بوتشيو – أبن النظام البار
هو ذاته الوحش الذي غادرت أرواح كُثر هذا العالم من بوابته |
في أحد أيام يونيو المشمسة عام ١٩٨٤ م كان اميليو ناعوم يقود سيارته في أحد شوارع العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس عندما استوقفته مجموعة أشخاص تعطلت سيارتهم وبحاجة للمساعدة ، و عندما اقترب اميليو منهم أتضح له أنهم أفراد أسرة (بوتشيو) الذين طلبوا منه أن يقلهم إلى منزلهم ، رحّب اميليو بهم فهو يعرف الأسرة فردًا فردًا وقبل ذلك ، بعدة أيام كانوا زبائن لديه في محله لبيع أدوات الغطس وكان بينهم حوار شيق أخبرهم فيه كيف أن المحل ينمو سريعاً ويدر عليه مبلغ جيد من الأرباح ، ركب ال بوتشيو السيارة وشكر الأب اميليو على مساعدته وأخبره أن منزلهم قريب و أن توصيلهم لن يأخذ منه وقتاً طويلاً ،
أجابه اميليو بأن لا مشكلة لديه و أنه سيمر بذلك الطريق بأية حال ، ولم تمر بضع دقائق حتى شعر اميليو بمسدس خلف رأسه ، تكلم الأب : تعاون معنا ، نحن لا نريد إيذاؤك ، أدرك اميليو أنه مختطف ، لكنه قاوم اختطافه بشدة والخطة التي كانت تقوم على افتراض استسلام اميليو فشلت ومنعاً لافتضاح أمرهم وسط صرخات الضحية ومقاومته أفلتت رصاصة أسكتت اميليو للأبد ، هرع الجميع إلى خارج السيارة و تُركت الجثة وسط الشارع .
تم قتل اميليو اثناء مقاومته للخطف |
ليس كل ما يلمع ذهباً ، قد تخدعك المظاهر لكن خباياها صادمة وتبهرك القشور و في اللباب يختبئ العفن تماماً كعائلة بوتشيو التي صدمت المجتمع الأرجنتيني في ثمانينيات القرن الماضي ، إذ صدم الجميع من حقيقة العائلة التي بدت مثالية للغاية في حين لم يكن أفرادها سوى عصابة تخصصت في اختطاف وقتل ضحايا أبرياء بكل خسة و دناءة .
سيرة مجرم :
١٩٢٩ م وُلد ارخميدس بوتشيو وكان الابن الأكبر لجوان بوتشيو الذي عمل مستشاراً في المكتب الإعلامي لوزير الخارجية الأرجنتيني في ذلك الوقت جان اتيلو براموغليا .
تخرج ارخميدس من قسم المحاسبة في كلية العلوم الاقتصادية وشغل منصب في وزارة الشؤون الخارجية ، وقد قام الرئيس الأرجنتيني آنذاك بمنحه شهادة تكريم لأنه أصغر دبلوماسي يتحصل على ذلك المنصب في ذلك الوقت .
صورة ارخميدس و زوجته ايفانيا كالغو |
١٩٥٧ م تزوج ارخميدس من المعلمة ايفانيا كالغو وبعد مرور فترة زمنية اشتريا منزلًا لهما في ضاحية سان اسادرو ، و هي ضاحية أغنياء مشهورة ، رُزق الزوجان بخمسة أبناء كان أكبرهم أليخاندرو ، تلته سلفيا ثم دانيال ، و جليرمو ، ثم أخر العنقود أدريانا.
صورة جماعية لعائلة ارخميدس مع زوجته و أبناءه |
إلى جانب عمله الحكومي كان أليخاندرو نجماً في المنتخب الوطني للروغبي ، وسيلفيا عملت مدرسة ، كانت العائلة نموذجية إلى حد ما ، و ارخميدس الأب محبوبًا من جيرانه وحريصاً على كسب احترامهم ، وكانت العائلة لا تفوت صلاة الأحد في الكنيسة الخاصة بذلك الحي.
ارخميدس والطاغية :
بعد أن نجح الدكتاتور خورخيه فيديلا في انقلابه ضد إيزابيل بيرون عام ١٩٧٦ عمل ارخميدس ضابطاً في المخابرات العسكرية في فترة حكم فيديلا التي استمرت حتى سنة ١٩٨٣ ، كانت أحد أشد فترات الحكم حلكة ، حيث اختفى فيها حوالي ثلاثون الفاً من المعارضة * وكان ارخميدس أحد الأسماء التي تقف خلف تلك الاختفاءات القسرية ، بعد أن فشل الدكتاتور في حرب استرداد جزر الفوكلاند من بريطانيا قامت ضده احتجاجات واسعة نجحت في إزاحته و تهيئة البلاد للحكم الديموقراطي.
كان ارخميدس أحد المتضررين من إزاحة الطاغية فيديلا واستغرق في التفكير في وسيلة لا تجعل المستوى المادي للأسرة يتأثر من فقدانه امتيازاته السابقة وهداه عقله الشيطاني إلى فكرة جهنمية ، اختفاءات قسرية لكن لمصلحته الشخصية هذه المرة ،
خطط ارخميدس لخطف ضحاياه لطلب فدية ثم قتلهم |
جمع ارخميدس ابنيه أليخاندرو ودانيال ومعهما ثلاثة من أصدقائه هم روبرتو دياز وجليرمو فرنانديز وردولفو فرانكو الذي كان عقيداً متقاعداً الذي كان صديقا لارخميدس في العمل وصاحب خبرة ، الخطة تقوم على اختطاف شخصيات ثرية وطلب فدية من ذويها لإطلاق سراحها وبعد الحصول على المال يتم التخلص من الضحية فورًا ونهائيًا واقتسام المبلغ فيما بين الجميع ، لقيت الخطة قبول فوري دون أدنى تفكير أو تأنيب ضمير ، واقترح ارخميدس ضرورة البدء في تنفيذ الخطة.
أبرياء وأبالسة :
الضحية الأولى كان ريكاردو مانوكين ، لاعب المنتخب الوطني للروغبي وصديقا للابن الأكبر أليخاندرو ، ليس صعباً أن تخمن أيها القارئ أن أليخاندرو هو من اقترح اسم هذا اللاعب كي يكون أول ضحية ، وتخيل معي حجم خسة ودناءة و وحشية أليخاندرو وهو يعلم المصير الأسود الذي ينتظر صديقه الذي كان كل ذنبه أنه أبن عائلة غنية وصديقا لنذل لم يرى فيه سوى صيدًا ثميناً.
قامت العصابة بقتل ريكاردو بعد أن استلمت مبلغ الفدية |
الخطة كما أسلفنا في بداية المقال ، يتظاهر أفراد العصابة بأن عجلة السيارة قد تعطلت في طريق ، يعلمون سلفًا أن الضحية ستمر فيه وأنهم بحاجة إلى التوصيل ، بالطبع لم يرفض ريكاردو توصيلهم ، في ٢٢ يوليو ١٩٨٢ م وبعد نجاحه في اختطافه اتصل ارخميدس بوالد الضحية وأخبره أن أبنه رهينة لديه و أن عليه أن يدفع ٢٥٠ ألف دولار إن كان يرغب في عودة أبنه سالماً إلى المنزل محذراً إياه من تبليغ الشرطة وإلا سيتم قتل أبنه فوراً ، وبالرغم من أن والد ريكاردو ألتزم بما أملاه عليه ارخميدس ولم يخبر الشرطة بأي شيءٍ و دفع له المبلغ كاملاً ، إلا أن حياة ريكاردو ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً انتهت على يد ارخميدس بثلاث طلقات في الرقبة .
الضحية الثانية كان المهندس ادواردو أوليت الذي تم اختطافه في ٥ مايو ١٩٨٣ م ، دفعت عائلته ١٥٠ الف دولار مقابل إطلاق سراحه و وُجدت جثته بعد أربع سنوات من مقتله .
صور ضحايا عصابة بوتشيو |
الضحية الثالثة كان اميليو ناعوم ، والذي كما أسلفنا تركت جثته في الشارع ، حضرت الشرطة وأسفرت التحقيقات الأولية عن احتمالية ضلوع ارخميدس وأشخاص معه ، لكن لم يتواجد لديهم دليل يؤكد تورطه ولم يستطيعوا القبض عليه .
الضحية الأخيرة كانت العجوز الثرية ذات الستون عاماً نيلدا بيلوني ، والتي كانت تمشي وحيدة في الشارع واختطفها ارخميدس وأبناءه في ٢٣ أغسطس ١٩٨٥ و اُختفت لشهر كامل في قبو منزل ارخميدس ، كانت تنتحب فيه ليلاً ونهاراً وكانت العصابة ترغب في التخلص منها بسرعة قبل مرور ذلك الوقت لولا مماطلة أبناءها الذين رضخوا أخيراً لطلبات ارخميدس واتفقوا معه على اللقاء في احدى محطات البنزين وتسليمهم المبلغ هناك ،
صورة للضحية العجوز الثرية نيلدا بيلوني |
في اللحظة التي استلم فيها ارخميدس ومن معه المال و كانت أفراد من الشرطة تتواجد هناك للقبض عليهم إذ أتضح أنهم يراقبون تحركات ارخميدس بعد أن حامت الشكوك حوله في قضية مقتل المهندس الأخيرة .
صورة للقبو الذي كانت عصابة بوتشيو تحتجز ضحاياها فيه |
كان خبر القبض على المتورطين في قضايا الخطف الخبر الأبرز في الصحف والقنوات الإخبارية ، لم يستطيع جيران ارخميدس التصديق بأن جارهم الودود المتورط الأول في القضية المرعبة ، كما لم يصدق أفراد لاعبي منتخب الروغبي وكانوا يدافعون عن زميلهم أليخاندرو و يؤكدون براءته .
اعتقلت الشرطة ارخميدس و أبنيه اليخاندرو و دانيال |
في المحكمة وعندما تم استدعاء أليخاندرو لأخذ أقواله حاول الانتحار بالقفز من الطابق الخامس لكنه عاش بمضاعفات خطيرة.
حُكم على الأب وابنيه أليخاندرو ودانيال بالسجن مدى الحياة ، تمكن دانيال من الهروب من السجن والخروج من الأرجنتين ، و في عام ٢٠١٩ م تم القبض عليه في البرازيل لحمله أوراق هوية مزورة ، بالنسبة لاليخاندرو فقد حاول الانتحار في السجن أربع مرات ، و نظراً لظروفه الصحية حكمت له السلطات بإطلاق سراح مشروط ، و في ٢٠٠٨ م توفي نتيجة التهاب رئوي .
حاول اليخاندرو الأنتحار لكنه عاش بمضاعفات خطيرة |
ارخميدس ظل ينفي كل الاتهامات الموجهة له ويؤكد براءته من تلك التهم حتى وفاته ٢٠١٣ م بسكتة دماغية ، لم يحضر أحد جنازته حتى زوجته ولم يطالب أحد بجثته وتم دفنه في مقبرة غير معروفة.
اطلقت السلطات سراح ارخميدس و عاش وحيداً حتى مماته |
تم القبض على الأم وسلفيا و لكنهما أكدتا انهما لا تعرفان شيئاً عن عمل الأب ، كان تصديق ادعاؤهما صعباً إذ كيف يُعقل أنهما تعيشان في نفس المنزل دون أن تسمعا صرخات الضحية واستغاثتها كما ، أنه لا يمكن تصديق أنهما لم تحتاجا للقبو ولم تذهبا اليه طوال تواجد الضحية فيه ، ولكن أُفرج عنهما بعد سنتين لعدم كفاية أدلة تورطهما ، أما الابنة الصغرى أدريانا أتضح أنها لم تكن تعلم شيئاً إذ كانت في سنوات مراهقتها الأولى ونأى بها ارخميدس عن أعماله حتى تعيش حياة هادئة ،
هرب جليرمو قبل القبض على عائلته ، و يُقال أنه لم يستحمل أعمال عائلته الإجرامية عندما علم بها و بدأ حياة جديدة باسم جديد في أستراليا لاعباً في رياضة الروغبي تماماً مثل أخيه ، أما سيلفيا فقد ماتت من السرطان عام ٢٠١١ م.
أما الأم وأدريانا فقد اعتزلتا الجياة الاجتماعية بعيداً عن أعين الصحافة |
تبقى من العائلة الأم وأدريانا التي تعيشان باسم جديد أيضاً وكلتاهما تعيشان في نفس منزل العائلة حياة انطوائية بعيدًا عن الناس والصحافة المتعطشة لأخبار الأسرة التي عاشت حياة مزدوجة ، ولم تتزوج أدريانا حتى الأن وفضّلت الحياة منعزلة مع والدتها التسعينية .
في ٢٠١٥ م تم أنتاج الفيلم السينمائي the clan و القائم على القصة الحقيقية لعائلة بوتشيو ، و أعاد الفيلم تلك الأحداث إلى الأذهان من جديد محققًا نجاحًا جماهيريا كبيرًا ، وقد حاول مخرج الفيلم عبثاً التواصل مع أدريانا و والدتها لكنهما رفضتا .
تم أنتاج فيلم سينمائي عن تلك العائلة المجرمة |
ما يميز قصة ارخميدس هو كيف جمع بتطرف بين الحنان والوحشية ؟ فهذا الشخص الذي كان أباً رائعًا ومثالًا في الدعم والعطاء وحب الأبناء ، هو ذاته الوحش الذي غادرت أرواح كُثر هذا العالم من بوابته ، وشيطاناً إن كان قد أجبر على إزهاق الأرواح في سجون النظام فهو لم يُجبر على إزهاقها في بيته ، وقد يكون في تخلي أبناءه عنه وبقاءه وحيداً عقاباً لجعله يفكر في كثيرين ممن حرمهم فلذات أكبادهم وحكم عليهم بالحزن الأبدي ، و لم يبقي لهم سوى آهات موجعة صداها لعنات تلاحقه حتى بعد رحيله لسنوات وسنوات .
ملاحظة :
*حركة امهات مايو انتفاضة قامت بها ١٤ أم شجاعة متحديات النظام المرعب في قمة جبروته وخرجن أمام قصر الرئاسة حاملات صور أبناءهم المختفين ومطالبات بمعرفة أماكنهم وازدادت أعداد الأمهات بشكل رهيب حتى لفتن لهن أنظار العالم مستغلات تنظيم الأرجنتين لكأس العالم والتغطية الدولية عام ١٩٧٨ م وأصيب النظام الوحشي بالحرج ، أتضح لاحقاً أن عدد من أولئك الأربعة عشر المبتدئات بالحملة قد اُختطفن من قبل النظام وتم قتلهن و رميهن في مقابر جماعية.
مصادر :
https://en.m.wikipedia.org/wiki/Puccio_family
https://www.wsj.com/articles/the-double-life-of-an-argentine-clan-1458055857
https://www.mirror.co.uk/news/real-life-stories/clan-hits-cinemas-read-true-8773194
تاريخ النشر : 2020-06-11