تجارب ومواقف غريبة

قطة البيت المهجور

بقلم : سلطان الحربي – المدينة المنورة

لفت نظري وانتباهي قطة سوداء اللون تقف بجانب جدار بيت جارنا
لفت نظري وانتباهي قطة سوداء اللون تقف بجانب جدار بيت جارنا

 
ملاحظة : القصة طويلة ، لذا تأكد أن وقتك الذي استقطعته للرعب والإثارة كافٍ ، وأن تركيزك ليس مشتتاً حتى لا تشعر بالملل بل بالمتعة.
 
في إحدى ليالي الصيف المظلمة كنا نجلس في فناء بيت جدي الواقع في أحد أحياء قريتنا ، فجأة دخل علينا أبن خالي الصغير مسرعاً وهو يبكي بشدة وعيناه مذهولتان ، حاولنا أن نعرف منه ما حصل ولكن حالته التي كان عليها لم تسمح له أن يتفوه بكلمة واحدة ، حاولنا تهدئة روعه لنتمكن بعد ذلك من معرفة تفاصيل ما حدث ، بعد وقت ليس بوجيز استقرت حالته و ذهب الروع عنه ثم أخبرنا بالحكاية المخيفة والتي لم أصدقها حتى اليوم .
 ماذا قال ابن خالي لنا ؟ وماذا حصل له ؟ هذا ما ستعرفونه ولكن في السطور القادمة.
 
قريتنا “التي تدور فيها حكايتنا” تمتاز بأنها قرية صغيرة ، أحياءها شعبية ذات شوارع رملية تفتقر إلى أعمدة الإنارة ، لذا ما إن يحل المساء إلا ويخيم على تلك الأحياء ظلاماً وهدوءً منقطع النظير ، في غالب الأحيان تعد هذه الصفات ميزة لها حيث ينعم سكانها بالهدوء والراحة فلا ضوضاء توجع أذانهم ولا أنوار تؤلم أعينهم ، ولكن في بعض الأحيان يشكلان الهدوء والظلام المميزان هاجساً مخيفاً لدى زوارها خصوصاً صغار السن منهم ، وإن كان في تلك الأحياء بيوت مهجورة فهنا يتحول الشعور من مجرد خوف يراودهم إلى رعب يقض مضجعهم . وأحد أحياءها الذي جمع خصال الرعب كلها هو الحي الذي يسكن فيه جدي ، ذلك الحي الذي برأيي أنه الحي الذي اجتمعت فيه كل الصفات التي تؤهله لأن ينال وبكل جدارة لقب ” الحي الشعبي” .

 إذا أردت دخول ذلك الحي فعليك أولا نسيان الإسفلت فالطرق ترابية هناك ، ولا تظن أنك سترى أعمدة إنارة فلن تستدل على طريقك إلا بإضاءة سيارتك.
لن تشاهد في ذلك الحي فلل فاخرة ولا شقق مفروشة للإيجار فالبيوت هناك بيوت شعبية بسيطة وبعضها مهجور كذلك.
 هل انتابك الخوف من مجرد وصف ؟ أنصحك بأن لا تستهلك إدرينالينك مبكراً فالقصة لم تبدأ حتى الأن .
 
في إجازة نهاية السنة والتي تمتاز بفترتها الطويلة ، يجتمع شمل الأرحام في بيت جدي ، عائلتي من صوب وعوائل أخوالي من صوب أخر ، تلك المناسبات الموسمية تعد غالبيتها مليئة باللحظات السعيدة التي مجرد ما تنتهي حتى ترسخ في الذهن وتحفر في الذاكرة بلطف ، لعلها لفتت انتباهكم كلمة “غالبيتها” التي ذكرناها قبل قليل ، وأمتلككم الفضول لتعرفوا الوجه الأخر لتلك اللحظات ،

و طرأ على أذهانكم ذلك السؤال : لأي صنف تنتمي ؟ هل هي حزينة ؟  ج / لا ، ليس إلى تلك الدرجة ، إذاً مخيفة ؟  ج / نعم هي كذلك ، هي الجانب الأخر من تلك المواقف التي عايشناها في تلك البقعة والتي منعت أجواء الطمأنينة أن تعم ذلك المكان ، مواقف ارتبطت بمشاعر الخوف والرعب ، تلك المشاعر التي نحس بها رغماً عنا وننتظر لحظة زوالها بفارغ الصبر ، لكنها ما إن تنتهي أحداثها المرعبة وتزول مشاعر الخوف التي تصاحبها إلا وتصبح مادة ممتعة وشيقة للكتابة والسرد ، و أحد بل أشد تلك المواقف هو ما تتمحور حوله قصتنا لهذا اليوم.

 
في كل ليلة من ليالي الصيف المظلمة الهادئة اعتدنا على الجلوس في حوش البيت الذي يملكه جدي ، ذلك المكان الذي يميز كل بيت شعبي والمفضل لكل من يزورها ، حيث تكون فيه الأرض فراشه والسماء المرصعة بالنجوم سقفه ووسيلة تكييفه الهواء النقي ، كنا نجلس هناك الليل كله حتى يدركنا الفجر ، نتبادل فيه الأحاديث ، نحتسي القهوة والشاي ، ثم نتناول وجبة العشاء .

 في إحدى الليالي تلك كنا نجلس كالمعتاد في ذلك المكان ، مضى جزء من تلك الليلة بجمال هدوءها ومتعة الجلوس والتسامر فيها ، كان ذلك الجزء من تلك الليلة كباقي الليالي التي قضيناها ، أما الجزء الأخر منها فكان مختلفاً عن البقية متميزاً عنها فلم يمضي كله بين المتعة والمرح ولم يغطي جميع جوانبه الهدوء ، ففي لحظة من لحظاته شق جو السكون الذي يغطيه صوت بكاء أبن خالي الصغير الذي أتانا يركض بسرعة البرق ، رمى بنفسه بيننا وهو يرتجف كأنه أصيب بنزلة برد ، لم يبح لنا إلا بصوت البكاء الذي كان أسرع منه إلينا ، مضت عدة دقائق لم يشغلها سوى بكاءه و ارتجاف جسده الصغير ،

منذ دخوله علينا ونحن نحاول أن نجعله يخبرنا بما رأى ، ولكن حالته المزرية التي كان عليها دعتنا إلى تأجيل التحقيقات معه والانشغال فقط في محاولة التهدئة من روعه وانتفاضته وإيقاف سيل دموعه الجارف ، حالفنا النجاح بعد عدة محاولات وأمسكنا طرف الخيط وهو : أننا استطعنا أن نجعله يعود لوضعه الطبيعي ، استأنفنا جلسة النقاش معه وسألنه عما شاهد تلك الليلة ؟ أخبرنا بالقصة التي جرت له بكامل تفاصيلها والتي فاقت مستوى توقعاتنا لما حصل والذي كنا نظنه مجرد أمر طبيعي.

 
متحمسون لمعرفة ما حصل ؟ تريدون أن أسرد لكم تفاصيله ؟ حسناً دعوني أنقله لكم بأسلوبي ولكن على لسان صاحبه ليكون الأمر أكثر إمتاعاً ، بعد أن استقرت حالته قال لنا : في لحظة متأخرة من الليل وبينما أنتم منشغلون خرجت للشارع المظلم الذي أمام البيت فلفت نظري وانتباهي قطة سوداء اللون تقف بجانب جدار بيت جارنا ، دعونا الأن نوقف شريط الحكاية مؤقتاً لنصف لكم ذلك البيت الذي هو جزء رئيس من قصتنا ، وصفه فقط سيضفي مزيداً من الرعب والإثارة على أحداث قصتنا.

البيت الذي بجوارنا والذي كنت تقف بجانبه تلك القطة السوداء هو بيت أحد أقاربنا و قد بناه جدراناً وسقفاً فقط ثم تركه على حاله ذاك عدة سنوات ، وبحكم أنه ليس من سكان القرية لم يكن في حاجة إليه لذلك لم يكمل بناؤه ، هذا البيت إذا أردت أن تدخله فلن تتمكن من ذلك إلا في الصباح وإن وافق دخولك ذلك الوقت المتاح فتأكد أن كل خطوة إليه ستحجب عنك جزءاً من الضوء ، وإذا تعمقت في داخله لن ترى إلا بصيص نور بالكاد يمكنك من رؤية ما بداخله ومعرفة طريق خروجك منه.

فترة الهجر الطويلة التي قاساها جعلته مكباً للنفايات ومأوى للقطط.
عندما كنا صغاراً كنا لا ندخل ذلك البيت إلا جماعة ولحاجة ضرورية ، كأن نخرج الكرة إذا سقطت بداخله.

 مظهره الخارجي يدل على أنه مهمل منذ زمن طويل ، بمجرد أن تلقي نظرة من الخارج إليه تشعر بذلك الإحساس الذي يجعلك لا تطمئن له و لا ترغب بالدخول فيه ، أما أن كنت تملك رغبة شديدة في دخوله فرغبتك تلك إذا تحقق لك مرادك ستكون أقل بأضعافٍ من رغبتك في الخروج منه ، تلك الأوصاف التي نقلتها لكم لهذا البيت هي مأخوذة في وضح النهار ، أما في الليل فلا أملك لذلك البيت ذكرى فأنا في ذلك الوقت لا أقوى على المرور بجانبه وإن مررت فمسرعاً ولا ألتفت ، لنعد الأن ونستأنف أحداث قصتنا بعد شوط وصف قصير قطعناه خارج محاورها الرئيسة.

يكمل قائلاً : عندما رأيت تلك القطة رغبت أن أركض خلفها ” كما جرت العادة مع الأطفال ” بمجرد أن رأتني بدأت الركض نحوها هربت واستدارت يميناً ، غابت عن ناظري تماماً و عندما استدرت وراءها لمحتها تدخل مع باب البيت المجاور لنا ، دخلت خلفها ولكن ببطء لأن البيت كان قد ملئ جوفه الظلام ، وما زادني بطئاً تصميم البيت الذي كان أشبه بالمتاهة ، فهناك مدخل لليمين ومدخل لليسار ، وكل مدخل سيأخذك إلى ممرات وغرف و دورات مياه قد لا تخرج من بينها ، والقطة كذلك لعبت دوراً في ذلك اللغز المعقد فقد توارت عن الأنظار بمجرد أن وطئت قدمي داخل ذلك البيت وذلك لأنها كانت تسبقني بخطوات ، بدأت أمشي ببطء أشق طريقي داخل ذلك البيت الخرِب وأشق ظلامه الذي لا أدري ما يختبئ خلفه ، في كل خطوة أقترب من مفترق الطرق ذاك : إما يميناً أو شمالاً و لا خيارات أخرى أملكها و لا وقت لدي للتفكير .

في كل لحظة كنت أملك قراراً مختلفا ، مرة أقول إلى اليمين ومرة أقول إلى اليسار ، عندما اقتربت جداً من منطقة تحديد المصير داخل ذلك المنزل المخيف ، خرج من وسط الظلام ومن أحد المدخلين جسدٌ نسج له من ظلام البيت رداءً أسوداً ، جسدٌ نحيل ذو قامة منحنية ، هيئته التي كان عليها دلت على أنه كبير في السن ، حتى تلك اللحظة لم أكن أعرف من الذي يقف أمامي ، هل هو بشر أم جان ؟  لم أرى له أي ملامح فهو لم يكن ينظر نحوي ، تعرفت على القليل من صفاته لما رأيته يسير أمامي ،

التفت ذلك الكائن الغريب صوبي وتعرفت على ماهيته ، أتضح لي أنها عجوز ، لفت نظري منها وجهها المليء بالتجاعيد وشعرها الأبيض الطويل ، وقفت أمامي تحدق النظر بي ، لم تحرك ساكناً ولم تقل شيئاً ، هربت ناكصاً على عقبي إلى الخارج مسرعاً لا ألتفت إلى الوراء حتى خرجت من ذلك البيت و وصلت إليكم .

يا ترى ماذا تفعل تلك المسنة في ذلك البيت المهجور ؟ ولماذا تخرج في ذلك الوقت المتأخر من الليل ؟ هل هي بشر مثلنا أم أنها تقمصت هيئتنا فقط ؟ أترك الجواب لك أخي القارئ
 
انتهت قصتنا وانتهت أحداثها المخيفة ، قد يعتقد البعض أنها من نسج خيالي الواسع أو أنني كتبتها تحت تأثير أفلام أو روايات الرعب ، ولكن أجزم لكم أنها قصة واقعية عايشتها بنفسي وبطل تلك القصة ما زال موجوداً ، والبيت المهجور الذي كانت تتجول فيه تلك العجوز ما زال قائماً على أساساته.
 
ملاحظة أخيرة : أتمنى أن لا تدفعكم هذه التجربة الواقعية لأن تنظروا للقطط السوداء على أنها جان ، الجان قد يتلبس الحيوانات بشتى أنواعها وألوانها.
 
أخيراً وليس أخراً : قد تراود أذهانكم بعض الأسئلة بعد قراءتكم لهذه القصة المخيفة وتودون طرحها علي ، سأتوقع بعضها وأجيب عليها:
س/ ماذا حل بذلك الطفل الصغير ؟ وكيف حاله بعد ذلك الموقف العصيب ؟.
ج/ ذلك الطفل الصغير أصبح الأن رجلاً ، هو بخير ولا يعاني من شيء ويعيش حياته بصورة طبيعية.
 
س/ هل يتردد على ذهنه ذلك الموقف ؟ هل سبق وأن ذكرته به ؟.
ج/ لا ، سهل عليه نسيان ذلك الحدث وقوعه وهو في سن صغير ، أحياناً من باب الفضول أسأله عما جرى ، ولا أخفي عليكم أنه يصبح بعد سؤالي عن تلك الحادثة شارد الذهن وكأنه يعيد تشغيل شريط أحداث تلك الذكرى ، وتظهر عليه آثار التوتر والخوف.
 
س/ كيف أصبح ذلك البيت المهجور؟ هل وقعت فيه أحداث أخرى بعد ذلك ؟
ج/ أصبح مكتمل البناء ، معمور بأصحابه ، نعم قد أتطرق لذكرها في المستقبل إن شاء الله
 
 
ختاماً : أتمنى أن يكون ما نقلته لكم قد حاز على إعجابكم ورضاكم ، أعلم أني قد أطلت عليكم وأخذت من وقتكم ، ولكن كل ذلك من أجلكم ومن أجل أن أقدم ما يرضي ذائقتكم الرفيعة وما يصل بكم إلى شعور المتعة والإثارة .

لا أقول لكم وصلنا إلى النهاية ، فمشوارنا ما زال طويل وما قطعناه اليوم هو مسافة قصيرة منه ، انتظروني وكونوا بالقرب لنكمل مشوار الرعب سوياً .
 

تاريخ النشر : 2020-07-08

guest
34 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى