفةَ ماءٍ أسدُ بها ظمأك ، أو ليتني امتلكُ جناحين مكسوين ريشاً أدفئكِ تحتهما يا صغيرتي ، لكن جناحاي مكسوران.

وبعد أن ذبلت أزهارك بقيتِ أنتِ منغرسةً بذلك التراب تروينه بدموعك علها تزهر مجدداً لكن هيهات ، جميعنا قد ذبلنا بتلك الأيام ، تساقطت الأجساد من حولنا جوعاً وبرداً وقتلاً ، ارتفعتُ الأرواحُ الغاضبة للسماء فتوهجت الشمسُ أكثر علها تبعث لنا الدفىء في ظل انقطاع الكهرباء وتسابق القمر ونجومه لإضاءة الشوارع المعتمة ، انتهى الشتاء وأعلنت روحُ والدتك الاستسلام للموت برصاصةٍ طائشة اخترقت صدرها حينما ذهبت لإحضار رغيفٍ خبزٍ لسد جوعكما ، والدتك التي ظنت بأنها هربت بكِ لمكانٍ أكثر أماناً ! لكن الأمان كلمةٌ قد نسينا معانيها وتمزقت حروف رايتها بسيل الرصاص المجنون.
 
لفظت المساكن بعض قاطنيها أو بمن تبقى منهم في موجة نزوحٍ جماعي ، شِخنا فجأةً وليس لنا سوى الله والأمل بالتمسك بتراب أرضنا ، أرضنا التي فجأةً غزاها الغرباء والمسلحين ، صار الأخوة يمسكون السلاح وكلٌ منهم منتمٍ لطائفةٍ ووجهة وعليك أن تختار غصباً الجهة التي ستكون منتمياً لها ، انسلخنا عن جذورنا سلخاً واستوطن الخوفُ أعماق أرواحنا و تخابطنا فكيف سنبني الوطن ونحنُ متفرقين ، خائفين ؟.
 
وفي ظلِ هذه الأحداث الدامية احتضنتك فقط ناسياً كل ما حولي لتهدئة ثورة جنونك ، صُراخكِ حين موت والدتكِ التي غامرت لجلب رغيفِ خبزٍ ما يزالُ يصمُ أذني ، دمعك الذي تدفق على صدري كان يخترقُ القلب فيحرقه و يدميه ولا قدرة لي لإخماد نارك المتوقدة فلن أزيدكِ إلا وقوداً و باروداً يا جوريتي.
 
وعلى الرغم من أن لا أمل لنا الآن في تأسيسِ عائلةٍ هانئة في ظل جنون الحرب والحصار قلتُ بثقة : حضري متاعك سنتزوجُ غداً ، كنتُ أخشى عليكِ البقاء بمفردك ، أخشى عليكِ وحشة الليل الطويل التي مررتُ سابقاً بها ، ولم تمانعي بل هززتِ رأسكِ بطاعةٍ عمياء فكنتِ كما أنا تحتاجين من يحميكِ ويبدد خوفك .

وفي تلك الليلة أسستُ عائلتنا بأحلامي ، غرستُ زهرةً بشعركِ بذلك الحلم وألبستكِ بذلةً بيضاء و تزوجتك في منامي ، بقينا نرقصُ لساعات النهار ومن حولنا تتساقط زهور الياسمين وحبات الأرز ، النسوة تطلق الزغاريد وأنا وأنتِ نرقصُ تحت أضواء القمر ، نرقصُ ونرقص حتى أدميت أقدمانا فانغرست فيها أشواك زهورك الباكية وكأنها تشيعُ روحينا .
 
شهقتُ معتدلاً على صوتِ تفجيرٍ عنيفٍ تناثرت شظاياه لتقتحم الدار فتفجر زجاج المنزل واهتز ليرتج جسدي بعنفٍ حينها ، وهبت الريحُ المحملة بوهجِ أصوات أهل الحي ، الله أكبر ، الله أكبر ، امتزجت أصواتهم المرتجفة الحانقة بصوت آذان المساجد القريبة ، حتى صوتُ المؤذن صدعَ مُرتجفاً حينها ، مخنوقاً وكأن البارود قد انحشر بحنجرته.

و ركضت أنا كما العادة لأساعد أهل الحي لإخراج الأجساد من تحت الأنقاض ، هرولتُ وأنا أقول ساخطاً : ألن ينتهي هذا الكابوس اللعين ، ألن ينتهي ؟.
ولكنني لم أظن بيومٍ ما أن أخرج أنا روحي من تحت الأنقاض ، ركضت حيث يركضُ الرجال, ركضتُ حافياً حتى انغرست الشظايا بقدمي العاريتين ، وأصواتُ التكبيرات من حولي لم تهدأ ، شعرتُ بأنني فجأةً صرتُ بقلبِ أحد الأفلام الساذجة و كأنني أمثل فيماً ساخراً من الحياة ذاتها ، وكنت بهذه اللحظة أمثلُ فيلمي الخاص ، لكن هذا الفيلم لم يكن رخيصاً بل كان غالياً جداً ، غالياً ومُرعباً وقبيحاً ، لم يكن منزل الزهور قائماً ، لم تكوني أنتي منغرسةً خلف أصيص الزهور تنتظرينني لآخذك ، بل كنتِ أنتِ وما تبقى من ذكرى زهورك تحت الأنقاض.

اختلط حلمي منذ لحظاتٍ بكابوس الواقع ، فركعتُ على قدمي وصرتُ أنبش الأنقاض بيدي وأنا أصيح ملئ حنجرتي : هيا اظهري من تحت الأنقاض ، أطلي لتشرق الحياة مجدداً ، وأعدك أن نتزوج حينها ، أعدكِ بأنني سأخرجكِ من هذا الحي التعيس ومن هذه الأجواء المرعبة ، ستدرسين الحقوق ، سنتزوج ، سنؤسس عائلةً هانئة ، ثلاثُ فتياتٍ سننجب ، سنربي الزهور من جديد ، وسنغرسها زهرةً زهرة ، يا اه ما أصعبَ قهر الرجال وما أقسى مفاجئات القدر !.
 
صرتُ أدعو الله بنجاتكِ وألعن الحياة ، اختلطت المفاهيم من حولي  ولم أعد أعي ما أقول ، بل كانت دموعي تتساقط وتمتزج بالأنقاض والسور الأزرق الذي بدأت قضبانه الحديدية تظهر ، ثم ظهرتِ أنتِ أخيراً ، ظهرت دمائكِ الطاهرة النقية الممتزجة بشعركِ الرمادي الملوث بالتراب والدماء لكن عيناكِ لم تشرق ،, تعاونت مع الرجال لسحبكِ من تحت الأنقاض وجررتكِ بعدها لناصية الشارع وقد تعالى لهاثي وبكائي ، هل اشتقتِ لوالدتكِ خلال يومٍ واحدٍ لتلحقي بها بهذا السرعة يا جوريتي ؟.

– لا حول ولا قوة إلا بالله ، إنا لله ..ولنا الله.
من حولي باتوا يرددونها بعدما تجمهروا وأنا أحتضنكِ عليّ أدفئ ذلك الجسد البارد ، رفعتكِ ناحية صدري وانغرستُ بعنقك أشتم رائحة البارود والدم الجوري الذي ما يزال ينبض من الوريد المقطوع ، ينبض فتتدفق الدماء لترويني وتروي الأرض من تحتنا.
 
**************
النهاية ……..
 
نيسان/ 2020
 

تاريخ النشر : 2020-06-25

guest
15 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى