أدب الرعب والعام

زائر مِن الماضي

بقلم : مؤنس نورالدين بدرالدين – لبنان

اللوحة الجميلة التي رسمتها من الماضي بدأت تتلاشى
اللوحة الجميلة التي رسمتها من الماضي بدأت تتلاشى

 
عادةً أركن سيارتي أمام المنزل ، إن كان هناك سير كثيف أو سبب ما وهذا نادراً ما يحدث ، أركنها في حقلٍ خلف المنزل ، البارحة كان السير يكاد أن يكون متوقفاً بسبب كثافته ، ذهبت بسيارتي إلى الحقل ، نزلت منها ، بدأت أتأمل زاوية مميزة بالنسبة لي فيها ، هنا كُنّا نلعب عندما كنّا صغاراً ، محمد ، سعيد ، نجيب ، وأنا ، تصفيف الحجارة ما يزل كما عهدته ، وضع زاوية منفرجة على شكل مقاعد ، هنا كنا نجلس ، الخزانة الخشبية القديمة التي كنا نسمّيها الخزنة ما زالت مكانها ، كنا نضع فيها أشياء مُضحكة لا قيمة لها ونقول بأنها ثروتنا،

الشجرة التي كنا نتسلّقها كانت تبدو أكبر بكثير في الماضي ، الأن تبدو أصغر ، لكن مع فارق العمر تسلُّقها بات أصعب ، الحقل بدا في الماضي لنا واسعاً ، أشياء كثيرة لم تعد كما كانت ، كلبان مُتشردان نائمان على يمين المقر ، الكثير من البراغيت ، ولكن هذا لم يمنعني من إطالة الوقوف وتأمّل سحر الماضي ، فجأةً ومن الجهة اليُسرى يأتي صديقي القديم مُحمّد ، أقول له مندهشاً : محمد ! أنت هنا ؟ يجيبني : ممتاز ظننت بأنك لن تعرفني ، قُلت : كيف لن أعرفك ؟ ولكن مهلاً ، شكلك وعمرك ! ، أجاب ما يوجد في شكلي وعمري ، ما أدهشك ؟ قلت : أنت ما زلت كما كنت منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، أجل أنت صديقي محمد لكن العمر ليس كما ينبغي أن يكون ، لماذا لم تتقدم بالعمر ؟ أجاب : لست أدري ، لنجلس في صالون قصرنا ( هكذا كنا نسمّي الصخور التي وضعناها فوق بعضها البعض ) ،

جلسنا و بدأنا نتكلم عن ذكرياتنا ، تكلمنا عن عربات الخشب التي كنا نتزحلق بواسطتها على الطريق الوحيد الذي كان يتوسّط مجموعة من الحقول ، وكيف كنا نعير هذه العربات إلى الأولاد الذين يملكون دراجات ونستعير بالمقابل دراجاتهم ، هناك خلف الحائط تقع بركة الماء التي كنّا نسبح فيها أحياناً فنزعج السمكات التي كانت موجودة فيها ، فجأة سألته : ماذا حدث لسعيد و نجيب فأنا لم أرهما منذ ذلك الوقت ؟ أجاب : لقد دخلنا في الجيش معاً ، سعيد برتبة ملازم وأنا و نجيب برتبة جندي ، لقد فعلنا المستحيل لكي نخدم معاً ، ليتك ترى كيف كان سعيد يتصرّف بصرامة معنا أمام الجنود ثم ما أن ندخل إلى غرفته نبدأ بالضحك ولعب الورق ،

قلت : والآن ؟ أجاب : لقد كنّا في دورية نطارد عصابة فوقعنا في كمين مُحكم ، قُتِلنا جميعنا فيه ، قلت : قُتلتُم ؟ أنت ميّت ! أجاب : هكذا أذكر ، أجل لقد أُصبت في رأسي ، أدار لي رأسه فوجدته مُهشّماً مِن الخلف ، وضع يده على رأسه ، لمس الجرح العميق ، قال بتعجّب : تذكّرت ، أنا فعلاً ميّت ، لا أدري كيف وصلت إلى هنا ، شيئاً ما ناداني لكي أتي إلى هنا ، لا أدري فقد تكون رغبتك باستعادة مشاهد الماضي هي التي أعدتني إلى هنا ، أنا مسرور برؤيتك ، لكن لماذا لم تحضر الباقيين لكي نجتمع ؟ أجبته : ليتني أستطيع ذلك ، قد لا أكون السبب بوجودك هنا ، كنت أريد أن أراكم جميعاً ، ما رأيك بأن نذهب إلى نهر حبّوش لكي تسبح كما كنا نفعل من قبل عندما كنا كشّافة ؟

أجاب : أسبح لوحدي ! وأنت ألا تريد أن تسبح ؟ ضحكت وأجبته : في هذا العمر و في طقس شبه بارد لا أستطيع أن أسبح ، لقد كبرت أنا يا صديقي لكنّي سوف أكون مسروراً بمشاهدتك تسبح في ذات المكان الذي كنّا نسبح فيه ، أجاب : كم كنت أريد أن أفعل ذلك ، لكن هناك من يناديني ولا أستطيع أن أبقى هنا أكثر ، قال هذه الجملة ثم بدأ يتلاشى ، ناشدته أن يعود ، لكنه اختفى ، اللوحة الجميلة التي رسمتها من الماضي بدأت تتلاشى ،

اختفت الشجرة ، ثم أعادت الأحجار تنظيم نفسها لكي تصبح جداراً ، تلاشت الخزنة ، تحوّل التراب تحت قدمي إلى طريق مِن الإسفلت ، نبتت المباني حولي ، صوت محركات السيارات كاد أن يصمّ أذني ، ثمّ وجدت نفسي وحيداً أنا وسيارتي ، توجهت إلى الزاوية حيث كان ” صالون قصرنا ” جلست على الإسفلت و رحت أتفرّس في وجوه المارة علْني أجد أصدقائي بينهم ، علّني أجد نفسي وأنا صغير في هذا المكان ، لكن الوجوه جميعها كانت غريبة .

” في ذكرى صديقي محمد الذي رحل باكراً “.
النهاية …..

تاريخ النشر : 2020-07-22

guest
61 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى