كيف أهرب من هذا الجحيم ؟!
ركضت بأسرع ما يمكنني .. لكن إلى أين ؟ |
– اين انا ؟! وماهذا المكان المظلم ؟!
وفجأة أُنير مصباحٌ فوق رأسي ! لأجد نفسي مُقيداً بالسلاسل في غرفةٍ صغيرة تُشبه غُرف التحقيق , لكن لا يبدو أننّي في قسم الشرطة , بسبب رائحة العفن التي تعبق بالمكان وكأنه مهجور منذ مدّة طويلة !
وقبل ان أعيّ اين انا ! فُتح الباب الحديدي الصدىء , ليدخل منه رجلٌ مقنّع , ضخم العضلات .. والذي جلس امامي , نافثاً في وجهي دخان سيجارته الكوبية , ممّا أرعبني للغاية ..
ثم قال لي (باللغة المكسيكية) وبنبرة تهديد :
– ان كنت تريد العيش , فعليك إطاعة اوامرنا
– أوامر من ؟!
(فأنا أتقن لغتهم) وقد أجبته برعبٍ شديد , والعرق يتصبّب من جبيني من شدّة الحرّ ..
فقال الرجل : أجبني اولاً .. لما أتيت الى المكسيك ؟
– انا تاجر خردة , وأتيت الى هنا في مهمّة عمل
– ما أعرفه : هو ان الأمريكيين يهابون القدوم الينا , فنحن بالنسبة اليكم بلاداً خارجة عن القانون
– انا تاجرٌ صغير , وقدمت الى هنا رغبةً في شراء بضائعكم الرخيصة.. هذا كل شيء ..أحلف لك
وهنا اقترب كثيراً من وجهي ممّا جمّد الدم في عروقي , حيث لم اكن اشاهد من وجهه سوى عينيه المحمّرتين خلف قناعه المخيف :
– إعترف يا هذا .. الم تأتي لتتاجر بالمخدرات كما يفعل معظم الأجانب القادمون الى بلادنا ؟
فانتفضت برعب : لا طبعاً !! ما دخلي انا بالمخدرات سيدي
وما ان قلت له (سيدي) حتى ارتجّ المكان بضحكاته الساخرة العالية ..
– أقلت سيدي ؟! هل تظنني من الشرطة ؟ .. لا يا عزيزي .. انا (ادواردو) .. وأعمل ضمن عصابة مخدرات تزدهر تجارتها كل يوم .. وقريباً سنصبح الأقوى في المكسيك .. لكن لنكون كذلك علينا تجنيد بعض الأشخاص العاديين الذين لا يثيرون الشكوك ويملكون سجلاّتٍ نظيفة لدى الشرطة لينقلوا لنا البضاعة الى عملائنا خارج المكسيك … كأمريكا مثلاً
فقلت باعتراضٍ شديد : لا !! انا لا اريد العمل في المخدرات
وهنا أطبق يديه الخشنتين حول رقبتي حتى كُدّت اختنق , وقال لي مهدّداً :
– وهل تظنني أستشيرك بالأمر ؟ انا آمرك يا ولد !!
ثم أخرج مسدسه من خصره ورفعه في وجهي .. فصرخت بخوف :
– لحظة ارجوك !! لا تقتلني .. دعنا نتفاهم اولاً
فابتسم بمكر , مُخفضاً سلاحه :
– نتفاهم .. نعم هذا بالضبط ما اريده .. احسنت يا جون
فسألته بدهشة : وعرفت اسمي ايضاً ؟!
– لا تصطنع الغباء يا جون .. فحقائبك واوراقك الرسمية أصبحت معنا , لأن سائق التاكسي الذي أحضرك من المطار..
فقاطعته قائلاً : لحظة ! أهو من اختطفني ؟ .. لكن كيف ؟!
– بواسطة مخدّر قام برشِّه عليك من انبوبٍ في المقاعد الخلفية لسيارته , وقد أحضرك الينا غائباً عن الوعيّ
– اللعين ! .. واين انا الآن ؟
– انت تسأل كثيراً يا جون .. لكنّي سأريحك .. (ثم نفث سيجارته مجدّداً) .. انت في سجنٍ مهجور , تستخدمه عصابتنا لتدريب الأشخاص العاديين وبعض السوّاح الأجانب تعساء الحظ امثالك لتوظيفهم لاحقاً في مهمّاتٍ مدروسة من قِبَل رئيس عصابتنا .. ولا تقلق ابداً , فلك نسبة من الأرباح في حال نجَحت عملية التهريب التي ستقوم بها , فنحن لا نأكل حق أحد
ولم استطع تمالك نفسي أكثر من ذلك , وصرت أبكي وأترجّاه : ارجوك دعني اذهب , فلديّ عائلة واطفال ..
فقاطعني بغضب : كاذب !! فخبرائنا بمجال الكمبيوتر قاموا ببحثٍ مطوّل عن حياتك , وأخبرونا انك مازلت أعزباً .. ولوّ لم نكن في حاجتك بالعملية القادمة , لقتلتك الآن !! لأن أكثر ما يغيظني هو الكذب
– آسف .. لن أكذب ثانيةً .. لكن دعني اذهب ولن أخبر الشرطة عنكم .. فأنا انسانٌ بريء للغاية ولا املك المقوّمات اللازمة لأكون موزّع مخدرات
– وهذا بالضبط ما نريده !! فبسبب هيئتك البريئة لن تشكّ بك الشرطة أثناء نقلك بضاعتنا عبر الحدود
– ارجوك اسمعني .. المطارات الآن مجهزة بكل الوسائل الأمنية التي تفضح أقل كمية من المخدرات , وأصبح من الصعب تهريب ايّ شيء لداخل الطائرة , حتى حليب الأطفال منعوه ايضاً.. يعني الموضوع شبه مستحيل !
– ومن قال انك ستسافر بالجوّ .. فنحن الآن في مدينة (تاماوليباس) المكسيكية , يعني قرب البحر .. ولدينا ميناء تابعٌ لعصابتنا , ومنه تستقلّ قارباً صغيراً تعبُر به خليج المكسيك الى ان تصل لولاية تكساس الأمريكية
فقلت بخوفٍ شديد : هذا أسوء من الجوّ .. الا تدري انهم في تكساس يعدمون تجّار المخدرات ؟!
– بالطبع اعرف , فقد خسرنا اكثر من موزّعٍ هناك .. لكن اظنك ستنجح .. على كل حال لا تقلق يا جون , فنحن لن نرسلك الآن .. بل بعد ثلاثة شهور
– ولما كل هذا الوقت ؟ّ
– لأننا سندرّبك اولاً داخل هذا المخيّم العسكري
– مخيمٌ عسكري !
– نحن نسمّيه هكذا .. وسيتمّ تدريبك على أيديّ محترفين , يعلّمونك أفضل الطرق لتهرّب من قبضة الشرطة المتواجدين في نقاط التفتيش بين حدود الدولتين
فسألته بقلق : وفي حال لم انجح في امتحاناتكم ؟
فأجابني بلا مبالاة : نتخلّص منك
بصدمة وخوف : ماذا ! الن تتركوني وشأني ؟
– يا سلام ! وندعك هكذا تعود الى حياتك الطبيعية بعد ان تعرّفت على جميع افراد عصابتنا .. هل تظن اننا نلعب معك ؟ (ثم قال بنبرةٍ غاضبة).. اسمع يا جون !! انت ليس لديك خيارٌ سوى النجاح في امتحاناتنا كيّ نرعاك جيداً .. وفي حال نجحت , فسنُهديك حياةً مُرفّهة لم تحلم بمثلها في حياتك .. ايّ راتباً خيالياً , كما النساء والخمور .. فماذا تريد اكثر من ذلك ؟
– وماذا لو قبضت الشرطة عليّ ؟
– قلت لك .. سنتخلّى عنك ..لكن لا تقلق بشأن هذه الأمور , فهناك اموراً أهمّ تفكّر بها الآن
– تقصد تدريباتكم ؟
– ممتاز !! هآقد بدأ عقلك يعمل أخيراً .. (ثم وقف قائلاً) .. التمارين ستبدأ في صباح الغد .. وعليك التركيز جيداً مع خبرائنا , فهم لديهم الإذن من رئيسنا بقتل كل شخصٍ يفشل لأكثر من مرة في امتحاناتهم العملية .. وعادةً يتمّ دفن الراسب في ساحة السجن
فقلت بخوفٍ شديد : وهل قتلتم بالفعل ..
فقاطعني قائلاً : بصراحة لا أذكر كم دفنا هنا , فأنا توقفت عن العدّ بعد ان تجاوزوا المئتي رجلٍ وامرأة
بصدمة : ماذا ! أأختطفتم النساء ايضاً ؟
– نعم , وعجائز ومراهقين .. يعني كل من رأينا انه في استطاعته تمرير بضاعتنا عبر الحدود .. فنحن كما أخبرتك سابقاً , نختارهم اشخاصاً عاديين جداً كيّ لا يثيروا شكوك الشرطة , تماماً كوجهك الملائكي ..
ثم توجّه الرجل المقنّع نحو الباب , لكن قبل ان يخرج قال لي :
– جون .. انظر فوقك
فنظرت فوقي لأرى انبوباً حديدياً يتدلّى من السقف , وتواجه فوهته وجهي تماماً ..
وبثوانيٍ !! خرج منه بخاخ , ذكّرتني رائحته بما شمّمته سابقاً في التاكسي .. نعم لقد كان نفس المخدّر , لأنني لم اعدّ أذكر ايّ شيءٍ بعدها !
***
استيقظت في اليوم التالي وانا في زنزانةٍ اخرى , مُستلقياً فوق سريرٍ حديدي صدىء وقذر ! وأمامي فطورٌ مكسيكي .. وهذه المرّة لم أكن مُقيد اليدين .. ولم أجد نفسي الاّ وانا آكل بنهمٍ شديد , فأنا لم اتناول شيئاً منذ البارحة ..
وبعد ان أنهيت فطوري .. فُتح باب الزنزانة لتدخل منه صبيةٌ جميلة في العشرينات من عمرها , فتجمّدت في مكاني .. فقالت لي بابتسامة :
– جيد انك انهيت طعامك .. هيا معي لأعرّفك على اصدقائك الجددّ
– اصدقائي ؟!
– اقصد الأشخاص الذين إحتجزناهم قبلك , فجميعكم لديه نفس المهمّة .. هيا بنا يا جون
***
وأثناء مرورنا بعنابر السجن المهجورة لاحظت بأن رجال العصابة يغضّون البصر عند مرور الفتاة من امامهم , حتى انه لا يجرأ احدٌ منهم النظر اليها رغم ملابسها الفاضحة ! ولهذا أعتقد بإنها ابنة رئيس العصابة لذلك يهابها الجميع , لكنّي لم أتأكّد من هذه المعلومة بعد
***
ووصلنا أخيراً الى ساحة السجن حيث السياج العالية المُكهربة .. كما برج المراقبة القديم الذي يقف عليه رجلٌ مقنّع بسلاح القنّاصة , وأظن ان مهمّته هي : قتل كل من يحاول منّا الهروب من هذا الجحيم
امّا في الساحة .. فقد تجمّع فيه سبعة وعشرين رجلاً يلبسون نفس ملابسي البرتقالية , فعرفت انهم مساجين مثلي .. حتى ان معظمهم كان في مثل عمري , بين الثلاثين والأربعين سنة ! ويبدو انهم من جنسياتٍ متعدّدة , فبعضهم لديه ملامحٌ اوروبية , والآخر آسيوية , لكن الأغلبية تبدو من الطبقة الكادحة في المكسيك.. وكانوا جميعاً ينظرون اليّ بنظرات الشفقة لمعرفتهم بأنني الضحية الجديدة ..
***
ومن بعدها ذهبت الصبيّة ليحلّ محلها رجلٌ ضخم (غير الذي قابلته تلك المرة) وكان يحمل بيده العصا الكهربائية التي يستخدمها الحرّاس عادةً في تعذيب من يعصي اوامرهم , ويبدو انه المسؤول عن تعليمنا .. حيث وضع على الطاولة التي أمامه عدّة اصناف للمخدرات .. وأظن ان الدرس الأول سيكون تعريف المساجين (بمن ضمنهم انا) على انواع الأصناف التي يبيعونها بالسوق .. حيث قال لنا بصوتٍ جهوري :
– هيا ايّها الحثالة , تجمّعوا حولي !!
فاقتربنا جميعنا بخوف لنقف قرب الطاولة .. وقد تضمّن الدرس إجبارنا على استنشاق المخدّر , كما تناول بعض حبوب الهلوسة لكن بكمياتٍ صغيرة , لغاية التميز بين الأنواع ..
وقد قال لنا مُحذّراً :
– لن أجبركم على تناول كمياتٍ كبيرة , كيّ لا تُدمنوا عليها ..فنحن بالنهاية نريدكم بكامل وعيكم أثناء تهريبكم للبضاعة خارج البلاد ..
وحين جاء دوري .. أعطاني الخبير حبةً حمراء اللون وطلب مني بلعها .. لكني وجدت نفسي أرفض بقوة ! فاقترب مني غاضباً بعد ان أضاء شحنة الكهرباء في العصا التي يحملها , وقال لي مهدّداً :
– من الأفضل ان تتناولها حالاً , والاّ سأبدأ في صعقك !!
فنظرت الى وجوه بقيّة المساجين الذين أشاروا اليّ بأعينهم الحزينة على أخذ الحبة دون مقاومة .. لكن لا ادري من اين أتتني كل هذه الجرأة ! ورميت الحبة على الأرض ودعستها بقدمي , صارخاً في وجه المعلّم :
– قلت لا !! انا لن اصبح مُدمناً , ولن أنقل بضائعكم القذرة !! وان كنتم تريدون قتلي , فالموت أهون من أن أصبح مجرماً
لكن ردّة فعل الأستاذ أرعبتني حقاً ! حيث ابتسم في وجهي ابتسامةٍ صفراء ..وقال لي : نحن لا نقتل يا عزيزي .. بل نجعلك تتمنّى الموت الف مرّة
ثم صفّر لرجلين من الحرس كانا يقفان امام بوّابة السجن ..
وحينها لم ادري بنفسي الاّ وانا أُصعق وأُركل بإقدامهم بعنف !
وآخر ما اتذكّره هو نظرات الشفقة الواضحة على وجوه المساجين , وكأن لسان حالهم يقول :
– لما عاندتهم يا جون ؟!
***
استيقظت في اليوم التالي بزنزانتي وانا أعاني من المٍ ورضوض في كافة اجزاء جسدي.. وهنا دخلت عليّ الصبيّة وهي تصفّق لي :
– رائع يا جون .. كم احب الرجل القويّ العنيد
فقلت لها بألمٍ وتعب : ماذا تريدين منّي ؟
– بالحقيقة عملنا يتطلّب القوّة والجرأة , لهذا رشّحتك لأبي لتقوم انت بالمهمّة الكبيرة
وعندما قالت ابي تأكّدت ظنوني بأنها ابنة رئيس العصابة (الذي لم يرى احد من المساجين وجهه الى اليوم) لكن ما أقلقني أكثر هو كلامها ..فسألتها مُستفسراً :
– ماذا تعني بالمهمّة الكبرى ؟
– أعني ان لدينا صنف جديد قمنا بتحضيره في معاملنا السرّية , وهو ذو مفعولٍ قويّ للغاية , لكنه يكلّفنا الكثير .. ولهذا سننقله معك انت فقط
– شكراً لثقتك .. لكن الموت أهون من ..
فقاطعتني قائلة : هيا يا جون .. لا تعاندنا يا عزيزي ..فمقرّنا هذا يعتبر دولة بحدّ ذاته ..حتى ان الشرطة والحكومة المكسيكية لا تجرأ على الإقتراب منّا .. فمن الأفضل ان تتعلّم دروسك دون إثارة المشاكل مع اساتذتنا ..أفهمت ايها التلميذ الشقيّ ؟
ثم نادت حرسين ليأخذونني الى ساحة السجن كيّ أعيد الدرس الذي فاتني من جديد ..
***
وفي الساحة .. وبعدما رأيت قنّاص برج المراقبة يوجّه سلاحه اتجاهي , اقترب مني الأستاذ قائلاً :
– هذه المرّة ان خالفت اوامري فسأطلب من القنّاص إصابتك في ذراعك , وان أصرّيت على معاندتي فسأطلب منه ان يصيبك في قدمك , وهكذا سأظلّ أعذّبك الى ان ترضخ للواقع .. لكنّي حتماً لن اقتلك لأريحك من هذا العذاب ..
ثم مدّ لي يده وهو يحمل حبة هلوسة صغيرة قائلاً لي :
– والآن يا جون , ماذا سيكون قرارك ؟
فنظرت الى بقيّة المساجين (المتجمّعين حول طاولة التي بها اصناف المخدرات) الذين أومأوا برأسهم ايجاباً كيّ ابلع الحبة , تجنباً لتعرّض للتعذيب مجدّداً ..
فأخذتها من يده وانا ارتجف بقوة , ودموعي تسيل على خدّي ..وبلعتها وكأنني أبلع جمراً
فقال الأستاذ مبتسماً : ممتاز يا جون !! لقد فعلت الصواب .. والآن يا اصدقاء !! لنكمل الشرح عن بقيّة الأصناف , قبل قدوم الأستاذ (داني) ليعلّمكم عن انواع الأسلحة
***
ومرّ الوقت طويلاً .. قمنا فيه ببلع واشتمام عدّة اصناف .. لكن مع الصنف ما قبل الأخير , أحسسّت بدوارٍ شديد !
وآخر ما أتذكّره هو ضحكة الأستاذ الساخرة بعد سقوطي على الأرض , وهو يقول لبقيّة المساجين :
– ارأيتم كيف انهار هذا الشاب الرقيق .. هيا ليحمله احدكم ويعيده الى زنزانته ..وغداً سيتعوّد مثلكم على مذاق المخدرات
***
ولم استيقظ الاّ في نهار اليوم التالي .. وبعد ان تناولت فطوري في زنزانتي ..كنت ما ازال اشعر بصداعٍ قويّ ..
وهنا دخلت عليّ الصبيّة لتراني أمسك رأسي مُتألّماً .. فقالت مبتسمة :
– كنت أتوقع ذلك
ثم أخرجت قرصاً من جيبها وهي تقول :
– هذا ما يحصل دائماً مع اول تجربة لك مع المخدرات .. هيا تناول هذه , فهي ستخفّف صداعك
فصرخت عليها بغضب : لا اريد المزيد من المخدرات !!
– هذا دواء وليس مخدّر , فنحن بالنهاية ليس من صالحنا ان تُدمن هذه الأشياء .. هيا خذّ مني الدواء .. ثقّ بي يا جون
وبعد ان بلعت الحبة , خفّ الألم بشكلٍ سريع !
فقالت مبتسمة : يبدو من تعابير وجهك ان صداعك اختفى
فقلت مندهشاً : كيف هذا ؟! بالعادة دواء البندول يأخذ وقتاً طويلاً لكيّ ..
مقاطعة : هذا ليس بندولاً .. فنحن لدينا طبيباً ماهراً يعمل في مختبراتنا السرّية وهو من اكتشف هذا الدواء .. فوالدي كان يعاني من صداعٍ نصفي , وقد استطاع هذا العبقري علاجه
– ولما لا تبيعون هذا الدواء السحري بدلاً من المخدرات ؟
– الا تدري ان اختصاص الأدوية حِكراً على اميركا وبعض الدول الأوروبية ؟ وحتى في حال حصلنا على براءة الإختراع فسيسرقون الوصفة منا .. ولا أظنهم سيطرحونه بالأسواق , لأنهم لا يريدون حلاً نهائي للأمراض لكيّ يبيعوا الأدوية للناس بشكلٍ دوري .. هل فهمت قصدي ؟
– يعني ستكملون في تجارة المخدرات ؟
– بيع المخدرات هو التجارة الرابحة في المكسيك ..الا تدري كم عائلة فقيرة تعيش من وراء هذا الرزق
– وماذا عن الشباب الذين تدّمرت حياتهم بسبب المخدرات ؟
فأجابتني بلا مبالاة : لم يغصبهم أحد على تناولها يا عزيزي .. المهم الآن .. لقد فاتتك حصة الأسلحة البارحة , وسنعوّضها لك لاحقاً .. اما بعد قليل فستبدأ المادة الثالثة وهي تعليمك الطريقة الصحيحة التي ستقف بها أثناء تفتيشك من قِبَل شرطة الحدود .. فوقفتك بثبات مُهمّةٌ جداً لعدم إثارة شكوكهم ..خاصة انك ستكون قادماً من المكسيك , يعني تفتيشهم لك سيكون مُكثفاً
– كلامك يزيد الأمر سوءاً
– لا تقلق , فأساتذتنا لديهم خبرة طويلة في هذا المجال ..وانا اشعر بأنك ذكيٌّ كفاية لتتفوّق على بقيّة زملائك .. فهيا بنا يا جون الى ساحة السجن
***
وقد مرّت الشهور الثلاثة عليّ ببطءٍ شديد , حيث تخرّج قبلي عدّة مساجين أُوكلت اليهم مهمّات خارج المكسيك .. بعضهم عاد الى مقرّنا وهو يتفاخر بنجاحه بعبور الحدود , ومدى سعادته بالمال الذي حصل عليه من العصابة كمكافأة على مجهوداته ..
لكن هناك ثلاثة فشلوا في المهمّة : اثنان منهم تمّ القبض عليهم , وواحد مكسيكي فقير تمّ قتله اثناء هروبه من الشرطة ..
اما انا فقد أخبروني بأن مهمّتي ستبدأ في مطلع الأسبوع القادم , ايّ بعد يومين .. وانا خائفٌ للغاية
***
وأتى اليوم المشؤوم .. وكنت أظنهم سيلبسونني حزاماً به المخدرات كما فعلوا مع الآخرين , لكنهم لم يأخذونني الى مخزن المخدرات الموجود في قبو السجن المهجور , بل الى غرفةٍ صغيرة تُشبه غُرف الجراحة ! وكان في داخلها طبيبٌ يُحضّر عدّة الجراحة , بالإضافة للحرسين المسلّحين اللذين رافقاني الى هناك !
فسألت المرافق بخوف : لما انا هنا ؟!
فأجابني الطبيب : أظنهم أخبروك سابقاً بأنك المرشّح الأنسب لتهريب صنفنا الجديد , وهو الأغلى بين انواع المخدرات التي نملكها
– نعم أخبرتني الصبيّة بذلك , لكنك لم تجيبني بعد .. لما انا في غرفة الجراحة ؟!
الطبيب وهو يُعبّأ إبرة المخدّر : لأننا سنضعها داخل بطنك
فصرخت بخوفٍ شديد : لا !! .. اقصد لا داعي لفتح جسمي , فأنا استطيع بلع كل الحبوب
الطبيب : هذا النوع من المخدّر يتحلّل سريعاً بحمض المعدة حتى لوّ وُضع داخل اكياسٍ بلاستيكية , لهذا سنضعه فوق معدتك .. هيا تمدّد هنا , ولا تقلق ابداً .. فالمخدّر لن يُشعرك بشيء
لكني قاومتهم وحاولت الهرب الاّ ان الحارسين ثبّتاني بقوة , بينما غرز الطبيب ابرة المخدّر في كتفي .. لأسقط فوق السرير مُخدّراً تماماً !
***
استيقظت بعدها بثلاث ساعات , وانا اشعر بألم الجراحة في بطني ! وكانت الرؤية ما تزال مشوّشة ..
وهنا اقترب منّي الطبيب قائلاً :
– غداً صباحاً ستزول آلام العملية , ومن ثم ننقلك الى القارب الذي ستسافر به الى اميركا
– غداً ! لا رجاءً , فلم تُشفى جروحي بعد .. إتركوني على الأقل اسبوعاً لأستردّ عافيتي
وهنا اقترب منّي رجلٌ لم اره من قبل ! ويبدو انه المساعد الأيمن لرئيس العصابة , والذي قال لي :
– خلال اسبوع تكون جميع الحبوب المخدّرة تحلّلت في دمائك , ممّا سيحوّلك الى وحشٍ كاسر .. فالصنف الذي تحمله هو مخدّرٌ مُستحدث , يقوم بتحويل الإنسان الى زومبي حقيقي
وبخوفٍ سألتهم : يا الهي ! لقد سمعت عن هذا المخدّر الخطير , فكم حبة وضعتم بداخلي ؟!
الطبيب : ما يُقارب المئة حبة , داخل كيسٍ من الجيلاتين .. وسيقوم طبيبٌ آخر في اميركا يعمل لدينا , باستلامك من الحدود الأمريكية ليقوم بسحبهم من جسمك
– ماذا ! أيعني ذلك عمليةٌ اخرى ؟!
رجل العصابة بتهكّم : طبعاً يا ذكي !! فكيف اذاً نستخرجهم من داخلك ؟
فاستلقيت على الفراش ودموعي تسيل على خدّي بعد ان انهارت جميع آمالي بالهرب من هذا الجحيم , لأن جسمي بالتأكيد سيتأثّر بهذه السموم التي دُسّت بداخله !
فربت الطبيب على كتفي قائلاً : لا تقلق كثيراً يا جون .. وأظنّك ستقوم بالمهمّة على أتمم وجه
ثم قال لي رجل العصابة : كما اننا سنكافئك جيداً بعد عودتك الينا بثمن البضاعة
فقلت في نفسي بغضب : ((هذا ان عدّتُ اليكم يا ملاعيين !!!))
ثم قيّدوا قدمي بسرير العيادة .. وذهبوا بعد ان اقفلوا الباب عليّ بإحكام ..
***
وأمضيت الليل كلّه وانا أفكّر بطريقة للتخلّص من هذه المصيبة , حتى ولوّ بالسباحة في البحر .. لكن اولاً عليّ إيجاد الطريقة للهرب من افراد العصابة التي سترافقني غداً في القارب الذي سينقلني الى اميركا !
وقلت في نفسي : ((أكيد لن يطلقوا النار عليّ وانا أحمل في جسمي أغلى بضائعهم .. كما انني سريعٌ جداً في السباحة))
***
في صباح اليوم التالي .. وبعد ان قام اصحابي المساجين بتوديعي في ساحة السجن قبل ذهابي لتنفيذ مهمّتي الأولى .. تفاجأت بصرخةٍ قوية يُطلقها أحد الحرس ! بعد ان قام سجينٌ متهوّر بطعنه في كليته بفرشاة اسنانه التي استطاع سنّ مقبضها بطريقة جعلتها حادّة كالسكاكين ..
وعلى الفور !! عمّت الفوضة في الساحة .. وانطلق المساجين كالمجانين نحو السياج للهروب من هذا الجحيم , وسط وابلٍ من الرصاص التي أطلقها عليهم القنّاص من برج المراقبة , كما بقيّة الحرّاس..
لكن الغريب ان الرصاصات لم توجّه ناحيتي رغم هروبي معهم ! ففهمت ان رئيسهم اعطاهم الأوامر لحماية البضاعة الثمينة التي زرعوها بداخلي , وكانت هذه فرصتي للهرب من السجن دون التعرّض للقتل ..
ولم أجدّ نفسي الاّ وانا أستغلّ جسد احد المساجين المُتفحّمة بعد تعرّضه للصعق فوق السياج المكهربة , لأتسلّقه وأقفز من فوقه الى الجهة المقابلة
ومن ثم ركضت بأسرع ما يمكنني , واضعاً يدي فوق جرح بطني الذي بدأ ينزف , بعد تقطّع خيطان العملية بسبب الأعمال العنيفة التي أقوم بها مُجبراً , للإبتعاد قدر المستطاع عن هذا السجن المخيف !
ووصلت اخيراً الى القارب الذي يرسو على الشاطىء .. ومن الجيد ان القبطان غادره هارباً بعد سماعه لأصوات الرصاصات , ظنّاً منه ان الشرطة إقتحمت السجن من الجهة الأخرى ..
فركبته وأدرت مفتاح دفّته , لأتفاجأ بأنه أسرع قارب ركبته في حياتي ! فبالطبع هم اختاروا هذه النوعية الممتازة من القوارب لكيّ نقطع بها خليج المكسيك بأسرع وقتٍ ممكن .. لكني لم اكن قادراً على الذهاب الى الحدود الأميركية , لأن الأمر سيتطلّب يومان على الأقل وهذا صعب مع نزيف معدتي , فقلت في نفسي حائراً :
– سأنزف حتى الموت قبل ان أصل لبلادي .. سأحاول الذهاب الى أقرب شاطىء , ولوّ لمدينة مكسيكية أخرى !
***
وقد تطلّب الأمر ثلاث ساعات الى ان وصلت الى منطقة مكسيكية فقيرة , عرفت ذلك من أكواخها المُتهالكة !
وبعد ان نزلت من القارب .. مشيت مُترنّحاً بعد ان تحوّل قميصي الأبيض الى اللون الأحمر من غزارة الدماء التي خسرتها ..
وآخر ما أتذكّره بعد ان انهار جسدي فوق تراب الشاطىء , هو اقدامٌ حافية لولدٍ صغير كان ينادي امه !
***
استيقظت بعدها في المساء .. وانا في منزل هذه العائلة التي ساعدتني , ويبدو ان المرأة تعمل ممرضة في المستشفى لأنها استطاعت تقطيب جروحي ..
وعندما رأيتها تضع الحساء امامي انتفضت بخوف , فقالت لي مُهدّئة :
– لا تقلق .. انت بخير .. وجروحك ليست عميقة .. إشرب الحساء فهو سيساعدك على الشفاء
فشكرتها .. ومن ثم قامت بتعديل جلستي كيّ أتناول عشائي ..
وهنا تذكّرت كيس المخدّر , فسألتها عنه :
– هل وجدت شيئاً بداخلي ؟
– نعم , وخبّأته لك .. فقط إخبرني عن الذي دسّه في بطنك ؟ هل هم عصابة العقرب المتمركزين في السجن المهجور ؟
فسألتها بدهشة : وكيف عرفتي بأمرهم ؟!
– المكسيكيون جميعهم يعرفون بهم , فهم من ضمن أخطر ثلاثة عصابات مخدرات على مستوى الدولة
– ولما لا تقبض الشرطة عليهم ؟
– لأنها تستفيد منهم
– ماذا ! .. أتقصدين ان الفساد وصل لقسم الشرطة ؟
– بل رئيس الشرطة نفسه يُعدّ أحد أقارب زعيم العصابة ..
فقلت بغضب : اذاً لما اختطفوني طالما الشرطة معهم ؟!!
– اهدأ يا رجل , ستوقظ ابني الصغير !
– آسف .. أجيبيني على سؤالي لوّ سمحتي ؟
– لأن شرطة الحدود ليست معهم , وتجّار المخدرات يهمّهم وصول بضائعهم الى أمريكا , فهناك يعيش الأثرياء بعكس شعبنا الفقير
– فهمت ….آخ !! مازال الجرح يؤلمني كثيراً .. أتمنى ان لا يكون تجرثم ..
– لا تقلق , لقد طهّرته لك .. والآن إنهي حساؤك , ونمّ قليلاً
– اين وضعتي البضاعة ؟
– هي معي , وغداً أعطيها لك
ثم خرجت من الغرفة ..
وقد نمت تلك الليلة براحةٍ لم أعهدها طيلة الشهور السابقة التي قضيتها في معتقل السجن المرعب
***
لكني استيقظت في منتصف الليل وانا أتصبّب عرقاً , وأعاني من صداعٍ قاتل.. وكانت الرؤية مشوّشة تماماً ..فصرخت بأعلى صوتي :
– لوّ سمحتي ساعديني ارجوك , انا اموت !!
وهنا اقترب منّي شخص لم أتمكّن من رؤيته جيداً , الاّ بعد ان حقني بأبرة في ذراعي !
وعندما إتضحت الرؤية , كان هو نفس الطبيب اللعين الذي أجرى لي العملية في السجن !
فانتفضت برعب محاولاً القفز من السرير !! لكن اقترب منّي رجلان مُقنّعان وأمسكاني بقوة ..
ولم ادري وقتها ماذا يحصل معي ! لكني انتبهت على المرأة التي كانت تقف بجانب ابنها الخائف (امام باب الغرفة) ..
فصرخت فيها بغضب :
– هل أتصلتي بهم يا خائنة !!
فأجابتني وعلى وجهها نظرات الأسف :
– اعتذر منك .. لكني فقيرة جداً وأحتاج الى المكافأة التي سيعطونني إيّاها ..
وهنا اقتربت منها ابنة رئيس العصابة بثيابها المثيرة , وقامت بإعطائها حقيبة صغيرة مليئة بالمال , وهي تقول لها :
– أحسنتي .. هذا المال من حقك .. والآن هاتي البضاعة التي إستخرجتها من بطنه
فأخرجت الممرّضة كيساً به حبوبٌ زرقاء من جيبها وسلّمتها لها
ثم رأيت ابنة رئيس العصابة تُشير لإحد رجالها , الذي اقترب فجأة من المرأة الفقيرة وابنها واطلق رصاصتين في رأسيهما من مسدسه كاتم الصوت .. ممّا جمد الدم في عروقي !
ثم قالت ابنة زعيم العصابة لمساعدها :
– جيد .. فنحن لا نريد شهوداً علينا .. هيا أعدّ حقيبة المال لسيارتي ..
ثم قالت للطبيب : هل خدّرته جيداً ؟
فأجابها : نعم وسينام بعد قليل
وقبل ان يُغمى عليّ , إقتربت مني قائلة :
– لما تُتعبنا يا جون ؟ الآن وبسبب هروبك الغبي تأجّلت عملية سفرك للشهر القادم .. وهذا يعني انك ستبقى مسجوناً في مقرّنا لبعض الوقت , وستخضع للعملية من جديد .. لكني أحذّرك هذه المرّة .. ان حاولت الهرب من جديد فسنقتلك فوراً , ولوّ وضعنا كل ثروتنا بداخلك .. أفهمت ؟!!
وهذا كان آخر ما أتذكّره قبل ان أدخل في سباتٍ عميق , مُدركاً تماماً بأنني ذاهبٌ الى مصيرٍ مجهول ومرعبٌ للغاية !
تاريخ النشر : 2018-01-14