أدب الرعب والعام

برهوت ..

دخل رجلٌ على القوم وهم يتسامرون، وقال مبشرًا:

_ خلا الطريق من تلك الصخرة، اختفت، تلاشت، واراها التراب.

قاطعه أحدهم ساخرًا:

_ إنه جالس متربع في أعماقها، لن تنساه، لقد سافرت روحها معه حيث هو، وما تراه هو شبح وسراب، ستحرق بلِهِيبها ما تبقى من أعمارنا بابتسامتها الناعمة، وبريق عينيها الغريب.

_لن ترانا، وكيف ترانا وهي تقلب وجهها في السماء! فحبيبها مكانه بين النجوم، فمثله لا يقبل بسكن تحت التراب.

_كم هو محظوظ، لقد عانق المدى، واخترق الحدود!!

توقف ذلك الرجل حين علم أن الجميع مشغولون، وعن نصحه معرضون.

استمر القوم يثرثرون، وعن مفاتنها يتحدثون. بينما كان أحد الجالسين ساكنًا يستمع لصوت أعماقه. كان يحاول الهروب من كابوس الماضي، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

تحركت يداه، واهتزت شفتاه، واندفعت الكلمات، وتكونت الجمل:

_ ها، إنها الفرصة التي لطالما انتظرتها، ولِمَ لا! فهنالك أملٌ نبت من العدم. سأحاول مرة أخرى، ولن تكون مثل سابقتها.

إقرأ أيضا: الحب الملعون

نعم سيسبق الطلب الهدايا والمال، ستنفخ العُقد بليل شديد الظلمة، تغلغل وانتشر وغشي الخلائق من جن وبشر.

طارت نظرته إلى الأفق، هناك حيث وادي (برهوت)، والجبال التي عانقت السماء، فاختالت على شفتيه ابتسامة الرضى. ومن دون سلام أو استئذان اقتلع نفسه من مكانه وشق طريقه من بين القوم غير آبه.

مرت الأيام، وعلى غير عادته غاب عن الأنظار. تعجب الجميع! وبدأوا عنه يسألون.

قال أحد أقاربه:

_ رأيته متجهًا إلى الجبال، حاملًا دلوًا وحبلًا طويلًا، كان قلقًا، تغشى وجهه سحابة من الكآبة، وفي عينيه ظلال حزن عميق. أخذتُ أتبعه، حتى توقف عند بئر معطلة، مسكونة منذ القدم بالعقارب والحيات، ومن دون أن يلتفت نزل بها.

اقتربت من فوهة البئر بهدوء، أنزلت نظري، شاهدته يغتسل بماء أسود يتدفق، له هدير!! شعرت بالخوف، وتراجعت إلى الوراء عندما سمعت صوتًا يرافقه صريرٌ يردد:

_ رسولٌ كريمٌ يَحلُّ على قوم هو المضيف، يجود بخيره على الفقير وابن الكرام. يسوق قطعانًا بيضًا تمشي الهُوينى، على ظهورها قرابٌ ألوانها خليطٌ بين السواد والبياض.

توقف ذلك الصوت فجأة! وسمعت خشخشة، نباح، عواء، زئير يرافقه صوت طبل ودفوف.

إقرأ أيضا: القبر وحارس الكنوز

وفي لحظة خاطفة، رأيت ضياءً صادرًا من فوهة البئر، تبعه دوي انفجار، شاهدت الدلو والحبال تندفع من فوهة البئر عاليًا تتأرجح حتى تلاشت في كبد السماء. وخلال ثوانٍ عمّ السكون، وأظلم المكان …

لمعت الصخور التي كانت تحيط بفوهة البئر، وسمعتُ صوتًا صادرًا من أعماقها يقول:

_كفى، كفى، لقد نصب تذكاره، وأغمض عينيه، ودفن أحلامه، وعاد من حيث أتى.

بقيت في مكاني صامتًا، كانت يداي ترتعشان، لم أستطع الحركة لفرط الهلع الذي انتابني، وأيقنت أن ثمة كارثة تحدق بالمكان، وأن الموت وشيك.

صعقتُ وتسمرتْ نظراتي عندما انقشع تدريجيًّا الظلام.

رأيت (مزيونة) تقف إلى جانب البئر، تنوح وتبكي وهي تردد اسم ابن عمي!

رغم أن القصة التي رواها الرجل كانت غريبة تشبه أساطير الأولين إلا أن القوم صدقوه عندما رأوا البرهان..

“فالمزيونة توقفت عن تصفح وجه السماء”!

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا
guest
2 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى