أدب الرعب والعام

سمفونية مصاصي الدماء

بقلم : كوثر الحماني – المغرب

عيناه الجاحظتين ، وجهه الهزيل نسبيا، شلال الدماء المنهمر من فمه!
عيناه الجاحظتين ، وجهه الهزيل نسبيا، شلال الدماء المنهمر من فمه!

ترجلت من القطار حاملا حقيبتي المرقعة ، ثم سرت مترنحا حتى توسطت ساحة فرانكفورت، توقفت لبرهة و تطلعت إلى السماء الملبدة بالغيوم، ثم أكملت طريقي باحثا عن فندق ألبثه حتى يحل الصباح. تخللت الأزقة الخاوية بمشقة ،لقد كان جدي محقا عندما قال أن فرانكفورت مدينة مهيبة،

مر الوقت و أنا أبحث بلا هوادة، حتى عثرت على نزل متواضع يتماشى مع نقودي القليلة، لقد كان يتكون من طابقين بالإضافة إلى الطابق الأرضي ، لاقاني موظف الإستقبال البدين بوجه مقتضب، و أوصى الأجير أن يوصلني إلى غرفتي في الطابق الثاني ،كنت أتأمل المكان ببلاهة حتى اخترق مسامعي صوت صرير الباب المزعج، دلفت الغرفة بتثاقل كانت صغيرة الحجم أشبه بعلبة الكبريت ، تعج منها رائحة الرطوبة ،لم تعتريني الدهشة قط، فقد كان هذا متوقع من نزل بخس كهذا …

حل الظلام  و كنت في حال يرثى لها من الإرهاق ،الشيء الذي منعني حتى من تغيير ملابسي، إذ ارتميت بجسدي الضئيل على سريري المتهالك ،و دخلت في سبات عميق ، كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل عندما انتفضت من كابوس مزعج، لم أستطع قط أن أتبين ملامحه مجددا، المهم أني اتخذت وضعية النوم مجددا، علي أحظى هذه المرة بأحلام مليحة، لكنني جزعت من صوت يتسرب بليونة من الغرفة المجاورة، و قد كان في حقيقة الأمر مزيجا من ألحان ساحرة ،تميزت بعشوائية جمالية صارخة ، لم أستطع تفرسها بداية بسبب أثار النوم ،لكنني تيقنت في النهاية أنها ليست سوى رائعة باخ توكاتا و فوجا ،سمفونية رائعة تذكرني بطفولتي في القرية و حكايات جدي الشيقة، هو دائما ما كان يعلق بعبارة مألوفة عندما سماعه لها لكنني لم أستطع تذكرها إلا بعد فوات الأوان …

كنت أستمع إلى المقطوعة بخشوع تام ،أغوص في طياتها كلما ازدادت حدتها لكن و مع مضي بعض الوقت تذكرت أنني يجب أن استيقظ باكرا للذهاب إلى مقابلة العمل خاصتي، و فجأة أصبحت موسيقى جدي المفضلة، مجرد ألحان متراتبة تؤرقني في نومتي ،و تشكل مصدر إزعاج تام لي، لذا قررت أن أستجمع رباطة جأشي ،و أذهب إلى هذا النزيل الفظ حتى نصل إلى حل للمعضلة… كان يجب علي أن أصل إلى الغرفة المجاورة التي تقع في آخر الممر ،لكن الإضاءة كانت سيئة للغاية، الشيء الذي جعلني استعين بمصباحي اليدوي…

تقدمت بخطوات ثابتة متزنة، حتى وصلت الغرفة المقصودة و التي كان بابها مفتوحا نسبيا… طرقت بضعة مرات ثم استرسلت بالدخول، كانت الغرفة تقبع في ظلام تام إلا من ضوء المصباح اليدوي، و العجيب أنها كانت على قدر من الفخامة إذ تحتوي على أثاث مهندم بالإضافة إلى جرامافون كان يتوسط طاولة خشبية مزركشة الشيء الذي أضفى عليها لمسة رقي. تجاهلت باقي التفاصيل و رحت أنادي بشيء من السخط “هل من أحد هنا ؟ ” لم يجبني أحد على غير المتوقع … انطفأ الجرامافون فجأة و حل السكون ضيفا سمجا على الغرفة …

كنت عائدا أدراجي بعد ما حصلت على ما أريده دون مشاحنة مع صاحب الغرفة ،غير أن صوت الكرسي الهزاز استوقفني، يبدو أنني لم ألاحظه بسبب صوت الجرامافون الطاغي، أخذت نفسا عميقا و صوبت ضوء المصباح نحو الكرسي، لمحت شخص يجلس هناك أظنه يتأمل ضوء القمر الخافت بسبب الغيوم ، ناديته حتى جف حلقي لكنه أبى أن يجيب، ما جعلني اشعر باستنكار شديد ،إنه لنزيل فظ للغاية لم أستطع أن ألوك سلوكه الغليظ ،لذا تقدمت نحوه و كلي إستعداد لخوض نقاش جاد، لكنه نهض فجأة دون سابق إندار، إنه يتقدم نحوي، لا أدري لما الرؤية أصبحت مشوشة؟؟! حسنا لا أعلم ما سأقول لكن لا أظن أن من يقف أمامي الآن ها هنا كائن بشري، بشرته الشاحبة ، عيناه الجاحظتين ، وجهه الهزيل نسبيا، شلال الدماء المنهمر من فمه … أرجوك يا جسدي إنه ليس الوقت المناسب لفقدان الوعي ، لن أكون كاذبا إن قلت أنني أشعر بكمية الأدرينالين الغزيرة التي تتدفق في جسمي الآن… أسقطت مصباحي اليدوي عن غير قصد من الدهشة، ثم هرولت مسرعا إلى اتجاه غير معلوم، لم أستطع أن ألتقط أنفاسي المتقطعة قط ،حسنا هذا لا يصدق يوجد مصاص دماء في الغرفة المجاورة! …

دخلت غرفتي أحدث نفسي كالأبله، لم أستطع أن ألملم ما حدث مجددا ، جل ما كنت أفكر فيه آنذاك هو أني يجب أن أرحل من هذا الفندق المريب، لم يكن الأمر عسيرا، هذا أني لم أكن قد أفرغت حقيبتي بعد ، تفقدت أغراضي بشيء من التركيز، إلا أنني لم أجد محفظة النقود ، و لأن حظي العكر دائما ما يبرهن عن جدارته تذكرت أني ربما قد أوقعتها في تلك الغرفة الملعونة عندما هممت بالركض خوفا من ذلك المسخ، كنت أقف آنذاك أمام خيارين، إما أن أفر بجلدي فحسب ،أو أن أذهب إلى تلك الغرفة، لأنني و أسرتي بحاجة إلى تلك النقود و لو كانت قليلة …لكن كان علي أن أنتظر شروق الشمس ،علها تعطيني من الطمأنينة ما أحتاجه الآن .

انتظرت حتى توسطت الشمس كبد السماء، ثم ذهبت بخطى مرتجفة نحو المجهول، كانت الغرفة لاتزال تسبح في الظلام ،ما جعلني أنير شمعة و أمسكها بكلتا يداي الهزيلتين ،كانت الغرفة خالية تغوص في صمت عميق جلت أرجاءها أبحث عن المحفظة، إلى أن وجدتها هناك مركونة في زاوية أمام النافدة ،توجهت نحوها بحذر ثم جعلتها في جيبي و أحكمت عليها، كان المشهد يسير بسلام إلى أن أحسست بيد تلامس كتفي، لقد كانت باردة جامدة ،أنا على يقين أن كل ما أحتاج الآن، هو رد فعل سريع و هادف، أبعدت يده بقوة من على كتفي غير عابئ بالجرح الذي خلفه، ثم أسرعت إلى النافذة أفتحها عل أحد ينجدني، إلى أن سمعت صوته الخشين الذي زعزع كياني!! 

– ما الذي تفعله يا هذا سأحترق؟

– نعم … نعم هذا صحيح إنكم لا تحبون أشعة الشمس، لهذا ستحترق الآن يا مصاص الدماء.

– ما الذي تقوله أيها الأهوج؟ هل أنت معتوه؟ لقد دخلت غرفتي بغير إذن هذه المرة أيضا، سأشكوك لصاحب النزل.

– لن يكون هناك وقت لهذا يا صديقي، ستحترق و يتحول جلدك الشاحب إلى لون أسود متفحم بعد قليل .

– (بحدة)قلت لك لا تفتح النافذة … إني أعاني من مرض جلدي يسبب شحوب الجلد لهذا أستعمل مراهم حساسة للضوء أفهمت الآن؟

– و لكن ماذا عن شلال الدماء الذي كان يتسرب من شفتيك ؟ 

– لقد قمت بجرح شفتي عن طريق الخطأ، ثم هل أنت متأكد أنه كان شلال دماء؟؟

– حسنا ربما بالغت في تقديري، بسبب خوفي الزائد أنا آسف سيدي.

-لا مشكلة لكن أرجوك اذهب الآن لقد أزعجتني بما يكفي ..

عدت أدراجي و أنا أحس بأني كتلة غباء… ارتديت ثيابا أنيقة استعدادا للمقابلة، التقيت الأجير عند غرفة الإستقبال ، و أوصيته أن يذهب بفطور جيد لصاحب الغرفة على حسابي، تعبيرا عن غلطتي لكنه استرسل قائلا :

– أظن أن هناك خطأ سيدي ليس هناك نزيل في الفندق غيرك، ثم إن الطابق الذي تلبث فيه يحتوي فقط على غرفتك و غرفة صاحب النزل.

نظرت إلى الأجير بفزع و ركضت نحو الغرفة، و قد تبعني دون أن ينطق بكلمة لنجد صاحب الفندق جثة هامدة ،كنت أرمق المشهد بذهول إلى أن تعالى من الجرامافون لحن أعرفه جيدا، إنها سمفونية باخ توكاتا و فوجا أو كما يقول جدي سمفونية الكونت دراكولا و مصاصي الدماء …

تاريخ النشر : 2020-10-05

كوثر الحماني

ـــ المغرب ـــ للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
7 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى