أدب الرعب والعام

الوداع يا صديق

بقلم : نبيل بن عيسى يحيى – الجزائر

هناك خلف تلك الشجرة يلوح لي بيده الجاحظ ذا الثوب الممزق
هناك خلف تلك الشجرة يلوح لي بيده الجاحظ ذا الثوب الممزق

 
– سامي هل يمكنك ولو لمرة أن تضع ذلك الهاتف جانباً وتصغي إلى ما سأقوله ؟.
– استطيع سماعك بدون أن أنظر اليك ، تعرفين هذا ، لستي غبية : (سامي و هو منهمك باللعب في هاتفه).

– سامي تكلم باحترام مع أمك.
– فقط ركز على قيادة السيارة أستطيع التعامل معه.
– سامي أنت معاقب أعطني الهاتف الأن.
– لكن الرحلة تستغرق ثلاث ساعات ، ما الذي سأفعله في هذا الوقت ؟.
– حسناً هذا وقت كاف لتتعلم كيفية الحديث مع والدتك أليس كذلك ليلى ؟.
– يحتاج هذا البربري إلى أكثر من ثلاث ساعات ليتعلم آداب الحديث.
 
– فقط اغلقي فمك لا أريد بدا مشاجرة معك.
– كلم أختك باحترام و إلا لن ترى هذا الهاتف في حياتك مجدداً.
– لم لا تحترمني هي أيضاً ؟.
– حسناً لنرى لماذا ؟.
لأنك غبي ولأنك أيضاً شقيقي الأصغر.
– ليلى اصمتي رجاءً.
كلاكما اصمتا.
– حسناً ، هدوء جميعاً ، سأتوقف هنا عند محطة البنزين لأشتري أنا و أمكما بعض الحاجيات ، لا تفعلاً شيئاً حسناً.
 
***
 
خرج والداي من السيارة متوجهان نحو المحل بينما أبقوني هنا مع أختي ، و قد تتساءلون إلى أين نحن ذاهبون ؟ سأخبركم.
 
نحن متوجهون نحو منزل جدي وجدتي الذي يقع في الريف ، والذي بصراحة امقته بشدة لأن المكان هناك ممل جداً ، إضافة إلى أن جدي من ذلك النوع الذي يحسب نكته مضحكة جداً بينما هي عكس ذلك.
أما جدتي فهي لا تتكلم رغم أنها كانت تفعل في الماضي ، من يعلم ربما يرجع ذلك لكونها مسنة ، ولكن المشكلة هنا ليس جدي ونكته السمجة أو جدتي غريبة الأطوار ، المشكلة في المنزل نفسه فهو مخيف جداً خصوصاً و أنه يشبه تلك المنازل القديمة المهترئة في أفلام الرعب.

و رغم أنني لا أؤمن بالماورائيات وتلك الأمور إلا أنني أقسم أن ذلك المنزل به خطب ما ، فحالما تدخله تنتابك مشاعر سلبية وإحساس بالخوف أو على الأقل ذلك ما يحدث لي كل ما وطئت قدماي ذلك المكان.
إضافة إلى عدم وجود الجيران وعدم وجود إشارة المكان بارد جداً .
باختصار المكان هناك جحيم ، لكن و رغم ذلك تتلهف أمي للذهاب هناك كل عطلة ، و بالحديث عن أمي ها قد عادت رفقة أبي لنكمل رحلتنا.
 
***
 
وصلنا أخيرا وكان جدي واقفا عند باب المنزل ليرحب بنا مثل كل مرة
أنزلنا أمتعتنا و سلّمنا عليه ، ثم توجهنا إلى غرفة المعيشة لنجد جدتي في مكانها المعهود جالسة فوق كرسيها الهزاز المهترئ بجانب النافذة وهي تنظر بعينين فارغتين إلى لا شيء.
 
ذهب الجميع ليسلم عليها عداي أنا ، لأنني في أخر مرة قمت بذلك قامت بعضي ومن وقتها قطعت وعداً أنني لن اقترب منها أبداً لأنها مختلة بكل معنى الكلمة.
 
شارفت الشمس على الغروب فبدأت أمي بمساعدة أختي بتحضير الطعام بينما اتجهنا أنا و أبي و جدي نحو الغابة المجاورة للمنزل لكي نتنزه إلى أن يحين موعد العشاء ، فكان أبي و جدي يتكلمان حول ما يتكلم عنه البالغون عادةً ، الطقس والسياسة والرياضة ، دون نسيان نكت جدي وقصصه التي لا يستغني عنها في أحاديثه.
 
توجهت نحو بحيرة قريبة من هناك وجلست تحت أحد الأشجار أتأمل المنظر إلى أن لفت انتباهي شخص واقف في الضفة الأخرى من البحيرة ، كان متكئاً على أحد الأشجار وكانت ثيابه قديمة ورثة
 
لوّحت له بيدي ملقياً عليه التحية فلوح لي بدوره
، ثم قام بحركة بيده فهمت منها أنه يريدني أن اذهب عنده ، لكن الظلام كان قد حل فاعتذرت له وتحججت بأن أبي يناديني ، فعاد بأدراجه للوراء ثم استدار بطريقة غريبة و ذهب.
 
كان موقفاً غريباً جداً لذلك عدت أدراجي أناً أيضا وتوجهت نحو المنزل ، وعندما وصلت وجدت طاولة العشاء جاهزة.
أنهينا طعامنا ثم سهرنا ندردش حتى منتصف الليل عندها توجه كل منا إلى غرفته ، بحيث أمي و أبي في غرفة واحدة بينما شاركت الغرفة  أيضاً مع أختي ، أما جدي وجدتي فهما لا ينامان مع بعض في غرفة واحدة منذ أصبحت جدتي لا تتكلم.
 
شخّص الأطباء حالتها بأنها تعرضت لصدمة لذلك امتنعت عن الكلام و عن أي شيء أخر ، و هذا ما نفاه جدي بحجة أنه معها طوال الوقت ويأخذها معه أينما ذهب ، وهنا استنتجت أن جدي إما مهمل أو أنه يخفي الحقيقة.
 
استلقيت في سريري ملتحماً بالبطانية السميكة والناعمة مستسلماً للنعاس إلى أن جاء نداء الطبيعة ، وأعني بنداء الطبيعة أنه علي التبول في هذا التوقيت اللعين في حين أن الجميع غارق في النوم الأن.
 
نزلت السلالم بخطوات متسارعة نحو الطابق السفلي حيث يوجد المرحاض ، و من شدة غفلتي نسيت إنارة المكان فتعثرت وسقطت بقوة فرحت أتخبط من على السلالم إلى أن وصلت أخيراً إلى الطابق السفلي ممداً على الأرض.
عندما رفعت رأسي في ذلك الظلام الذي يتخلله ضوء خافت من القمر بدأت أرى كل شيء مضاعفاً إضافة إلى صداع في الرأس و ألم لحق بكل جزء من جسمي.
 
توجهت نحو المرحاض بخطوات مثقلة ممسكاً برأسي حتى وصلت ، لكنني وجدت ضوء يخرج من فتحة الباب السفلية ، مما يعني أن أحدهم هنا ، فكان علي الانتظار ، لكن صبري نفذ لأنني بقيت واقفاً هناك لما يقارب العشر دقائق ، فاضطررت لدق الباب لكنني انتظرت عشر دقائق أخرى مما اضطرني مرة أخرى لدق الباب أقوى هذه المرة والطلب من أياً كان في الداخل أن يسرع قليلاً ، لكنني لم القى أي جواب مما جعلني أظن أن جدتي هنا ، لكنني نفيت هذا لأن جدتي لا يمكنها المشي لوحدها.
 
فقدت الأمل وخرجت إلى الحديقة الأمامية لأتبول تحت شجرة ما ، و بينما أنا أفعل ذلك نظرت للأمام
، تباً لقد أجفلت ، لقد كان ذلك الغريب الذي التقيت به في الحديقة وقد كان يقف قبالتي على بعد خمسة أو ستة أمتار تقريباً.
 
قلت و أنا أرتب نفسي : تباً ، لقد أخفتني يا رجل ما ، الذي تفعله هنا في هذا الوقت ؟.
لم يجبني فقط اكتفى بالنظر إلي بعينيه الجاحظتين بينما يتقدم نحوي ببطء و أنا لا أبالغ عندما أقول بان هذه اللحظة هي اللحظة الأكثر رعباً في حياتي.
 
أصابني الهلع بينما رحت أعود أدراجي للوراء متعثراً بالحجارة اللعينة ، ثم انطلقت أعدو نحو باب المنزل بأقصى سرعتي حتى وصلت ، ففرحت و أغلقت كل الأصفاد بهستيرية بينما كنت ألهث بشدة
 
، أسرعت نحو السلالم و بينما كنت ماراً على الحمام صُعقت لما رأيته ! لقد رأيت جدتي وهي خارجة من الحمام بينما تدندن بصوت خفيض أغنية شعبية ما ، و لكنها عندما رأتني تجمدت ملامحها وتوقفت عن الغناء ، أقسم أن تعابير وجهها جعلت قلبي يخفق حتى أحسست أنه سينفجر.

انطلقت اجري بكل ما أوتيت من سرعة فوق السلالم وعندنا نظرت خلفي وجدتها لا تزال واقفة هناك ، اتجهت نحو غرفة نومها وهنا كانت المفاجئة ! وجدتها في سريرها نائمة بكل هدوء ، تباً ، أعتقد أنني سأُجن لأن ما رأيته الأن لا يُصدق ، أشعر و كأنني في فيلم رعب لعين ، بقيت في الغرفة واقفاً أدور و أدور حول نفسي و لأول مرة أشعر بأنني غير قادر على التفكير و كأن عقلي توقف عن العمل ، لم استوعب ما حدث لي للتو ، فظننت لوهلة أنني أحلم ، لكن ألم راسي جعلني أعدل عن تلك الفكرة لأنه من المستحيل أن تشعر بالألم و أنت في حلم.
 
توجهت إلى غرفتي ولكنني لم أجد أختي هناك ، إلى أين قد تذهب في هذا الوقت من الليل ؟.
اتجهت نحو غرفة أمي و أبي و لكني لم أجدهما هناك أيضاً ، وهنا سقطت خائر القوى على تلك الأرض الخشبية.

تباً بدأت أُجن حقاً ، كما أن ألم رأسي يزداد ، أشعر أنه سينفجر.
هل سمعت هذا ؟.
أسمع أصوات ، نعم أنني أسمع أصواتاً ، إنها مألوفة جداً أسمعها ولكن منخفضة جداً بحيث تكاد تكون أشبه بهمسات تحت الماء.
مهلاً عرفت لمن هذه الأصوات ، إنها لأفراد عائلتي ، نعم ، أنا متأكد من ذلك ، تباً يبدو وكأنهم ينادونني.
– هيا أنجدوني أنا هنا… هل تسمعونني ؟ أنا هنا… أنا هنا ، بدأت أصرخ بصوت عال يكاد يوقظ مدينة بأكملها .
نظرت إلى النافذة وقد كان ذلك الفتى الجاحظ ذو الثياب الرثة يطل منها مبتسماً.
 
-حان وقت الاستيقاظ يا صديق ، قال
 
***
– سامي حبيبي استيقظ ، هيا استيقظ يا بني.
– أمي لقد بدا بفتح عينيه.
جدي اتصل بالإسعاف فوراً.
– أنا أحاول ، لكن الإشارة ضعيفة.
– سامي عزيزي ها قد استيقظت ، احكي لي ماذا حدث لك يا بني ؟ لقد وجدناك ممداً أمام السلالم ، لا بد من أنك تألمت من شدة الضربة.
– بالتأكيد فعل فقد وعيه على إثرها ، لا بد اأن ذلك ما حصل.
– والدك هنا يا بني تماسك ، سأحملك للسيارة ، أبقى معي ، لا تنم بني سنذهب للمشفى.
– لا باس يا أبي إنها ليست مؤلمة كثيراً بقدر قبضتك.
 
أطلق أبي ضحكة طويلة سعيدة بأنني أتكلم أخيراً بينما وُضعت في السيارة على المقعد الخلفي بجانب النافذة حيث رحت أتأمل الوجوه القلقة وهي تودعني ، و خلف تلك الوجوه كان هناك ، نعم هناك خلف تلك الشجرة يلوح لي بيده الجاحظ ذا الثوب الممزق.
اسم مضحك لكن يروق لي ، و لا بد أنه يروق له لأنه يبتسم لي الأن.
 
الوداع يا صديق…..
 
النهاية……

تاريخ النشر : 2020-09-07

guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى