أدب الرعب والعام

الحطاب

بقلم : عطعوط – اليمن

استوقف الحمار وسأل صاحبه عن سبب جر هذا الصندوق خلف الحمار رد: معروض للبيع إن كنت مشتري ادفع ألف دينار
خذ هذا ألف دينار، مقابل أن تعطيني البرطمان وعقد الكهرمان.

1. 
– فأس
– معول
– حبل
– كوخ قش

لا قوت يقتات ولا منزل فيه يُبات
فكل ما يملك هي تلك الأدوات
ورثها عن أباه بعد أن مات

بعد تشييع والده ودفنه  استلقى على ظهره
يندب حظه وقدره إلى يمينه قبر أبيه
وفي شماله قبر أمه  ، أحس بفروع الأشجار تعزيه
وجذوعها تنعيه

فسمع منادي يناديه .. 

يا حطاب : أغلقت الأبواب وقطعت الأسباب
رحل عنك الأحباب وفارقك الأصحاب
أرحل يا حطاب

دنت الشمس من الزوال
فداهمته الأهوال وضاق به الحال

دخل الكوخ فهد قوائمه وارجع عاليه سافله
عثر فيه على برطمان بداخله عقد كهرمان

سعد برؤيته فضمه إلى تركته
وعلى ظهره حمل أدواته

شد الرحال تارك مسقط رأسه
نحو المجهول كانت وجهته

حل الظلام بعد أن أفل القمر
فدخل كهف بات فيه واستقر

فلمح باب الكهف شبح خاطف، ارتعب وارتجف و على قدميه وقف
فاخذ الفأس بكف والمعول بكف واستعد للنزال
فتقدم نحوه بثبات دون خوف أو ارتجال 

وقال: إن كان هذا كهفك فاعتبرني ضيفك
وإن كنت تنوي الهلاك فلن يهلك سواك

رد: خذ هذا ألف دينار، مقابل أن تعطيني البرطمان وعقد الكهرمان.

قال: اكشف عن وجهك، وبوح بسرك قبل أن انقض عليك، وانتزع روحك عن جسدك.

رد: مرسل من أبيك أحرسك وأحميك، من أي شر يؤذيك.

واستعيد الأمانة كي لا يوصم بالخيانة.

قال: ما أراك إلا كاذب …

لماذا لم تعط والدي المال في حياته
فقد عانى من الفقر حتى لحظة وفاته

ولم يك يعلم بالبرطمان وعقد الكهرمان، ولم يذكرهما على لسان
لن أعطيك مقصودك ولن تنال مطلوبك

رد: أمك هي من أمرتك أن تترك الكوخ المصون
وأعانتك على استخراج كنزي المدفون.

إعلم أننا جيران، نسكن معا في نفس الكوخ من زمان.

وليس أباك من شيده وبناه
فقد أتى طريد فأويناه ونجيناه

قال: لن أفرط بما ورثته عن أبي ولو كلفني حياتي.

رد: بعد أن نظر إلى الحطاب، والشرر تغادر عيناه حتى أضاءت الكهف وما حواه.

أعطني ما أخذت يداك
قبل أن ألحقك بأمك وأباك

برز الحطاب بعضلات مفتولة، وسواعد مصقولة
وفأس مسيوخ، ومعول منتوخ، وصدر بارز منفوخ.

رد المارد ففتح فمه، فخرج منه لهب قذف الحطاب، فالقاه على قفاه.

وقعت يده على البرطمان فأخرج عقد الكهرمان

ولبسه حول عنقه كي لا يأخذه المارد
ثم وقف وعقله عن رأسه شارد
انطفأت النار المندفعة من فم المارد

لفظ الحطاب أنفاسه فأستعاد رباط جأشه

فاخذ البرطمان بيده ورجم به المارد بشدة

فصُعق كبرق السماء
أحال المارد إلى هالة لهب تبعثره في الهواء

فكان عقد الكهرمان للحطاب بمثابة أمان

شرد عن طرف الحطاب النعاس
فهجم عليه الوسواس

فهُيأ له أن ما وضع حول عنقه كأمان
له صلة وثيقة وارتباط بالشيطان
وأنه سيطارده في كل مكان

وأثناء مروره الصباح رأى مجرى نهر يسيل
فألقى العقد فيه كي لا يكون للشيطان إليه سبيل

استمر في المسير..حافي عاري
لا ساتر يستره
عدا لحاف مابين ركبته والسرة

في حافة نهر ومجرى سيل
فكان ينام النهار ويسافر الليل

وبعد شهر زمان، شاهد طُرق مطروقة وحقول مزروعة

وهيجان جمال في الهيجة…
فحث الخُطى في طريقه

فسمع خوار ثور ونهيق حمار
فاستبشر بقربة من الديار

وفي أحد الحقول وجد بنت دوارة للماء حوارة
تسقي الزرع بعناية 
تحث الخُطى تسابق الماء
قابضة بشمالها معزق ويمينها معول

فجأة تعثر ببعض الحصاة، فوقعت في جدول الماء
ثم سقط فوقها المسنى

فغمرها الماء وضغط جسمها المسنى
ومن فوقه الأحجار التي تساقطه من جدار الحمى
فكانت من الهلاك قاب قوسين أو أدنى

شاهد الحطاب ما جرى وصار

عندما كان في أقصى الحول واقف
فانطلق نحوها بدافع الإنقاذ كالبرق الخاطف

فرفع من فوقها الأحجار والمسنى

ثم انتشلها من الماء فكانت في حالت إغماء
فعمل على إخراج ما تسرب إلى رئتيها من ماء

حملها على كتفيه، ودار بها عدة دورات ورأسها يتدلى

ثم وضعها على الأرض وضغط على صدرها عدة ضغطات
ومن ثغرها أعطاها قبلة الحياة

تنفست فعادت للحياة من جديد
كانت مكشوفة الرأس منزوعة الحذاء ظاهرة الوريد

شاهد الحطاب على صدرها عقد الكهرمان
فتعجب وارتعب ومن جوارها هرب

فتحت عيناها فلحظت شخصا لائذا بالفرار

وفي نهاية الجدول عثر على نعليها عائمة
أخذها وعاد فوجدها قد استوت جالسة
وضع أمامها الخفين وهم بالمغادرة

فقالت: تمهل اخبرني من تكون واشرح لي ماذا حصل؟
فقد فقدت وعيي لحظة سقوطي.

وقف فأستخار فلم يكن أمامه خيار
فاستدار، فحكا لها ما جرى وصار
ثم إليها وجه الاستفسار

قال: قولي فأصدقيني القول
فأنا حطاب لا أجيد الصول والجول

ردت: هات ما عندك فبعد صنيعك أضحيت مدينة لك بحياتي وكل ما أملك
قال: من أين لك العقد الذي على صدرك…؟
مباشرة خلعت العقد وقالت:  خذ هذا العقد من الآن صار ملكك

قلب الحطاب العقد في كفه تفحصه
كي يتأكد بأن لا يكون شبهه

ثم قال: هذا العقد ألقيته في النهر قبل عدة أيام
فوجوده بحوزتي كان يعرضني لمطاردة الهوام

قالت: صدقت، عثرت عليه في المسنى عند ردي ساقية الماء
فها قد رده الله إليك

فتبرأ كلاهما عنه فتجادلا وتحاورا

فاجمعا على تسويقه وبيعه
بشرط أن يكن للحطاب ثمنه

قالت:  أين بلدك وأهلك وعشيرتك؟
رد باختصار شارحا ظروف الحال 

فعرضت عليه البقاء لأيام
وأن يتخذ من محراث الحقل مقام

حضر أباها بالطعام فوجدها في حالة انسجام
تتبادل مع شخص غريب الكلام

استشاط غضب وبرز على جبينه العصب

فتنحنح وصاح: ابنتي صباح هل صار المحظور لديك مباح؟
ألا تخشين العار ؟ كيف تقفين أمام من هو من ثيابه عار؟

دارت وإلى أبيها سارت

فرآها في اشَّر حال
ثيابها مبلولة ملطخة بالوحل والرمال

فوضع ما في يده واستل من خصره خنجره

وهجم على الحطاب وقال: من اعتدى على ابنتي الوحيدة لابد لي من قطع وريده

فهم بطعنه، فحالت صباح بينه وبينه
فهدأت من روع أبيها وحكت له القصة

فأبدى اعتذاره للحطاب وقدم شكره، وطلب عفوه عم بدر منه.
فعرض عليه أن يحل ضيفه

فصحبهما إلى الدار
فذبح وقدح

وبش به ايما بشاش
فرش وفرش جديد الفراش
والبسه أحسن القماش

وبعد ثلاثة أيام استأذن للذهاب
فأقام في المحراث

صباحا يحتطب بمعوله والفأس
فيحضر ما جمع من حطب فيبيعه للناس

أعطاه والد صباح مساحة شكلتين
فبنى عليها دار من طابقين

ذات يوم طلبت صباح من والدها
مرافقة الحطاب إلى السوق لبيع عقدها

وعند عرضه تهافت عليه التجار
وتنافسوا فبلغ سعره ألف دينار
فاشتراه تاجر غريب لم يعرفه التجار

اندهش والد صباح واحتار في أمره

فاخذ الألف وصره في صرة، ووضعه في عجزة
وعند وصوله اخبر ابنته بثمن العقد الباهظ

قبضته و للحطاب وهبته
فاحتار أين يضعه وخاف سرقته

فأشارت عليه صباح بوضعه في صندوق مقفل

وتأمينه لدى شيخ القبيلة أضمن
فهو ذو ثقة وشخص مؤتمن

فسأله الشيخ عما في الصندوق ؟
رد: ألف دينار معدن مدقوق منذوق؟

اندهش الشيخ فقال: ما عملك؟
رد: حطاب

قال: أنت آمن على ما استأمنت اذهب يا حطاب
كان الحطاب يمر على صباح في الحول ذهابآ وإياب
فيزداد بها إعجاب

يحييها بالفأس والمعول
فترد التحية بالمعزق والمنجل

يأتي من الضيعة يترنح على ظهره حمل أحطاب مخلوط بالأخشاب

بطرف الحقل يتكئ على مسني، فتأتيه صباح مسرعة بشربة ماء

ذات يوم نظرت صباح إلى حِمله فقالت: هل لك إخباري بإسمك؟
رد: طوق !

قالت: هل كان والدك  قوي فتي
عريض المنكبين طويل الساقين

تفر الحصى من خطوته وينصل النصل من قبضته

مغيث الملهوف مسدي للمعروف
صنديد همام، دواس الظلام، تهابه الهوام
 
رد: وهل كانت أمك طيب الله ثراها
زهية، بهية، شقراء

ذات جبين حجازي وحواجب هلالية
مكلثمة مسلهمة ذات حواشي ململمة

مشربة الخدود نادشت الجعود

جوزية الشفتين مهوية القرطين
مدبلجة الكفين بارزة النهدين

إن عبست أضأت وإن ضحكت أشرقت
تبسمت صباح وذابت وإلى حقلها انسحبت

تنحنح طوق وترحرح بافتخار
فحمل حطبه وإلى البلدة سار

ذات يوم مر الشيخ فلمح صباح
فهام بها وأرسل إلى أبيها يخطبها بإلحاح

رفضت صباح هذا الطلب
فعتب الشيخ على والدها اشد العتب

استوقفت طوق أثناء مروره وقالت:

يا طوق، أتى الشيخ لخطبتي
يا طوق، استشرتك فشيرني

رد : بب بب ألقى ما على ظهره من حطب وتشقلب
فظهر عليه الغضب

وقال: حدث ما لم يكن في الحسبان
وبماذا أجاب والدك المصان؟

كان طوق متردد خجول
لم يفصح عم في خاطره يجول

أحست صباح بخجله فأرادت جس نبضه

قالت:  إذا لم اقبل بالشيخ فارس
ربما أعيش بقية حياتي عانس

عندها تشجع طوق فقال: أنا أنا أنا!
قالت: أنت أنت أنت ماذا؟
رد: الفارس… !

أشرق وجه صباح وتهلل
فأحمر وجه طوق ووجل

قالت: عليك بخطبتي من أبي هذا النهار قبل الزوال
كي نقطع القيل والقال

تمت الخطبة ونال طوق ما أراد
فكان الشيخ لطوق بالمرصاد

طلب طوق من الشيخ صندوق الأمانة
فأنكره وجحده وطلب الإبانة

عجز الحطاب عن الإثبات
فظن الناس أن فيها مبالغات
فكيف لحطاب أن يحوز الألوفات
فهذا لا يتماشى مع طبيعة الأحوال في كل الأوقات

فإلى من يشكو ظلم من ظلم
فكل من حوله خدم للشيخ وحشم

طفق عائد نحو داره مشبك كفيه خلف ظهره

كانت صباح منتظرة عودة طوق بشغف وشوق

ظهر من النجد بخُطى خايب وهيئة شايب

فراع صباح منظره فهرعت إليه مسرعة

قالت: هل غدر فمكر وتعالى فاستكبر
وللأمانة أنكر؟

ألجم طوق لسانه فصمت
فتولت عيناه الإجابة فأوضحت وأبلغت

كظمت صباح غيظها
وأظهرت سرورها وبهجتها

فطلبت من والدها أن يكون لها خير معين
لدحض مكر الماكرين وكيد الكائدين

فقاسم طوق نفقات الفرح والزفاف
وتأجل المهر إلى أن تنقضي السنين العجاف

كان عرس فريد، علم به القريب والبعيد

حضره جمع غفير، حطابين بفؤوسهم
وفلاحين بمعاولهم كبيرهم والصغير

لم يحضر الشيخ ولم يجب الداعي
فأضحى حاسد وشاني

مرت الأيام

ألمت بوالد صباح عٍلة في بدنه
تقاطر إليه الحُكماء فلم يستطع إي منهم أن يبريه من علته وسقمه
دنى أجله فوافته منيته وانتقل إلى جوار ربه

أضحى طوق وصباح وحيدين
لا والدين ولا أخوان ولا بنيين

ورثت صباح
ثورين جرارين وبقرتين حلابتين
وحقلين زراعيين وبيت طابقين

ترك طوق الاحتطاب
ولزم في البيت الاحتجاب

افتقده العامة فتسألوا و عنه سألوا
فاحتاروا في أمره وما هو مصيره

بلغ الشيخ خبره فانشرح صدره
وأرسل احد عساكره للتحري عنه

العسكري: ياصباح أين الحطاب مضى عليه مدة منذ أن اختفى وغاب؟
صباح: هالت أهواله وافتقرت أحواله

فذهب للاغتراب بمرارة
بعد أن جحده الشيخ الأمانة

سمع الشيخ من العسكري ما قال
فتمنى للحطاب الزوال

في المساء تبادل طوق مع صباح الأفكار
وتذكرا كل ما جرى وصار
فلم يغيب عن بالهم الألف الدينار

عقدا العزم على استعادة الحق المنهوب
بأي وسيلة وأي أسلوب

صباح: سأكيده كيد الملاح في العشية والصباح
سأجعله يأتي إليك ذليل مستباح

فلا تسيء بي الظنون مهما يكون

في الصباح ذهبت صباح ترعى الأبقار
في حقل الشيخ القريب من الدار

من النافذة لمح الشيخ أبقار في احد مزارعه
فأمر احد عساكره بضبط صاحب الأبقار وزجره

توجه العسكري مسرع نحو البقر
وصل وإلى صباح أمعن النظر

انبهر وفي موضعه تسمر فلم يتقدم خطوة أو يتأخر

فقال: من أنتي ولمن هذه البقر؟
ردت: أنا زوجة الحطاب الحقير المحتقر الذي تركني وحيدة وهجر

2. 

كانت صباح قد تزينت بزينة تزيغ البصر وتهيج الذكر

فكانت كما قال الشاعر:
حوريةٌ لو رأتها الشمس ما طلعت من بعد رؤيتها يومُ على احد

فلبست الأحمر القاني، والأخضر الساجي
والأصفر الفاقع، والأزرق اللامع

فإن مشت برقت، وان دارت تلألأت

تصدر عن معاصمها أصوات الأساور
وتتدلى على صدرها فصوص الجواهر

منقوشة الأنامل، منفوشة الجدائل

من رآها نسى أسمه ومن سماه
وتمنى يكن ثورا لها ترعاه

عاد العسكري وقال: يا شيخ هذه زوجة الحطاب الذي تركها وغاب
دعها ترعى تنال فيها الأجر والثواب

ذهب الشيخ يطوف، فوجد معظم الزرع منتوف

فأمر العسكري أن يتصدى لها ويمنعها

فأخذ سلاحه وتلقاها وبدل أن يمنعها
قام بمساعدتها والرعي معها

فواعدته مواعدة الغرام
يأتيها ليلا في غسق الظلام

العسكري جن جنونه، فأخفى سره ومكنونه
فطلب من زميله أن ينوبه في الحراسة هذه الليلة

اقتربت الشمس من المغيب
فأخذ بندقه واشترى الحلوى وبعض الزبيب

فطرق ففتحت مسرعة وبشت به ورحبت
أدخلته المجلس فجلس وراق
بعد أن علق السلاح في المعلاق

ذهبت لتحضير العشاء

وبعد أن تعشى وتقهوى وتفسخ عن ثيابه وتهوى
على ظهره استلقى
فسرت في عروقه غريزة الذكر نحو الأنثى

وفجأة سُمع طرق الباب
فقال : من يكون الطارق للباب هل هو صاحب من الأصحاب

قالت: كلا ! ثم قالت وهي مرعوبة يارب بسترك استرنا ولا تفضحنا

فقالت: من في الباب؟
رد: أنا زوجك طوق الحطاب !

أظهرت الخوف وارتعبت رعب شديد
فكان رعب العسكري اشد من الشديد

فطلب منها تخليصه مما هو فيه
وإيجاد أي وسيلة تخفيه

فقالت لزوجها تمهل حتى ارتدي ثيابي

فأحضرت مجرفة وحقيبة وألبسته ثياب بالية

وأدخلته الاسطبل وقالت: انقل الذبل إلى السطح ولا تتوقف مهما حصل

بدأ العسكري العمل، ثم فتحت الباب فدخل الحطاب
صاح ولاح غاضب عليها عاتب

ثم قال: من هذا الذي في الدرج
ردت: انه ابن خالي طبهج
أحضرته لمساعدتي في نقل الذبل إلى السطح عبر الدرج

ثم نظر إلى البندق المعلق؟ فقال: وهذا سلاح من؟

ردت: هذه بندق عمي بيرق
أحضرتها لحماية البيت من السرق

أخذها وتفحصها وتوجه نحو الشقي وقال بعد أن دقه بالبندق احد الأضلع:
هيا خليك أسرع نريد أن نخلص فننام ونهجع

كلما أحس طوق بخفة خطوات العسكري على الدرج
صاح وهج وذهب إليه فيوسعه بكرسي البندق دق ورج

شعشع الفجر ففتحت صباح الباب
فخرج العسكري كما يخرج السنجاب
تارك ثيابه وسلاحه في بيت الحطاب

فتسلل إلى بين زملائه خلسة ونام
كاتم سره مخفي أمره فأطال المنام

اليوم التالي ذهبت صباح للرعي كالعادة
حضر الشيخ وأيقظ العسكري من رقاده

رد: اليوم ليست نوبتي، فقد انتهيت أمس من خدمتي

فكلف زميله الأخر للذهاب للمزرعة وإخراج البقر
وعندما وصل حدث له ما حدث للأول

نظرة فموعد

عاد إلى زميله فاستأذن بعد أن أكد عليه وذكّر
انه سيذهب ضيف عند احد أقربائه لتناول العشاء والسمر
وأن لا يقلق عليه إن غاب أو تأخر

فهم زميله مضمون ما قاله فعرف انه سيجري له ما جرى له

ذهب إلى السوق فاشترى ما لذ وطاب من الحلوى والزبيب
وشراب العناب، ومع المغيب طرق الباب
فتحت زوجة الحطاب

وقالت: تفضل بالدخول قبل أن يلمحك احد من أصحاب الفضول

أعطاها الهدايا، ووضع بندقه في احد الزوايا
جلس في صدر المجلس يعتريه الغرور
وبعد أن قدمت له واجب الضيافة
قالت: بقدومك غمرتنا البهجة والسرور

اخلع عنك ثيابك، حتى أعود من تحضير شرابك

أحضرت الطعام فنظر إليها وقال: امنحيني نظرة سهام ولحظة غرام
تغنيني عن هذا الطعام

ردت: دعنا نشرب العناب
ونستمتع بوصال الأحباب
بعد هجر الحطاب

كان في اشد الاستعجال
فحاس وماس، وخلع من على خصره حزام الرصاص

ثم استند وتغطى باللحاف
فأظهرت صباح الرضا، وبدأت فأزالت من على رأسها احد الأعطاف

فإذا بثلاث طرقات على الباب متتاليات

فوقف مرعوب
فبادرت صباح وقالت: استرنا يا ستار العيوب

قد يكن احد لمحك عند دخولك فأتى لفضحك

تكرر الطرق فقالت: من الطارق؟
رد بصوت مرعب: أنا طوق الحطاب افتحي المغالق

ارتبش وارتعش فلبس بالمقلوب
فقالت: اتبعني إلى السطح يوجد فيه احد الثقوب

فقالت: خذ هذه المجرفة والحقيبة والحبل
وقم بنقل هذا الذبل إلى الإسطبل

فورا بدأ بالعمل
ثم فتحت فدخل

هائج يسخط ويسب فضرب الجدار بالعصا
فصاحت صباح وكأنها وقعت على ظهرها

ثم قال: ما هذه القربعة على الدرج
ردت: هذا ابن خالي أحضرته كي ينقل الذبل
فهو قريب وليس غريب

اقترب منه ومسك خلف رأسه
وبعد أن تمكن من هسه وجسه
كاد أن يفصل رأسه عن جسده
من شدة قبضته على رقبته

قال: يابن الخال عليك بالإستعجال

فدخل المجلس فشاهد البندق والرصاص
فسأل: ولمن هذا ؟

ردت: استعرتها من عمي كي احرس البيت من النوائب عندما كنت غائب !
 
رد: بوركت هذا من الآن سلاحي
أضحيت عنك راغب بعد أن كنت غاضب!

بات العسكري طالع نازل الدرج
أوقات يندرب وأوقات يتدحرج

لاح الصباح ففتحت صباح
فطلب منها أن تأتيه بالذخيرة والحزام والسلاح

قالت: أعفني الآن ربما طوق يصحا
سأتيك به إلى المرعى

فخرج العسكري نصف جسده عاري
فاستقبله زميله ضاحك متشفي

فقال: بعد أن قهقه كيف كانت ليلتك خبرنا؟
رد: ههههه ههههه زيِّ طلعت نزلنا !

وأين بندقك والمحزق والطيار؟
رد: هن في أمان ستأتي بهن صباح وضح النهار

أين سلاحك أنت وذخيرتك والوشاح؟

ماذا لو دخل الشيخ علينا هالحين 
وعن كل ذلك سألنا فماذا نحن قائلين؟
رد: سننام ونتغطى بالبطاطين
فنقل بتنا حارسين فأضحينا مرهقين

في الصباح أتت صباح ومعها السلاح
مغطى ملفوف فوجهت المرآءة إلى سكن الحراس المسقوف
نظروا من النافذة فإذا بالبقر في المزرعة

ذهبوا إلى صباح بوجوه وجله
وخطى هزله

أمامها وقفوا كطلاب الدراوشة
رؤوس منكوسة وأنظار معكوسة

قالت : إلي وجهوا أنظاركم
فقد حفظت أماناتكم

ففي هذا الكيس أسلحتكم وأمتعتكم
ولي شرط عليكم

ردوا بصوت واحد: أشرطي سنلبي شرطك وننفذ أمرك
 
قالت: أن تشهدوا بالحق إن استشهدتم
وأن تكتموا أسراري ما حييتم
وأن لا تعتدوا على أبقاري في مراعيكم

حملوا الكيس وهرعوا إلى المحراس فرحين مستبشرين
ومن صباح متجملين

اطل الشيخ من النافذة
فإذ بالبقر داخل الزرع منتشرة 

تأكل بعضه وتحشر بعضه وترفس بعضه

فكانت صباح بذلك متعمدة
نادى الشيخ للحراس، لا مجيب رغم مناداته المتعددة

نزل الشيخ بنفسه
فبرزت صباح متزينة بزينة الملاح
فكان عطرها قد استولى على أنفاسه قبل أن يزيغ فيها بصره

قال: لا رادع يردعك ولا مانع يمنعك ؟
ردت بصوت دلال: إن أكلت بقري الزرع أدرت الضرع
فزرع شيخنا نافع وصدره واسع

فأنت كما عهدناك شهم كريم
تظهر على وجهك نعمة النعيم

فقد أثبتت لي الأيام
أني كنت أعيش في أوهام

ليلي نهد ونومي سهد
فلا أرضعت أنثى ولا انجبت ولد

حزني فريد وغبني شديد
كأني حديد صدى
فصُنفر ثم أصابه ندى
فصدى من جديد

زواجي سبب تعاستي وعذابي
طوق الحطاب خدعني

هجرني على الفراش ورعٌاني المواشي والقراش

لكن جنيت على نفسي
عندما رفضت طلبك الزواج مني

كنت فاقدة الصواب
عندما فضلت على الشيخ
طوق الحطاب
الذي أضحى أكبر كذاب

فبعض الأخبار تقول انه قد مات
والبعض يقول انه مسجون بعدة سرقات
أما أنا فقد أصبحت منه من اليائسات

سمع الشيخ ما قالته صباح فحل عليه الارتياح

فسمح للأبقار بالمرعى ليل نهار
وجلس يتبادل مع صباح الأخبار

فصادته وإلى بيتها واعدته

مر على سكن الحراس الاثنين
فتغطوا بالبطاطين وتبادلوا الأنين

فتناولهم بالتهديد والوعيد

قالوا: أُصبنا بالإغماء
وتقلص في الأمعاء وإسهال وطرش وحمى

قال: أذهبا سبعة أيام إجازة
فلم يعد لي بكم حاجة

كشف عن وجهيهما مبتسمين
فكانوا للشيخ شاكرين

لكن قبل ذلك أريد أن تذهبا إلى السوق العام
فتشتريا من الفواكه والخضار ما لذ وطاب
ثم تعرجان على الجزار
فتأخذان قلوب الذبائح والأكباد ولحم الرقاب
فتذهبان بذلك إلى بيت الحطاب

فبعد غياب طوق حلت بهم الفاقة
فوجبت عليهم الصدقة

انتفضوا من الفراش مسرعين
وحلت بهم الفرحة وراح الأنين

قبضوا من الشيخ الدراهم ونفذوا ما أمرهم
وتغامزوا وتهامسوا

قال الأول: يا ترى هل سيقوم الشيخ بنقل الذبل إلى السطح؟
أجاب الثاني: ربما يختلف عمله لعلو مقامه، أرجح أن يقوم بالكنس والبرح

وصلوا فطرقوا وعقبوا بالصياح
فتحت صباح

فإذا الباب مركوم
بأنواع الخضر والفواكه واللحوم

قالوا: هذا مرسل من شيخنا عتيق
يبدوا أنك دللتيه على نفس الطريق

قالت: تفضلا بالدخول ! أبو اشد الإبا ونظروا إلى الجبا

ضحكت فضحكوا ثم تفرقوا

حل المساء 
فأتى الشيخ بأطمارة بمحزقة وطيارة
وبندقيته الميمُن ومداعته والتتن

قرع الباب قرعتين ففتح الصارعين

تلقته صباح ببخور جاوي وعطر مكاوي

فأجلسته في مقامه وطلبت منه خلع حزامه
فأخذت بندقه وعلقته على الجدار أمامه

نصبت  قدامه المداعة
ومدت إلى فمه القصبة

قالت: عمر تعميره حتى افرغ من طبخ الطعام وتحضيره

أشعلت التنور فقدحت القدور
فحلت على الشيخ البهجة والسرور

استمرت صباح في الذهاب والإياب
بين مجلس الشيخ ومكان تخفي الحطاب

حان وقت تناول طعام العشاء
فأحضرت صباح غسل الماء

غسل الشيخ فمدت صباح طرف خمارها ونشفت يداته
لتزداد طمأنينته

أحضرت المائدة مكملة مكتملة

مد الشيخ يده نحو الكباب
وقبل أن يلمس اللحم سمع طرق الباب

فهتفت صباح بالآيات والأذكار
قائلة يا ستار يا ستار

هل أخبرت عساكرك بقدومك
فأتوا لتناول طعام العشاء معك

ألقى الشيخ نافي يده فنشف ريقه
نهض من مجلسه نحو الباب أراد أن يشق طريقه

فاصطدم بالمداعة فأحرقت الجمر ثيابه

قالت: من في الباب؟
رد: طوق الحطاب

فطرقت خديها ووركيها
ووضعت السبابتان في عينيها

قال: أخفيني في التنور !
قالت: ستنضج وتفور !

لكن  سأخرج ثيابي وأدخلك الصندوق واقفله
فأدخلته وطبقه وبالقفل قفله

ثم ذهبت وفتحت
دخل طوق بايق نايق

فقال: أراك سراحة مراحة
في رغد عيش مرتاحة
وفوق هذا كله أضحيتي شرابة مداعة

اخبريني مع من كنت موعودة
ولمن هذه المائدة ممدودة

ففتش البيت وخباياه

ثم جلس على الصندوق
قالت: يا طوق إليك انتابني الشوق

بيتك عامر وشرفك طاهر
فلا تنخدع بالمظاهر

عمي كان على المائدة وهذه بندقه ومداعته
خرج من البيت قبل أن دقيت
أتى بلحم كبش على ظهره فطلب مني طبخه
هذه كل القصة

تفضل على الطعام وبعد أن نفرغ نتم الكلام

أكل طوق بشوق ومص وشفط حتى فرغت القدر مما فيها

قالت صباح: بالهناء كل لقمة مكتوبة لأكلها
ثم أتت بالخضر والفواكه
فأتموا وعلى الفراش تربعوا

قالت: حدثنا يا طوق عن غيبتك الطويلة
هل كنت من الغانمين أم عدت من الخائبين؟

قال: الغربة يا صباح كربة
عملت بالنجارة احترقت المنجرة
عملت بالتجارة بضاعتي بارة
عملت حارس مخازن سُرقت فدخلت السجن

خرجت من السجن قبل يومين أتيتك اقلب الكفين؟

غدا سأبيع هذا السلاح والمداعة
وعند عودة عمك اخبريه انه أتى سارق فسرقه

قالت: أمانة عمي تسري بعروقي ودمي محال أن اسمح لك
إذا كنت بائع فبع شيء يخصك

قال: افتحي الصندوق قد أجد بعض الجواهر أبيعها وانتفع بثمنها
قالت: مفتاح القفل ضائع
الصباح نبحث عنه في الدرج أو في الشارع

3. 

بات الشيخ في الصندوق جائع معطوف
بارد محفوف كفرخ منتوف

استيقظ طوق صباح
صاح: هاتي المفتاح !
ردت: لم اعثر عليه !

تقدم طوق واخذ البندق وحشاها بالذخيرة

قال: سأطلق الرصاص على القفل حتى اكسره
صاحت: لا لا تفعل ربما يحترق الصندوق بما داخله فنخسره

إن كنت عازم على بيعه دون سواه
فبعه كما هو مقفل بمحتواه

وافق الحطاب على الفكرة
فحمد الشيخ ربه وشكره

ساعدت صباح طوق في إخراج الصندوق
وحمله على الحمار وسار

وضعه في سوق المدينة
وللبيع عرضه

فكان يطلب به ثمن غال
لا يخطر للمشتري على بال

أتى مشتري فقال: بكم هذا الصندوق
قال: بألف دينار

رد: هل أنت بكلامك جاد أم إن هذا من باب المزاح والعناد

غضب الحطاب فربط الصندوق خلف الحمار وسحبه في السوق

اجتمع الناس حوله ليتبينوا أمره
قالوا: هل لك أن تفتح الصندوق لنرى مكنونه وسبب غلو ثمنه

قال: ضاع مفتاحه وليس لي مفتاح سواه
لذا عزمت على بيعه بما حواه

ثم نهم الحمار وزجر
فتقرقع الصندوق في الحفر
صادف ابن الشيخ في ممر

استوقف الحمار وسأل صاحبه

عن سبب جر هذا الصندوق خلف الحمار
رد: معروض للبيع إن كنت مشتري ادفع ألف دينار

صمت باستغراب ولم يرد جواب !

زجر الحطاب الحمار
فصاح الشيخ من الصندوق
اشتر يا ولدي ولو بألف دينار

سمع الابن صوت أبيه الأليف
فنشب بينهم شجار عنيف

حضر العساكر فأقتادوهم مع الصندوق إلى حاكم السوق
فأخرجوا الشيخ والدم من رأسه يروق

التفت الحاكم وقال: إن ما قمت به يا حطاب
أمر لا تستوعبه الألباب!

رد: سيدي الحاكم استودعت لديه صندوقي
وفيه دراهمي ونقودي
ألف دينار

وعند طلبي رد الأمانة
كانت منه الخيانة فأنكرني وجحدني في وضح النهار

فطلب الحاكم من الحطاب إثبات

فأحضرت صباح حراس الشيخ الاثنين
فكانوا نعم الشاهدين

أقر الشيخ بالخيانة فاستوعد برد الأمانة

ذهب ابنه على الفور واحضر الصندوق بدنانيره

فسلمه إلى الحطاب وطلب منه السماح
فتبسمت صباح

فتصافحوا وتعافوا
وإلى ديارهم عادوا

فاشترى الحطاب المزارع والضياع
وبناء القصور والقلاع

فتصدق وانفق وسعٍد وأسعد

وفرح بالأولاد والأحفاد وذاع صيتهما في أرجاء البلاد

فعاشا عمر مديد ينقص أو يزيد
انتهى ومن يحب النبي صلى

الحكمة من القصة: لن يضيع حق ورائه مطالب

السؤال الهام؟
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك استفهام في القصة
فمن يأتيني بالسؤال؟
هي عبارة عن حلقة مفقودة في الرواية متعمدة
فمن صاحب اللُب الخصيب يقدر على التنقيب
من رواد وأعضاء كابوس الأعزاء
يحل هذا اللغز العجيب

ملاحظة: هذه القصة مستوحاة من التراث الشعبي اليمني

تاريخ النشر : 2020-11-13

الفهد

اليمن . للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
38 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى