الفيلسوف

تأثير فورير – الرياح التي عصفت بالدجل

بقلم : وليد الشهري – المملكة العربية السعودية
للتواصل : [email protected]

أن المنجّم أو العرّاف لا يتمتّع بأي موهبة أو قدرة فائقة فهو يستغل تلهّف أفراد الناس إلى اكتشاف ذواتهم
أن المنجّم أو العرّاف لا يتمتّع بأي موهبة أو قدرة فائقة فهو يستغل تلهّف أفراد الناس إلى اكتشاف ذواتهم

للمنجّم أو العرّاف أساليبه في سبر أغوار الشخصيّة ، و اكْتِنَاه ملامحها على نحو لا يملك معه المتلقّي إلّا أن يعرب عن دهشته أمام ما يراه من تحليل و تفسير يستعرض نقاط الضعف والقوّة لديه بطريقة تبدو وكأنّها تصفه بدقّة ، و قد لا يحتاج المنجّم أكثر من معرفة نوع البرج الفلكي ، أو طريقة التوقيع ، أو الحرف الأول من الاسم أو نحو ذلك ، فهل الأمر كذلك بالفعل ؟ و ما سرّ تلك الدقّة في التشخيص ؟.

blank
يمتلك المنجم قدرة تحليل و تفسير
نقاط الضعف عند الجمهور 
 
في الحقيقة إنّ التعامل مع العبارات التنجيميّة باعتبارها توصيف دقيق للشخصيّة هو ما يُعرَف في علم النفس بـ “تأثير فورير”، نسبةً إلى عالم النفس الأمريكي “بِرترام فورير” (1) والظاهرة تُعرف أيضاً باسم ” تأثير بارنوم “، نسبةً إلى منظّم العروض الترفيهيّة الأمريكي ” فينياس تايلور بارنوم” (2) و سبب هذه النسبة هو مقولة لـ “بارنوم” كانت تتردّد على لسانه مع كل عرض ينظّمه : ” لدينا شيء لكل واحد من الجمهور” ، و لأن هذه العبارة كانت بمثابة تعريف موجَز لما يسعى المنجّمون إلى ترويجه بين الناس ، فقد نُسِبت هذه الظاهرة النفسيّة إليه أيضاً.

 

blank
عالم النفس الأمريكي بِرترام فورير
تخيّل عزيزي القارئ لو تواصلت مع أحد المنجّمين  ثم طلب منك إخباره بتاريخ ولادتك حتى يتمكّن من تحليل شخصيّتك وفق البرج الذي تنتمي إليه ، و حين أجبته بما طلب ، كان تحليله لشخصيّتك كالآتي:

” أنت إنسان عاقل ، و قادر على المشي و الذهاب إلى أي مكان دون مساعدة من أحد ، إلّا أنّك تشعر أحياناً بالتعب والإعياء حين تمشي لمسافات طويلة ، فتعتريك الرغبة في الجلوس لبعض الوقت ، كما أنّك تستطيع التعبير عن أي شيء تريده من خلال الكلام ، و متمكّن من النظر إلى الأشياء من حولك و التعرّف عليها “.

blank
منظّم العروض الترفيهيّة الأمريكي فينياس تايلور بارنوم
السؤال هنا: ما هو الانطباع الذي سيتكوّن لديك عن ذلك المنجّم بعد الاطّلاع على ردّه أعلاه ؟ و لماذا ؟.
 
بالضبط و هذا ما كان ” فورير” يحاول لفت انتباهنا إليه ، و هو أن العبارات التنجيميّة التي نعتبرها ” دقيقة ” في وصفنا ، هي في الحقيقة أبعد ما تكون عن الدقة ، و لا تُعدو كونها توصيفات عامة و عائمة يشترك فيها معظم الناس – على الأقل – إلّا أنّنا نميل نفسياً إلى تصديقها و أخذها على محمل الجد باعتبارها تفسيرات مُحكَمة لطباع وسلوكيّات وانفعالات وظروف تخصّنا و تعنينا.

blank
يعتمد كعك الحظ الصني على نفس النظرية فهي
تحتوي على كلام مبهم يدعو للايجابية و الحظ السعيد 
 
حتى يعزّز صحّة ما ذهب إليه ، قام “فورير” بإجراء اختبار على طُلّابه عام 1948م ، تمثّل في سؤالهم عن بعض المعلومات التي يحتاج إليها في تحليل شخصيّاتهم ، ثم سيطلب منهم بعد عرض نتائج التحليل أن يقيّموا مدى دقّة ذلك التحليل من 5 – حيث 0 تشير إلى أدنى درجات الدقّة أو انعدامها ، صعوداً إلى الرقم 5 الذي يعني أن التحليل شديد الدقّة – بعد أن شاهد الطلّاب نتائج تحليل شخصيّاتهم كان متوسّط تقييمهم لمدى دقّة التحليل هو 4.26 من 5 ، و هي نسبة مرتفعة جداً بطبيعة الحال ، تعادل 85% – تقريبًا – كنسبة مئوية.

blank
قام فورير بعدة تجارب على طلابه عام 1948م و كانت النتائج مذهلة 
المفاجأة كانت أن نتيجة تحليل الشخصية التي كان يعتقد كل طالب أنها تخصّه وحده ، كانت هي نتيجة التحليل نفسها لدى جميع الطلاب الذين خضعوا للاختبار دون علمهم بذلك ، نسَخها “فورير” من عمود تنجيم في إحدى الصحف آنذاك ، و نصّها:

” أنت بحاجة إلى الحب والتقدير، و لذلك تنتقد نفسك بنفسك ، لديك بالتأكيد بعض نقاط الضعف في شخصيتك ، ولكنك عادةً ما تقوم بتعويضها ، لديك إمكانات و قدرات لم تستثمرها بعد لصالحك ، أنت منضبط و متحكّم في أمورك ظاهرياً ، لكنّك داخلياً قلق وغير واثق بنفسك ، أحيانًا تتساءل بصدق إذا كنت قد اتخذت القرار الصحيح أو فعلت الشيء السليم ، تفضّل التجديد والتنوّع ، و لا ترضى بأن تحيط بك القيود و الحدود ، تعتز بكونك مستقلًّاً ، و لا تقبل آراء الآخرين العبثيّة ، ولكنّك وجدت أنّه من غير الحكمة إطلاع الآخرين على أفكارك بسهولة ، تكون أحياناً منفتحاً و كثير الكلام واجتماعياً ، بينما تكون منطوياً وحذراً و متحفّظاً في أوقات أخرى ، و بعض طموحاتك تميل لأن تكون غير واقعيّة “.

blank
كانت نتائج التجربة مذهلة و حققت رقماً مرتفعاً 
 
لم يكن نهج الاختبار كما حاول ” فورير” أن يظهره ، حتى مسألة جمع المعلومات عن الطلّاب لم تكن سوى حيلة أتّخذها “فورير” لإضفاء نوع من الجدّيّة والمصداقيّة على الاختبار، والحقيقة أنّه تجاهل تلك المعلومات ، فلم يكن يحتاج إليها أصلاً ، العجيب أن “فورير” أعاد نفس التجربة مراراً وتكراراً على كثير من الطلّاب خلال السنوات اللاحقة ، و لم يختلف كثيراً متوسّط تقييم الطلّاب لدقّة التحليل عن “4.2”.
 
في الختام :

يكشف ” تأثير فورير” مدى سهولة تضليل الناس، خصوصاً فيما يتعلّق بالسمات الإيجابية التي تخاطب نزعة ” الأنا ” لدى الإنسان ، فهو يميل إلى تصديقها في حق نفسه و إن كانت لا تنطبق عليه في الواقع .

 خلاصة القول أن المنجّم أو العرّاف لا يتمتّع بأي موهبة أو قدرة فائقة فضلاً عن أن تكون خارقة ، و ربما لا يملك من الدقّة ما يخوّله للحديث عن نفسه فضلًا عن تشخيص غيره ، و لا يعرف عنك أكثر ممّا تعرف أنت عن نفسك ، و كل ما في الأمر أنّه استغلّ تلهّف أفراد الناس إلى اكتشاف ذواتهم ، واغتنم طبيعتهم الجانحة نحو التميّز والاختلاف ، فنهض فيهم قائلًا  – بزعمه – : ” لديّ شيء لكل واحد منكم”.
 دمتم بخير.
 
هوامش  :

1 – بيرترام آر فورر : 24 أكتوبر 1914م  – 6 أبريل 2000م  عالم نفسي أمريكي قام بالعديد من الأبحاث و قد أُشتهر بنظرية تأثير فورير .
 
2 – فينياس تايلور “بي تي” بارنوم  :  ٥ يوليو ١٨١٠ – ٧ أبريل ١٨٩١ م ، هو منظم عروض أمريكي ، قام بارنوم بشراء متحف سكادر الأمريكي عام 1841 م و أضاف عليه الكثير، ليصبح أحد أهم العروض في الولايات المتحدة.
 
 

تاريخ النشر : 2020-12-13

وليد الشهري

السعودية
guest
13 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى