نهاية أسطورة
أنا الذي أخضعت بقدرتي وحش كربيروس |
1- البطل الغاضب :
كان في طبيعته شديد البطش |
لطالما كانت سَوْراتُ الغضب المفاجئة ملازمة للبطل الإغريقي هرقل، الذي كان في طبيعته شديد البطش إذا حرك الغضب جوارحه المفتولة بالعضلات، و كيف لا وهو ابن جوبيتر ملك السماء و البرق، بل و ملك جميع آلهة الرومان و راعي العدالة على الأرض ( كما زعموا). و في إحدى سورات غضبه تلك قتل معلمه لينوس، فتم نفيه بعيدا إلى الريف. و حتى بعد أن تزوج و أصبح بطلاً شعبيا يذكره كل الإغريق بالتبجيل و العرفان، فقد فاجئ من حوله بقتل أبنائه و اثنين من أبناء أخيه إفكليس، إلا أن الأسطورة تقول أن جونو (إحدى آلهة الإغريق) سلطت عليه الجنون بعد أن حسدت مآثره الخالدة.
امعانا في اذلاله .. لم تكن أومفالي تختار له إلاّ أعمال النساء كالغزل والحياكة |
و لكن كل تلك المهام التي سعى بها هرقل إلى تأديب ذاته لم تمنعه من قتل رفيقه العزيز افيتوس، لكي يعود مرة أخرى مجبراً نفسه على الخدمة للتكفير عن ذنبه. أما مخدومه الجديد فقد كان ملكة تدعى أومفالي. و إمعانا في إذلال هرقل، فقد قامت أومفالي بإلباسه أزياء النساء، بينما ارتدت هي جلد أسدٍ لتبدأ في أوامرها و نواهيها له، و من العجيب أنها على عكس مخدومه السابق الذي لم يختر إلا المهام التي تتطلب الجرأة و الحزم، فلم تكن أومفالي تختار له إلاّ أعمالا كالغزل و النسيج. لعل أحدنا يظن أنها تريد بذلك أن تكسر في قلبه شوكة الزهو و الخيلاء التي تملكته، و لكنني أرى أنها لم تُرِدْ إلا حمله على الصبر و ضبط النفس و مجاهدتها على المكاره، و هي صفات أظن أن بطلنا كان مفتقرا إليها خصوصا حال غضبه المفاجئ.
2- ديانيرا و بداية النهاية :
نيسيوس يحاول خطف ديانيرا |
كان نيسوس ابناً لملك أثينا بانديون الثاني، و كانت أكثر ما يميزه هو بنيته، فنصفه السفلي كان شبيها بجسد الخيول، مما أتاح له القدرة على التنقل عبر الأنهار بكل سهولة و يسر. طلب هرقل من نيسوس أن يحمل زوجه ديانيرا على ظهره إلى الضفة الأخرى.
سهم هرقل وقد اصاب نسيوس في مقتل |
ما أن أدرك هرقل ما يحدث، حتى انقلب إلى كنانته فنثر سهامها، و أدنى قوسه مصوِّباً إياه نحو نيسوس الخائن. و انطلق السهم الثائر ليخترق قلب نيسوس فسقط على الأرض من فوره، و ما أن علم أنه ملاقٍ شبح الموت لا محالة ، آثر أن تكون آخر كلماته سببا في راحة باله ما أن يغادر الدنيا نحو العالم السفلي. همس الصريع باسم ديانيرا، و باح لها بسر دمائه التي تكتنز من الخصائص ما عجز أرباب السحر عن تحقيقه في شيء من عقاقيرهم و علاجاتهم، أخبرها بقدرة دمه على حفظ حب الزوج لزوجته و أمرها بالاحتفاظ بشيء منه لعله ينفعها يوما من الأيام. صدقت ديانيرا كلماته التي انسابت مع آخر أنفاسه، و قالت في خَلَدِهَا: و ما الذي عساه أن يقول إلا الصدق في حالٍ كحالته هذه؟!، و أي شيء يضرني إن احتفظت بقليل من دمه؟.
3- نار الغيرة :
هرقل بطل الاغريق المقدام يصرع الاسد |
استمرت أيام هرقل مع ديانيرا على أفضل ما يرام، دون أن تعكر صفو حياتهما، نوائب الزمان أو شوائب الأيام،. و لكن دوام الحال من المحال، فهاهي بسمات الرضا على وجهيهما تنحسر عن صراع بين الحب و الغيرة. فبينما امتلأ البطل الإغريقي إعجابا بالحسناء “أيولي”، انقلب حال الزوجة المسكينة من حال الغبطة و السرور، إلى حال الضجر و الغضب العارِمَيْنِ.
الغيرة اكلت قلب ديانيرا بسبب خيانة زوجها |
كان هرقل عائدا من إحدى معاركه، وقد تَحَلَّىَ بحُلَلِ الظَّفَرِ، و حمل معه من الكنوز و الغنائم ما يُرضي به آلهته. و كان ليكون أكثر من ظفر بالنسبة ديانيرا، قد عَمَدَتْ إلى رداءٍ أبيض فمزجته مع دماء نيسوس و أقبلت به إلى هرقل كالهدية التي تحملها أي زوجة لزوجها العائد من السفر إظهارا للبشرى و الفرحة، فأسرع هرقل إلى ارتدائه، و لم يطل الوقت حتى اخترم جسده ألم فظيع، و ظهر عليه كل عَرَضٍ مريع. و التصق الثوب بجلد هرقل و راح يذيب لحمه شيئا فشيئا.
هرقل يخر صريع الثوب المسموم بدم نيسيوس |
هنا أدرك هرقل أنه على شفير الهلاك، فأمر بأن يُحمل إلى قمة جبل أوريتا، حيث تم إعداد محرقة جنائزية تليق ببطل الإغريق و الأرض قاطبة. أسقط هرقل بجسده المتهالك على كومة الخشب و تَدَثَّرَ جلد الأسد الذي لطالما كان ثوبه. تقدم “فيلوكتيت” الذي كان هرقل قد أعطاه قوسه و سهامه، نحو المحرقة و أشعل فيها النيران. هذه كانت نهاية هرقل، و لكنها كانت كذلك فقط لأهل الأرض، أما الجزء الذي اكتسبه من أبيه ملك السماء فلا زال يعيش في الشواطئ السماوية مع زوجته الجديدة “هيبي” ملكة الصبا.
تاريخ النشر : 2016-12-20