حكايته مع البحر
كان يعشق الصنارة و يجد في تلك العزلة وسط المحيط ملجأ له |
فيرد بكل عفوية ” إلى ذلك الكرسي على رصيف الكورنيش ”
إستمتع دوما بالقيادة على ذلك الطريق الواسع شتاءا أم صيفا ، و أتمتم بيني و بين نفسي بكلمات تعبر عن جماله و رونقه ، كان لذلك اليوم نكهة خاصة بالنسبة لي إذ أنني أسافر لبعد آخر بعيدا عن أزقة المدينة الشعبية و منازلها التقليدية الطينية.
كان فقط يتأمل المحيط الأزرق و سبحان من سخر محيطا آخر داخل مقلتيه ، لا تكاد تميز لون السماء في يوم ربيعي لطيف منهما ، كنت أقرأ دوما في ملامح المارة على ذلك الرصيف المرصع بأحجار بيضاء قصصا مختلفة و متشابهة في آن واحد ذلك لأنها موصومة دوما بالحزن ، كان طريق الكورنيش طويلا و في نهايته من جهة الشمال كشك هدايا صغير مزخرف بأضواء تبعث على البهجة ، بهجة لم تنعكس على القاصدين ، إذ أنني وددت لو أرى سراب إبتسامة يلوح في أفق خلائقهم ، لكن كل ما أتذكره هو أشخاص واقفين بأعين خفت بريقها يشكون همهم لمعجزة من معجزات الطبيعة عكسه هو الذي كان دوما مبتسما شاحضا ينظر للبحر ، يتأمل قوته و تلاطم أمواجه فيرى في تلك اللوحة جمالا لم يقدر أحد آخر على رؤيته ، ملامحه التي طلاها الكبر تحكي قصة حياة كاملة فذلك الوجه الرجولي الطويل و شعره المنسدل الذي إشتعل شيبا سيطفوان دوما في بحر ذاكرتي.
ربت على كتفي كمن يذكرني بشيئ نسيته ثم قال ” أنا أحب المحيط يا عاطف أتعرف هذا ؟ ”
صدرت من فاهي ضحكة خافتة فقد ألفت هذه العبارة و أجبته ” أنا عليم بهذا يا سيد حسن ”
أردف قائلا ” لقد فقدت والدي بين براثنه ”
عجبت لأمره فهو لم يتلفظ قط بأكثر من عبارته الأولى ثم قلت
” لم تسرد على مسامعي هذه الكلمات من قبل ”
فرد و قد عدل جلسته كجد سيحكي لحفيده الصغير قصة ما قبل النوم و قال
” آآه… لقد كان صيادا يصارع للقمة العيش ، لم يختر المهنة ليهرب من الفقر بل إختارها لأنه سقي حبها عن جدي رحمه الله ، كان يعشق الصنارة و يجد في تلك العزلة وسط المحيط ملجأ له بعد أن فقد أمي في منتصف قطار حياته بعد كفاحها الطويل مع المرض ، كان يأبى أن يأخذني و يحبذ إبقائي بين جدران المنزل رغم أنني تركت الدراسة مبكرا ، لم ألمه قط ففقدان حبيب واحد أمر صعب أما إثنان فهو أمر يستحيل العيش معه ، لم نلق من عمله ذلك الكثير لأكون صريحا لكنه وفر لنا منزلا قديما قريبا من الميناء له سحر خاص بلمسة عريقة فقد عبق دوما برائحة الندى و الخشب ، أتذكر أنه كان يوما شتويا خالصا حينما دخل علي و أنا متكأ في غرفتي أقرأ أحد المجلات و قال لي ” إنه ذلك اليوم يا فتى ” لم يضف كلمة أخرى فهو يدري أنني كنت أترقب منذ وقت طويل ، بحماس كبير سرت خلفه و إحساس بالقوة يخالجني ، فقد كان رجلا ذا كلمة و مبدأ كما أن عقلي الصغير صور لي ذلك المعطف الجلدي على أنه لباس رسمي يزيده همة ” كح للحظة و غمغم بكلمات دارجة ثم توقف عن الحديث لوهلة لكنه سرعان ما أعقب ” أحسست بيني و بين نفسي أن ذلك اليوم كان سيئا لكنني لم أشأ أبدو متشائما و ها أنا ذا أدرك الآن أن مرارة التشاؤم تلك لحظة أما إنعكاسها كان ليدوم لوقت طويل…
هاه! إن لم تخني ذاكرتي يا بني فقد كانت السماء مكفهرة بلقاء ، تلقي بالوابل علينا بلا هوادة ، أحسست كأنها سجن ضخم ربطنا وسط البحر ، رأيت في نظراته بينما كان يعارك المقود و هو يقاوم أنه أدرك أن ما قام به خطأ ، لمست الإعتذار في كلماته… كلماته الأخيرة ، لا أذكر تحديدا لم خرج من القمرة لكنني إستدرت و رأيته واقفا بطوله الفارع و لحيته السوداء الضخمة يبتسم لي من تحت تلك القلنسوة السوداء التي لا تفارق رأسه قبل أن تضربه موجة سمت بعلوها فوق كل شيئ ، و إختفى في لحظة بلمح البصر دون أدنى أثر ، لن أكذب حين أقول أنني لعنته بين طيات بكائي طيلة تلك الليلة لكنني أفتقده و سأفتقده دوما ، كان قد أرسل عدة نداءات إستغاثة قبل أن يخرج و يبدو أن أحدا منها وصل لأناس يقدرون على المساعدة و أندم اليوم يا بني ، أندم لأنني تمنيت الموت بعد رحيله أكثر من مرة على أن أضع ثقتي بالله ”
تلثمت بالصمت فلا قول بعدما ما قاله سوى الإعتذار و قد أخرجته من أعمق نقطة في قلبي ” لو تعلم حجم أسفي يا سيد حسن… ” قاطعني بتلك الإبتسامة غير المصطنعة التي لا تفارق وجهه و قال ” لا داعي لذلك يا بني… ”
صمتنا كان سيد الموقف للحظات بعد تلك القصة ، لكن رذاذا من تلك المياه المالحة جعلته يستفيق كرضيع رأى حلما سيئا و يخرج من فاهه كلمات جعلت كل ما أسميه مشاكلا و هموما تتهاوى في لحظة كمبنى مهترأ يسقط
” قالوا أن ولداي غرقا… لكن بين شرايين قلبي الذي سيتوقف قريبا إحساس أنهما أحياء ”
” و ماذا يختبئ خلف تلك العبارة يا سيد حسن ” سألت بإختصار ،
رد و هو يذرف من مقلتيه دمعات صافية ” لم أعرف هل سأما الحياة أم سأما الوطن… ”
قاطعته قائلا ” أردد دوما أن الوطن هو مكان إجتماع الأحبة أينما كانوا “
رماني بنظرة دافئة ثم واصل حديثه ” أنت شاب حكيم يا عاطف ، نعم هو كذلك… لقد كانا توأمين ، ذكيان جدا و لامعان جدا ” أقحم يده في سترته السوداء الصوفية و سحب منها صورة صغيرة قدمها لي ، أمسكتها برفق و تصفحتها فإذ بي أرى شخصا واحدا في هيئتين ، شعر طويل أسود ، فم عريض و جذع طويل ، ناولته الصورة بنية إعادتها له فأمسك بيدي و قال بنبرة خافتة و حازمة ” إحتفظ بها… فأنت بمثابة الولد الذي لم أحظى به و بمثابة الأخ لهما الآن ”
” شرف لي أن أكون كذلك ” قلت باسما ، فجاراني في ضحكتي و تكلم سائلا ” هل لك في هذه الحياة زوجة ؟ ”
” لا يا سيدي ، أنا أعيش في منزل العائلة ” أجبت و قد غلبني الحزن لكنه واصل ” إنه لشيئ جميل أن تجد من ينكسر معك فقط كي لا يجعلك تشعر بالإختلاف… أتعرف لقد ظلت زوجتى تبقي الباب مفتوحا طوال إثنا عشرة عاما على أمل قدومهما مرة أخرى و تستفيق كل يوم لأداء صلاة الفجر ثم ترفع يديها للسماء و تلقي بدعائها تضرعا ، حتى في لحظاتها الأخيرة في هذه الدوامة الفانية أوصتني أن لا أنساهما… لا زلت أتذكرها ، كان لها وجه طفولي ملائكي و عينان عسليتان تكاد تقتنع أن الشهد موجود وسطهما ”
فكرت في نفسي ” أي قوة يملكها هذا الرجل ليجلس مجاورا البحر كل أسبوع بعدما سلب منه أغلى ما يملك ” ثم سألته قاصدا الإجابة ” أي إيمان هذا يا سيد حسن… أي قصة بينك و بين الله ؟ ”
فرد ” إنه ذلك الإيمان الذي لا خطيئة بعده و لا إنحراف، إنها تلك القوة التي تجعلك تسير بين الناس و أنت تشعر أنك محمي منهم ”
صمت للحظة ثم قال ” أتعرف لما آتي هنا كل أسبوع يا سيد عاطف ؟ ”
أومأت برأسي رافضا، فقال ” إني آمل و الأمل يولد من الألم أن أرى قاربا آتيا من الأفق و بين ركابه توأمان يلوحان لي بغبطة ”
” لقد أخزيتني يا سيد حسن بعمق إيمانك و أنرت بصيرتي لحياة أخرى ” قلت تلك الكلمات و الدمع قد غلب صلابتي ، لكنني جعلت ملامح الإبتسامة تلوح على محياي و سألته ” هل لك رغبة في تناول العشاء مع العائلة ؟ “
رد و قد ظهرت ضرسه الذهبية من إتساع إبتسامته ” و هل سأرفض عرضا مثل هذا ”
إستند علي في مشيته القصيرة تلك للسيارة و قبل أن يلجها قال لي حكمة تلخص الحياة ” الناس كالشموع يا سيد عاطف يتوهجون عند اللقاء و يخفتون بعده رويدا رويدا إلا الأحبة فهم كضوء الشمس يتوارون عن الأنظار ، لكنك متيقن من عودتهم “.
دلف ذلك الرجل منزلنا و جلس على طاولتنا و تعرف على أقرب الناس لقلبي ، كنا ثلاثة أنا و والدتي الحبيبة و أختى الصغرى ، أجلسناه مجلس والدنا الراحل على الطاولة ، و ضيفته أماه أحسن ضيافة فقد كانت تسمو بأخلاقها دوما و ترحب بكل من أقبل ، لا زلت أتذكر بعضا من ملامحها ، أنفها المستدق و شعرها البني ، دفئ تذكرها ينسيني شتائي ، كنا و أختي نسخة عنها في كل شيئ.
مصابيح صفراء خافتة أضاءت عتمة منزلنا و غرفة طعامنا ذات اللون البني لكن إبتسامته زادت المكان ضياء و أعطته روحا جديدة ، مررت به عبر بوابة الدار مرة أخيرة و أجلسته بنفسي على تلك الأريكة الرمادية القديمة التي تتوسط القاعة الرئيسية المفتوحة بجانب صديقته بريدجت التي أمضت حياتها كلها مغتربة و قد أكلتها الوحدة و لم تبقي على جمالها سوى الحروف ، كان ذلك وداعنا الذي ليس بعده وداع ، أنا أجهل لحد هذه الدقيقة لما قرر أن يفتح ينبوع كلماته علي و يلقي بثقله على كتفي لكنني أكملت ما بدأه و جلست وحدي أسبوعا بعد أسبوع فوق ذلك الكرسي أنتظر مثل إنتظاره و لن أقطع تلك العادة ما دمت أتنفس ، بنفس نظراتي المتفائلة للحياة أبرق عيني في مكانه الفارغ بجانبي و أصرح بكل يقين ” كنت من أجمل العابرين في حياتي ”
النهاية…
تاريخ النشر : 2019-11-14