زوج الأم
كل شيء كان يسير على ما يرام، حتى ظهر ذلك الرجل فجأة في حياة الأم مبديا قدرا كبيرا من اللطف والطيبة في تعامله مع أبناءها، لكنهم لم يرتاحوا لوجوده، ارتابوا في تصرفاته، وحملتهم شكوكهم إلى نبش ماضيه والبحث في صفحات حياته المطوية، ليكتشفوا في النهاية بأن الرجل “الطيب” الذي أحضرته أمهم إلى البيت لم يكن في الحقيقة سوى سفاح خطير فار من وجه العدالة.
ملصق فلم “زوج الأم” |
قصة فلم “زوج الأم” (The Stepfather ) ليست جديدة على الشاشة، فخلال العقود المنصرمة، أنتجت هوليوود العديد من الأفلام ذات الحبكة المشابهة، وأعني هنا قصة الرجل الغريب ذو الشخصية المحببة المحترمة الذي يظهر فجأة في حياة العائلة، كجار أو حبيب أو زوج .. الخ، مستحوذا على أعجاب الجميع، باستثناء شخص واحد سيقوم بالبحث في ماضي هذا الغريب فيكتشف بأنه مجرم هارب أو سفاح خطير، ومن هنا تأخذ أحداث الفلم بعدا دراماتيكيا متصاعدا يقود في الغالب إلى نهاية دموية عنيفة. وكما أسلفنا، فأن القصة ربما كانت مكررة بالنسبة للكثيرين، لكن الوقائع الحقيقة التي اقتبس منها المؤلف وكاتب السيناريو قصته ربما كانت جديدة تماما بالنسبة لمعظم القراء.
مقطع اعلان ترويجي للفلم |
فلم “زوج الأم” يصنف ضمن نطاق أفلام الغموض والجريمة والرعب، لاقى الجزء الأول منه نجاحا كبيرا عند عرضه في صالات السينما أول مرة عام 1987، حيث نال على أعجاب الجمهور وحاز استحسان النقاد، فأستحق بجدارة مكانته ضمن قائمة أفضل 100 فلم رعب في تاريخ السينما، وهو الأمر الذي دفع بالمنتجين إلى صناعة أجزاء أخرى للفلم، لكنها للأسف لم ترقى أبدا إلى مستوى النجاح الذي حققه الجزء الأول، ربما لأن القصة أصبحت مكررة.
في عام 2009، عرض في صالات السينما الأمريكية فلم يحمل نفس العنوان، زوج الأم، وهو من بطولة ديلان والش (Dylan Walsh ) و سيلا وارد (Sela Ward )، وهو في الحقيقة ليس جزءا جديدا لفلم عام 1987، لكنه مجرد إعادة تمثيل أو نسخة محدثة من الفلم القديم بوجوه وتقنيات جديدة، لهذا تعرض الفلم لهجوم لاذع من قبل النقاد، فهو لم يقدم شيئا جديدا أو مختلفا عن الفلم الأصلي سوى في بعض الجزئيات الصغيرة، لكن على الرغم من ذلك الهجوم والنقد، تمكن الفلم من استعادة الملايين العشرين التي تكلفها أنتاجه وحقق عشرة ملايين دولار أخرى كأرباح.
الفلم يبدأ بمشهد لسيارة موزع الجرائد وهي تتوقف قبالة احد المنازل، يرمي الموزع نسخة من الجريدة باتجاه الباب، ثم يلتفت نحو المنزل المجاور الذي تعلو جدرانه زينة أعياد الميلاد، يدقق الفتى في قائمة المشتركين للحظة ثم يغادر من دون أن يرمي الجريدة بعد أن يلاحظ إلغاء صاحب الدار لاشتراكه.
لقطات من الفلم |
في داخل المنزل، يقف رجل ملتحي أمام مرآة كبيرة في الحمام، نشاهده يصبغ شعره بلون داكن، يحلق لحيته بهدوء، يستبدل عدسات عينه اللاصقة، ثم يظهر مرتديا ملابسه كاملة، يهبط السلم ويتوجه إلى المطبخ مارا بصف طويل من الصور العائلية، يضع قطعة من الخبز في المحمصة، يعد لنفسه كوبا من القهوة ويجلس ليتناول فطوره على مهل .. وجهه يخلو من أي مشاعر، فكل شيء حوله يبدو طبيعيا، لكن الموسيقى المصاحبة للمشهد ستجعلنا نتوجس في حدوث أمر غير طبيعي، وبالفعل، حين تستدير الكاميرا حول الرجل سنرى مشهدا فضيعا في الخلفية المطلة على غرفة المعيشة، إذ تتناثر هنا وهناك جثث زوجته وأطفاله الثلاثة، لكنه لا يعيرها أي اهتمام، ينتهي من تناول فطوره بهدوء، ثم ينهض ليضع كوب القهوة الفارغ في مغطس تنظيف الصحون حيث سنلمح بصورة خاطفة كومة من السكاكين والفؤوس الملوثة بالدم والتي على ما يبدو كانت أداة الجريمة.
الرجل يهم بمغادرة المنزل، يلتقط حقيبتين كبيرتين، يتوجه نحو الباب لكنه يتوقف للحظات، يومض في رأسه مشهد مقتل أبنته، مما يؤكد شكوكنا في أنه هو من قام بقتل عائلته، نلمح مسحة من الانزعاج على وجهه لكنها سرعان ما تتبدد ليمضي الرجل بحقائبه نحو السيارة التي ستطوي به الأرض نحو مدينة وولاية أخرى، هناك سيغير أسمه ويبدأ حياة جديدة، يلتقي بامرأة مطلقة لديها ثلاثة أولاد، يتقابلان صدفة في احد المتاجر الكبرى، يستحوذ على إعجابها بسرعة، وخلال ستة أشهر فقط تتوج علاقتهما بالخطوبة فينتقل للعيش في منزلها، لكن الأمور مع أولادها لا تسير على ما يرام، إذ تتكشف لهم بالتدريج حقيقة الرجل الغريب الذي جلبته أمهم إلى البيت. وفي هذه المرة أيضا، حين تتأزم الأمور، يحاول الرجل التخلص من خطيبته وأولادها لكي يبدأ حياة جديدة، أي كما فعل مع عائلته السابقة .. لكن هل سينجح في مسعاه هذه المرة أيضا ؟ هذا ما ستعرفه عزيزي القارئ بمشاهدتك للفلم، فنحن لا نريد إفساد متعة المشاهدة عليك، كما أن الوقائع الحقيقية التي تقف وراء القصة، والتي تعنينا في مقالنا هذا، تكمن في الدقائق الأولى من الفلم، ذلك أن جون لست (John List) لم يقتل عائلته سوى مرة واحدة فقط ..
لكن مهلا .. من هو جون لست ؟
الى اليمين ملصق فلم عام 1987 والى اليسار ملصق عام 2009 |
أنه رب عائلة مثالي، أب محب، محاسب ناجح، لوثري متدين … هكذا يصفه الجميع، أو بالأحرى هكذا عرفوه ظاهريا، فالرجل عاش مع عائلته في سلام وهدوء حسده عليه الكثيرون لسنوات طويلة، كان يقطن مع زوجته هيلين (45 سنة) وأطفاله الثلاثة باتريشيا (16 سنة) جون الصغير (15 سنة) وفردريك (13 سنة) وأمه ألما (85 سنة) في منزل كبير يتألف من 9 غرف يقع في احد أحياء مدينة ويست فيلد – ولاية نيوجيرسي الأمريكية -. وبالطبع فأن رجلا مثله، بصفاته التي ذكرناها آنفا، لم تكن حياته لتثير الآخرين، أي ما كانت لتفتح شهية الألسن النمامة ولا فضول الأعين المتطفلة، لهذا عاش جون لست جل حياته في الظل، لم يسمع به أحد، لكن شاءت الأقدار أن يتغير ذلك كله فجأة ليصبح هذا الرجل محط أنظار الولايات المتحدة بأسرها.
بدء الأمر في ظهيرة يوم 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1971، عندما طوى جون درجات السلم في منزله هابطا نحو الطابق الأرضي، ملامحه كانت طبيعية، لم يكن منزعجا ولا كئيبا، بدا وجهه جامدا بلا مشاعر كأنه رجل آلي يسير بخطى ثابتة لتنفيذ مهمة ما. سار على مهل نحو غرفة المعيشة حيث كانت زوجته هيلين تجلس لمطالعة الصحف، أقترب منها بهدوء، سمعت وقع خطاه لكنها لم تلتفت نحوه ولا انتبهت ليداه التي كانت كل منهما تقبض على مسدس، احدهما قديم يعود لوالده الراحل، والآخر آلي حديث أمتلكه هو لسنوات ولم يفكر يوما باستعماله. رفع فوهة المسدس نحوها، ومن دون أن تطرف عينه، أطلق النار على مؤخرة رأسها فسقطت المرأة الأربعينية جثة هامدة في الحال، وقف متأملا وجهها المخضب بالدماء للحظات، جثا بالقرب منها ليتلو صلاته، ثم نهض مرة أخرى وارتقى السلم عائدا نحو الطابق العلوي كأن شيئا لم يكن. توجه نحو غرفة أمه، فتح الباب بهدوء، كانت العجوز نائمة، أقترب منها ووضع فوهة المسدس فوق محجر عينها الأيسر ثم أطلق النار مرة واحدة، لم تتحرك العجوز ولا ندت عنها آهة واحدة، ماتت في مكانها في الحال، صلى من أجلها للحظات ثم حاول سحب جثتها، لكن العجوز البدينة كان أثقل من أن تتحرك في حياتها فما بالك وهي جثة هامدة، لذا فضل تركها في فراشها غارقة في دماءها، وحين غادر الغرفة أبدى حرصا كبيرا على غلق بابها بهدوء، فربما خشي أن يوقظها من رقدتها الأبدية!.
صورة لجون مع عائلته واطفاله |
جون لم يكتفي بقتل زوجته وأمه في ذلك اليوم المشئوم، لكنه أجهز أيضا على أبنته الكبرى باتريشيا وأبنه الأصغر فردريك حال عودتهما من المدرسة، قتل الفتاة أولا برصاصة في مؤخرة الرأس ثم قام لاحقا بقتل الصبي، سحب الجثث ليمددها إلى جوار بعض في غرفة المعيشة، ثم توجه إلى المطبخ بكل برودة أعصاب وانهمك في إعداد العشاء لنفسه!.
بعد العشاء شغل سيارته الشوفرليه وانطلق بها نحو الملعب القريب من المنزل، فأبنه البكر، جون الصغير، كانت لديه مباراة كرة قدم في ذلك المساء. العجيب هو أن الأب وقف عند حافة الملعب مشجعا أبنه بحماس كبير، لكنه وبعد ساعة واحدة فقط، أي حين قفلا عائدين إلى المنزل، أطلق النار على رأسه!، الفتى لم يمت في الحال، لذلك لم يبخل عليه والده بالمزيد، أمطره بتسع رصاصات أخرى، ولم ينسى طبعا أن يتلو الصلاة فوق جثته الهامدة!.
من غير المعلوم متى ترك جون لست منزله بعد أن قتل عائلته بأسرها، لكن المؤكد بأنه لم يكن على عجلة من أمره، إذ تناول طعامه وأحتسى قهوته وبدل ثيابه الملطخة بالدماء على مهل، ولكي لا يثير شكوك الجيران قام بإنارة جميع أضواء المنزل، وفتح الراديو بأعلى صوته على إذاعة تبث الأغاني على مدار الساعة، وقبل هذا كله كان قد ألغى اشتراك العائلة في استلام الجرائد وحليب الصباح والرسائل البريدية، وذلك لكي لا تتكوم هذه الأشياء أمام المنزل فتثير الريبة، وكذلك أخذ إجازة للأولاد من مدارسهم بحجة الذهاب في سفرة عائلية. وفي الحقيقة أثبتت خطة جون لاحقا بأنها في غاية البراعة والإتقان، ذلك لأن الجثث لم تكتشف إلا بعد قرابة الشهر على حدوث الجريمة، وربما لولا الصدفة التي قادت أحد مدرسي باتريشيا لزيارة منزلها وتحري أسباب غيابها المستمر عن المدرسة، لما كانت الجثث لتكتشف لعدة أشهر أخرى.
جثث زوجة لست واطفاله الثلاثة |
باتريشيا كانت قد شكت لمدرسها من تصرفات والدها الغريبة وتهديده بقتل العائلة قبل يوم واحد من الجريمة، الفتاة كانت مرعوبة وتبكي بحرقة، لهذا أتصل المدرس بالشرطة لكنهم سخروا منه وأخبروه بأن العديد من الآباء يطلقون مثل هذه التهديدات الفارغة عند الغضب. لكن اختفاء الفتاة لعدة أسابيع أثار قلق المدرس بشدة، لذلك قرر السؤال عنها، وقد أحس بوجود شيء مريب حال اقترابه من منزلها، فالمصابيح جميعها كانت مضاءة في عز النهار وصوت المذياع العالي يصل إلى الشارع، لكن رغم كل هذا الصخب فأن أحدا لم يجب طرقاته المستمرة على الباب.
المفارقة الغريبة هي أن الجيران الذين لم يفكروا أبدا في طرق باب منزل جون لست لمدة شهر كامل، والذين لم تثر ريبتهم أصوات الطلقات النارية في يوم الجريمة ولا حرك فضولهم اختفاء الزوجة والأطفال ولم تزعجهم
أنوار المنزل المضاءة ليل نهار وصوت المذياع العالي، هؤلاء الجيران البليدي الإحساس، أقلقهم وقوف مدرس باتريشيا الطويل أمام المنزل مما دفعهم للاتصال بالشرطة، وأكاد أجزم بأنهم فعلوا ذلك خوفا على أنفسهم وليس حرصا على سلامة جيرانهم المفقودين. رجال الشرطة سألوا المدرس عن سبب وقوفه أمام المنزل، فأخبرهم هذا الأخير عن غياب تلميذته باتريشيا المستمر عن المدرسة وتهديد والدها، وقد أكد الجيران كلامه قائلين بأنهم لم يروا الفتاة أو أي فرد من عائلتها منذ عدة أسابيع.
وضع المنزل الغريب وحديث المدرس والجيران أثار ريبة رجال الشرطة، طرقوا الباب مرارا وتكرارا، لكن لم يجبهم سوى صخب أغاني المذياع. أخيرا كسروا الباب، وفي الحال أزكمت أنوفهم رائحة الجثث المتحللة التي سرعان ما عثروا عليها مسجاة ومغطاة بخرق من القماش فوق أرضية غرفة المعيشة، وبالقرب منها على الطاولة، عثروا على رسالة كتبها جون لست لكاهن كنيسته يخبره فيها عن قيامه بقتل عائلته، وكيف حرص على أن يموتوا بسرعة من دون أن يشعروا بأي ألم! وحرصه الكبير على تلاوة الصلاة فوق جثامينهم!.
أين اختفى جون لست ؟
بشاعة الجريمة تسببت في صدمة كبيرة في أنحاء الولايات المتحدة، أنتظم العشرات من المحققين ورجال الشرطة في مهمة البحث عن جون لست بدون هوادة لعدة أشهر، نشروا صوره في الجرائد وعمموها على المطارات ومحطات المترو والقطار، لكن من دون جدوى، فكل تلك التحقيقات لم تنتهي سوى بالعثور على سيارته الشوفرليه مركونة في موقف للسيارات بالقرب من مطار كنيدي الدولي، أما جون نفسه فقد اختفى وضاع أثره لسنوات طويلة حتى كاد أن يطويه النسيان.
شعار برنامج أكثر المطلوبين للعدالة في امريكا |
في عام 1989، أي بعد 18 سنة على الجريمة، أرسلت شرطة ولاية نيوجيرسي ملف جريمة جون لست إلى برنامج “أكثر المطلوبين للعدالة في أمريكا” – America’s Most Wanted -، وهو أحد أكثر البرامج شعبية في أمريكا، إذ ساهم في القبض على الكثير من المجرمين، ولازالت شبكة فوكس التلفزيونية تبثه حتى اليوم. إدارة البرنامج وافقت وتحمست لتناول قضية جون لست، ولم تكتفي بعرض صوره القديمة فقط، بل أوكلت إلى نحات محترف مهمة صنع نموذج افتراضي لما يجب أن يكون عليه شكل جون لست بعد 18 عاما على اختفاءه، وقد استعان هذا النحات البارع بصور جون لست القديمة، إضافة إلى صور والديه في سن متقدمة، لكي يتنبأ بما سيكون عليه شكل ابنهما في شيخوخته، ولم ينس أن يضيف للنموذج لمسته الخاصة، وهي نظارة كبيرة عريضة الإطار دأب جون على ارتدائها ليضفي على شخصيته مزيدا من الوقار والاحترام.
في 21 أيار / مايو 1989 تم عرض الحلقة الخاصة بجون لست وبلغ عدد مشاهديها رقما قياسيا، قرابة 22 مليون شخص، احد هؤلاء الملايين كانت امرأة تقطن في ضواحي مدينة ريتشموند – ولاية فيرجينيا – لاحظت شبها كبيرا بين نموذج جون لست الذي عرضه البرنامج وبين أحد جيرانها في الحي، روبرت كلارك، المحاسب ورب العائلة المحترم الذي قابلته عدة مرات في الكنيسة برفقة زوجته، والذي دأب على ارتداء نظارة كبيرة كتلك التي عرضها البرنامج.
المرأة اتصلت بالشرطة للإبلاغ عن شكوكها، فقام المخبرون بمراقبة كلارك لعدة أيام، واتصلوا بزوجته سرا، وهي امرأة مطلقة تعرفت على كلارك خلال إحدى المناسبات الاجتماعية التي ترعاها الكنيسة وتزوجا عام1985، أخبروها بشكوكهم فأكدت لهم الزوجة المصدومة بأنها تكاد لا تعرف شيئا عن ماضي زوجها و عائلته، وهو الأمر الذي زاد من ريبة الشرطة بشأن كلارك، ثم تحولت هذه الريبة إلى شبه يقين عندما كشفت التحقيقات بأن أسم كلارك مزيف، لأن روبرت كلارك الحقيقي هو شخص آخر يعيش في ولاية نيويورك.
في 1 حزيران / يونيو 1989، أقتحم رجال المباحث الفيدرالية مكتب كلارك وألقوا القبض عليه؛ كلارك أنكر بشدة التهم الموجهة إليه، فواجهه المحققون بزيف أسمه، وبتطابق بصماته مع بصمات جون لست، مما أضطره في النهاية إلى الاعتراف بشخصيته الحقيقية، ولاحقا أخبر الشرطة عن قصة فراره وتنقله بين عدة مدن وولايات أمريكية بعد قتله لعائلته، ليستقر أخيرا في ريتشموند، حيث أستأنف عمله كمحاسب وتزوج.
في عام 1990 أدين جون لست بخمسة فقرات قتل وحكم عليه بالسجن المؤبد خمسة مرات. وفي عام 2008 فارق الحياة عن 82 عاما أثناء معالجته من مرض ذات الرئة في مستشفى السجن.
لماذا قتل جون لست عائلته ؟
جون لست في قبضة العدالة |
قد يكون السؤال الأكثر إلحاحا بشأن جون لست هو عن السبب والدافع الذي يكمن وراء الجريمة، فالمحكمة أثبتت بأنه كان يعاني من بعض المشاكل النفسية لكنه لم يكن مجنونا … إذن ما الذي دفع برب أسرة محترم وملتزم مثله إلى اقتراف جريمة بهذه البشاعة ؟.
الجواب يكمن في عدة عوامل، ربما يكون أهمها وأكثرها تأثيرا هو العامل المالي، فجون لست كان قد طرد من عمله كمحاسب قبل اقترافه للجريمة بفترة طويلة، لكنه لم يخبر عائلته، كان يخرج كل صباح متظاهرا بالتوجه إلى العمل، يركب الباص هائما على وجهه في أرجاء المدينة حتى الظهيرة حيث يعود إلى المنزل متظاهرا بالعودة من العمل. وخلال الأشهر التي قضاها عاطلا بدون وظيفة، بدأ جون ينفق مدخراته، ثم صار يقترض المال، وأخيرا أخذ يختلس النقود من الحساب المصرفي لوالدته العجوز.
إضافة إلى العامل المالي، أكتشف جون بأن زوجته كانت مصابة بمرض الزهري (السفلس : مرض جنسي)، كانت قد أصيبت بالعدوى من زوجها السابق، لكنها لم تصارحه بمرضها وأخفت الأمر عنه لمدة 18 عاما، حتى وصل المرض إلى مرحلة متأخرة صاحبها ظهور أعراض مرض الخرف المبكر على الزوجة.
أخيرا، كان للعامل الديني دور كبير أيضا في الجريمة، فجون لست كان متدينا ملتزما، دائم التردد على الكنيسة، وقد وجد في تصرفات أولاده ما أعتقد بأنه سيؤدي إلى حرمانهم من دخول الجنة!، وقد أقلقه هذا الأمر كثيرا، خصوصا بشأن أبنته باتريشيا التي لم تكن متحمسة أبدا للذهاب إلى الكنيسة، كانت عضوا في فرقة المدرسة المسرحية، تدخن الحشيشة، ومولعة بالعرافة والسحر، وهي أمور ستؤدي بها حتما – أو هكذا ظن جون لست – إلى الجحيم.
في النهاية، دفعت هذه العوامل مجتمعة بجون لست إلى مفترق طرق، وجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، أما أن يعلن إفلاسه وهو أمر سيقود حتما إلى الفقر وتشرذم العائلة وضياع مستقبل أطفاله “في الدنيا والآخرة”، وأما أن يقوم بقتلهم لينقذ أرواحهم من الجحيم ويضمن لها النعيم الأزلي!! وللأسف أختار جون السبيل والخيار الثاني.
الطريف هو أن أحد الصحفيين سأل جون لست في السجن عن سبب عدم أقدامه على الانتحار بعد قتله لعائلته، فأجابه جون بأن الانتحار كان سيعني حرمانه من دخول الجنة، وهو المكان الذي يأمل بأن يجمعه مرة ثانية مع عائلته بعد الموت ليعيشوا هناك سوية في سعادة أبدية!!!.
هذه القصة نشرت بتاريخ 28 /03 /2011