من قبرص إلى لبنان : أسطورة أبدية
أساطير تخلد قصص العشق و الغرام |
كان يعيش قديما ، في جزيرة قبرص التابعة لملك صيدون ، شاب اسمه بكمليون لا يجد في نفسه هوى للنساء ولا ميلا للزواج . فصمم أن يبقى عازبا مدى الحياة ، وكان فنانا بارعا يجيد نحت التماثيل الجميلة ، وقد ظهرت موهبته وفنه في صنع تمثال لفتاة من العاج . فجاء التمثال آية من آيات الفن والجمال . وما إن انتهى بكمليون من عمله حتى وقف مشدوها أمام فتاته العاجية ، وراح يتلمسها برفق وحنان ويتساءل إن كانت معدنا ميتا أم بشرا حيا . ثم أخذ يحدثها عن حبه وإعجابه بها ، ويقدم لها الأزهار والعطور حينا والحلي والملابس أحيانا .
أغرم بكمليون بتمثاله الذي صنعه بيديه |
وبقي هذا العاشق المسكين على هذه الحال إلى أن حل عيد فينوس ، إلهة الحب والجمال . وكانت قبرص بكاملها تقيم لهذه الإلهة التي ولدت على شواطئها ، عيدا كبيرا ، يحتفل به جميع السكان ، فيزورون معابدها ويحرقون البخور لها ويذبحون العجول على مذابحها . وكان من عادات ذلك العيد أن يتقدم الناس من هذه الإلهة بطلباتهم وتمنياتهم ، وبما تشتهيه أنفسهم في هذه الدنيا . وكانت فينوس كريمة سخية مع عبادها لا ترد لهم طلبا ولا تخيب لهم رجاء ، خاصة في عيدها الكبير .
وجاء بكمليون بين جمهور المتعبدين لها ، وقد وقف بخشوع وإجلال أمام تمثالها وخاطبها بلهجة غلب عليها التردد والحياء ، قائلا :” أيتها الإلهة الكريمة ، أنت التي تمنحين السائل حاجته ، والجائع خبزه ، والعاشق حبه ، أتوسل إليك أن تعطي الحياة للفتاة العاجية التي عندي ، وتجعليها زوجة لي ” أصغت فينوس لبكمليون. وحنت عليه وأظهرت استجابتها لطلبه بأن جعلت النار في موقدها ترسل ثلاث مرات ألسنة عالية نحو السماء. وهنا عرف أن فينوس استجابت لطلبه.
دهش عندما رأى أن تمثاله تحول إلى امرأة تضج بالحياة |
عاد بكمليون إلى منزله مطمئن البال ، وما إن وصل حتى أسرع نحو فتاته العاجية . وانحنى فوقها وهي ممددة في سريره ، ولشد ما كانت دهشته حين أحس بحرارة تطفح منها ، فمد يده إلى أنفها فشعر بأنفاسها تلفح أصابعه . فبهت ورقص قلبه فرحا ، وراح يجس جسدها من هنا وهناك ، بعصبية وانفعال ، حتى تأكد له أن فينوس قد حولت تمثاله إلى جسم بشري تجري الدماء الحارة في عروقه. فركع على ركبتيه ورفع صوته بآيات الشكر والثناء للإلهة الحنونة . ونهضت ، على وقع كلماته، الفتاة من السرير ، ونظرت إليه بحياء وخفر نظرات ملؤها الحب والحنان .
وما إن حل الليل حتى هبطت فينوس إلى منزل بكمليون ، مصممة على إتمام عملها . وظهرت له ولفتاته، وأفهمتهما أنها جاءت لتحقق أحلامهما وسعادتهما . وعقدت لهما الزواج بحضور ابنها كوبيدون إله الحب ، ليكون شاهدا على زواجهما . وعاش بكمليون هانئا سعيدا مع زوجته ، وبعد مضي تسعة أشهر ولدت لهما بنت أسمياها بافوس ، أعطت اسمها فيما بعد للجزيرة التي ولدت فيها .
وعندما بلغت بافوس سن الشباب تزوجت من ملك أشور ، في بلاد العراق وولدت له صبيا دعي سينيراس، تولى بعد أبيه . وكان سينيراس ملكا عادلا ، عاش مدة ملكه ناعم البال حتى كبرت ابنته مرة، فسببت له المرارة والشقاء .
ومفاد ذلك ، أنه عندما أصبحت مرة فتاة ناضجة ، ظهرت عليها ملامح الفتنة والجمال . وشعرت فينوس بالغيرة منها ، وشاءت أن تحرمها من التمتع بجمالها ، وتجعلها شقية تعيسة فطلبت المساعدة من ابنها كوبيدون ، وأطلق على قلب مرة سهما من سهامه التي ما أصابت قلبا إلا وأشعلته بالحب . إنما الحب الذي اشتعل في قلب مرة كان حبا مجنونا لوالدها . وفهمت مرة أن حبها لوالدها حب غريب عجيب لا تقره أديان وعادات شعبها . وحاولت عبثا أن تقاوم هذه العاطفة الأثيمة ، لكن سهم كوبيدون لا يرد . وبسبب هذا الحب غير الطبيعي رفضت مرة شبان ممالك الشرق الذين تراكضوا طالبين يدها . وصدتهم دون اكتراث لما هم عليه من جمال وثراء وجاه . وكم تمنت لو ولدت في بلاد الفرس حيث يسمح للآباء بالزواج من بناتهم لتتخلص من هذا الوضع المؤلم وهذا العذاب المرير .
لم تجد مخرجا و نهاية لعذابها سوى الانتحار |
أخيرا ، وبعد أن فكرت طويلا بالحالة التي تتخبط فيها ، لم تجد مخرجا لها سوى الانتحار ، فأخذت زنارها الحريري الطويل وربطته حول عنقها وشدته شدا قويا ، فأزرق وجهها وجحظت عيناها ، وراحت تغمغم غمغمة الموت . وصدف أن مرت هيبوليت مربيتها العجوز أمام غرفتها، وسمعت زفراتها ، فاضطربت ودفعت الباب وشاهدت مرة على تلك الحال ، فأسرعت إليها وحلت زنارها عن عنقها وخلصتها من موت محتم . بعدئذ راحت تواسيها وتخفف عنها ، وتسألها برفق وحنان عن سبب انتحارها ، فلا تجيبها مرة بغير البكاء والتنهدات . أخيرا باحت مرة بسرها الرهيب للمربية بعد أن أقسمت لها بألا تبوح به لأحد ، وأن تساعدها على الخروج من ورطتها . إضطربت المربية واستعظمت الأمر في البداية ، لكنها تمالكت نفسها ، وهي العجوز المحنكة التي ذاقت مر الحياة وحلوها ، وأعملت فكرها في ما ينقذ ربيبتها ويوصلها لغايتها .
وجاء عيد سيريس ، إلهة الخصب والنبات ، وكانت الأمهات يحتفلن به احتفالا مهيبا ، فيلبسن ثيابا بيضاء كالثلج ، ويقدمن للآلهة السنابل خصلا خصلا . وكان من عادات ذاك العيد أن تبتعد النساء عن منازلهن لمدة إثني عشر يوما . ومشت الملكة كولشريس ، والدة مرة كعادتها ، على رأس المحتفلات لتقوم بطقوس العيد.
وبحلول العيد ، اختمرت في ذهن المربية العجوز ، خطة جهنمية لإيصال مرة لمخدع أبيها . فما إن خرجت الملكة الأم من القصر للإشتراك بموسم العيد ، حتى جاءت العجوز الشمطاء إلى الملك سينيراس وأخذت تحدثه عن فتاة رائعة الجمال أحبته حبا قويا ، دون أن تذكر له اسمها . فسألها الملك بشغف عن سنها ، فأجابته بأنها في سن ابنته مرة . ارتاح الملك لهذا الخبر ، وعادت إليه روح الشباب ، وأمر العجوز بأن تقودها إليه الليلة . ابتسمت العجوز ابتسامة النصر وذهبت إلى مرة تزفها البشرى السارة . لكن مرة لم تستسلم للفرح ، ولبثت متخوفة قلقة .
ولما خيم الظلام وساد السكون جاءت العجوز وأمسكت بيد مرة اليسرى تقودها إلى غرفة أبيها . وتركت لها اليمنى تتلمس بها الجدران . وقد تعثرت ثلاث مرات وكادت تقع ، وسمعت البوم تنعق ثلاث نعقات منكرة ، كأنها تريد أن تنبهها إلى فظيع فعلتها وتنصحها بالعدول عنها ، لكنها لم تتراجع ، واستمرت سائرة حتى أوصلتها المربية إلى غرفة أبيها . وقدمتها إليه في الظلمة الحالكة قائلة له :”هذه هي الفتاة التي حدثتك عنها ، خذها فهي لك” وهكذا تواصلت هذه العجوز بدهائها وخبثها إلى جمع الأب بابنته دون أن يعرفها. وتجددت علاقة مرة بأبيها في الليلة الثانية . واستمرت خيانتها كل ليلة من أيام موسم العيد .
ثار الملك سينيراس عندما علم أن الفتاة التي تأتيه ما هي إلا ابنته |
وقد تضايق الملك سينيراس من تواري هذه الفتاة عن عينيه ، إذ كانت تأتيه في الظلام وتنسحب قبيل الفجر . وفي الليلة الأخيرة صمم ألا يتركها تخرج قبل أن يتعرف إلى وجهها . وعندما دخلت إلى غرفته ، أخرج قنديلا كان قد خبأه تحت السرير ، وأدناه من وجهها . ولما عرفها وأدرك هول جريمتها ، صعق لمرآها ، وعقدت المفاجأة لسانه ، واستدار واستل سيفا معلقا في الجدار ، ليدق به عنقها ، والتفت إلى حيث كانت فلم يرَ لها أثرا ، إذ خرجت بسرعة البرق من الغرفة ، وهربت من القصر تحت جنح الظلام، ونجت بنفسها .
وراحت مرة تضرب في السهول والبراري والصحاري ، وابتعدت عن أرض أشور ، ومضى عليها تسعة أشهر وهي تائهة في الأرض حتى وصلت أخيرا إلى مملكة سبأ ، في بلاد اليمن . فانطرحت أرضا تئن من التعب ، وقد ثقل الطفل في أحشائها، وازداد شعورها بفظاعة العمل الأثيم الذي ارتكبته ، فطلبت من الآلهة ألا تبقيها حية لئلا تنجس الأحياء ، وألا تميتها لئلا تلوث الأموات .
وسمعت الآلهة صلوات مرة وأشفقت عليها ، فساعدتها على ولادة طفلها ، وحولتها بعد ذلك إلى شجرة حملت اسمها “شجرة المر” وتركت دموعها تسيل من الشجرة حبوبا عطرة يجمعها الرعاة والمارة ، هي حبيبات البخور .
أما الطفل ، فقد احتضنته عرائس الماء وأضجعته على مهد من العشب الطرئ . وكان طفلا فاتنا يشع النور من وجهه . وقد اختارت له اسم “أدونيس” .
ولادة أدونيس كما تصورها الرسومات |
وشاهدت فينوس من عليائها الطفل أدونيس ، وسحرت بجماله ، واحبت أن تشرف هي بنفسها على تربيته ، فهبطت بمركبتها الطائرة على أجنحة حمائم بيضاء ، وأخذت أدونيس من عرائس الماء ، ووضعته في صندوق أحكمت أقفاله ، وسلمته إلى شقيقتها برسيفون ، إلهة الجحيم ، بعدما أخذت منها وعدا بألا تفتحه ، وأن تعيده إليها ساعة تطلبه منها ثم عادت طائرة من حيث أتت .
بعد ذهاب فينوس ، لعبت الوساوس في نفس برسيفون بشأن الصندوق ، ودفعها حب الاستطلاع إلى فتحه . ورأت ذاك الطفل بوجهه المنير ، فافتتنت به ، وصممت أن تحتفظ به لنفسها . وعندما جاءت فينوس لتستعيده منها ، رفضت إعطاءها إياه رفضا قاطعا . فذهبت فينوس وشكت الأمر إلى زفس ، سيد الإلهة ، فقضى بأن يتقاسما تربية الطفل . فيكون ستة أشهر لبرسيفون وستة أشهر لفينوس . وهكذا نشأ أدونيس برعاية الإلهتين الشقيقتين حتى بلغ سن الرشد ، فتحرر من وصايتهما وأصبح طليقا حرا . وراح يتجول في الغابات يطلق السهام على الوحوش ، ويجد متعة كبرى في ملاحقتها وصيدها .
وقعت عشتروت بعشق ادونيس |
واتفق مرة ، وهو يصطاد في جبال لبنان ، أن مر أمام مغارة أفقا ، فشاهدته الإلهة عشتروت التي كانت تغتسل تحت شلال هذه المغارة ، فسحرت بجماله وتعلقت به . أما هو فلم يأبه لها ، وتابع طريقه ساعيا وراء صيد مثير . وتعلقت عشتروت بأذياله فنسيت موطنها ولحقت به أينما حل ، في الغابات والجبال والأودية ، دون تعب أو ملل ، وراحت تحدثه عن إعجابها به وحبها له ، وهو مندفع وراء الصيد لا يهتم لما تقول . وعندما رأت فيه هذا الولع بالصيد ، قررت أن تعاونه في هوايته ، علها بهذه الطريقة تكسب وده ، وصارت تقود كلابه وتسد على الطرائد السبل ، فيصطادها أدونيس دونما خطر . وكانت تخشى عليه من السباع الضاربة ، فتنصحه قائلة :”لا تتردد أمام كل ما يفر أمامك من طرائد ، كالأرانب والغزلان والبط ، لكن حذار الحيوانات المفترسة من أسود ونمور وخنازير برية ، فهي خطر عليك ، وإياك يا حبيبي أن تصارعها” .
أوصت عشتروت أدونيس وصيتها واعتلت مركبتها التي تجرها طيور البجع ، وانطلقت في الفضاء نحو قبرص لقاء أمر عاجل . وكان أدونيس شجاعا مغوارا ، فلم يكترث لتحذيرات عشتروت . وأطلق كلابه نحو الغابة وراح يجري وراءها ، فاكتشفت آثار خنزير بري وتتبعتها حتى وصلت إلى مرقده ، فأيقظته وأهاجته بنباحها المتواصل . واندفع الخنزير من مخبئه يسعى إلى الخروج من الغابة ، فشاهده أدونيس وعاجله بسهم جرحه جرحا طفيفا فجن جنونه، وانقض عليه ، وحاول أدونيس الهرب منه ، لكن الخنزير الهائج أدركه وطعنه بنابيه في جنبه طعنة اوقعته أرضا والدم يسيل منه .
أخذت عشتروت تنتحب عند جثة معشوقها |
ولم تكن بعد عشتروت قد بعدت كثيرا ، فسمعت أنين أدونيس ، والتفتت نحوه ورأته مضرجا بدمائه ، فعادت مسرعة إليه وعانقته بحرارة وحنان . وأسلم الروح بين يديها ، فراحت تلطم وجهها وتندب حظها ، ثم خاطبته قائلة :
“تموت يا حبيبا رغبت فيه ، ورغبتي تبخرت كحلم . معك ذهبت لؤلؤة جمالي ، لكن علي أن أعيش ، أنا الخالدة ، ولا يمكنني أن أتبعك . مرة أخرى قبلني ، قبلني قبلة طويلة حتى أرتشف روحك بين شفتي ، وأرتوي من حبك” .
قالت هذا ، وأخذت من دمه قطرات سكبتها على الوادي ، فتولدت منها زهرات شقائق النعمان ، ووقع بعضها في النهر ، فتحولت مياهه إلى أرجوانية حمراء . ثم غطت جسده الجميل بورق الخس والخبازى ، ودفنته في أفقا . بعد ذلك نهضت وهامت على وجهها ، ومشت دون وعي فوق الورود والأشواك ، وسال الدم من قدميها ، وتشربت منه الأزهار البيضاء ، فاصطبغت بلونه وأصبحت حمراء .
تاريخ النشر : 2018-10-05