ما وراء القناع
![]() |
للاقنعة اسرار وتاريخ طويل من الطقوس والمعتقدات |
منذ الازل عشق الإنسان الفن و الرسم ، و كان الرجل القديم يرسم أشكال الحيوانات التي يصطادها على جدران الكهوف ، و قد تطورت هذه الموهبة مع تقدم الزمن و صار الإنسان يصنع الأقنعة من المواد المتوفرة في بيئته و يقوم بتزيينها و تلوينها ، و كانت تستخدم تلك الأقنعة في طقوس احتفالية و دينية ، و في أحد المتاحف الفرنسية بمدينة باريس يوجد قناع حجري يعود تاريخه إلى 7000 عام قبل الميلاد ، هذا بالإضافة إلى الأقنعة الذهبية التي وُجدت في قبور الملوك و زعماء القبائل من الحضارات القديمة ، و من أشهرها تمثال الملك الفرعوني توت عنخ أمون ، و في الحضارة الفرعونية كان الكهنة يلبسون أقنعة أثناء مراسم تحنيط المومياء و نقلها إلى العالم الأخر ، و من بين تلك الأقنعة قناع أنوبيس إله الموت حسب اعتقادهم و الذي كان يتجسد على شكل أبن أوى .
![]() |
اقدم قناع في التاريخ .. عمره 7000 عام |
قد عُرفت عدة حضارات باستخدام الأقنعة مثل الحضارة الإغريقية و الرومانية لتأدية المسرحيات و أمتاع الجماهير ، أما في الثقافة الهندية و الصينية فقد استخدمت الأقنعة لتجسيد أشكال الإلهة و الشخصيات الأسطورية المقدسة ، أما في غرب أفريقيا فقد اشتهرت قبائل اليوروبا و الأيجبو و إيدو باستخدام الاقنعة في الاحتفالات المتعلقة بالتواصل بأرواح الأجداد و طرد الأرواح الشريرة ، حيث يتم صناعة الأقنعة بواسطة حِرفيين يمتلكون مهارة عالية و يحظون باحترام جميع أفراد القبيلة ، و تتم صناعة الأقنعة من الخشب و من جلود الحيوانات المدبوغة ، و بعدها يتم تزيينها بالمعادن و الأصداف و الأحجار الكريمة مع تلوينها بألوان متنوعة ، و قد تأخذ الأقنعة أشكال الحيوانات لغرض الاستعانة بقوة تلك الحيوانات ، فمثلاً الأسد و النمر يمثلان القوة ، و تأخذ الأقنعة أشكال تشبه وجوه النساء و مزايا الجمال فيهن مثل دقة الذقن و حدقات العيون الواسعة ، و بالرغم من ذلك فلبس الأقنعة مقتصراً على الرجال فقط ، و تختلف أشكال الأقنعة من قبيلة إلى أخرى .
![]() |
اقنعة قبائل الايروكوا .. يحضى بقدسية كبيرة |
أما في جزيرة بابوا غينيا الواقعة في قارة أوقيانيا بالقرب من إندونيسيا ، فقد أشتهر سكانها باستخدامهم أقنعة طويلة جداً يصل طولها إلى 6 امتار لحمايتهم من الأرواح الشريرة ، و لعل أغرب تلك الاقنعة هي التي يرتديها أفراد أتحاد قبائل الأيروكوا Iroquois ، ذلك الاتحاد الذي يتكون من عدة قبائل مجتمعة و هي قبائل الموهوك و أنونداجا و كيجا و سينيكا ، الذين يعتبرون السكان الأصليون لقارة أمريكا الشمالية ، حيث يعتبر هذا القناع مقدس بالنسبة لهم و يحظى باحترام كبير و يُمنع بيعه أو التقليل من قيمته ، بل أنهم يقومون بطلائه بالزيت و الشحم الحيواني و إطعامه الأرز و عمل حفلات لحرق التبغ على شرفه ، فأفراد تلك القبائل تعتبره تجسيداً لروح الجد الذي يقدسونه ، و يستخدمون ذلك القناع في احتفالاهم السنوية التي تقام في فصلي الربيع و الخريف و يتم خلال هذه الاحتفالات شفاء المرضى و طرد الأرواح الشريرة في أجواء من البهجة تعلو خلالها أصوات الطبول و رائحة التبغ المحترق ، أما كيفية صناعة تلك الأقنعة فهي بحد ذاتها أمر معقد جداً ، حيث يعتقد أن الأرواح ترشد صانع القناع إلى الشجرة المراد صناعة القناع من أخشابها ، ثم يقوم الصانع بنحت القناع على جذع الشجرة و لا ينزعه إلا بعد أن يتم تلوينه و لهذا يُعتبر القناع كائن حي و يتنفس ، فإذا أنتهى من النحت بالنهار يتم تلوينه بالأحمر و إذا أنتهى من النحت مع المساء يتم تلوينه بالأسود ، و بعدها يتم تثبيت المعدن على حواف عيني القناع و يكون أنفه معقوف للأعلى ، و يتم تزيين أعلى القناع ببقايا السنابل و شعر الجواميس ، و بعدما أدخل الأوروبيين الأحصنة إلى تلك المناطق ، صاروا يزينون الأقنعة بشعر الخيول .
![]() |
اطفال يرتدون اقنعة الهالوين المخيفة |
و في أوروبا و أمريكا يتم الاحتفال بعيد القديسين Halloween حيث يلبس الأطفال و الكبار أقنعة و أزياء تنكرية عشية عيد القديسين الموافقة لتاريخ 31 أكتوبر من كل عام و يستمر هذا الاحتفال لمدة 3 أيام، و يرجع أصل هذا الاحتفال إلى العصور القديمة حيث كان سكان إيرلندا و بعض المناطق المحيطة بها يشعلون النيران فوق المرتفعات و يلبسون الأقنعة المخيفة لطرد أرواح الأموات التي يعتقد أنها تحاول العودة إلى منازلها .
![]() |
الاقنعة تكون للوقاية احيانا .. قناع طبيب الطاعون في العصور الوسطى .. وجندي يرتدي قناع واقي من الهجوم بالغازات الكيمياوية |
و تعتبر الوقاية من التعرض للحوادث و الأمراض المعدية من أهم فوائد استخدام القناع فنجد من يعمل في مجال الحدادة يلبس قناع حديدي يقيه من تطاير شرر النار و الشظايا ، و نجد الطبيب يلبس الكمامة الطبية التي تقيه من العدوى ، و خلال الحرب يلبس الناس الأقنعة الواقية من الغازات السامة ، و يرجع أول استخدام للأقنعة لغرض الوقاية إلى زمن ظهور الطاعون ، حيث قام الطبيب الفرنسي تشارلز دي لورمى عام 1619م بتصميم قناع لوقاية الأطباء من الإصابة بمرض الطاعون ، و تم تصميم القناع من قماش سميك ذو سطح زيتي لا يسمح بالتصاق السوائل ، مع فتحتين من الزجاج تشبه النظارة للرؤية ، هذا بالإضافة للبروز الطويل الذي يشبه منقار الطائر و كان يتم حشوه بالورود المجففة و الأعشاب و البهارات حتى تقي الطبيب من الروائح الكريهة و العدوى ، هذا بالإضافة للمعطف الشمعي الطويل الذي يغطي الجسم حتى أخمص القدمين ، و قفازين لليد ، هذا القناع كان رمزاً للشؤم و المرض و جعل الناس يصابون بالرعب عند رؤيتهم للأطباء يرتدونه أثناء زيارتهم لبيوت المصابين بالمرض .
![]() |
نساء الطبقة الغنية كن يضعن اقنعة سوداء على وجوههن لحماية بشرتهن |
أما في مجال التجميل و الأناقة فكان للأقنعة دوراً بارزاً في ذلك ، ففي القرن 16 كانت نساء الطبقة الغنية يقمن بلبس قناع يطلق عليه visard mask ، و هو قناع بيضاوي مخملي أسود و يثبتنه بقطعة صغيرة توضع بالفم ، هذا القنع ترتديه النساء أثناء تنقلهن بين المدن حتى لا تُصاب بشرتهن بأشعة الشمس ، فاللون الأسمر كان يعتبر من صفات الفقراء الذين يقضون وقتهم بالعمل في الحقول الزراعية ، هذا بالإضافة إلى الوقار و الغموض التي يهبها القناع لمن ترتديه ، و لكن هذه الموضة انتهت في القرن 17 بعدما صارت لا تتناسب مع أزياء ذلك العصر و صارت تلك الأقنعة ترمز إلى المومسات حيث وجدنه مثيراً و يجذب الرجال إليهن .
![]() |
قناع السيدة رولي .. كان من صيحات التجميل في زمانه .. |
و كان للأقنعة دوراً بارزاً في عملية التجميل، ففي عام 1875م قامت السيدة هيلين إم رولي بتصميم قناع خاص لترطيب البشرة ، كانت السيدة رولي ذات 51 عام تعمل خياطة في معمل فان ويرت لخياطة و تطريز الملابس و القبعات النسائية ، عندما خطرت على بالها فكرة تصميم قناع رقيق من المطاط الهندي ، تضعه النساء على وجوههن عند النوم ، و نالت براءة اختراع على هذا القناع ، و قد لقي هذا القناع أقبالاً كبيراً من النساء بتلك الفترة خصوصاً أنه كان يُباع مع مستحضرات التجميل ، و تقوم فكرة القناع على أن تضعه المرأة أثناء النوم ، و بهذا يحصل تعرق غزير و يتسبب بفتح مسامات الجلد و ترطيب و تنعيم البشرة في الصباح ، و مع هذا فقد تسبب القناع بالكثير من الأمراض الجلدية بسبب تراكم العرق على البشرة و تسببه بنمو البكتيريا و الفطريات .
![]() |
قناع الكسندر بيدن |
و كما تستخدم الحيوانات و الحشرات و الطيور التمويه بتغيير ألوانها و أشكالها لنجاه من الخطر فقد استطاع الأنسان استخدام الأقنعة لتنكر و إخفاء الهوية ، و جميعنا قد سمع عن حرب الجاسوسية بين الدول و كيف كان الجواسيس يستخدمون الاقنعة المطاطية لتنفيذ مهامهم السرية ثم تطور العلم و أصبح الجواسيس يستخدمون أقنعة السيلكون ذات التفاصيل الدقيقة ، و لعل من أول من قام بحيلة التنكر بالقناع و الهروب من السلطات هو القس الإسكوتلندي ألكسندر بيدن ، فبعد أن تولى الملك تشارلز الثاني الحكم في أسكوتلندا ، قام بتغيرات دينية واسعة و لكن القس الكسندر رفض هذه التغييرات و أستمر بتعليم الناس على نفس النهج القديم مما تسبب له بمشاكل عديدة مع السلطة التي وضعته أسمه على قائمة المطلوبين للعدالة باعتباره متمرد على الملك و كان ذلك عام 1663م و بالرغم من ذلك استطاع الكسندر بيدن أن يستمر بتعليم الناس سراً في البيوت و الحقول و قد صنع قناعاً خاصاً كان يلبسه حتى لا يعرفه أحد ، كان القناع من القماش المنسوج جيداً مع لحية حمراء و شعر مستعار و بعض الريش المثبت حول فتحات العين بدلاً عن الرموش و أسنان مصنوعة من أعواد الخشب ، لقد كان شكله بشعاً جداً و يشبه الشيطان و مع هذا لقي إقبالاً كبيراً من الناس ، و أستمر على هذا الحال فترة طويلة حتى تم اعتقاله عام 1673 م و حُكم عليه بالسجن عدة سنوات ثم بالنفي إلى قارة أمريكا ، و أثناء نقله بواسطة سفينة بريطانية أشفق عليه ربان السفينة و أطلق سراحه و عاد إلى إيرلندا متنكراً مرة أخرى لممارسة تعليم الناس حتى توفي بتاريخ 26 يناير عام 1686م و لا زال قناعه موجود في متحف مدينة إدنبرة بإيرلندا.
![]() |
قناع الموت الخاص بنابليون وكذلك الرئيس الامريكي لنكولن |
و قبل اختراع الكاميرا و الصور الفوتوغرافية أضطر النحاتون إلى عمل قناع الموت لحفظ ملامح و صور المشاهير بطريقة ثلاثية الأبعاد ، أمثال القائد و الإمبراطورة الفرنسي نابوليون بونابرت و العالم الانجليزي إسحاق نيوتن فعندما يموت الشخص المراد عمل القناع له يتم وضع الجص على وجهه بسرعة قبل أن تظهر عليه أعراض التحلل و التعفن و يتم انتزاعه بعد أن يجف ، و سمي بقناع الموت لأنه يتم صنعه على وجوه أشخاص قد ماتوا ، و من الممكن عمل ذلك القناع على وجوه أشخاص أحياء و يسمى قناع الحياة ، و أشهر من عملت له أقنعة الحياة هما الرئيسين الأمريكيين جورج واشنطن و إبراهام لنكولن ، و يتم عمل هذا القناع بوضع الجص على وجه الشخص بعد أن يتم طلاء شعر الوجه بالزيت حتى لا يلتصق بالجص ، ثم يتم انتزاعه بلطف بواسطة خيط مثبت على أطراف الوجه .
![]() |
قناع الموت لفتاة السين .. عثروا عليها جثة هامدة وعلى فمها ابتسامة غامضة |
لا يتم عمل أقنعة الموت للأشخاص المشهورين فقط ، فحتى الجثث مجهولة الهوية كانت تحظى بقناع الموت لغرض التعرف على هويتهم و لأسباب جنائية ، و من أشهر تلك الأقنعة هو قناع فتاة نهر السين المجهولة ، ففي أواخر عام 1880 م عثرت الشرطة الفرنسية على جثة فتاة غريقة على ضفاف نهر السين بمدينة باريس ، و بالرغم من التحقيقات لم يتم التعرف على هويتها و بالمشرحة أستطاع الاطباء تقدير عمرها بـ 16 عام و ذلك لعدم اكتمال نمو عظام الجمجمة ، كما رجح الأطباء أن سبب وفاتها كانت الأنتحار لعدم وجود أي اثار اعتداء على جسدها ، و تم عمل قناع على وجهها و كان في غاية الروعة حيث ظهر وجهها بملامحه الملائكية و بابتسامتها الغامضة التي فاقت غموض لوحة الموناليزا ، لم يتم التعرف على هوية تلك الفتاة لكنها أصبحت مشهورة جداً و تم عمل الألاف من النسخ عن ذلك القناع و انتشرت حول العالم ، حتى أن إحدى الشركات الأمريكية قامت عام 1958م بصنع دمية لأغراض التدريب الطبي يحاكي وجه تلك الفتاة التي لقبت بفتاة نهر النيل الغامضة.
![]() |
اقنعة اكلي التراب الخاصة بالعبيد |
و كان للأقنعة جانب تاريخي مظلم يحمل في طياته كل معاني الظلم و الاستعباد ، بين القرنين 16 و 19 و أثناء عصر العبودية كان يتم نقل الألف العبيد من قارة أفريقيا إلى أمريكا و أثناء ذلك لاحظ ملاك العبيد أن هؤلاء العبيد يقومون بأكل التراب ، و يُطلق على هذه العادة بمصطلح geophagy و هي عادة نقلها العبيد من بلدانهم حيث تنتشر هذه العادة في غرب أفريقيا و يعتقد الأفارقة أن أكل التراب علاج لكثير من الأمراض و مفيد للمراءة الحامل ، و لكن تلك العادة لم تعجب تجار العبيد كون تلك العادة تسبب الضعف و الهزال و عدة أمراض لأجساد العبيد و هذا يفسد تجارتهم ، و لهذا قام تجار و ملاك العبيد بتثبيت أقنعة حول رؤوس العبيد أثناء عملهم بالنهار و لا يتم نزعها إلا عند المساء ، تلك الأقنعة يُطلق عليها أقنعة أكلي التراب و تأتي على شكل قناع حديدي له غطاء عريض يمنع العبد من أكل التراب أثناء العمل بالحقل و ربما كان منع العبيد من أكل المحاصيل هو السبب الأساسي لوضع ذلك القناع ، و في البرازيل كان يتم وضع نفس القناع على وجوه العبيد العاملين في مناجم الذهب حتى لا يستطيع العبيد تهريب شذرات الذهب بأكلهم لتراب المنجم ، و تلك الأقنعة تسببت بالكثير من الألم و المعاناة للعبيد الذين كانوا يضعونه على وجوههم في تلك الظروف القاسية و الجو الحار.
![]() |
اقنعة العار .. وسيلة لمعاقبة السيئيين |
قناع الخزي و العار هو أختار الماني تم إلباسه للمذنبين بين القرنين 17 و 18 ، و هو قناع من الحديد الثقيل و غير مريح و له أشكال عديدة بحسب نوع الجريمة التي أرتكبها المجرم ، فإذا كانت المرأة بذيئة اللسان تعاقب بلبس قناع ذا لسان طويل ، و اذا كان الشخص أحمق و مزعج يعاقب بلبس قناع حديدي له أذنين على شكل أذني الحمار ، و الشخص القذر الذي يؤذي الجيران فكان عقابه لبس قناع حديدي يشبه الخنزير ، و يظل المذنب مرتدياً لذلك القناع لمدة يوم كامل ، لا يستطيع الأكل و الشرب خلالها ، هذا بالإضافة لقطعة من الحديد تثبت بداخل القناع تمنع الشخص من الكلام و الأكل و الشرب ، في الحقيقة أن تلك القطعة تشبه لجام الخيل إلى حد كبير ، و في بريطانيا و تحديداً في أسكوتلندا عام 1567م كانت تُجرى العديد من المحاكمات بحق كل من يثبت تورطه بأعمال السحر و كان قناع العار و هو أحد أنواع العقاب التي يتم تطبيقها عليهم ، فبعد تثبيت ذلك القناع يُترك المتهم يعاني من سخرية الناس و رجمهم له بالقاذورات ، حتى يموت من الجوع و العطش .
المصادر :
Utterly Creepy Historical Masks
False Face Society – Wikipedia
Beauty History: Madame Rowleys Toilet Mask – Beautiful
تاريخ النشر : 2018-05-29