أدب الرعب والعام

الهارب

بقلم : مؤنس نورالدين بدرالدين – لبنان

لقد وُلِد ليكون هارباً
لقد وُلِد ليكون هارباً

عندما غفى في مقعده في الطائرة ، بدأ بتحريك يديه بعصبيّة كمن يطرد خطراً داهماً ، بدأ جسمه يتشنّج ويتعرّق ، ثمّ أخذ يرفس شيئاً وهمياً أمامه ، إقتربت منه المضيفة ، أيقظته بلطف قائلة : مسيو ، عذراً إضطررت إلى إيقاظك لأنّك كنت تحلم بكابوس مزعج ، أجابها : هذا صحيح وشكراً لكِ من أجل إيقاظك لي . 

 إعتدل في جلسته ، تلمّس حقيبته الصغيرة رفيقة رحلاته وكأنه يقول لها لا تضجري ها أنا هنا معكِ ،
ألقى نظرة إستطلاع من الشبّاك ، عاد ليتململ في جلسته ، يقولون بأن مقاعد الدرجة الأولى في الطائرات مريحة لكنه لا يدري هل هو حقّاً مرتاح ؟ لا يدري ماذا يريد ، هل الدرجة الأولى أفضل حيث القليل القليل من الناس أو عجقة الدرجة السياحيّة حيث تسمع وترى الكثير من الأخبار ، ينظر إلى ساعته كمن يهتم بالوقت ، لكن في الحقيقة لا يعني له الوقت شيئاً فهو إعتاد على التواجد في جميع الأماكن التي كانت تعنيه

أو ربّما لأنّه في هرب مستمرّ ، هربه هو أسوأ أنواع الهروب هو الهروب من الذات ، الهروب من الجيّد قبل السيّء ، عندما يتعثّر ظلّك فتحمله على كتفك وتركض ، عندما تتعرق بدون سبب وتحاول إخفاء الشمس بأصابعك
وضع يده خلف رأسه وراح يلعن الشخص الذي كان السبب في كوابيسه

ألشخص هو أحد أقرباءه ، كان مدمناً على لعبة القمار ، عندما غرق في ديونه ولكي ينفذ من دائنيه لمعت برأسه فكرة سريعة فقال لهم : ألم يصلكم المبلغ مِن ” الهارب” ؟ أجابوه لا ، قال : كنت مشغولاً البارحة ولم أرد أن أتأخّر عليكم فأرسلت لكم معه المبلغ المطلوب ، لا شكّ بأنه إستولى عليه ، أجابوه : سنتحقّق منه

سأل الدائنون عن الهارب في منزله ، قالت لهم والدته بأنه في السفارة الكندية لتقديم طلب هجرة ، فكّر الدائنون كالتالي :
سيسافر إلى كندا ، لا شكّ بأنه إستولى على المبلغ ، طلبوا من والدته إبلاغه بأنهم سألوا عنه وبأنهم يريدون رؤيته لضرورة قصوى
لأنّه لا يعمل ولأنّه لا يملك مالاً كان الدائنون وأي شخص آخر ليصدّق أيّة إشاعة عنه

عندما عاد إلى منزله كان جائعاً وتعباً ، لكن ما أن سمع والدته تقول بأن فلان سأل عنه حتى تفائل ونسي تعبه ، هذا الفلان له مصالح في أفريقيا وهو يبحث عن عمل ، لقد طلب من الكثيرين تأمين عمل له في أفريقيا ، قد يكون أحدهم كلّم فلاناً عنه وفلان يريد الآن تسفيره ، ترك طعامه ينتظر وذهب راكضاً باتجاه فلان ، ما أن وصل حتّى طلب منه فلان الذي كان محاطاً برجاله الجلوس ، جلس فسأله فلان من دون مقدّمات : أين هي أموالي ؟ فوجيء بالسؤال فأجاب : أموالك ؟ أيّ أموال ؟ قال فلان : ألأموال التي أرسلها نسيبك معك لي ، أجابه : لم أره منذ أيّام وبالطبع لم يرسل لك معي شيئاً ، هل أبدو لك كشخصٍ يملك مالاً ؟ لقد أتيت إليك راكضاً لعدم توفّر أجرة تاكسي في جيبي ، قبل أن يكمل جملته أتته ضربة من الخلف ثمّ قيّدوه
تفنّنوا في تعذيبه ، كان يصرخ مِن الألم فيضحكون ، تناوبوا على ضربه لمدّة لا تقل عن ستة وثلاثين ساعة تخلّلتها إستراحات قصيرة ، عندما تأكّدوا بأنه لم يأخذ مالهم تركوه بعد أن هدّدوه بتلفيق تهمة له إن إشتكى عليهم ، قال له زعيمهم : أنت بلا عمل
وبلا دعم ، إن تحدّيتني سألفّق لك تهمة تسجنك مدى الحياة . 

عاد إلى منزله والكدمات تغطّي جسده ، كان جائعاً وتعباً ويتألم ، عندما شاهده أهله لم يواسوه بل قالت له والدته بلهجة باردة : هذه هي آخرة من لا يعمل ومن يرافق الأشخاص السيّئين
تركت هذه الحادثة أثراً نفسياً كبيراً في حياته ، شعر بأنه شخص مكشوف لا معين له ، حتّى أهله عند أوّل حادثة تخلّوا عن دعمه ، أصبح يخاف من أيّ شيء ومن كلّ شيء

الصعوبات في حياته رافقته منذ طفولته ، لكن هذه الحادثة كانت أقساها ، كانت قطرة المرارة التي طفح الكأس المرّ بسببها
طفولته لم تكن مريحة أبداً، فهو كان طفلاً بين تسعة أطفال في عائلة تعيش على دخل الوالد المتواضع الذي كان يعمل أستاذ مدرسة . لم يرض أبداً بواقعه ، أراد إثبات نفسه وأن يكسب نقوداً تمكّنه من مجاراة أصدقائه الأغنياء ومن التفوّق على أصدقائه ذوي الدخل المحدود ، بدأ يشتري سلعاً عليها عروضات ويبيعها لمحلاّت ألمُفرق ، كان يمارس عملاً جديداً من نوعه ، نستطيع أن نسميه موزعاً على الأقدام ، كان يُسرُّ عندما يكسب نقود أحياناً ، ويحزن أحياناً أخرى عندما يتلقّى إهانات أو ضرب من أصحاب محلات كانوا يعتقدون أنّه سرقها من مكان آخر بسبب صغر سنّه وعدم فهمهم لما يحدث ، فلم يكن يمارس هذا النوع من العمل أحد غيره . أوّل مرّة شاهدته فيها كانت قبل أن أعرفه ، كان صغيراً ويحاول بيع بعض الأغراض إلى صاحب دكّان للسمانة ، تلقّى من صاحب الدكان صفعة على رأسه من الخلف جعلته يرتطم ببرّاد المرطبات ووقعت بضاعته على الأرض ، لملم بضاعته وخرج دامع الأعين منكسر الخاطر ، سألت صاحب الدكّان : لما ضربته ؟ أجاب : لأنه سارق صغير ، سألته :
وهل رأيته يسرق ؟ أجاب : لا ولكن من أين حصل على هذه الأشياء ؟ قلت : كان من الواجب أن تسأله قبل أن تضربه ،

هذه الحادثة بقيت محفورة في دماغي ولم أسردها ” للهارب ” إلاّ بعد أن عرفته بسنوات .

في إحدى المرّات أوقفه مسؤول أمني لحزب معيّن وسأله عن طريقة حصوله على بضاعته ، عندما أشار له من أين إشتراها ، أخذه إلى ألمكان ألذي أشار إليه ،
وعندما سأل صاحب المخزن عنه وتأكّد من صدقه إعتذر له وبدأ بشراء ما يحتاجه منّه ويشجعه على عمله وهذا ما أكسبه صداقة مسؤول الحزب . مرّة أُخرى أوقفته دورية شرطة وأسرته كأنّه مُجرم في ألثانية عشرة من عمره ، ذهبوا به إلى صاحب محلّ ألجُملة لكي يتأكدوا من روايته ،
تركوه خارجاً في السيّارة ودخلوا إلى الدكان لكي لا يؤثر وجوده على قرار صاحبه ، سألوه : هل هنك فتى صغير يشتري منك
أغراضاً بالجملة لأعادة بيعها ؟ أجاب صاحب الدكان : أجل ، إسمه “الهارب” ويدفع نقداً وأنا أشجعه وأنصحه بالأغراض التي ينبغي شراءها، رفع الشرطي قبّعته له إحتراماً وإعتذاراً ، وقال له : ألمساجين يحتاجون لأشياء كثيرة مِن الخارج ، بأمكانك أن تأتي وتبيعهم ساعة تشاء ، كان في ألثالثة عشرة وقد إنفتحت أمامه طاقة للرزق ومكان حماية من ألضرب ، فمن يجرؤ على ضرب صديق ألشرطة ألصغير المدلل الذي إستعاد جزئياً ثقته بنفسه وتعلّم بأن لا يسمح لأيّ كان أن يضربه
رضخا والداه بمرارة له وتركاه في أيام العطل يفعل ما يريد ، لكن عدم رغبتهم في أن يعمل لم تتعارض مع إستفادتهما من نقوده وأخذ ما يريدون منها ، فقد كان بالمبالغ ألصغيرة ألتي يكسبها يصرف على نفسه ويصرف على أخوته ألصغار بمباركة أهله ، كان يحبّ أحضار اللعب لهم .

أثناء إرتفاع سعر ألدولار كان يشتري ألأشياء بثمن رخيص قبل أن يفطن التجار إلى إرتفاع ثمنها ، ثمّ يبيعها بسعر مرتفع ويستفيد من فارق ألسعر ،
كان يمر كولد في ذالك الوقت بفترة إعتبرها ذهبيّة ، فقد كان يحمل في جيوبه أموالاً تعتبر نسبةً لصغر سنّه أكثر من حقيقية كان كثير الحراك حتّى شبّهه البعض بالطابة المجنونة ، فهو هنا ثم هناك ثم هنا ، لا يستقر في مكان ، دراسته كانت روتين ، هناك من كان يحسده من أترابه على إمتلاكه للمال ، شعر بأنّه زعيم للأولاد في شارعه لأنه أكثرهم قدرة على الشراء

بدأت السنوات تمرّ بصورة متشابهة ، أنهى دراسته الثانوية وإنتسب إلى الجامعة ،
حيث إلتقى بمزيج من المقتدرين المتعجرفين وأصحاب السيّارات الفخمة والملابس اللامعة ، لم يستطع ألإندماج في وسطهم ، شعر بأنه أقلّ شأناً منهم ، فكرة وجوده في أسفل السلّم أزعجته بالإضافة إلى أنّ التحصيل العلمي بعد الحرب لم يكن على مستوى ما قبلها فلم يكن لديه القاعدة العلمية الصلبة من أجل أن يستمرّ في تحصيل علمه ، فترك الجامعة بدون ندم

عاد إلى عمله السابق الذي تخلّى عنه لفترة وجيزة ، عدم تقلّب العملة ولأنه تقدّم في العمر قليلاً لم يعد عمله أي تجارته ألبسيطة تنتج له ما كانت تنتجه في السابق . بعد سنوات من الضياع والكثير من المشاكل مع أهله بسبب عدم ألعمل الجدّي، قرر السفر إلى أفريقيا

بعد تدخّلات وكفالات وواسطات وطول إنتظار إستطاع الحصول على فيزا إلى أنغولا
من سفارة أنغولا في ألكونغو برازافيل ، ودّع أقرباءه واحداً واحداً ، ثمّ إتّصل بي ، ذهبت إلى منزله ورأيته ينتظرني خارجاً ، صعد إلى سيّارتي ، ذهبنا إلى مدينة صور التي يحبّها ، مررنا على الطريق البحري ، ثمّ
عُدنا إلى النبطيّة أنزلته أمام منزله قرابة الساعة الرابعة صباحاً بدأ يتكلّم معي عن أشياء ليست بذات أهميّة ، شعرت بأنه خائف من المجهول لذلك إخترع أحاديث لإبقائي أطول مدّة ممكنة إلى جانبه ، ودّعته وذهبت
، أمضى باقي ساعات ما قبل السفر لوحده على شرفة منزله ، أيقظه من شروده زمور سيّارة الإجرة حمل شنطته وصعد إليها نظر إلى خلفه ولم يجد أحداً ليودّعه ، دمعت أعينه ، إنطلقت السيّارة وبقي ينظر إلى الخلف ، قد يرى أحد من أهله أو أحد أبناء حارته لمرّة قد تكون الأخيرة .

ذهب نحو المطار وسافر على متن طائرة روسية ، وعندما وصل إلى مطار أنغولا مُنع من الدخول والسبب أن الفيزا ليست صادرة من الدولة ذاتها ،
والطائرة ألروسية تعود أدراجها بعد 5 أياّم ، وهو لم يكن يحمل شيئاً من النقود ، كان يدخل إلى دورة المياه كلّ ساعة ليمسح دمع عينيه، فهو لم يرد أن يراه أحد ضعيفاً مقهوراً باكياً ، حلمه الذي بناه على هذه السفرة تشتت وها هو مجرّد متشرّد في مطار من مطارات العالم الواسع

بدأ يشعر بالجوع شاهد بقايا سندويش في صحن ، تلفتّ حوله ، وعندما لم ير أحداً ينظر إليه إلتقطها كمن عثر على كنز وإلتهمها وهو ينظر حوله خائفاً أن يأخذها أحد منه ، شاهدته فتاة من أنغولا كانت تعمل في المطار ، شعرت بالأسف لأجله ، أول شخص أبيض تراه في حالة جوع ، بدأت تطعمه من طعامها ، لم تكن تملك الكثير من المال أو الطعام لكنها إقتسمت معه طعامها بصدر رحب طيلة أيّام إقامته الخمسة في المطار ،
أي كانت تأكل نصف غذاء ونصف عشاء وذلك من أجل مساعدته ، أمّا الترويقة فللأسف لا يقدّمونها للعمّال لذلك كانت تتناولها في منزلها
حان موعد إنطلاق الطائرة ، كان عليه أن ينطلق بعد أن يودّعها ، كان وداعه معها صعباً ، لأوّل مرّة يجد إنسانة تدفع بلا مقابل ، أُعجبت به كأنسان ، تعاملت معه كغريب محتاج للمساعدة ، شعر بشيء من الحزن فهو لن يلقاها مرّة ثانية ولن يردّ لها جميلها ، صعد إلى ألطائرة ألروسية وفي جيبه 6 دولارات كان كل ما تبقى معها من مبلغ أعطته إياه ، كان يجب أن يكفيه ليومين لأن الطائرة لن تطير إلى لبنان إلاّ بعد يومين

في ألمطار تعرض للضرب على يدّ ألشرطة الروسية دون أن يفهم ما يقولونه ولماذا ، ما زال حتّى اليوم لا يعلم لماذا ضربوه لكن في روسيا عليك أن تتوقع أيّ شيء ومن دون تفسير. توجه إلى لبنان مهزوماً
في ألطائرة المتوجهة إلى لبنان إسترجع مشاهد كثيرة ، منها مشهد يد ألفتاة ألأنغولية على جبهته وهو نائم، ألذي جعله يظن أنه عاد طفلاً وأمّه تضع يدها على جبهته ، شعر بالحنان الذي كان يفتقده بشدّة فهو منذ صغره لم يربّت أحد على كتفه ولو مشجّعاً ، لقد كانت قد وضعت رأسه على ساقها لأنها لم ترد أن يتابع نومه واضعاً رأسه على مقعدٍ خشبيّ

ها هي الطائرة تحلّق فوق بيروت ثم تهبط في مطارها ، وها هو يعود إلى منزله ويتلقّى اللوم بسبب فشل سفرته ، كم كان يرغب بعائلة تقف إلى جانبه ،
عائلة تشجّعه ولا تلومه ، عاد ليتذكر مشهد كسرة ألخبز ألتي تركها بعناية في صالة المطار لكي يستفيد مسافر بائس آخر منها

في لبنان بقي عاطلاً عن العمل لمدّة ثلاث سنوات ، كان يجلس على سطح منزله لكي لا يراه أحد ، لم يكن يريد أن يصطدم مع أهله بحوارات قاسية ، لم أعلم بأنّه عاد إلاّ بعد عامٍ من عودته ، أشغالي أبعدتني عنه وهو كان يحاول الإبتعاد عن الجميع ، كان لا يحبّ اللوم أو الشفقة

خلافه مع أهله بدأ يشتدّ . بعد أن طفح ألكيل ، قرر ألدخول في المجهول والعودة إلى أفريقيا
كان محبطاً جداً قبل السفر ، بسبب ألخلاف مع شقيقته عموماً وأهله خصوصاً ، شقيقته ألتي كانت تشهد ضدّه في كلّ مشادّة عائلية ، ولو مشادّة مع جار كانت تضع أللوم عليه
كم تمنّى ألموت قبل إقلاع ألطائرة ، فالموت قد يكون أرحم من المجهول الذي يرمي
بنفسه فيه ، كان يخاف أن يجوع من جديد ، أو أن يُضرب على يد شرطيّ بدون سبب ، كان يخاف أن يتشرّد في الشوارع بلا عمل ، لكنّه قرّر رغم كلّ ذلك السفر

وصل إلى أفريقيا ، تفاجأ بأنّ من وعده بالعمل ليس لديه وظيفة له ، ما كان خائفاً منه بدأ يحدث ، ها هو مُشرّد ومن دون عمل ، وإبتدأت رحلة العذاب . أمضى خمسة أشهر من ألأنتظار ألقاتل بدون جدوى ، كان أخوه يرسل له من دولة مجاورة مبالغ بالكاد تكفي للسكن ولنصف طعام . تمكن أخوه أخيراً من إيجاد عمل له في إحدى الشركات .

ذهب إلى تنزانيا وبدأ العمل ، كان متفائلاً ، هاهو الحظّ السيّء يبتعد عنه قليلاً
لكن ظروف ألعمل كانت قاسية جداً ، والطقس حار جداً ، لم يستطع التأقلم مع نظام ودوام العمل أو مع الطقس الحار ، لم يستمر أكثر من ثلاثة أشهر ثمّ رجع إلى لبنان من دون أن يخبر أهله بأنه ترك العمل ، أهله كانوا يريدونه أن يستمرّ بالعمل ويبقى في أفريقيا. ذهب أولاً إلى منزل شقيقته ألتي كانت علاقته معها جيّدة . عندما علِمت بتركه أفريقيا أُغمي عليها لأنها تعلم أن العاقبة ستكون وخيمة من ناحية ألأهل ، فهم لن يغفروا له تركه العمل ، لكي يستطيع دخول منزله قام بجمع عمومته ، شرح لهم الموضوع ودخل معهم إلى منزل أهله لكي يتوسطوا له معهم ولكي يشرحوا وجهة نظره وسبب عودته وتركه للعمل

مكث شهرين في لبنان ، لكن شبح مشكلته مع شقيقته كان يؤرق منامه ، رغم مرور ثمانية عشرة عاماً على القصّة ، إلاّ أنه ما زال يرويها لي كل يوم وكأني لا أعرفها ،
إستقبله أحد أصدقائه في منزله لمدّة عشرة أيام في اليوم العاشر قال له بأن زوجته ستأتي من لبنان لزيارته ، فسأله بنبرة قلقة : أتقصد أنه يجب عليّ أن أرحل ؟ قال: نعم للأسف في كلّ الأحوال أنا لا أستطيع إستقبال شخص لفترة طويلة هذا هو قانون الإيجار وإن لم يكن هنالك من قانون لما إختلف الأمر، فسيّدة المنزل قادمة إلى منزلها
قال له بأنه لا يملك مالاً لكي ينزل في ألفندق ، فأرسله إلى منزل أحد أصدقائه أللبنانيين
كان ، كبير ألسن ويقيم لوحده
أرشده ألرجل إلى غرفة ألنوم الموجودة في زاوية المنزل ، نام نوماً عميقاً بسبب شعوره بالتعب ، ولكن بعد قليل إستيقظ بسبب ألضجيج ألصادر من أماكن مختلفة داخل ألغرفة . أشعل ألضوء فرأى مجموعة كبيرة من القوارض الكبيرة ألحجم
إنتابته موجة مِن الإشمئزاز ممزوجة بقليل من الخوف ، فهذه القوارض قد تصيبه بمرض مميت إن تمكّنت من عضّه ، خرج إلى الغرفة المجاورة ،أغلق بابها ونام على ألأرض ، من كثر التعب غفى بسهولة . إستيقظ صباحاً بعد فترة من ألإغفاء لم تطُل ، مع وجعٍ في ألظهر بسبب هذه ألنومة غير مريحة
في أليوم ألتالي ذهب إلى ألفندق كان عليه أن يضع جواز سفره ضمانة عند الإستقبال لأن صاحب الفندق فقد ثقته بالنزلاء ، فقد قال له : يتركون ثياباً بلا قيمة ويتسلّلون خارجاً دون أن يدفعوا بدل الإقامة . هذه الجملة بقيت تدور في رأسه ،
هل سيضطر هو الإنسان الشريف أن يهرب مثلهم ؟ من يدري فهو حتّى الساعة لم يكن يملك مالاً على ألإطلاق

أمضى خمسة عشرة يوماً في ألفندق دون أن يدفع ، في منتصف ألليل ألأخير طُرِق باب غرفته بشدّة ، إرتجف خوفاً فهو مُجرّد غريب في بلاد غريبة ، تذكر بيتهوفن وسمفونيته التي يجسّد فيها خوفه من الباب المطروق وصاحب المكان الذي يدين له بالإيجار ، دائماً يأتي الإبداع مِن الألم أو الضيق ، تكرار ألطرق جعله يفتح ألباب ، كان عامل ألفندق هو الطارق ، قال له بأن صاحب ألفندق يريد أن يراه ، ذهب إليه فأخبره بأنه إن لم يدفع ما توجب عليه له سيستدعي ألشرطة لكي تقبض عليه وأمهله يومين فقط

لم يستطع أن يتابع نومه في تلك الليلة ، إن لم يدفع فالسجن ينتظره ثمّ الترحيل ، ألسجن ، ذاك المكان المخيف القذر البشع الذي سمع عنه الأساطير ، كان من النادر جداً أن يُسجن رجل أبيض ، لكن عندما يُسجن كان يعيش مغامرة متعِبة لا ينساها أبداً ، لكنه لم ييأس ، لم يستسلم ، كان يريد أن يثبت لأهله ومعارفه بأنه ليس ذلك الإنسان الفاشل ، في هذه الأرض الغريبة عليه أن يكون ذا عزيمة وإرادة خارقتين ، لقد قرّر أن ينجح أو يموت ، طرق شتّى أبواب العمل ، لم يكن يريد أن يعود إلى لبنان مجرّد رقم تافه لا يقدّم ولا يؤخر. بقي يبحث عن فرصة للعمل ، حتّى آخر لحظة ، لكن ها هي أحلامه تنهار بقوة ، بدل المجد ينتظره السجن
في أليوم ألتالي ذهب إلى ألكازينو ألذي كان يقصده كلّ ليلة طمعاً بالشاي والخبز ألمحمّص ، كان ألكازينو يقدّمهما مجاناً لرواده أي اللاعبين ، هو لم يكن يلعب بالطبع ولكنّه كان يستغل ألخدمة ألمجانيّة ، لم يكن هناك رقابة على مجرّد شاي وخبز ، مجرّد خبز وشاي كان يمضي نهاره منتظراً قدوم الليل لكي يحصل عليهم ، كانت هذه الوجبة ولأيام طويلة طعامه الوحيد .بينما كان جالساً يفكّر في مصيره ألأسود ، كيف سيواجه صاحب ألفندق من دون أن يعطيه أي مبلغ ؟ وهل سيُسجن ؟ طبعاً إن لم يدفع سيُسجن لكنه بقي يأمل بحصول معجزة في الساعات الأخيرة ، عند المصائب نحلم بالمعجزات ، لكن المعجزات نادراً ما تحصل ، شاهده أحد ألأشخاص وخاطبه قائلاً : حضرتك لبناني ؟ أجابه نعم ، وسأله : لماذا تحمل هموم ألكون على كتفيك ؟

أخبره قصّته ، فعرّفه بنفسه قائلاً إنه مهندس من سوريا يعمل في شركة أسبانية لهندسة ألطرقات وسأله عن ألمبلغ ألمتوجّب عليه لصالح ألفندق ، فقال مائة دولار ( كان إيجار ألغرفة في ألليلة ألواحدة خمسة دولارات ).أعطاه ثلاثمائة دولار ، لم يوافق قائلاً : أحتاج فقط إلى مئة دولار . لكنّه أصرّ كثيراً فقبل المبلغ بعد أن قال له : إعتبره ديناً تسدّه في ألمستقبل لي أو لأي شخص قد يحتاج لمبلغ مثله

أحسّ وكأنه يطير في الهواء ، لم تعد قدماه تشعران بالأرض تحتهما ، كان فرحاً بزوال المحنة مؤقتاً ، توجه إلى ألفندق ألساعة ألثانية فجراً طرق باب صاحبه وأعطاه ما يدين له به بالأضافة إلى إيجار أسبوع مُسبقاً . إعتذر منّه صاحب الفندق وقال له : أعتذر لأنّ تصرّفي كان معك فظاً لكنه مرّ على هذا ألفندق مجموعات قبلك وهربوا دون تسديد ألحساب ،

وهذا ما جعلني أكون حذراً مع الجميع ، أنت إنسان شريف وأعدت لي الثقة بالكثيرين من العرب نزلاء هذا الفندق . بعدها دخل إلى غرفته ونام نوماً عميقاً دون خوف من البوليس أو من متاعب المستقبل القريب ، ها هو يولد من جديد
مرّ شهران دون أن يجد عملاً ، كان يسهر في ألكازينو ويذهب صباحاً إلى ألأوتيل وبهذه ألطريقة يدفع مرّة كلّ يومين ، لأنه يحق له ألبقاء في ألغرفة 24 ساعة ، كان ينام حتّى صباح اليوم ألتالي ، ثم يمضي ألنهار في ألشارع والليل في الكازينو . لم يبقى أمامه خيار سوى ألعودة إلى لبنان . رغم صعوبة القرار ورغم المجابهة والشماتة ، رغم الموقف الذي لن يحسد عليه ، كان عليه أن ينتحر أو أن يعود ، ألإنتحار وإن خطر على باله مراراً ، إلا أنه كان يطرد الفكرة من رأسه ويعود ليتمسّك بالحياة

في لبنان أمضى ثلاثة أشهر في جحيم ألمشاكل ، صنع منه أهله إنساناً فاشلاً ، أو أفشلوه ثم بدأوا يلومونه ، كانوا يقولون لأي شخص : أجبر إبنك على الدراسة وإلاّ سيكبر فاشلاً ك ” الهارب ” ، أو أجبره على العمل لكي لا يفشل ك ” الهارب ”
قرر ألعودة إلى أفريقيا مع قليل من ألأغراض ألتي تُباع بسعر جيّد هناك ، رأسماله كان 500 دولار فقط . كان ينام في فندق شعبي أجرة ألليلة ألواحدة فيه خمسة دولارات ، كان فندقاً كئيباً وبالرغم من ذلك أراد صاحبه أن يرفع ألإيجار إلى سبعة دولارات في أليوم . ترك ألفندق وذهب إلى فندق آخر ،

في ألغرفة ألواحدة سريران أجرة ألسرير 2.5 دولار فقط . كان يغمض أعينه بصعوبة ، كان يبقى متأهباً طوال الليل مخافة أن يقتله هذا ألغريب ألنائم على ألسرير ألآخر بدافع ألسرقة
في أحد ألأيام إستيقظ باكراً على صوت طرقٍ قوي على ألباب وسمع صوتاً يقول :
إفتحوا نحن البوليس ، كانت إقامته منتهية ألصلاحية ، لو قبضوا عليه لسجنوه قبل أن يرحّلوه ، وتصبح عودته شبه مستحيلة ، قفز من الطابق ألأول إلى ألشارع وركض بين الحقول ، كان يهرب راكضاً ، يلهث ، يتعرّق ، كهاربٍ من العدالة ، أحسّ وكأن وحوش أفريقيا ستمزّقه ، كان يسمع أصوات خطوات تتبعه ، ثمّ تبيّن له أنّ هذا الصوت هو صوت دقّات قلبه ، بعد أن إبتعد ما فيه الكفاية ، جلس تحت شجرة يبكي
، كم من شاب حسده بعد سفرته الثالثة وطلبوا منه تسفيرهم ، لم يكن أحد يعلم حتّى أقرب الناس إليه ما يتعرّض له من ذُلٍ ومهانة

إنتظر طلوع الشمس ثمّ ذهب ليبحث عن فندق آخر ، لم يجد سوى فندق إيجار الليلة فيه سبعة دولارات ، حزن على مبلغ ألأربع دولارات ونصف التي سيدفعها زيادة على الإيجار القديم . باع آخر ما كان بحوزته ومن ثمّ
عاد إلى لبنان منتصراً ، للمرّة ألأولى كان في جيبه ثلاثمائة دولار ربحاً صافياً ، كان يمشي في شوارع النبطيّة رافع الرأس يوزع سلاماته ذات اليمين وذات اليسار ، متظاهراً بالأهميّة كما يفعل ألمغتربون

تكرّرت سفراته بين لبنان وأفريقيا ، كانت جميعها قفزات في المجهول ، عمله لم يكن شرعياً على الرغم من صغره ، لم يكن لديه رخصة للتجارة ، كان يحصل على فيزا لوقت قصير دائماً ما كان يتخطاه ،
ألغرف في ألفنادق ألرخيصة لم تكن دائماً متوفرة ، لكن رأسماله ألصغير تضاعف بعد أن أقرضته شقيقته ألف دولار وكان مبلغاً كافياً كبداية . لم يكن يجد في جميع سفراته غرفة شاغرة في ألفندق القريب ، عندما لا يجد كان يضطرّ إلى جرّ الشنط عدة كيلومترات حتى يجد غرفة في فندق آخر ، كان يتعب ، لكن مجرّد التفكير في أجرة التاكسي كان يعطيه دفعاً لمواصلة سيره . أحياناً كان يمضي ألليل ساهراً حتّى الصباح واقفاً أمام باب الفندق منتظراً شغور غرفة ، عندما يخرج أحدهم كان يركض إلى داخل الفندق لكي يكون أوّل الواصلين عند شغور الغرفة
كان يعود بعد كلّ سفرة مسروراً ، لقد بدأ بجمع المال ، كان يذهب مسرعاً لمقابلة زوج شقيقته لإعطائه ما جناه ، لكي يحتفظ له به ، كان صهره يقول له : لكي لا تصرف
مالك على أشياء لا فائدة منها أنا أخبّئه لك. فكان يثق به ويعطيه ألمبلغ بدون أي ضمانات ، وكثرت سفراته وكثر المال في يد صهره

إستمرت سفراته لمدّة سبع سنوات بمعدّل سفرة كلّ شهرين ، جمع في هذه ألسفرات مبلغ خمسين ألف دولار أميركي ، كانت ألشقّة ألجديدة وقتها تساوي 35 ألف دولار فقط ، فقال لصهره : آن ألأوان لكي أشتري شقّة وأفرشها ، أجابه : لقد أقرضت مالك لصديق في أزمة وسيعيده لي بعد أشهر ، مرّت ألأشهر ومرّت سنتان كان خلال هذا الوقت صهره يتهرّب من موضوع المال ودفعه ، أخيراً حدّد له موعداً للدفع .

بعد أن تعرف على فتاة جميلة وأراد الزواج بها ، أخذ موعداً من أهلها لكي يقابلا أهله ، ذهب إلى صهره لكي يضعه أمام الأمر الواقع ، لا مجال للتأجيل الآن ، إكتشف بأنه خسر المال في لعب ألقمار .

( كرحلة شبه مُلزمة كان كلّ يوم أو يومين يأخذني في نزهة قصيرة ، يقف قرب مدخل المبنى حيث كان يعطي ماله لصهره بعد كلّ سفرة ، ويقول لي : أكره هذا المكان ، كم كنت مغفلاً ، هنا أعطيته تعب سبع سنين )

أراد صهره أن يجبره على التوقف عن مطالبته بالمبلغ ، توصّل إلى فكرة جهنمية لكي يجعله يتعهد بعدم ألإقتراب منه ، عند عودته من مطار أفريقيا إلى مطار بيروت ، فوجيء بقدوم أمن المطار باتجاهه ،
نظر إلى الوراء ظنّاً منه بأنهم يبحثون عن شخص ما، لكن لا أحد وراءه إذن فهو كان الشخص المقصود ، أوقفوه قائلين له : هناك مذكرة توقيف صادرة بحقك بسبب تهديدك لصهرك بالقتل .كان كلّ ما قدّمه صهره لهم من دليل هو مجرد إتصالات قادمة من أفريقيا بدون أي كلام فيه أي تهديد لحياته ، لكن القانون هو القانون ،هكذا ظنّ صهره أنه بسلطة القانون لن يعود “الهارب” يستطيع الإقتراب منه أو رؤيته

أوقفوه أربعاً وعشرين ساعة على ذمّة ألتحقيق ، فهِمَ ألمحققون لماذا كان صهره يريد ألإستحصال على أمرٍ بعدم ألإقتراب ، وتأكدوا من صحة كلامه ولكنهم قالوا له : ليس لديك مُستند قانوني يؤكد أنك أعطيته ألمبلغ ، لا يمكننا أن نخدمك بشيء ، تعايش مع غلطتك . لم يحصل صهره على ألتعهد بعدم ألإقتراب ، ولم يحصل “الهارب” على ماله
بواسطة القانون ، ولم يحصّله بالقوّة بسبب طبعه ألمسالم فهو لا يؤذي نملة

لكن السماء جاهزة لمعاقبة المجرمين ، وضع صُهره النفسي بدأ بالتردّي من سيّء إلى أسوأ ، بعد أن نصب ما تيسّر له من كلّ فردٍ من العائلة ، أو من كلّ صديق له ، أصبح منبوذاً من ألأقارب والأصحاب ،
لا يحاول حتّى الخروج من منزله ، وقع في الدين والكآبة . مرّ صهره عندي ذات مرّة وقال لي : لقد أسست عدّة شركات فلماذا لا تستثمر أموالاً عندي ؟ ( لم يكن يعلم بأني أعلم بقصّته مع ” الهارب ” ) أجبته : ما دام وضعك قد تحسّن كثيراً كما تقول فلماذا لا تعطي إبن عمّك ماله ؟ مرّت لحظات وهو يفكّر بإجابة مقنعة ، أنقذه وصول زوجته فتوقفنا عن الكلام بالموضوع ، بعدها لم يعد لزيارتي أبداً ، فقد علِم بأنّه مكشوف أمامي .

أراد الهارب تحقيق حلمه بالوصول إلى ثروة متواضعة ، فتابع عمله ، عمل بجهدٍ حتّى أصبح يملك رأسمالاً كافياً لكي يشارك
أحد ألأشخاص في متجره ، ألمتجر الذي كان يحضر له القليل من البضاعة من لبنان ويمضي أوقاتاً فيه أصبح أحد أصحابه . بعد أن أصبح يملك نصف متجر ، غدت إقامته في أفريقيا قانونية ، بعدها إشترى متجراً خاصاً به ، وبدأ يشعر بالراحة النفسية فها هو وبالرغم من الضربة القاسية التي تلقاها من صهره ، عاد ليصبح من أصحاب الأملاك
في كلّ رحلة كان يقوم بها إلى أفريقيا ، كان يزور فندقه القديم البائس ، كان يحب أن يتذكّر الماضي الذي لم يستطع الهروب منه ، كانت الحياة عنده تبدو وكأنها توقفت على أوقاتٍ معيّنة ، أوقاتٍ لم تكن جميلة أبداً ،
يقف أمام باب الفندق ويتذكر إحدى الحوادث التي حدثت معه ، كان يبيع أغراضاً لأحد ألأشخاص عندما أتى ألبوليس بدون سابق إنذار وطلب منه جواز سفره ، ألفيزا التي كان يحملها كانت منتهية الصلاحية قال للبوليس بأن جوازه عند ألأستقبال في داخل الفندق ، تظاهر بأنه ذاهب لأحضاره وركض خارجاً ، شهر البوليس مسدّسه باتجاهه كان بأمكانه أن يطلق النار عليه وأن يقتله القانون يسمح له بذلك ، لكن شيئاً ما ردعه ، ربّما طيبة قلب الهارب أو دعاء ألمحبين له . لقد شعر في ذالك الوقت بأن الحياة قد أعطته عُمراً جديداً . كان يسأل صاحب الفندق القديم عن أخباره ، قال له ذات مرّة : هناك عربي لم يدفع الإيجار منذ عشرة أيام ، أجابه : هذه ثلاثين دولاراً بدل إيجار إثنا عشر يوماً ، قل له بأن لديه يومين لكي يبدأ بالإتكال على نفسه
لا يحبّ نسيان الماضي، شديد التعلّق بالأماكن ، مدرسته القديمة التي تبعد عن النبطية مسافة عشرين كيلومتراً والتي أضحت فيللا سكنية ، كلما يأتي إلى لبنان يزورها من الخارج يومياً ، كان يقف ليتذكر مشهد الحقول المكسوة بالبلان والزعتر الأخضر التي كانت رائحته تفوح في الهواء وتدخل أنفه فتشعره بالجوع ، كما في كلّ سنة كان يذهب مرّة إلى ألفندق ألقديم في أفريقيا يعطي ألعامل نقوداً فقط لكي يفتح له باب غرفته القديمة ، يتأملها ، يلقي بنفسه على السرير غير مريح ، تدمع أعينه ثم يرحل

في لبنان إشترى شقّة وفرشها ، ينام فيها أحياناً ، لكنه ، لا يريد الإستقرار ، يعشق الهرب ، يهرب من شقّته ، من أهله ، من أصدقائه ، لا يعرف ماذا يريد .
إشترى شقّة ثانية أيضاً ، لكنه لم يسكن فيها ، يريد أن يشعر فقط بأنه يملك الكثير من الأماكن للمبيت ، يلازمه الخوف من التشرّد ، يحمل مفتاح بيت أهله ، ومفتاح منزلهم في
القرية ، ومفتاحي الشقتين ، لكنه يريد المزيد ، إنه خائف ، إنه يرتجف ، إنه هارب …
بدأ أهله وأقرباؤه ومحبّونه من أصدقائه يلحون عليه بشأن زواجه قائلين له : لم يعد ينقصك شيء ، عمل لديك والشقّة موجودة ، ولديك المال ، ولم تعد صغيراً ، يجب أن تتزوّج في أسرع وقت .كان يبحث عن فتاة للزواج ، لكنه في كلّ مرّة كان يتراجع خطوات إلى الوراء قبل إتمام الموضوع ، دائماً حجّته كانت : لقد تعرّفت على أفضل منها بكثير ، أو لم تعجبني ، لم يكن يريد الإرتباط إنما كان يفعل ذلك لكي يكفّ من حوله عن نصحه .لقد أراد ولمرّة واحدة أن يتزوّج ، وقتها حطّم له صهره حلمه عندما إستولى على ماله ، أصبحت فكرة الزواج عنده هي فكرة حزينة لإرتباطها بمصير ماله
والفتاة التي أعجبته بشدّة تزوّجت شخصاً غيره كان قادراً على دفع مصاريف الزواج

كان يخاف أن يصبح أباً كوالده الذي كان دوره تأمين الغذاء والملابس للأسرة ، لم يكن يظهر حناناً تجاه أحد ، لذلك كان يحسّه جامداً ، لم يعانقه مودّعاً خلال سفراته العديدة ولو لمرّة واحدة
لذلك يخاف من الزواج أو الإستقرار ، لقد وُلِد ليكون هارباً ..

تمّت … 

تاريخ النشر : 2020-09-05

guest
63 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى