البوراكمن : المنفيون اليابانيون
إن التمييز بين الناس كان شيئا موجودا منذ عصور طويلة وهو أمر من الطبيعة البشرية . وهذا التمييز قد يكون جيدا وقد يكون سيئا على حسب أساسه . وحينما يكون الأساس أمرا شاملا فهذا يعرف باسم العنصرية ، ومن سنتحدث عنهم اليوم أحد ضحاياها وهم البوراكمن .
لكن قبل ذلك ، إن مفردة عنصرية تعني تمييز الشخص بسبب انتمائه للجماعة . فعلى سبيل المثال فإن قول أن جميع السود مجرمين فقط لوجود مجرمين سود هي عنصرية .
وقد وجدت هذه المفردة طريقها لمعجم اللغة الإنجليزية بالعام 1942 لكنها وجدت بلغات أخرى وبوصف آخر ، ففي اليونان وروما فكان هناك مصطلح “بربري” الذي يطلق على أي إنسان غير متحضر بنظرهم .
والعنصرية موجودة بأشكال كثيرة ، فالعنصرية العرقية والمناطقية وحتى العنصرية الدينية والطائفية موجودة بكل مكان بالعالم . لكن هذه العنصريات تتشكل حينما يكون هناك أعراق وديانات مختلفة ، لكن كيف سيكون الحال بدولة مثل اليابان بعرقية ودين واحد؟ .
حسنا .. إن العنصرية باليابان هي عنصرية متجذرة بالمهنة فقط لاغير ، وقد قسم اليابانيون أنفسهم لطبقات متعددة .. إحداها طبقة البوراكمن والتي تعرف أنها حثالة المجتمع .
وقبل أن نبدأ المقال فدعني أعطيك لمحة عن تاريخ اليابان .
إقرأ أيضا : المتبخرون في اليابان .. بين ماضٍ مؤلم وحاضر مجهول
لمحة تاريخية
إن التاريخ الياباني طويل للغاية لكنه مختصر ، حيث أن اليابان ظلت بلادا منعزلة ليس لها في العير ولا في النفير خلال كل القرون السابقة . ولم تكسر عزلتها إلا بضعة مرات آخرها في وقتنا هذا .
ونتيجة لهذه العزلة فإن اليابان هي أقل دول العالم من ناحية التعدد العرقي ، حيث أنه وبالعام 2018 فإن 98٪ من السكان هم من عرقية واحدة . وفي القرن 19 كان اليابانيون يشكلون 99٪ من تعداد السكان حيث أنها بلاد منعزلة ولم يسمع معظم سكان العالم بوجودها .
وحتى من ناحية الدين ، فإن أكثر من 64٪ من اليابانيين ملحدين بلا دين ، والباقي يتبع الديانات الشعبية والديانة البوذية والشنتوية .
إن انعزال اليابان قد ظهر كذلك بلغتها ، حيث أن اللغة اليابانية هي واحدة من اللغات القليلة المنعزلة والتي لا تملك أي أصل ولا عائلة لغوية . لغة قد نشأت من العدم وصمدت ألوف السنين . وصدق أو لا تصدق عزيزي القارئ أنه وحتى اليوم وبكل التقنية والتطور الذي وصلت إليه البشرية .. فإن هناك يابانيين لا يعرفون بوجود بلدان وشعوب أخرى في هذا العالم! .
وبالتالي فإن اليابان بلاد منعزلة بكل المقاييس ، فهي شعب واحد ولغة واحدة وأمة واحدة ودين واحد . لكن بنفس الوقت فلا بد من وجود تمييز وعنصرية فهي طبيعة بشرية . حيث انها حاجة بشرية أن يشعر الإنسان بالإختلاف والتفوق الجماعي على غيره لأسباب كثيرة . لكن لا يوجد أعراق أو ديانات مختلفة باليابان ، فكيف يقوم اليابانيون بالتمييز بين بعضهم؟ .
وهنا أتت العنصرية اليابانية وظهرت في المهن ، بل وأصبحت تلك العنصرية مستمرة لأجيال طويلة لأن اليابان بلاد منعزلة .
بدأت تلك العنصرية بالعام 500 ق.م ، حينما بدأ اليابانييون بتقسيم طبقات ووظائف المجتمع وعلى حسب طبقتهم ووظيفتهم يتم إحترامهم . فكان لديك الإمبراطور ورجال السلطة ، ثم الباحثون والمفكرون والعلماء . وبعده يأتي المزارع والفلاح ، وبعده يأتي الصانع والحرفي والفنان .. وأخيرا يأتيك التاجر والبائع .
إقرأ أيضا : الثقافة اليابانية ؟
إن هذا التقسيم تقسيم أتى من الفيلسوف الصيني كونفوشيوس ، لكن الإمبراطور ورجال السلطة على ما يبدو إضافة يابانية . كذلك فإن هذا التصنيف قديم للغاية وقد أنشأ في فترة لم يكن فيها مدارس وجامعات .. في فترة كان ابن الملك ملكا وابن العالم عالما وابن التاجر تاجرا .
لكن بالطبع ماذا عن المهن الصغيرة المحتقرة والتي لا يقبل فيها إلا مضطر؟! . إذن عن حفاري القبور مثلا؟ ، عن الأشخاص الذين ينظفون مخلفات الحيوانات؟ ، عن الجزارين والنشالين وبائعات الهوى؟ .
من هم البوراكمن ؟
صنف اليابانيون الوظائف المحتقرة وأصحابها إلى قسم جديد سمي بـ “البوراكمن” والذي يعني أهل القرية . لكن هذه التسمية لا تشمل القرويين .. لأن القرويين يعملون بالصناعة والزراعة ، بل إنها تشمل المنبوذين والمحتقرين الذين حرم عليهم العيش بالقرى حتى .
وقد تم تقسيم البوراكمن إلى قسمين :
القسم الأول هو “إيتا” ، والتي تعني باليابانية غير الأنقياء ، حيث أن هؤلاء يعملون بأعمال يعتقد أنها تلوث الروح حسب الثقافة القديمة باليابان . و تلك الأعمال هي حفر القبور والجزارة ودفن وتغسيل الموتى وأعمال أخرى .
أما القسم الثاني هو قسم “الهينين” ، والتي تعني حرفياً غير بشري .. شمل هذا القسم من يعمل بالنصب والإحتيال والنساء التي يعملن بالدعارة والنشال والسارق بل وحتى الممثل حيث أن التمثيل باليابان يعتبر عاراً على الشخص .
ابتداء من العام 500 ق.م كانت العنصرية ضد البوراكمن عنصرية شعبية ، حيث كانت جزء من ثقافة السكان .. لكن أثناء فترة إيدو وبداية القرن 17 تحولت العنصرية إلى قانون رسمي عليهم .
فأصبح البوراكمن مجبورون على لبس ملابس معينة والعيش بالخرابات والمناطق الغير زراعية . كذلك كان يقطع أصبع الخنصر لديهم حتى يتم تشبيههم بالحيوانات لأن الحيوانات تملك أربعة أصابع وحتى لا يتم الخلط بين البوراكمن والبشر .
إقرأ أيضا : مجزرة إستديو الإنمي في اليابان
كذلك ولأنهم عبارة عن يابانيين عرقياً فلا يمكن التفريق بينهم وبين أي ياباني آخر ، فيمكن للبوراكمن بكل بساطة أن يرتدي لباسا عاديا ويتجول داخل الأحياء والمدن .. لذلك قد تم إجبارهم على حمل وشوم على أجسادهم ، ففي حالة خروج أحد البوراكمن خارج مناطقهم ، لا بد أن يتم التعرف عليه من خلال الوشوم على جسمه ، حيث أن الوشوم لا يمكن إزالتها كما الملابس .
كذلك لم يتم منحهم أي حقوق مواطنة وجنسية ، فلم يحق لهم التعلم أو العلاج أو حتى العيش بالمدن ، ولم يشملهم الإحصاء السكاني بل أن بعض الإحصائيات السكانية صنفتهم على أنهم حيوانات لا بشر .
بل ووضع قانون رسمي عليهم ، ففي حالة مرور أي شخص من أي طبقة من جانبهم فإن على البوراكمن أن يحني رأسه له احتراماً . حتى لو كان مجرد طفل فكان لا بد للبوراكمن أن يحني رأسه له وإلا سيعتقل .
البوراكمن في اليابان الحديثة
يوما بعد يوم بدأت اليابان تكسر عزلتها ، وبدأت تتأثر بالثقافات العالمية ووصلت إليها ثقافة المقامرة . لكن اليابانيين حرموا المقامرة لأنها عبارة عن عمل ملوث ، وحيث أنها كذلك فقد أصبح البوراكمن هم الوحيدون الذين يقامرون .. وقد حصلت بعض عوائلهم على الكثير من المال من بعضها البعض .
وبالطبع فحتى حينما يحصلون على الكثير من المال ويصبحون أثرياء فهم بنظر بقية اليابانيين ليسوا إلا حيوانات على هيئة بشر . وبعدها أضحوا حيوانات تملك المال فقط لا غير و الذي لن يشتري لهم الإحترام بين اليابانيين .
لذلك لم يتحول البوراكمن للتجارة أو الصناعة ، بل تحولوا إلى عصابات وأصبحت معظم عوائل الياكوزا القوية هي عوائلهم . وعد أن أصبحت عوائل الياكوزا القوية من البوراكمن .. أصبح كون الياباني منهم عبارة عن انتماء يدل على الفخر والمعزة لا على الذل والخسة .
فلم يعد البوراكمن يخجلون من أنفسهم بعد كل ما مروا به . بل إن عادة الوشوم لدى عصابة الياكوزا قد أُخذت من أعضاءها البوراكمن الذين وشموا أنفسهم دلالة على الفخر والمعزة .
كذلك فإن بعض أفراد الياكوزا يقطعون أصبعا من أصابعهم عند الإنضمام .. وذلك دلالة على تلك الطريقة القديمة لتعليمهم وتميزيهم عن باقي اليابانيين .
واليوم وحسب بعض مصادر الحكومة اليابانية فإن 75٪ من أعضاء الياكوزا هم من البوراكمن .
إقرأ أيضا : رحلة في كتاب العرب وجهة نظر يابانية
بالعام 1871 انتهت القوانين الحكومية ضد البوراكمن ، وتم تسجيلهم على أنهم عبارة عن بشر رسميين ويحق لهم حقوق البشر . فيمكنهم الحصول على الجنسية ويمكنهم الحصول التعليم والعلاج .
لكن الشعب لم يتقبل هذا القرار وظل يعامل البوراكمن معاملة الحيوانات حتى الثمانينيات من القرن الماضي ، حينما بدأت عنصرية اليابانيين تقل ضدهم نتيجة لبعض الإصلاحات الحكومية . وخلال تلك الفترة لم يكن التجار والبائعين يتعاملون معهم ولم يكن أصحاب العقارات يأجرونهم .
واليوم .. مناطق البوراكمن تعاني من إهمال حكومي متعمد ضدهم ، كذلك فإن هناك الكثير من اليابانيين الذين لا يزالون ينظرون للبوراكمن نظرة احتقارية ويرونهم أقل من بقية البشر .
فالكثير من العائلات اليابانية ترفض تزويج أبنائها من بنات البوراكمن ، أو تزويج بناتهم من رجال البوراكمن . بل في الواقع إن هناك محققين خاصين باليابان للتحقق من الأنساب حيث يتم توكليهم للبحث بأصول الأشخاص خوفا من أن يكونوا بوراكمن . لأن البوراكمن لا يملكون أي نسب بل أن معظمهم أبناء بائعات هوى .. و بالتالي فأنسابهم مختلطة عكس باقي اليابانيين الذين يحفظون أنسابهم لمئات السنين .
وقد نشأت منظمات كثيرة حتى تنهي هذه العنصرية ضدهم ، وقد تبنى الحزب الشيوعي الياباني حركتهم وحاول مساعدتهم .. ولعل هذا السبب الذي كره اليابانيين بالشيوعية . كذلك وحتى اليوم فإن غالبية بائعات الهوى والسارقين والمشردين والمتسولين هم من البوراكمن .
وتخيل يا عزيزي القارئ أن يحكم عليك بكل هذا فقط لأن أحد اجدادك قد عمل بوظيفة سيئة قبل 2500 عام! ، تخيل أن تحمل كل هذا الألم بسبب خطأ ارتكبه جدك قبل 2500 عام! .
ختاماً
إن هذا العالم عالم كبير ، وإن الحياة عبارة عن قصص ، قد تكون تلك القصص قصصا ممتعة ومسلية وقد تكون قصصا مؤلمة وقد تكون قصصا مختلطة . لكن قصة البوراكمن هي أكثر القصص غرابة وألماً سبق وأن قرأتها . فهم يابانيون عرقيا ويعيشون بارضهم ومع ذلك تتم معاملتهم كأقل من بقية البشر فقط لأن جدهم المائة والخمسين قد عمل بوظيفة اعتبرت عارا اجتماعيا في ساحق الزمان! .
إن كانت قصة البوراكمن تعلمنا شيئا ، فهي تعلمنا أن العنصرية والتمييز هي طبيعة بشرية موجودة لدى كل البشر . لكن السؤال هنا ، أين سيتم تفريغ الحاجة الإنسانية لهذه الطبيعة؟ . هل سيتم إخراجها على شكل عرقي أم على شكل ديني وطائفي أم على شكل مهني ، أم على شكل مناطقي؟ . وكيف يمكن التخلص من هذه الطبيعة البشرية برأيك يا عزيزي القارئ؟ .
ملاحظة : عصابة الياكوزا يعود عمرها لأكثر من 400 سنة ، لكنها لم تتحول لمافيا رسمية تقارع اليابان إلا بالثلاثينيات .
ملاحظة : جميع حقوق المقال محفوظة لموقع كابوس . لا يحق لأي شخص كان النقل الحرفي أو المرئي للمقال المنشور دون إذن مكتوب من إدارة الموقع . وتترتب المسائلة القانونية المنصوص عليها على كل مخالف للتنبيه المذكور .