أدب الرعب والعام

الكاتب

بقلم : بشاير ملا – المملكة العربية السعودية

رغم أنها أول جريمة قتل لي لكن لا بأس بذلك سأجد حلا بالتأكيد
رغم أنها أول جريمة قتل لي لكن لا بأس بذلك سأجد حلا بالتأكيد

 
أحضرت لي مدبرة المنزل الجريدة حتى أقوم بقراءة الخبر الذي كتب عني فيها ، لم أكن من محبي قراءة الجرائد ولن أكون قط ، ومدبرة المنزل تعرف ذلك جيداً ، لكن – بصراحة – كان الأمر يستحق أن تقوم بإزعاجي وقت عملي.
كان عنوان الخبر :
شكوك حول رواية ” دموع القمر “.
 
وصلت صباح يوم أمس رسالة من أحد قراء الجريدة ، وبناء على رغبة المرسل فلن نقوم بكتابة اسمه ، نكتفي بعرض الرسالة التي قام بكتابتها و أرسالها إلى جريدتنا :
( أريد أن أوجه رسالة إلى كاتب ومؤلف رواية ” دموع القمر ” ، أقول له ، هل تظن فعلاً أن أمرك لن يكشف ؟ هل تظن فعلاً أن لا أحد سيعلم بأنك مجرد شخص مدعي باحث عن الشهرة ؟.

هل تظن فعلاً بأنك بتغييرك للقليل من الأحداث بأننا لن نعرف أن هذه ليست قصتك في الحقيقة ؟ ، أنا أعلم جيداً أن هذه ليست قصتك ، كيف علمت ؟ علمت لأن هذه القصة بأكملها تدور حول شقيقي الأكبر الذي توفي قبل عدة أسابيع ، و لا أنا لا أتوهم ذلك ، لكنني أريد فقط أن أسألك سؤالاً واحداً ، كيف علمت هذا الكم الهائل من التفاصيل التي لا يعرفها حتى أقرب أصدقاء أخي ؟ ليس اعتراضي أنك قد قمت بفضح أسرار أخي الأكبر بعدما توفي ، إنما اعتراضي هو أنك تدعي – و لا زلت – أن هذه الرواية من خيالك الخاص وأنها ليست مقتبسة – بل منسوخة – من حياة أخي ،

بإمكاني أن الشيء الوحيد الذي قمت بإضافته – أو تغييره – هو أسماء الشخصيات وقد قمت بإضافة القليل من ” البهارات ” حتى لا يتم كشفك ، ولكنني قد فعلت ، والآن الكرة في ملعبك أيها الكاتب المدع أنت تعرف ما عليك فعله ).

كان هناك المزيد من الكلام المكتوب بالأسفل ، و لكنني كنت قد فقدت رشدي تماماً ، لهذا فقد أغلقت الجريدة ، و رميتها على أقرب حائط ، ما كل تلك السخافات ؟ كيف يمكن لجريدة محترمة كهذه أن تسمح بنشر مثل ذلك الهراء ؟ ، لا بد أن أتخذ أجراء ما ، أرفع قضية ، لكن على من ؟ على من قام بإرسال الرسالة ؟ أو من قام بنشرها ؟ وبهذه الحالة هي الجريدة ؟ لا ، لن أقوم بفعل ذلك في الوقت الحالي ، أنا أعرف صاحب الجريدة جيداً ومتأكد من أنه سيقوم بمساعدتي ، لا بد أن هذا الخبر قد نُشر من دون علمه ، لا أعلم كيف ولكنني متأكد من ذلك جيداً ، من المستحيل أن يقوم بشيء كهذا.
بدلت ملابسي وخرجت بأقصى سرعة.

عندما وصلت إلى مقر الجريدة كان كل شيء هادئاً بشكل كبير ، لكنهم حين رأوني أدخل المكان مثل ثور هائج توقفوا عما كانوا يقومون بفعله و توجهوا بأنظارهم نحوي.
كان المدير مشغولاً بمكتبه الذي يكشف كل شيء أمامه ؛ لذلك لم ينتبه لدخولي.
دخلت المكتب دون استئذان ، و قمت برمي نسخة من الخبر الذي قمت بقصه من الجريدة.
” هل لي أن أعرف ما هذا ؟ ” سألته بغضب ، بدا و كأنه لم يفهم ما أرمي إليه ، لكن بعدما قرأ الخبر ” ولكنني أخبرتهم ألا يقوموا بنشر هذا الخبر ! كيف حدث ذلك ؟ أنا أقرأ العدد بنفسي قبل أن يتم نشره ! “.

” حسناً ، من الواضح أنك لم تدقق جيداً هذه المرة يا عزيزي ، أذن لقد وصلت هذه الرسالة إليكم بالفعل و قد قمت بقراءتها “.
” هذا صحيح ، وأتذكرها جيداً ، لكنني أتذكر أيضاً أنني قمت برميها في سلة المهملات بعدما قمت بتمزيقها “.
” الواضح أن أحد الموظفين لديك يحب تجميع الأوراق الممزقة وإلصاقها مجدداً “.
ظل يردد مراراً وتكراراً ” هذا غريب ، لقد مزقتها بنفسي ، أقسم لك بذلك “.
” بما أنك قد قمت باستلامها ، هل تعرف من هو الشخص الذي قام بإرسالها ؟ “.
” لا ، أذكر فقط أن صبياً في العاشرة من عمره دخل إلى مكتبي وأخبرني بأن صاحب الرسالة يريد مني نشرها في الجريدة “.
” هل استعلمت منه عن هوية كاتب الرسالة ؟ “.

” لا ، لقد أعطاني إياها ومن ثم جرى خارجاً ، و كأنه لا يريدني أن أسأله أية أسئلة “.
صمت قليلاً محدقاً في الخبر من ثم رفع رأسه قائلاً ” هل أنت متأكد من أنك لا تعلم من هو كاتب الرسالة ؟ مكتوب هنا أن الكاتب هو شقيق البطل ، أعني في الحقيقة “.
نظرت له مندهشاً وقلت ” هل تصدق هذا الهراء المكتوب ؟ ، هل فعلاً تصدق أنني لست الكاتب الحقيقي لهذه الرواية وأنني لم أفعل شيئاً سوى أنني قمت بدور الآلة الكاتبة ؟ “.
” أنا لا أقصد ذلك بالمرة ، لكن أنت تعلم في بعض الأحيان تخطر ببالنا أحداث نظن أنها ليست سوى أحداث غير حقيقية وأنها من وحي خيالنا فقط ، لكنها في الحقيقة أحداث عشناها من قبل أو أننا سمعناها من أشخاص نعرفهم ، لكننا نسيناها مع مرور السنين ، وقد يكون هذا ما حصل لك بالفعل “.

غضبت منه كثيراً ؛ لذا سحبت القصاصة من يده ونهضت قائلاً بغضب ” أظن أنني لا أفعل شيئاً سوى تضييع وقتي هنا ، لهذا أقول لك من الآن ، إما أن تقوم بنشر خبر ينفي هذا الخبر ، وإما أنك سترى خبر إفلاسك وإقفال هذه الجريدة في أقرب وقت ممكن ، أو أن تقوم بإعطائي المعلومات التي تخص مرسل هذه الرسالة ، حتى أذهب بنفسي وأتفاهم معه ، فكر جيداً ، وأعطني جوابك سريعاً “.

قمت بصفع الباب من خلفي ، ولو أنني كنت أكثر قوة ، لكان الزجاج قد انكسر ، لكنه لم يفعل ، طبعاً كان صوتي عالياً ، وبالطبع قد سمع الموظفون كل الحوار الذي دار بيني وبين مديرهم ، لكنهم يدعون أنهم لم يقوموا بذلك.
لقد تعكر مزاجي بما فيه الكفاية لهذا اليوم ، سأذهب لشرب كأس من الشاي مع صديقي العزيز ومن ثم سأعود للمنزل.

لقد شربت الكثير من أكواب الشاي ، حتى أنني توقفت عن العد بعد الكوب الثالث ، لكن الخلاصة أنني لم أخرج من عنده إلا بعدما حل الظلام ، دعك من أنني قد قصدت فعل ذلك ، من المستحيل أن يكون هناك أي صحفي حتى هذا الوقت أمام المنزل ، إن المكان الذي كنت جالساً فيه كان آخر مكان من الممكن أن يفكر فيه مخلوق حي.

لقد صرفت السائق منذ زمن ، إنه كبير في السن ومن المستحيل أن يتحمل كل هذا الوقت في هذا الزمهرير ، لحسن الحظ أن منزلي كان قريباً ، خمس دقائق مشياً على الأقدام.
في الطريق إليه اتصلت على مدبرتي المنزلية ، أستفسر منها إن كان هناك أي شخص أمام المنزل ، وقد أخبرتها أن تقوم بتسخين طعام العشاء لي ، لم أكل منذ الصباح تقريباً ، و أول ما دخل جوفي كان العديد من أكواب الشاي ، لا أظن أنها افتتاحية مناسبة لمعدتي.
عندما وصلت المنزل كان العشاء موضوعاً على طاولة الطعام ، وأظن أن المدبرة المنزلية قد رحلت إلى منزلها القريب من هنا ، هذا جيد ، لأنني سأتناول الطعام ، من ثم سأصعد لأبدأ رواية جديدة ، لقد خطرت لي فكرة رائعة .
صعدت الغرفة و بدأت الكتابة ، ما لا يعرفه الكثيرون أنني لا أكتب أو لا أستطيع الكتابة إلا على آلتي الكاتبة ، نعم ، تخيلوا ذلك ، في هذا العصر و لا زالت الآلات الكاتبة موجودة إلى يومنا هذا ، صحيح أنها تصدر أصواتاً عالية ، ولكنني أحبها كثيراً .
الغرفة التي أقوم بالكتابة فيها تعزل الأصوات ، بحيث لا أحد يسمعني ، و لا أنا أستطيع سماع أحد من الخارج.

كنت قد كتبت قرابة الثلاث صفحات من بداية الرواية ، حينما شعرت بالعطش فجأة ، وكالعادة نسيت أن أحضر معي كوب ماء لأضعه بجانبي في حال شعرت بالعطش ، وحتى لا أضطر لترك مكاني.
نزلت أول درجة ، هناك أصوات في الطابق السفلي ، هناك شخص ما بالمنزل وأنا متأكد من ذلك.
أنا وحدي ؛ لذلك من غير الطبيعي أن تكون هناك أي أصوات إذا لم أكن أنا مصدرها ، مدبرة المنزل في بيتها ، وقد تأكدت من ذلك ، الحارس لديه غرفة خاصة به بالخارج.
عدت أدراجي باحثاً عن شيء يصلح كسلاح للدفاع عن النفس ، أعتقد أن الوقت قد حان قد أتعلم بضع حركات للدفاع عن النفس.
وجدت سكينة المطبخ موضوعة بجانب السرير ، إنها موجودة هنا منذ أيام ، ولا أعرف لماذا لم ترجعها المدبرة حتى اليوم.
كانت مناسبة تماماً.

نزلت الدرج ، درجة ، درجة ، وعندما حطت قدماي على الأرض أخيراً اختفت الأصوات ، إما أن المقتحم قد اكتشف أنني قد اكتشفت أمره ، وإما أنني كنت أتخيل الموضوع منذ البداية.
اذا كان هناك شخص بالفعل فعلى الأغلب أنه قد اختبأ لحين عودتي إلى الأعلى ، ولا يوجد أي مكان للاختباء سوى في المطبخ.
مشيت بهدوء نحو المطبخ ، مددت رأسي ببطء ، لم يكن هناك أي شيء غير عادي ، وعندما أدرت ظهري ، أو عندما كدت أدير ظهري ، لم أشعر إلا بشيء ثقيل يحط على رأسي ، ولم أشعر بعدها بشيء سوى الألم الشديد ، لم أستطع أن أرى أي شيء ، الشيء الوحيد الذي رأيته كان ظهر ذلك المقتحم بينما هو يفر هارباً.

…….
اليوم كان حافلاً بالعديد من الأحداث ، أهمها أن ذلك الكاتب الذي تم نشر رسالة موجهة إليه من أحد الأشخاص ، قد جاء إلى مقر الجريدة ، دخل علينا وكأنه ثور هائج يبحث عن فريسته ، اتجه مباشرة نحو مكتب مدير الجريدة الذي كان صديقه كما هو واضح ، ومن الواضح كذلك أنه قد جاء يعاتبه على نشره لتلك الرسالة ، و واضح كذلك أن المدير لم يكن يعلم بشأن تلك الرسالة شيئاً ، و حتى أكون واضحاً فقد قام المدير بقراءة الرسالة من ثم قام بتمزيقها و رميها في سلة المهملات ، طبعاً كان هذا أمام ناظري أنا.

غلبني الفضول ، فانتظرت حتى خرج المدير من مكتبه لبعض الوقت ، واتجهت أنا وقمت بالتقاط كل قصاصات الورق التي كانت في سلة المهملات ومن ثم قمت بإلصاقها مع بعضها ، استغرقني الأمر بعض الوقت والجهد ، لكن لا بأس بذلك ، بالنسبة لي كان ذلك ظلماً ، ظلماً للذي قام بكتابة الرسالة ، الذي قام بائتماننا على نشر هذه الرسالة على جريدتنا ، ولكنها لن تُنشر فقط لأن صاحب الجريدة يعرف الكاتب ، لكن لا بأس بذلك ، ما دامت الرسالة عندي فبإمكاني أن أقوم بنشرها ، غالباً يقوم المدير بتكليفي بالمراجعة النهائية ، لكن ذلك يحدث غالباً عندما يكون منشغلاً بأمور أخرى ، أو بكتابة مقالات للعدد التالي من الجريدة ، لنكتفي فقط بالدعاء بأن يكون هذا اليوم من الأيام التي يكون منشغلاً فيها.

وقد كان ذلك بالفعل ، كلفني بالمراجعة النهائية ، طبعاً قبل أن أقوم بالمراجعة ، قمت بإضافة الرسالة المكتوبة كما أرسلت بالضبط.
كنت أراقب ما يحدث بين الكاتب و بين المدير ، كان من الواضح أن الكاتب يستفسر من المدير عن سبب نشره لتلك الرسالة ، و قد كان يفعل ذلك بانفعال،  لكنه كان يحاول قدر الإمكان إبقاء صوته منخفضاً ، وقد كان المدير يحاول تهدئته ، لكن سرعان أن اشتعل الحوار بينهما ، وقد كان صوت الكاتب هو الأعلى طبعاً ، أظن أنه كان يهدد بإغلاق الجريدة أو شيء كهذا.

كنت متوقعاً أن تتم هذه الزيارة عاجلاً أم آجلاً ، لكنني لم أكن أعلم متى ؛ لهذا فقد قمت بتجهيز أغراضي ، بحيث أكون مستعداً بمجرد خروج الكاتب للحاق به ، و في نفس الوقت كنت أريد الهروب من مواجهة المدير ، لست مستعداً بعد للكذب عليه ، ناهيك عن أنني لم أجد بعد حجة مناسبة أو كذبة مناسبة حتى أقولها له ، لا بأس بذلك ما يهمني الآن هو مراقبة هذا الشخص.

لماذا أريد مراقبته ؟.
يا له من سؤال وقح ! أنا صحفي ، وقد أصبحت كذلك لأن هذا الشيء الوحيد الذي يبرر للإنسان كونه فضولياً ، أنت لا تستطيع أن تخبر صحفياً ألا يتدخل فيما لا يعنيه ، فهذا عمله في المقام الأول ، معرفة ما يجري من أحداث.
و قد كانت هذه فرصة ذهبية لي لمعرفة ما يحصل حقيقة ، الرسالة قد أثارت فضولي ، وكل ما كنت أريد معرفته هو مراقبة الكاتب لفترة قصيرة حتى أشبع فضولي فقط لا غير.
عندما رأيت الكاتب يقف منفعلاً ، وقفت أنا بدوري متأهباً للحاق به ، كنت أجهز كذبة ممتازة في حال سألني لماذا أقوم بملاحقته ؟ لكنه لم يفعل .
كانت سيارته بانتظاره أسفل المبنى ، و قد كانت سيارتي خلف سيارته بالضبط ، هذا جيد ، سأمثل أنني أبحث عن شيء ما في سيارتي بينما تتحرك سيارته ، و من ثم تبدأ المطاردة.
و قد نفذ السيناريو كما خططت له تماماً.
كنت قد تركت مسافة آمنة بيننا ، بحيث لا يلاحظني ، لكن في نفس الوقت بإمكاني أن أعرف أين يتجه.

كان المكان الذي اتجه إليه أخر مكان ، من الممكن أن أتخيله قط ( المقابر ) ، حسناً لا أظن أن هذا المكان الذي تذهب إليه حينما تحتاج إلى الاسترخاء أو حينما تحتاج إلى الانعزال عن البشر ، تُرى هل يزور قبر شخص ما ؟.

لكن ما أدهشني هو أنه أمر سائقه بالذهاب ، هل يخطط للمبيت أم ماذا ؟ ، نزلت من السيارة بهدوء ، وبدأت المشي خلفه ، إنه يتجه نحو غرفة حارس المقبرة ، ها هو يسلم عليه وكأنه صديق قديم ، حسناً يبدو أنه كذلك بالفعل ، دخل الحارس وغاب لدقائق معدودة ، وعندما خرج كان بيده إبريق شاي وكرسيان ، وضعهما أمام الغرفة ، وجلسا ، وبدآ بالتحدث ، لكنني للأسف لم أستطع سماع حرف واحد مما كانا يقولانه ، ظننت أن الزيارة ستنتهي قريباً ، لكنني كلما شعرت بأن الكاتب سينهض ، فإنه يصب لنفسه كوب شاي بعد أخر ،

هكذا إلى أن حل الليل ، لست معتاداً على البقاء في الخارج إلى هذا الوقت ، أنا أنهي عملي عصراً ، وأعود إلى المنزل و لا أخرج بعدها حتى اليوم التالي ، و طبعاً أنا أنام مبكراً ، و قد بدأ النعاس يتسلل إلى عيني ، عندما رأيتهما ينهضان أخيراً و يقوم الحارس بإدخال الكراسي إلى الداخل و يسلم على الكاتب ، استعددت أنا أيضاً للمشي ، لم أعد أشعر بقدمي لذا بدأت القيام ببعض التمارين ريثما يتحرك الكاتب ، لكن ، يا لدهشتي فإن الكاتب انتظر حتى يدخل الحارس إلى غرفته ويغلق الباب على نفسه ، ومن ثم دخل جهة القبور و بدأ المشي من بينها ، وكأنه كان يتنزه في حديقة غناء !

راقبته جيداً من موقعي – رغم أن مكاني كان بعيداً نسبياً و كان الظلام دامساً – إلا أنني لاحظت أنه كان ينحني على القبور قبراً قبراً ، ويتفحص الأسماء على شواهد القبور ، ومن ثم ينهض و قد كرر نفس الشيء مع كل القبور تقريباً ، وعندما وصل إلى أخر قبر ، عاد أدراجه نحو بوابة الدخول ، حيث كنت مختبئاً خلف صخرة.
عند تأكدي من أنه قد ابتعد بشكل كاف ، بدأ المشي خلفه أنا أيضاً ، إما أنه يريد المشي والتنزه و إما أن منزله قريب من هنا ، ولا يحتاج للاتصال على سائقه الخاص ، وقد كان ذلك صحيحاً.

مشينا قرابة الخمس أو العشر دقائق ، من ثم توقف أمام أحد المنازل وقام بإخراج مفاتيح من جيب بنطاله ، إنه منزله بالفعل.
بعدما دخل ظللت أحدق بالمنزل من خلف احدى الأشجار وكنت أفكر ، ما الذي استفدته الأن؟
لم أخرج بهذه المطاردة العقيمة سوى أن الكاتب غريب الأطوار قليلاً – لكنه ليس قاتلاً بالتأكيد – فقط لأن لديه صديقاً هو حارس المقبرة ، وهو يحتسي الكثير من أكواب الشاي ، ويحب قراءة الأسماء على شواهد القبور ، هذا كل شيء ، إما أن يومه لم يكن حافلاً ، وإما أن هذه هي حياة الكاتب الطبيعية والحقيقية.

عندما قمت بإدارة ظهري للعودة إلى سيارتي ، سمعت جلبة ، جلبة كانت قادمة من الداخل ، عندما نظرت رأيت شخصاً يفر هارباً إلى الخارج ، كان يتسلق السور بسرعة مذهلة ، وعندما قفز كانت المسافة بعيدة عن الأرض كثيراً ، لكنني رأيت أن الكاتب قد خرج هو أيضاً من المنزل حاملاً سكينة ضخمة بيده ، كان كلاهما سريعاً ، لكن ذلك المتسلل كان هو المتقدم بطبيعة الحال.
كان يجري بأقصى سرعة لديه ، ولاحظت أنه لم يكن ينظر خلفه ليرى أين وصل مطارده ، الظاهر أنه لا يريد أن يرى وجهه.

كنت واقفاً في مكاني كالصنم لا أعرف ما أفعل هل أمسك به وأثبته ؟ ، هل أضربه ؟ ، هل أتركه يهرب ببساطة ؟ ، اتخذت قراري سوف أقوم بالإمساك به ، حتى يصل الكاتب ويقرر هو بنفسه ما سيفعله به ، لكن ذلك المتسلل قد غير مساره فجأة ، بحيث أصبح بعيداً عن متناول يدي ؛ لذلك لم يكن بيدي حيلة سوى الوقوف كالأبله منتظراً الكاتب الذي كان قد اقترب لحيث كنت واقفاً ، وقد توقف هو بدوره يلهث من كثر الركض الذي لم يجد نفعا بطبيعة الحال ، يبدو أن لياقته معدومة تماماً.

” ما الذي حصل ؟ ” سألته ، ” لص ” ، قالها من ثم بدأ باللهاث مجدداً وكأن ذلك ليس واضحاً للأعمى أيضاً ، كنت أريد أن أقول له ” فعلاً ! كنت أظنك تلعب لعبة المطاردة مع صديقك ! ” لكنني أمسكت لساني في أخر لحظة ، عندما تذكرت أنه دائماً ما كان يتردد على جريدتنا لزيارة المدير ، و لا بد أنه قد رآني في مرة من المرات ، لكن من الواضح أنه لم يتعرف علي.

 قلت له معتذراً ” كنت سأمسك به لولا أنه قد انحرف فجأة ، وأصبح بعيداً عن متناول يدي ” ، أمسك بكتفي بيده ” لا بأس بذلك ، لحسن الحظ أنه لم يستطع سرقة شيء من المنزل ، أظن أنه كان يظنني نائماً ، أو أن المنزل فارغ ” ، ابتسمت بوجهه ثم قلت ” أليس لديك حارس أمن ؟”.
كان قد بدأ لهاثه يخفت تدريجياً ” بلى لدي ، لكنه كبير في السن ، وأظن أنه يفعل مثلما يفعل كل حراس الأمن ، يقوم بكل شيء سوى الحراسة ، والواضح أنه يغط في نوم عميق في هذه اللحظة ، لولا أنه كان معي منذ سنين الصبا لكنت فصلته منذ زمن طويل “.
لم يكن هناك شيء أخر لنقوله ، لم أكن أعرف ما سأفعله تالياً ، هل أتحدث ؟ هل أودعه فقط وأكمل طريقي ؟ ، لكنه – وبكل بساطة – قام بإدارة ظهره لي عائداً إلى منزله ، حسناً ، لقد اكتشفت شيئاً جديداً في هذا الكاتب ، هو أنه قليل الذوق ! لم يقم حتى بتوديعي ولو على سبيل المجاملة !.

في صباح اليوم التالي ، تلقيت اتصالاً من العمل ، يخبرونني فيه أنه يجب علي إيصال ظرف ما إلى دار نشر ، ويجب علي إيصال هذا الظرف على وجه السرعة وإلى شخص بعينه.
المفترض أن تكون المهام من هذه النوعية من اختصاص شخص آخر ، لكن يبدو أن هذا عقاب من المدير ، بطريقة غير مباشرة بسبب خروجي من العمل بالأمس ، أو أنه قد علم أنني من قمت بنشر تلك الرسالة من دون علمه.
لا يهم.
مررت على مقر العمل لأخذ ذلك الظرف ، من ثم اتجهت نحو دار النشر.
في دار النشر كان الوضع  وكأنني قد دخلت إلى خلية نحل لا دار نشر ، الناس يمشون في كل مكان ، تستطيع سماع أصوات الهاتف ، وكأنها أتية من اللامكان ، ومن كل مكان.
سألت عن الموظف الذي أرادوا مني تسليمه الظرف باليد ، فقادوني نحو غرفة للانتظار ريثما ينتهي الاجتماع.

( كمال خالد ) ، كان هذا هو اسم الموظف.
انتظرت قرابة النصف ساعة حتى أتت السكرتيرة وأخذتني نحو مكتب المذكور،
أوصلتني السكرتيرة إلى باب المكتب من ثم عادت إلى مكتبها ، بعدما تركتني وحدي أمام الباب ، طرقته بهدوء ، وحينما سمعت الإذن ، فتحت الباب.
” مرحباً ، أستاذ كما……! ” وصوت الظرف يسقط أرضاً ، لم أستطع حتى إكمال جملتي ، هل تعلمون من هو كمال خالد هذا ؟ ، لا ، إنه ليس مخلوقاً من الفضاء الخارجي ، أتذكرون ذلك المتسلل ؟ نعم ، الذي رأيناه يفر هارباً من منزل الكاتب ، إنه هو بشحمه ولحمه.

كنت أنا ما زلت واقفاً فاغراً فاهي أمام الباب ؛ لذا فقد نهض كمال من كرسيه بسرعة وهم بإغلاق الباب من خلفي.
” من أنت ؟َ ” سألني غاضباً.
” من أنا ؟ ، وماذا عنك أيها المتسلل ؟ ، من تكون ؟ “.
” أعتقد أنك تعرف اسمي جيداً “.
” هذا صحيح ، وأعلم ما هو عملك الحقيقي أيضاً “.
صر على أسنانه بقوة ، لدرجة أنني حسبتها ستتفتت من قوة ضغطه عليها ” ماذا تعني ؟  إن هذا هو عملي الحقيقي ! “.
” حسناً ، بإمكانك أن تفسر لي ما كنت تفعله بمنزل الكاتب في الليل ” نظرت لساعتي ثم قلت ” أمامك عشر دقائق ، إن لم تقم بالشرح خلالها ، فستكون محطتي التالية هي مركز الشرطة “.
شعرت وكأن نيران غضبه قد هدأت قليلا ، من ثم عاد للجلوس خلف مكتبه بهدوء بعد أن قام بدعوتي للجلوس أيضاً.
وضعت الظرف الذي جئت لتسليمه على الطاولة أمامي ، سألني كمال إن كنت أريد أن أشرب شيئاً ؟ فأجبته بالرفض ، قام برفع سماعة الهاتف ” غير مسموح لأي شخص بالدخول حتى أنتهي من عملي الآن “.
بعدما قام بوضع السماعة ، نظرت لساعة اليد مجدداً ” إن الوقت يضيع منك “.
” حسناً ، سأشرح لك كل شيء ، في الحقيقة لقد كنت في منزل ذلك الكاتب ؛ لأنني كنت أبحث عن دليل ضده “.
” دليل ؟ ، دليل ماذا ؟ “.

” لقد علمت أنك قادم من جريدة (….) ، وقد كانت هذه الجريدة هي التي قامت بنشر تلك الرسالة أليس كذلك ؟ “.
” لا تقل لي إنك …”.
” لا ، لست من أرسل الرسالة ، لكن بإمكانك أن تقول أنني أصدق كل كلمة وردت فيها ، لنقل أنني أنا أيضاً قد وقعت ضحية لذلك الكاتب “.
” ما الذي تقصده ؟ هل قام بالكتابة عنك أنت أيضاً ؟ أم قام بالكتابة عن أحد أفراد عائلتك ؟ “.

” لنقل أنه بطريقة ما قد قام بحل لغز جريمة لم تعرف الشرطة الطريق لحلها منذ ما يقارب السنتين حتى الآن ، كما ترى نحن دار نشر ، و وظيفة دار النشر – غير النشر طبعاً – هي المراجعة ، من واجبنا أن نقوم بمراجعة نهائية لكل الأعمال التي سيتم نشرها ، حتى نتأكد من أنها خالية من الأخطاء الإملائية أو أخطاء في القواعد أو تركيب الجمل ، إلى آخره.
و قد كان من حسن حظي – أو من سوئه – أن الكتاب الذي تم تكليفي بمراجعته هو الرواية الجديدة لذلك الكاتب ، و بعدما وصلت لنهايتها ، تأكدت أنها بالفعل تحكي عن شقيقتي الصغرى التي تم خطفها من أمام المنزل عندما كانت تلعب في الحديقة ، لقد كانت في العاشرة من عمرها عندما خُطفت .”

” ربما أنت تتوهم فقط ، قد تكون تلك مجرد مصادفة فقط لا غير “.
” لا أنا متأكد من ذلك ، لا أعلم صراحة إن كان يقصد ذلك ، أم أنه مجرد أحمق لا يعرف كيف يخفي آثار جرائمه ، لكنه في الرواية قام بكتابة عنوان منزلنا ، بالتفصيل الممل ، وقام بالكتابة عن كل فرد من أفراد العائلة ، طبعاً الرواية من المفترض أنها على لسان الفتاة التي خُطفت ، إنه يشبه أسلوبها تماماً ، أنا أعرفها جيداً ، لقد كنت أقضي معها جل وقتي ، لقد كانت تلقب كل فرد بالعائلة بلقب خاص به ، وقد قام ذلك الغبي بكتابة الألقاب دون تحريف “.

” إذن أنت تقول أن الكاتب ليس إلا مختل عقلي ، أو قاتل أو كلاهما ، وهو يقوم بقتل الناس فقط من أجل أن يكتب رواية جديده ؟ “.
” هذا صحيح “.
” لكنك أخبرتني أن شقيقتك قد خُطفت قبل سنتين “
” هذا صحيح ، لكننا لا نعلم متى قُتلت ، نحن في الحقيقة لم نرى جثتها قط بعدما تم خطفها ، لكن المؤكد أنها قد قتلت ، في أحد الأيام جاءت الشرطة إلى منزلنا ، وأخبرتنا أن هناك يداً مقطوعة وجدوها ملقاة في أحد الأزقة ، وقد كانت تعود لشقيقتي”.
” روايته الجديدة تلك ؟ هل هي تتحدث عن كل تفاصيل حياة شقيقتك ؟ “.
” نعم ، أدق التفاصيل ، البطلة في هذه الرواية هي فتاة في العاشرة من عمرها ، تكتب مذكراتها حينما تم خطفها ، و حتى آخر نفس لها “.
” لكن..”.

صوت الباب يدق ، كانت هذه السكرتيرة ، إنها تخبره أن المدير يريده.
” أعتقد أن عليك الانصراف الآن ، لقد وصلت الأمانة التي جئت من أجل تسليمها “.
قالها لي وهو ينهض من كرسيه و يغلق الزر العلوي من قميصه.
أومأت برأسي موافقاً ، لا أظن أنني سأفيده بشيء على أي حال ، ثم ما أدراني أنه لا يتوهم ؟ لا أظن أن بالي رائق لهذا الحد حتى أضيع المزيد من الوقت مع كل هذا الجنون.
سبقت كمال بالخروج من المكتب ، وفي طريقي إلى الخارج رأيت الكاتب وهو يدخل من الباب ، لقد نظر إلى وجهي ، لكن يبدو أنه قد نسيه.
عندما ركبت السيارة ، اهتز هاتفي المحمول معلناً عن وصول رسالة.
خلاصة الرسالة ، أنني في إجازة إجبارية لهذا اليوم ، أعتقد أن المدير غاضب بحق.
ليس لي مكان أذهب إليه ، لهذا فقد عدت إلى منزلي ، واستغرقت في النوم ، وحينما استيقظت كان الليل قد حل بالفعل ، وكان هناك خبر غير سار بانتظاري.
كمال خالد توفي !.

إنها الساعة الخامسة عصراً ، أنا أراقب منزل الكاتب منذ ما يقارب الساعتين ، لقد علمت أن – ولا تسألني كيف – أن لديه تصوير لبرنامج تلفزيوني ، موعده الساعة السادسة ، لكنني هنا منذ الساعة الثالثة ظهراً ، أريد أن أستغل الوقت جيداً ، لا أريد لأي ثانية أن تضيع مني.
ها هو يخرج الآن من منزله ، و من خلفه امرأة كبيرة بالسن – أعتقد أنها مدبرته المنزلية – إنها متجهة إلى مكان أخر ، هذا جيد ، هذا يعني أن المنزل فارغ الآن من أي شخص ، إذن لست مضطراً لاستخدام المخدر الذي أحضرته معي ، وها هو الحارس يدخل غرفته ، وقد نسي الرئيسية مفتوحه.

وكأنني أسمع من يسأل منكم ، كيف ستدخل إلى المنزل ؟.
لحسن الحظ أن هناك عادة مشتركة ، يشترك فيها كل أصحاب المنازل ذات الطابقين فأكثر ، وهي أنهم دائماً ما يتركون النوافذ في الدور العلوي مفتوحه ، ليست جميعها طبعاً ، وإنما ستجد حتماً تلك الغرفة الفارغة التي لا يدخلها أي شخص في العادة ، وتحتاج إلى التهوية من فترة إلى أخرى ، وفي الأغلب تنسى المدبرة إغلاق النافذة مرة أخرى.
ولحسن الحظ أيضاً أن النافذة المفتوحة التي سأدخل منها مطلة على شجرة كبيرة ، وهي قريبة منها ، بحيث بإمكاني تسلقها والقفز قفزة صغيرة إلى النافذة.
وها أنا ذا بداخل المنزل.

الغرفة التي دخلت إليها كانت غرفة مهجورة ، كانت فارغة من أي قطع أثاث.
فتحت الباب قليلاً ، وقمت بإخراج رأسي مسترقاً السمع ، كان المنزل هادئاً ، هادئاً جداً في الحقيقة.
فتحت الباب ببطء محاولاً قدر الإمكان عدم إصدار أي صوت ، ولحسن الحظ أن الباب لم يكن من نوعية تلك الأبواب الحمقاء التي نشاهدها بأفلام الرعب والتي تصدر أصواتاً مريعة حينما نقوم بتحريكها.
خرجت ببطء ، ببطء شديد ، نظرت من حولي متفحصا المكان الذي كنت فيه ، إن الغرفة التي كنت بها هي الغرفة الوسطى بين غرفتين ، الأولى تقع عند رأس السلم ، والثانية في نهاية الممر ، اتجهت ناحية التي تقع في نهاية الممر ، أصغيت السمع ، لا يوجد شيء.
فتحت الباب بحذر ، كانت الغرفة خالية اللهم إلا من طاولة خشبية ملتصقة بالنافذة ، و كرسي دوار ، وفوق الطاولة آلة كاتبه ، غريب أن هناك أشخاص ما زالوا يستعملون الآلة الكاتبة ، والأغرب أن هناك أشخاصاً ما زالوا يصنعونها ، كانت هناك أيضاً مجموعة أوراق مكومة بجانب الآلة.

كان مكتوباً على أول ورقه ( مذكرات ).
” اليوم اتجهت نحو دار نشر وقمت بتقديم أول رواية مكتملة لي ، كنت في غاية السعادة والفخر ، وكنت متأكداً من أنهم سيقبلون بنشرها ، وأنها ستحقق أعلى المبيعات ، كانت هذه أول مرة سأنشر فيها رواية ورقيه ، المرات السابقة قمت بنشر عدة روايات إلكترونية ، لكنها لم تلق نجاحاً باهراً ، لم تعجب الناس كثيراً ، ناهيك عن أنها لم تُنشهر أصلاً ، والعدد القليل من الأشخاص الذين قاموا بقراءتها قد قاموا بالتعليق بأن الرواية سخيفة ، وكم أن طفلاً في العاشرة من عمره لخليق بكتابة أفضل منها بمئة مره ، دخلت في حالة اكتئاب شديدة ، استمرت عدة أشهر ، عدة أشهر لازمت فيها الكتب ، كل يوم كنت أقرأ كتاباً جديداً ، ولا ينتهي اليوم إلا وأنا قد قمت بفتح كتاب جديد ، رفعت هذه العزلة من معنوياتي كثيراً ، من ثم بدأت بكتابة رواية جديدة ، لكن هذه المرة كنت عاقداً العزم على نشرها ورقياً ، وها أنا ذا أمام الناشر ، قرأ عدة صفحات من البداية ، ومن ثم قام برميها بوجهي بكل وقاحة !.

” ما هذا الهراء ؟ ، أنا لم أكمل عشر صفحات وقد شعرت بالملل ! ، لا أحد يكتب في هذه المواضيع في هذه الأيام ، إنها أشبه بحكايات أطفال ! “.
لقد حُسم الأمر أذن ، سألجأ للطريقة التي لم أكن أريد استخدامها ، لكن لا مفر من ذلك بعد الآن.

لم أنطق ببنت شفة ، كل ما فعلت أنني أخذت الأوراق التي تبعثرت على الأرض ، وخرجت متجها نحو منزلي.
اتجهت نحو مكتبتي المنزلية المتواضعة ، بحثت عن كتاب معين ، من الجيد أنني لم ارمه ، لا أعرف صراحة كيف حصلت عليه ، ولا أعرف متى قمت بشرائه ، أظن أنني قد أخذته عن طريق الخطأ من المكتبة القديمة المقابلة للمنزل ، أنها تبيع كل أنواع الكتب التي قد تخطر على بالك وبالطبع منها ( كتب السحر ) !.

رغم أنها مخفية في مكان معزول نسبياً في المكتبة ، إلا أن لها قراءها ، والظاهر أن شخصاً ما كان يتفحص أحد هذه الكتب ، من ثم قام بوضعها مع الكتب الأخرى.
أسم الكتاب هو ( سحر النكرومانسي ) ، لا يوجد أسم للمؤلف.
الكتاب مليء بالرسومات الغريبة ، والكلمات الأغرب ، إنها تعاويذ كما هو واضح ، في أحد المرات قرأت عن هذا السحر ، سحر النكرومانسي ، و يُسمى أيضاً ( استجواب الجثث ) ، أعلم أن جميع أنواع السحر فظيعة و شنيعة ، لكن هذا النوع أفظعها ، وأشنعها ، إنه قائم على أكل الجثث !

لو أنك أكلت دماغ الشخص الميت فإن ذكرياته ستنتقل إليك ، أعلم أن هذا مقزز ، لكنه يعد شيئاً مذهلاً بالنسبة لي !.
تخيل معي ، ماذا لو أنني استعملت هذا السحر ؟ سيكون لدي وقتها العديد من القصص اللامتناهية ، كما أن هناك نقطة أخرى في صالحي ، إن الناس في هذه الأيام لا يحبون القصص الغير منطقية ، أو الغير واقعية ، إنهم يريدون أعمالاً تلامس القلوب ، أعمالاً تلامس واقع أي شخص في العالم ، وأنا للأسف لست بارعاً في هذا النوع من الأشياء ، أنا بارع في الكتابة عن الوحوش ، عن المخلوقات الفضائية ، لكن من فضلك لا تقل لي أن أكتب عن البشر والمعاناة البشرية.

لكن بما أن الطريق قد أوصلني إلى هنا ، أذن فلا رجعة في ذلك ، الجمهور يريد القراءة عن المعاناة ؟  إذن فلهم ذلك !.
وتمت الطقوس ، أول وجبة لي كانت تعود لفتاة قد توفيت قبل يوم ، وضعت منوما في شاي الحارس حتى لا يقوم بإزعاجي من ثم بدأت العمل.
كان مقرفاً ، لكنني منّيت نفسي بالنجاح الباهر الذي سأحققه ، بمجرد أن أنهيت وجبتي صعدت للغرفة ، وبدأت الكتابة ، شعرت بالذكريات تنساب إلى عقلي وتصب في الورقة التي كنت أكتب عليها ، كان الشعور رائعاً ، مختلفاً ، تلك النشوة التي تملكتني حينما انتهيت من الرواية ، كانت لا مثيل لها !

ولم ينتهي الليل إلا وقد أنهيت نصف الرواية بالفعل !
بعد أن انتهيت ، قمت بنشر الرواية إلكترونياً ، وقد حققت نتائج مبهرة من أول أسبوع لها.
في كل مرة كنت أقوم فيها بالنشر كنت أضع يدي على قلبي خائفاً أن يتم اكتشاف أمري على أيد أقارب الأشخاص الحقيقيين الذين كنت أكتب قصصهم ، لكن ذلك لم يحصل لحسن الحظ.
حتى قررت نشر أول رواية ورقية لي ” دموع القمر ” بالنسبة لي كانت هي من أفضل الروايات ، وقد كان من الظلم أن أدفنها وسط عالم شبكة الإنترنت ، يجب أن يقرأها أكبر عدد من الأشخاص ، وقد كان..

لكن للأسف تحققت أكبر مخاوفي وبأسوأ طريقة ممكنه ، قام شخص ما بإرسال رسالة يقوم ب…
….
توقفت عن الكتابة ، أنا أكتب منذ وقت طويل ويجب علي الراحة ، ألا تظنون ذلك ؟ ثم أنني قد شعرت بالقليل من الغيرة ، لقد قضيتم وقتاً طويلاً مع صديقي الصحفي أكثر مني بكثير ، لكنني كنت أريد أن أشعركم بالقليل من الحماسة ، لمعرفة الباقي من المذكرات ، ولمعرفة ما سيحصل بعد ذلك ، ما رأيكم بها ؟ أظن أنها كانت جيدة أليس كذلك ؟.

وحتى لا تشعروا بخيبة الأمل فسوف أقوم أنا بإكمال الرواية لكم ، في الحقيقة ، كان كل الجزء السابق حقيقياً ، ولكن ، وحتى لا أقوم بارتكاب نفس الخطأ الذي ارتكبته مع ” دموع القمر ” فسوف أقوم بكتابة باقي الأجزاء من عقلي ، ومن خيالي أنا.
مسكين ذلك الصحفي ، كان شاباً ويافعاً ، لقد ظن أنني لم ألاحظ أنني اكتشفت أنه كان يقوم بمطاردتي بعد خروجي من الجريدة !.

و قد توقعت منه المجيء بعد سماعه بوفاة ذلك الموظف البائس الذي تسلل إلى منزلي ليلاً !
لا طبعاً ، أنا لم أقتل الموظف ، لقد كان حادثاً ، لكنه حادث صب في مصلحتي ، لا أعلم ما رآه ، ولا أظن أنه قد رأى شيئاً مهماً في الحقيقة ، لكنني غير مستعد للمخاطرة.
أما صديقنا الصحفي العزيز ، فكان من الواجب علي أن أهتم بأمره بنفسي ، لأقول الصراحة ، أنا لم أكن أعلم متى سيأتي ، لكنني كنت متأكداً أنه سيأتي في وقت لا أكون موجوداً فيه ، وفي كل مرة أخرج فيها ، كنت أخبر الحارس أن يترك البوابة الرئيسية مفتوحة وأنه لا داعي لأن يبقى خارجاً ، حتى المدبرة المنزلية كنت أجعلها تعود لمنزلها.

بينما كنت أنا أقف خلف الأشجار أراقب ، بعدما أقوم بصرف السائق طبعاً ، إلى أن رأيت الصحفي وقد تسلل إلى المنزل ، انتظرت حوالي عشر دقائق ، وعندما رأيت أنه لم يخرج بعد ، دخلت ، وقد رأيته واقفا في غرفة الكتابة يقرأ من مذكراتي التي كنت قد نسيت أن أخبئها في مكان آمن ، ولكم أن تتخيلوا ما فعلته بعد ذلك ! لا أعرف صراحة ما سأفعله بباقي جسده ، لكنني بالتأكيد سأتدبر الموضوع ، رغم أنها أول جريمة قتل لي ، لكن ، لا بأس بذلك ، سأجد حلا بالتأكيد !.

النهاية…….

 

تاريخ النشر : 2020-09-17

بشاير ملا

السعودية
guest
9 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى