حائط بلانك : النقطة التي توقف عندها العلم
اياك ان تقترب من بلانك .. سيبتلعك ويدمر العالم! |
وبما أنك فتحت مقالي لتقرأه عزيزي القارئ فرجاءا أفتح عقلك على مصراعيه، وأسمح لي أن أحدثك اليوم عن حائط بلانك النقطة التي توقف عندها العلم
لقرون ظنوا ان الذرة اصغر ما في الكون |
كان الإعتقاد السائد قديما أن الذرة هي أدق وأصغر شيء في الوجود على الإطلاق، وكي تتخيل حجم تقريبي للذرة فهي أصغر 100,000 مرة تقريبا من أي شيء تراه بالعين المجردة!، وأستمر هذا الإعتقاد لقرون طويلة إلى أن تم إكتشاف ما هو أصغر من الذرة ..
أول تصور لفكرة وجود شيء لا يوجد أصغر منه يرجع لعام 450 قبل الميلاد على يد الفيلسوف الأغريقي الشهير ديموقرطيس، حيث نشر بين الناس فكرة رائجة أثارت فضولهم في التفكير عن أصغر جسيم موجود على وجه الأرض، وكانت الفكرة تكمن في تفاحة وقمنا بتقطيعها لشرائح وتسائلنا هل يمكن تقطيعها مرة أخرى؟ سنجيب بنعم نستطيع تقطيعها مرة أخرى، وبعدها سنتسائل هل يمكن تقطيعها مرة أخرى ونستمر بالإجابة نعم نستطيع تقطيعها لقطع أصغر وأصغر وأصغر إلا أن نصل لقطعة صغيرة جدا من التفاحة لن نستطيع مسكها بأي آلة من الأساس لنقطعها، وأطلق على هذه القطعة الصغيرة (Atmos) وهي الكلمة اليونانية المشتق منها كلمة ATM أو الذرة – أي الشيء الغير قابل للتجزيء –
في القرن الـ 19 وتحديدا في عام 1803م كانت أول مرة يتم فيها إثبات وجود الذرة علميا، وذلك على يد الكيميائي البريطاني جون دالتون .. جون كان يدرس ضغط الغازات المختلفة وحتى نظريته الشهيرة عن الذرة، والتي كان يقول فيها أن الذرة هي أصغر ما يطلق عليه مادة وهو شيء غير مرئي ولا يمكن تقسيمه أو تدميره، وأن كل مادة تتكون من مجموعة من الذرات التوائم يحملون نفس الخصائص بالضبط، ووجودهم مع بعض بنمط مختلف ونسب مختلفة يصنعون مركبات مختلفة وهذا ما يجعل هناك تنوع في المواد الموجودة في الطبيعة، أما بالنسبة للتفاعلات الكيميائية في الطبيعة فقام جون بوصفها على أنها مجرد تغيير في ترتيب الذرات مع بعضها البعض، فعند تغير نمط الترتيب يتحول المركب لمركب آخر
رسم الذرة بواسطة الضوء يسار – رسم الذرة بواسطة تيار كهربائي يمين |
طوال القرن الـ 19 ومعظم القرن الـ 20 كل الكلام عن الذرة والتجارب التي أجريت عليها كانت تتم دون معرفة شكلها الحقيقي، وأول مرة يتم فيها رؤية الذرة كان بإستخدام ميكروسكوب أسمه STM (وهذا مختلف طبعا عن الميكروسكوب الضوئي الموجود في معمل المدرسة ) وفي الحقيقة هو كان بمثابة رسام للذرة، حيث كان يرسم حدود الذرة وشكلها الخارجي ولكنه لم يصورها صورة حقيقية، وهذا عن طريق وجود تيار كهربائي من الإلكترونات يسير في أحد أقطاب الميكروسكوب، وبعدها يبدأ يتحرك أعلى وأسفل ويمين ويسار على ذرات المادة التي يحاولون رؤية شكلها، وعند كل نقطة يرصدوا تغيير في شكل الإلكترونات إلى أن يمروا على جميع النقاط الخاصة بالعينة، وبعدها يرسموا بالكمبيوتر شكل تغير التيار الكهربائي عند كل النقاط التي عملوا عليها إلى أن يخرج لهم شكل تقريبي للذرة
في عام 1897م إكتشف الفيزيائي البريطاني جون طومسون وجود الإلكترونات كجزء من الذرة، وذلك كسر بند من بنود نظرية جون دالتون التي كان يقول فيها أن الذرة لا يمكن تدميرها أو تقسيمها لأجزاء أصغر منها، وأتضح وجود الإلكترونات كجسيمات دون ذرية مع وجود البروتونات والنيوترونات كبنية أساسية للذرة
في عام 1964م أقترح عالمين الفيزياء موري جيلمان و جورج زويج نموزج لجسيم أصغر من الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات، ألا وهو ( الكوارك ) .. الكواركات هي جسيمات دون ذرية يتكون منها جسيمات ذرية مثل البروتونات، وكل 3 كواركات مع بعضهم يكونوا نيترون، والنموذج الذي تم وضعه عن الكوارك يقول أن أحجامهم تكاد تكون منعدمة ولا يمكن وصفهم بأحجام من الأساس، لكن مع ذلك نظريا تظل هناك قيمة لنصف قطر الكوارك وبالتالي له كتلة مهما كانت صغيرة، ووفقا لتجربة إسمها زوس يعتبر الكوارك أصغر 2000 مرة من البروتون (والذي لا نستطيع تخيل حجمه من الأساس)، وأصغر من حبة الرمل بمليون مرة تقريبا
رسم الذرة بواسطة الضوء يسار – رسم الذرة بواسطة تيار كهربائي يمين |
وقبل ذلك وتحديدا في عام 1930م تم إكتشاف جسيمات شبيهة بالكواركات ولكن مقارنة بكتلتها فهي تمتلك كتلة أصغر من الكوارك بمراحل تعادل صفر تقريبا، ونظرا لهذه الكتلة الصفرية فهي تمتلك سرعات قريبة جدا من سرعة الضوء، وهذه الجسيمات هي (النيوترينو) .. النيوترينو موجود في كل مكان في الكون، في النجوم والكواكب وحتى في الخلايا الموجودة في أجسامنا، وفي كل ثانية يمر عشرات الآلاف من جسيمات النيوترينو خلال جسمك، والتي تتفاعل بشكل غامض مع كل الخلايا، ويتم إنتاج هذه الجسيمات من خلال الأشعة الكونية التي تتصادم بالذرات أو التفاعلات النووية في النجوم وأيضا الإنحلال الذي يحدث للذرات نفسها، وفي الحقيقة ما نعرفه عن النيوترينو أقل من القليل
والآن بعد أن مررنا على مستويات ذرية كثيرة وعرفنا كيف تكون الأحجام متناهية الصغير لدرجه يصعب معها تخيلها فدعني أخبرك أن العلم عندما حاول نظريا وعلى الورق ينزل لمستويات أعمق من ذلك في الصغر وصل لطول معين وبعدها وقف !!، وهذا الطول أسمه طول بلانك (Planck length ) كل القوانين التي تخص النظرية الفيزيائية الكمية عجزت تماما عن وصف المكان والزمان والجاذبية عند أطوال أصغر من طول بلانك، والذي يساوي تقريبا 1,6×10^-35 من المتر “واحد فاصلة ستة في عشرة أُس سالب خمسة وثلاثون من المتر ” .. وعلى سبيل التبسيط لو أتينا بمسطرة طولها متر وقمنا بتقسيمها لـ 160,000 تيريليون تيريليون مليون جزء وقتها الجزء المتناهي الصغر الذي خرجنا به منذ قليل هو طول بلانك، ولو أردنا أن ننزل لهذا المستوى من الطول فالتعريف الفيزيائي للطول نفسه سيختل لأن لم يعد هناك معنى لكلمة طول، ووقتها نستطيع أن نتخيل الفضاء والمكان والزمان على هذا البعد أشبه برغوة غير متماسكة من الصابون، نسيج هش للغاية ولا يعبر عن أي شيء من الذي نعرفه عن نظام الأبعاد الذي نصف به أي مكان
اي تجربة خاطئة قد تؤدي لخلق ثقب اسود |
ويزعم العلماء أن أي تجربة ستحدث على مستوى طول بلانك قد تؤدي لصنع ثقب أسود حقيقي مثل الموجود في الفضاء، والذي لديه القدرة على أبتلاع الكوكب بالكامل، وذلك لأنهم يتعاملون مع حيز ضيق بشكل إستثنائي يسمح بتكون ظروف الثقوب السوداء، وأبسط الطرق لتخيل طول بلانك هو أن ترمي شيء ما في الكون المدرك، مقارنتك بهذا الشيء الذي يسبح في الفضاء بحجم الكون الواسع كأنك قارنت طول بلانك بالمسطرة!، وحتى إن لم تستطيع أن تتخيل الفرق بينهم فلا داعي للقلق يا صديقي لأن مثلما قلت هذه نقطة العلم نفسه توقف عندها
ومثلما ذكرنا أدق الوحدات التي نستطيع من خلالها وصف أبعاد المكان سنحتاج نربط الزمان بالمكان لأنهم في الحقيقة مرتبطين ببعضهما في نسيج ( الزمكان ) عندما نرجع للحظة الإنفجار العظيم منذ حوالي 13.8 مليار سنة ونحاول معرفة ماذا حدث قبل لحظة تمدد الكون، قبل اللحظة التي خرج منها المادة والطاقة وحدث التمدد السريع للكون وخرج منها الأجرام السماوية التي نعرفها من كواكب ونجوم ومادة مظلمة ومجرات وكويكبات ونيازك وغيرها .. ستقف عاجز مع العلماء أمام هذا التساؤل لأنك أصطدمت بأدق وحدة زمنية نستطيع من خلالها مراقبة الكون ألا وهي زمن بلانك ( Planck time ) والتي تساوي تقريبا -43^10 جزء من الثانية، في هذه الفترة الزمنية لا يمكن وصف أو تخيل أي حدث يحدث أثناءها، ولذلك كل ما نعرفه عن الإنفجار العظيم هو ما بعد -43^10 جزء من الثانية بعد لحظة الإنفجار، لكن قبل ذلك يستحيل يستحيل فيزيائيا وصف ما كان قبل الإنفجار
مهما تقدمنا في العلوم والتكنولوجيا وغيرها سنصطدم بحائط صد في النهاية تعجز عقولنا أن تضع أي نظرية أو فرضية نتصور بها ما وراء هذا الجدار، لأنها الصنعة الإلاهية التي لا دخل لنا بها ولا يستطيع أي إنسان على وجه الأرض أن يجزم ويصف لنا ما الذي موجود وراء الحائط، إذن يا أصدقاء فعقولنا كالبصر وكالسمع وكالشم لها حدود يستحيل تجاوزها
وطبعاً كالعادة لمن يود المعرفة أكثر عن حائط بلانك والأجسام الذرية يتوجه للمصادر بالأسفل لأنني أختصرت المقال قدر المستطاع كي لا أطيل عليكم
– ياترى هل أنت من محبي علوم ميكانيكا الكم ؟ .. وهل له علاقة بدراستك ؟ ..
– وهل كان المقال مفيدا ؟ .. وهل كنت موفق في شرحه بشكل جيد أم لديك أي نقد (سأتقبله بكل رحابة صدر)
– وأي من العلوم تفضل ؟ .. فيزياء .. كيمياء .. أحياء .. رياضيات .. جيولوجيا .. إقتصاد .. إجتماع .. نفس .. إلخ
مصادر :
– What Is an Atom?
– We All Might Be Living in an Infinite Hologram
– What Is The Smallest Possible Distance In The Universe?
– Planck length – Wikipedia
تاريخ النشر : 2021-01-19