أدب الرعب والعام

سرج الحصان – الجزء الأول

بقلم : عطعوط – اليمن

استمر جلهم بالجود والعطاء فكانت المفاجأة لم ينقص ما لديه بالإنفاق بل كان يزيد
استمر جلهم بالجود والعطاء فكانت المفاجأة لم ينقص ما لديه بالإنفاق بل كان يزيد

كان هناك واحد وما واحد إلا الله ومن عليه ذنب قال استغفر الله.

جار عليه الزمن وضاق به الوطن ، و تركه الرفيق و فارقه الصديق ، فصار الفقر رفيقه والضيق صديقه ، يذهب صباحاً حاملاً معوله ويعود مع الغداة حاملاً بيد معوله وفي اليد الأخرى طعام ليلته.

كان طعام العشاء هو أجره الذي يحصل عليه مقابل عمله ، فكانت وجبت العشاء ليومه وليلته ، فلا صبوح يلتهمه ولا غداء ينتظره ، إنه جلهم صادف ولادته هم وغم ، فأسموه جلهم.

يمشي حافي ونصف جسده عاري ، اعتاد الناس على رؤيته بهذه الحالة فنعتوه بجلهم الحافي ،

فصار اسمه جلهم الحافي ، له زوجة زاهدة ، عابدة ، ساجدة لبعلها طائعة ، مستبشرة بحظها ، راضية ، كان ميلادها موافق لميلاد جلهم فأسموها شقب ،

حُرما من فلذت الأكباد وفرحة الأولاد ، فتذكر الحكمة القائلة : سافر ففي الأسفار خمس فوائدُ ، تفريج همٍ واكتساب معيشةً.

كفت الحصير و ربط الفطير وأعلن النفير وقال : لم يعد لنا في هذه الرُقعة سهاد ،

ففيها حُرمت عيني الرقاد ، هل تطيعيني يا شقب  على هجر البلاد ؟.

قالت: أنت البلاد ، سر فتوكل على رب العباد.

رحلا في الأمصار عبرا الفيافي والقفار ، أرض تغدي و أرض تبدي وأرض تصلي بها على روح النبي ، نزلا بأرض وجد فيها طمأنينة وأُنس ، فيها سلطان عادل غير جائر.

و في أطراف البلدة وجدا خِربة مهدم معظم جدرانها و اتخذتها الزواحف خدراً لها ، فحطا الرحال في هذه الخِربة وقاما ببناء ما تهدم منها وطرد الزواحف منها واتخذاه بيتاً ، و بقي فأر يظهر بين حين و أخر في احدى زوايا البيت ، قاما بسد الجحر الذي يختفي فيه الفأر عدة مرات ، إلا أن الفأر يعود و يفتحه تارة أخرى ، يئسا من الفأر وقررا أن يدعاه وشأنه طالما أنه لم يتسبب في أي أذى ، و قد لاحظا أمر نادر في هذا الفأر غير مألوف ، فهو لا يقوم بما تقوم به الفئران من ثقب للأكياس وقرط للأغراض والأثاث وأكل للبذور والحب ، فكلما يقوم به هو أنه يظهر ويدور في زوايا البيت بهدوء ثم يختبئ في نفس الجحر دون أن يحفر جحور أخرى.

قال جلهم : دعيه وشأنه و لا تؤذيه يا شقب.

فمارسا حياتهما اليومية فعمل جلهم أجير في إنجاز الأعمال وحمل الأثقال ،

فكان من رآه ازدراه من لبسه و رداه ، طرق الطُرق برجلاه و قرع الأبواب بعصاه. ممتلكاته المنجل والفأس ، مخزانه في أيدي الناس ، كل همه قوت يومه ، مرت الأيام وانتصف العمر فأضافت الغربة حزناً على حزن افتقاد الأولاد ، في ليالي رمضان ابتهلت شقب بالدعاء و رفعت كفاها إلى رب العباد أن يهبها الأولاد فتضرعت ونظرت إلى السماء ، فلمحت هالة ضوء تمر ، فقالت : يا ليلة القدر مديني مدد ، مني علي بولد بحق الواحد الأحد.

وأثناء المنام سمعت هاتف يقول : ابشري يا شقب ، ابشري أتاك الولد وجاك المدد.

فردت وقالت : كيف و أنا لم ألد ؟.

قال : ذلك هين على الفرد الصمد.

بهتت شقب من المنام وأيقظت جلهم

وقالت : هل سمعت ما سمعت يا جلهم ؟.

قال : لا ، و ماذا سمعت يا شقب ؟.

فأعادت شقب على جلهم ما سمعت فتعجب

وقال : هذا حلم حلمتي بما في ذهنك من طلب الولد ،  عساه خير.

فعاودا المنام ، وانجلاء الظلام بشعاع الشمس وانتظرا خروج الفأر من الجدار حسب عادته ، انقضى النهار وحل الليل ولم يظهر الفأر ، و في الصباح أخذ جلهم معوله وقال : اليوم لن أذهب للعمل يا شقب ، سأهدم الجدار و أرى ما فيه.

هوى بمعوله و نبش المكان الذي يختفي فيه الفأر ، ظهر الفأر من نافذة صغيرة فهم بقتلة بالمعول ، تكلم الفأر وقال : لا تقتلني.

فرفع المعول وترك الفأر وعاد إلى زوجته وقص عليها ما رأى ، و أتى بها كي يريها الفأر الذي نطق ، ولكن لم يجدا الفأر بالنافذة وإنما وجدا قطعتان نقديتان من ذهب .

أخذ جلهم النقود تفحصهما ثم قال : سأذهب واشتري ما نحتاجه من قوت ، إن كانت نقود صحيحة ، فعاد بحِمل جمل مما خف وزنه وغلا ثمنه من قوت وطعام وحب وإدام ، فعمت البهجة والسرور وسبحت الألسن وانشرحت الصدور واستمر الحال.

قطعتان نقديتان في الطاقة كل صباح ، ترك جلهم حمل الأثقال وكثر الترحال ، بقي في بيته منتظر من يأتيه ليعطيه ، انتقل مخزان قوته من أيدي الناس إلى نافذة بيته ، صار ناعم اليدين منتعل القدمين ، وردي الخدين ، جديد المعطفين ، من شاهده سباه حسنه وبهاه ، صار داره قبلة المحتاجين واستراحة المسافرين و مأوى المنقطعين ، تقاطر اليه الفقراء والمساكين ، شاعت فضائله مجالس السمر وعطاياه لم يسمع بمثلها البشر.

تبدلت أحواله وتحققت آماله ، حلت عليه البركة وكثرت على بابه الحركة ، فكان يعطي عطاء وافر للمسلم والكافر ، فكلما أعطى زاد إدامة وكثر طعامه.

أما شقب فحملت من ساعته و حينه و أخبرت جلهم بأنها حامل ، فتهلل وجهه واستبشر خير.

ذات يوم وقفت على باب الدار أمرأة مسنة كان عمرها قد جاوز القرن ، فأخذت حظها من العطاء ثم طلبت شربة ماء فاسقتها شقب ، فشربت و استرسلت بالحديث وقالت : سبحان مغير الأحوال ، هذه الدار كان يسكنها فقيه زاهد  و كان له زوجة مارقة لا تُطعم الطعام و لا ترد السلام ، لسانها لاذع ونظرها ساطع ، تكتم النعمة وتبوح بالنقمة ،

لا تحفظ غيبه و لا تكترث لمصيبه.

قال جلهم :  أين هما الأن ولماذا تركاه ؟.

قالت: إن في هذا لبيت عفريت من الجان من سكن فيه لا يُرزق بولد إلا مات من ساعته وحينه ، لذلك هجره سكانه.

و إن زوجة الفقيه عشقها العفريت فعصت زوجها فطلقها وترك الدار وهاجر ، وكانت حامل وعند ولادتها ماتت لحظة ولادتها ولم تلد و دُفنت خلف الدار.

عدت الأيام وانقضت فترة الحمل واقتربت لحظة ولادة شقب ، وعندما أتاها المخاض لجأت إلى قبو ليس ببعيد عن الدار خوفاً من أن يموت وليدها إن ولدت في الدار ، حسب ما وصلتها الأخبار.

قالت : يا جلهم أشعر بألم الولادة ، اذهب و أحضر بعض النساء.

قال : حُب وطاعة ، فذهب وعاد ومعه بعض النساء أدخلهن القبو وانتظر في الخارج.

طالت فترة الولادة وجلهم ينتظر بفارغ الصبر و يدعي ربه بالفرج .

النساء خرجن فسألهن جلهم بتلهف واستعجال : هاه هاه بماذا رزقنا الله ؟.

فصمتن ولم يردن عليه ، فكرر السؤال.

فقلن : أدخل و أنظر .

فدخل فوجد جلمود لحمي بحجم الفنجان ،

لا يوجد عليها عضو من أعضاء الأنسان ،

و وجد شقب في غيبوبة بعد الولادة .

فناداها : شقب ، شقب ، فلم تجب ، ظن أنها فارقت الحياة ، صاح ولاح : أين المولود ؟.

فتش الخرق جوار شقب فلم يجد سوى هذه الجلمود ملفوف بخرقة وعليها آثار دم.

أفاقت شقب ، فقالت : يا جلهم أين المولود ، أين ابننا ، بماذا رُزقنا ؟ لماذا هو صامت لم يبكي ؟.

جلهم رجعت له الروح بسلامة شقب و قال: لم يوجد سوى هذا الجلمود.

صاحت شقب : لقد سرقت النساء أبننا !.

قال جلهم : لا ، لم يسرقن شيء ، لقد خرجن أمام ناظري.

أمسكت شقب بالجلمود و قلبته و تفحصته ، وجدتها ذات قشور مطاطية تشبه بيض السلحفاة ،

والحبل السري ملتصق في منتصف الجلمود.

فنطقت شقب بالحمد والثناء و قطعت الحبل السري بعناية ، ثم وضعت الجلمود في خرقة وبات جلهم وشقب في حزن .

تبادلا الأفكار واستقر بهم الرأي أن يقوم جلهم بأخذ الجلمود في الصباح إلى المقبرة و يحفر قبر صغير ويقبره لسببين :

الأول : أنه جزء منها.

و ثانيهما : ليعلم الناس أنها ولدت ومات الطفل.

مع حلول الفجر قام جلهم بأخذ الجلمود والمعول وذهب إلى المقبرة و حفر قبر وقام بوضع الجلمود في القبر و بدأ يواري التراب عليه ، فسمع صوت عطس فتوقف وانصت ،تكرر الصوت ، بُهت جلهم و تجمدت أعضائه و جف ريقة و جثاء على ركبتيه حتى استفاق.

 فأنتشل الجلمود من بين التراب ونفخ عنه الغبار و لفه بمعطفه و أخذ معوله وطفق عائداً إلى البيت.

سرد على مسامع شقب ما حدث فدارت داخل البيت وحارت ثم تهللت و استبشرت وقالت : يا جلهم عد لتوك إلى المقبرة و  أدفن القبر  و حوطه بالأحجار و ضع عليه مشهد وسورة ، و شع الخبر بموت طفلنا و أنشره .

فعل جلهم ما طلبت منه شقب.

أما شقب فأخذت الجلمود برفق وأناقة و وضعته في إنا وغسلته بماء دافئ ، فنبض الجلمود بالاهتزاز.

عاد جلهم فأخبرته شقب باهتزاز الجلمود بنبض الحياة ،  فجففاه و وضعاه في سرج حصان.

أجمعا الراي على الرحيل وترك الدار مع طلوع النهار قبل أن تحل بهم الفضيحة والعار.

وعند حلول الفجر سمعا صوت يقول:

أمي شقب بعد اليوم لا رعي عليك و لا حطب.

أبي جلهم بعد اليوم لا هماً عليك و لاغم ،

ستُسدى عليكم النعم و يحل في داركم الكرم.

تبادلا شقب وجلهم النظرات و تأكدا أن مصدر الصوت الجلمود.

قالت : من أنت ؟ هل أنت جني من الجان أو ملك من ملائكة الرحمن ؟.

لكن دون جدوى فلم يجيب عليها ، فقررا البقاء وترك الكد والشقاء ، فكان كما قال ،

يؤتى بالحطب إلى شقب دون تعب و يعج البيت بأنواع القوت دون عناء من جلهم.

واستمر الحال ، ولاحظت شقب أن الجلمود يزداد حجمه ويكبر ، فأخبرت جلهم ، فقال : إن البركة زادت وتضاعفت في كل شيء.

بعد واحد وعشرون يوم من ولادة الجلمود عادت شقب من الخارج ، وقبل دخولها سمعت أصوات حديث من الداخل.

قالت : في نفسها من الذي داخل البيت ؟.

جلهم خرج ولم يعد بعد والباب مغلق ، فتنصتت .. دون جدوى ، ففتحت ولم تجد أحد.

أخبرت جلهم ، فقال : ربما يكون العفريت الذي أخبرتنا عنه العجوز ، فقد يكن حان موعد طردنا من الدار مثل من سبقنا.

في الصباح خرج جلهم وشقب و أغلقا الباب ، و ذهبا إلى خلف النافذة مباشرةً وتصنتا ، و تفاجأ بسماع الحوار التالي :

قال : ستخرج ، ستخرج.

سأنقض عليك في حرزك و ألحقك بمن سبقك.

قال : أقترب ، لن يحل عليك الليل ، سترى الويل

وستُحبس في مدارب السيل.

قال: أنفقت الكثير من الكنز المدفون .

بُغية بقاء والديك

في هذا البيت المسكون .

لحين موعد ولادتك الميمون .

قال : لقد نقضت وعدك وخنت أمانتك

كحارس للكنز .

انتهى الحوار وساد الصمت..

جلهم وشقب ذهبا وقضيا مبتغاهما ثم عادا إلى البيت ، فوجدا الفأر ميت وأسنانه مغروزة في الجلمود متفحم كانه أُحرق بنار .

 

حزنا على الفأر والقياه في الخارج.

وفي الصباح لم يجدا قطعتا النقود حسب العادة في الطاقة.

قالت شقب : لا بد من شق الجلمود وفتحه و ننظر ما بداخله ، فقد يتعفن من أثر أسنان الفأر وأنيابه ، أحضر جلهم الخنجر وصاح و زمجر وهلل وكبر ، و وضعه في وعاء نظيف و شق غلافه شقاً لطيفاً ، انفجر منه سائل زلال ، انبثق عنه طفلاً عطس في الحال  ثم شهق و زفر ، فبكى وعلى قيد الحياة استقر.

فرحت شقب و حضنته وحنكته ومن ثديها فقمته و في القبو أخفته و بالأسماء حوطته.

فكان طفلاً ذكر ذا خلق بديع ، بهي زهي في حسن مريع ، فأسموه سرج الحصان.

وذات يوم عادت شقب من قصر السلطان ، فوصلت باب القبو فسمعت أصوات عراك داخل القبو ، خشيت على سرج الحصان الهلاك ، فاسترقت النظر بحذر ، فشاهدت قط و فأر وثعبان في أشد صراع شذر مذر ، فبرز سرج الحصان فحذر و أنذر ، فجلد الثعبان بأغصان الشجر وقذف القط بالحجر وقيد الفأر بالوتر ، فتوقف العراك وفُض الاشتباك ، وقفت شقب مذهولة بعقلها مخبولة ، دخلت مسرعة بعد فتحها للباب.

فغشى عينيها الضباب ثم انقشع الغبار فلم تجد قط و لا ثعبان و لا فأر ، سوى سرج يلعب بثلاثة أحجار ، فسألت سرج عما جرى وصار ؟.

فقال : دعك من تلك الأخبار فهي سر من الأسرار.

استمر الحال وسرج في القبو مستتر عن الأنظار.

قال جلهم : سنستمر في الإنفاق حتى ينفذ ما لدينا.

خرج جلهم إلى باب البيت وبعد مدة قصيرة عاد إلى البيت.

فقالت شقب : لماذا عدت مسرعاً ؟.

فقال : شاهدت ثعبان مخيف يحاول ابتلاع الفأر الميت.

فوقفت الأحظ ، فاستمر الثعبان في ابتلاع الفأر ، و فجأة توقف الثعبان عن البلع ، كان قد ابتلع رأس الفأر و بقي نصفه خارج فم الثعبان ، خمدت حركة الثعبان كأنه تجمد ، فتقدمت نحوه و ألقيت ببعض الحصى إلى جواره و لم يتحرك ، كانت عيناه بارزتان في غشاء راسه  ونصف الفأر داخل فمه.

ظننت أنه ينظر نحوي و أنه توقف عن الحركة عندما شعر بي.

جردت العصاء واقتربت كي اقتله قبل أن يفلت و يدخل جدار البيت ، فضربته ضربه قوية على رأسه أخرجت الفأر من فمه.

لقد كان ميت قبل أن أضربه بالعصاء ، فاستعذت بالله من الشيطان وتركته و دخلت أخبرك بما جرى.

قالت شقب: إنه أمر فيه عجب ! هيا لنخرج ونرى.

خرجت شقب وبقي جلهم في الداخل.

بعد برهه من الزمن عادة شقب و دخلت البيت.

قال : جلهم هل رأيتِ الثعبان والفار؟.

قالت : لقد رأيت ما هو أعجب من العجب !.

قال : ما هو ؟.

قالت : رأيت قط أتى من خلف الشجر ، فوثب على الثعبان وعضه من منتصفه وحاول جرة باتجاه الأشجار و أستمر في سحب الثعبان ، فقمت بقذف الفأر بطرف العصاء إلى جوار القط فأفلت الثعبان و ألتهم الفار و أستمر في قط عظامه ومضغة وقبل أن يكمل فتح فاه بقوة كأنه يتثأب ثم وقف على رجليه و رفع يديه و نط مسرعاً في الهواء وحط في سطح البيت فرجعت اليك.

قال : إنه لأمر جلل و لا بد من الحذر.

فأخذ : المعول وخرج إلى المكان  وحفر حفرة دفن فيها الثعبان ، كي لا تطأه أقدام الفقراء والمساكين الذين يأتون إلى باب داره فيلحق بهم ضِر من أضراره أو تعلق على أجسادهم أثر من آثاره.

ثم استمر جلهم بالجود والعطاء فكانت المفاجأة لم ينقص ما لديه بالإنفاق بل كان يزيد و يتضاعف فضاعف جلهم الصدقات ، فلم يعد يتحمل عناء الذهاب إلى السوق يومياً للشراء.

مرت الأيام ودارت السنين ، بلغ مسامع السلطان أخباره وما يجري باب داره ، فعزم على تقصي آثاره و كشف كل أسراره ، فأنفذ اليه أحد العسس و وقف باب الدار قبل الغلس.

نادى: يا جلهم الحافي ، يا أهل الدار.

أجاب جلهم : نعم ، هلُم فأدخل.

فدخل حاملاً الرمح مئزر بالوشاح ، صال وجال و لم يترك شيء داخل الدار إلا هسه وجسه.

فقال : مولاي السلطان يطلب حضورك مع شقب ، قبل أن يحشو بيتك بالحطب ويشعل فيه اللهب.

مثلا جلهم الحافي وشقب أمام السلطان.

فقال السلطان : في غيبتك يا جلهم عن المزرعة

ذبلت الأشجار وقلت الثمار ، أريدك أن تعمل فيها باستمرار.

و أنتِ يا شقب تعهدي الأبقار ، ولك مني ألف درهم وجلهم ألف دينار.

ثم سأل : ماذا وجدت في دارهم ؟.

فقال : لم أجد بدارهم درهم أو دينار عدى فرش وحصير وفضلات قوت فقير.

فقال جلهم : أعفني أيها السلطان .

رد السلطان بغضب وقال : لماذا ؟.

قال جلهم : يا مولاي السلطان وهن جسمي ونكى عظمي وكلت سواعدي ، فاستبدلت حمل الأثقال بحياكة النعال وسرج الخيول ولجامات الجمال

وحوافر الخيل والبغال.

أضحيت أُطعًم الطعام بأجري وأتصدق بما زاد عن قدري.

فبقيت في داري ، فكثر زواري ، فأتتك أخباري.

سُر السلطان بكلامه وتلطفه وفصاحة لسانه ،فأجابه لمراده.

عاد جلهم إلى داره بينما بقيت شقب تذهب إلى قصر السلطان تحلب الأبقار  وترعاها في النهار وتعود لتبات مع جلهم .

بلغت أخبار جلهم مسامع السرق و ما هو عليه من جزيل النعم والمال ، فعقدوا العزم على سرقة دار جلهم في الحال ، حل الظلام فتسللوا و تعسسوا

و في جوار الدار باتوا واصبحوا دار ، اذا بزغ النهار مشيد ، جلمود صخر إن حل الظلام واشتد.

فيئسوا من سرقته.

ذات ليلة بينما جلهم وشقب يتبادلان أطراف الكلام في السمر قبل المنام و في حلك الظلام سمعا هذا الكلام:

أبي إني بلغت مبلغ الرجال وأريد الزواج.

جلهم : شقب هل سمعت القول ؟.

شقب : نعم ، و تبسمت بتعجب !.

جلهم : وبمن تريد أن نزوجك ؟.

قال : اذهب وأخطب لي  بزهر الرمان ابنة السلطان.

نظر جلهم إلى شقب بتعجب ثم سألها : هل لدى السلطان بنت بهذا الاسم ؟.

أجابه شقب : نعم ، ولكن كيف عرف بها و بإسمها و هو داخل القبو؟.

جلهم : هل نقول للسلطان أتينا نخطب أبنتك ؟ ألم تعقل ما تقول هذا هو الجنون ؟.

جلهم : السلطان يعلم أن ليس لدينا أبن من زمان.

سرج الحصان: أخبره أن أبنكم لم يمت و أنكم كذبتم بقصة القبر ، كي يعيش و لا يموت مثل من سبقه.

جلهم: ماذا ترين يا شقب ؟.

شقب: سرج الحصان لا يُهان و لا يُستهان.

و ما جزأ الإحسان إلا إحسان .

عليك مقابلة السلطان وإخباره بما جرى و كان.

في الصباح خرج جلهم من داره بعد أن أرتدى معطفه وإزاره ، فوصل باب السلطان ممتطياً لحماره ، استوقفه الحارس.

الحارس: إلى أين يا جلهم ؟.

جلهم : أريد مقابلة السلطان.

الحارس : ألا تعي ما تقول ، كيف لك أن تتجرؤ ، وماذا تريد من السلطان ؟.

جلهم : أريد خطبة أبنته لابني.

الحارس : منذ متى انقلب الزمان فتسابق الخدم والرعيان لمصاهرة السلطان ؟.

فوثقه العسس بالرباط وجلده الحرس بالسياط.

عاد جلهم إلى داره مثخن الجراح مكسور الجناح.

يُتبع ……….

 

تاريخ النشر : 2020-07-20

الفهد

اليمن . للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
8 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى