أدب الرعب والعام

رحيل بهدوء

بقلم : اية – سوريا

قد تظنين يا أمي بأنك رحلت بهدوء و لكن رحيلك كان صاخب ومؤلم
قد تظنين يا أمي بأنك رحلت بهدوء و لكن رحيلك كان صاخب ومؤلم

استيقظت في الصباح ، ذهبت لأودعها قبل ذهابي للجامعة ، لكن … لم أراها ، استغربت جداً ، ليس من المعقول أن تذهب مبكراً ، فقد أصبحت كبيرة بالسن ، أين يعقل أن تكون ؟ قد تكون ذهبت لكي تجلب بعض الحاجات ، لم أهتم للأمر و اتجهت لجامعتي ، عند استقلالي الباص راودتني أفكار غريبة ، قد تكون سقطت بحفرة في القرية ، أو في البئر ، حاولت مسح هذه الأفكار حالاً . 

وعند عودتي دخلت بسرعة لأطمئن عليها ، لكن… أين هي ؟ وقع قلبي في يدي ، انهارت قواي ، و بدأت أبكي ، انتبه الجيران لبكائي الذي كان عالياً ، اجتمع الحي كله على صوت بكائي ، و عندما دخلوا كنت قد استجمعت بعض من قوتي ، وعندما سألوني عن سبب بكائي ؟ قلت بصوت مرتعب : أمي لم أجدها هذا الصباح في سريرها ، و حتى عندما عدت ! قالت إحدى جاراتنا والتي كانت الأقرب إلى أمي : قد تكون ذهبت لزيارة أخاك يا نور؟.

أجبتها بدون تفكير : من المستحيل أن تفعل هذا ، فقد اتفقنا على الذهاب معاً الأسبوع القادم ، وحتى لو فعلت ذلك كانت قد اتصلت بي !.

عدت إلى البكاء ، فقد كان برأسي أفكار و أفكار ، وما أكثر تلك الأفكار التي كانت مرعبة ، لم أستطع النوم تلك الليلة ، قضيت ذاك المساء بالبكاء ، وقد كانت من أبشع الليالي التي أعيشها ، عندما بدأت خيوط الشمس تدخل غرفتي ، كنت ما زلت مستيقظة ، لم أذهب إلى الجامعة ، لكن بعد مدة وجيزة ، ارتديت معطفي الشتوي و ذهبت أتجول بطرقات القرية بحثاً عن أمي.

بدايةً خمنت أن تكون سقطت بالبئر، فاتجهت إليه، كم كنت خائفة ، انتبه أحد المارة إلي فسألني : ما بكِ أيتها الفتاة ؟.
قلت له : أرجوك هل تستطيع النزول إلى أسفل البئر لترى إن كان هناك امرأة عجوز؟ بدى بعض التردد على وجهه ، لكن بعدما شرحت له الأمر وافق ، وبعد دقائق من نزوله ، وقلبي يخفق بشدة،  صعد الشاب و قال لي : للآسف يا آنسة لم أجدها !.
قلت له : شكراً لك على كل الأحول.
قال : العفو يا آنسة.

بدأت أجوب طرقات القرية ، و حل المساء ! لم أشعر بالوقت ، والمشكلة أني لم أجدها إلى الآن ، أين هي يا تُرى ؟.
عدت إلى منزلي ، و رميت نفسي على السرير ، كنت منهكة للغاية ، لكن لم أستطع النوم ، عادت الأفكار بالتسلل إلى رأسي ، صرخت قائلة : مستحيل ، من المستحيل أن تموت أمي!.

قضيت تلك الليلة بالبكاء بحرقة و شدة ، قررت في اليوم التالي الذهاب إلى المخفر ، بلّغت عن اختفاءها ، سألني الضابط أسئلة روتينية ، و أجبته بصراحة تامة ، و وعدوني بأن يبحثوا بالأمر ، و لكن بعد عدة أيام اتصلوا بي ، و قال الضابط : لقد وجدنا تسجيلاً قد يساعدنا ! ارتديت حذائي بسرعة ، و خرجت ، استقليت أول سيارة أجرة تمر من أمامي ، وعندما وصلت إلى المخفر ، دخلت بسرعة وطلبت من الضابط أن يريني المقطع ، وعندما أراني إياه ، لم أعد قادرة على التحمل ، فأغمي علي.

عندما استيقظ وجدت نفسي في المشفى و أخي بجانبي ، سألني : هل أنتِ بخير؟.
قلت و الدموع تسيل على خدي : كلا ، هل تستطيع أن تتحمل رؤية والدتنا تُدهس تحت عجلات شاحنة بدون شفقة أو رحمة، و يهرب الفاعل ؟.
فأجابني : لقد رأيت التسجيل ، أنه مجرد حادث !.

صرخت بوجهه بصوت عالي : أنت أحمق ، بلا مشاعر أو أحساس ، أنت جسد بدون روح.
لم يكلمني ، مسد شعري بيده ، ثم غادر الغرفة بسرعة ، لقد كانت ردة فعله غريبة بالنسبة لي ، لكني لم أهتم لأمره ، و عاودت البكاء الشديد ، و بعد قليل شعرت بغصة ، لم أعلم إذ أنا ابتلعتها أم هي ابتلعتني ! ، فأمي رحلت و لن تعود ، رحلت للأبد ، سأبقى لوحدي ، من سيدعمني ؟ من سيساعدني في اتخاذ قرارتي؟.

بعد أسبوع من بقائي في المستشفى قرروا إخراجي لأنني لم أعد أصاب بنوبات البكاء والصراخ تلك أبداً ، وعند عودتي إلى منزلي ، كان البيت بارداً وكئيباً بالنسبة لي ، فلقد رحل منه الحضن الدافئ ونبع الحنان والحب المزروع في كل أرجاء المنزل ، حتى ورود حديقته الجميلة  قد ذبلت برحيل أمي.

كانت تمر الأيام ببطء ، كانت قاسية لا ترحم ، كان من الصعب العيش بدون وجه أمي الملاك ، حتى محاولات الجيران بالتخفيف عني باتت بالفشل.

و في أحد الأيام، طرق الباب ، فأسرعت لفتحه ، فإذا بأخي ، احتضنني بحب ثم دخل ، سألني عن حالي ، وطلب مني القوة والصبر لأقوى على الحياة ، ثم أخبرني فجأة بوجود وصية لأمي وضعتها لنا في الخزانة وعلينا فتحها عند موتها،  وقد جاء اليوم لأجل ذلك.

اتجهنا صوب الخزانة و وجدنا الوصية موضوعة في صندوق صغير ، أخذها أخي ثم عدنا للجلوس ولقراءتها.
و قد جاء فيها :

( كتبت هذه الوصية كي يقرأها ولداي عندما أموت ، فجميع ما أملك لهما ، البيت لنور ، والأرض لمحمد ، وهناك صندوق صغير في الخزانة هو لك يا نور احتفظي به ، لا تبيعي البيت نور ، أنا أعرف أنك متعلقة بي بشدة ، لكن تحملي ألم الفراق ، فنهايتنا جميل هكذا).

بدأت أبكي بشدة ، كيف عرفت بأنها ستموت هل كانت تشعر بذلك ؟ حاول أخي تهدئتي بكلامه ، ساعدني كلامه قليلاً بعدها لا أعرف من أين دبت بي الطاقة ، نهضت بسرعة و جلبت الصندوق، فتحته بلهفة لأرى ما بداخله أنا وأخي ، كان فيه الكثير من الصور لنا في كل تفاصيل طفولتنا.

لقد أبكتني هذه الذكريات فكل كاميرات الأرض لا تستطيع أن تلتقط لنا صورة تجمعنا مع أمي مجدداً.
احتضنني أخي محاولاً التخفيف عني ثم قال بحزن : أنا مثلك أفتقد أمي ، وأحتاج حضنها الحنون و كلماتها الدافئة ، فأنا أقوى بوجودها معنا ، لكن القدر أخذها ، فلذا علينا يا أختي أن نكون أقوياء لأجلها ، هي لا تحب رؤيتنا هكذا ، هي تريدنا أقوياء ، صابرين ، ناجحين ، في الحياة سعداء. 

* * *

الآن أصبح عمري أربعون عاماً ، لدي طفلان رائعان أنسياني كل همومي بسبب براءتهما وحبهما للحياة ، وكذلك أخي محمد أصبحت له أسرة جميلة مكونة من ثلاثة أطفال وأمهم.

قد تظنين يا أمي بأنك رحلت بهدوء ، لكن رحيلك كان صاخب ومؤلم ، سأشتاق لكِ أمي ، ولن يعوضني شيئاً عنكِ ما حييت.
 

تاريخ النشر : 2020-08-26

اية

سوريا
guest
18 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى