تجارب من واقع الحياة

سفير الموت

فكرتي المظلمة تتعمق ككهفٍ بائس، مغمور بأسرار لا تحتمل النور، أخاف من تسليط شعاعٍ من الضوء عليها، مهابةً من الوحدة القاسية. أنا وحدي هنا، رفقة النغمات الموسيقية المحزنة، وقهوتي المرّة، وكتابي الذي يعكس حالتي الحزينة. وها أنا أخطركم بتجربتي الحالية، التي لا تزال مستمرة بلا نهاية معلومة، وأنا لا أدري كيف ستتم خاتمتها.

دموعي تنهمر الآن برفقة قطرات قليلة تنزل على خدي. أنا شابٌ غريب الأطوار في الثامنة عشرة من عمري، قد خلقت شخصيةً منطويةً تتمحور حول العزلة منذ صغري، فلا أملك أصدقاءً ولا أيّ شخصٍ يحنّ لي. أسرتي تعتقد أنني مُصابٌ بمرضٍ نفسيٍّ، ومع كل هذا، لا يكترثون بوضعي. وقعت في حب فتاةٍ، لكنها تجاهلتني، كان حبي لها صادقًا بكل أعماق قلبي، وكانت تعلم ذلك، ومع هذا العلم، غادرتُ حياتي. لكني لم أبالِ بهذا الاكتفاء والتفكير الواهم. تواجدتُ بضعة أصدقاءٍ حولي، ولكن مع الزمن، بدأوا يتلاشون واحدًا تلو الآخر. نعم، أدرك تمامًا أنني لستُ شخصًا مسلًّى أو مُلهِمًا بالنسبة لأحدٍ ممن يعرفوني. ومن هذا المنطلق، أقضي كل وقتي في قراءة الكتب وتجسيد أفكاري بالكتابة.

إقرأ أيضا: الخوف من الموت

قبل يومين، صعدت إلى قمة المبنى المهجور، حيث قررتُ بشجاعة الرحيل، في حضرة تلك اللحظة المظلمة، وجدت نفسي وحيدًا ومنسحبًا في عالمٍ من اليأس المطبق. أسرتي وبعض الأشخاص العابرين في الأسفل يتوسلون لي بالنزول، ولكني، بعزيمةٍ لا تلين، قررت المضي قدمًا في قراري الأليم. فأنا الذي تلبست رداء الكآبة، تحديت الجميع وقررت المغادرة، فإنني أدركت أن صلواتي المتواصلة إلى العلي القدير لم تجد متنفسًا لتحقيقها. وفجأة، كأنما تم إرسال المساعدة من رمق القدر، ظهر شخصٌ غامضٌ يستعجل بسيارته، ولم أشعر بقدومه حتى كان واقفًا خلفي. ومع ذلك، هذه المرة لم تكن هناك مشكلة، فالمرة الثانية التي أفشل فيها ليست سوى محطةٍ أخرى في رحلتي المؤلمة. وإلى الآن، تنتظرني منحدرات جسر السكك الحديدية لأواجهها، لتكون نهايةً تنقش على صفحات الآلام الملكية بشكلٍ فريد.

أتألم بشدة هل لأنني ذو شخصيةٍ غريبةٍ وبلا جاذبيةٍ، لا يحبني أحدٌ في هذا العالم؟ هل صارَتْ روحي مُرَمَّةً بهذه الدرجة؟ لعنةٌ على الحياة وكل من يعيشون فيها! تُطاردني أفكار الانتحار كل ليلةٍ، فقد تجاوزت حدودًا لا تُطاق. لقد كتبتُ لكم بشكلٍ مكثَّفٍ، ورسمتُ لكم لوحاتٍ بألوانِ الحزن والكآبة، تنبعُ من أعماق قلبي المنكسر. حقًا، لستُ بجديرٍ لهذا العالم المُرَهِق. صاح لي شخصٌ بأنني رجلٌ، فرددتُ له بسخطٍ: “لعنةُ على تلك الرجولة!”.

إقرأ أيضا: أتمنى الموت

فيا للمعاناة اللامتناهية، تأبى أرواحنا أن تستكين في بحور الأسى، تحتجزنا أزمانٌ مريرة وحكاياتٌ مؤلمة. أعانقُ الظلام وأشكو إلى السماء السوداء، فترنحُ الكلمات الحزينة بين شفاهي كالنبيذ الحامض. أحملُ أوجاعي في أعماق الروح وأفتحُ جراحي بقلمِ الألم الملكي. هكذا، أرتشفُ قطراتِ العذاب وأستحقِي أن أُدانَ بهذا الوجود العجيب.

ها أنا أقفُ أمامكم بقلبٍ محطمٍ وروحٍ تتلاشى، لا رحمة لكم، فقد أُجهِضَتْ آمالي وتحطمت أحلامي. تَعَبْتُ من المعاناة، وتلك الآهات الصامتة تعبأت في صدري كأنها طعم السم المرِّير. سأنسحب بكل ثقلِ الحزن، وأترككم وحيدين في عتمة الحياة.

حُطمتُ، وسأطلُب رحيلي إلى العبور المؤلم، إلى بُعدٍ لا يمكنكم تصوره. حيث يتوغل الأسى في أعماقي، ويتغلغل في كل خلية من جسدي الهزيل. قد يصعب عليكم فهم مدى ألمي وكمية الأسى التي تلوث وجودي، ولكن هذا هو واقعي القاسي.

إقرأ أيضا: لا أريد الانتحار

فلتحترقوا في ضيقة الضمائر وشفاهات الندم، فلن تجدوا رحمةً في قلبي الجريح. أطلقوني لأرحل إلى دواخل الظلام، حيث يحكم الألم واليأس وحدهما، وأتركوني أحتضن آهاتي الحزينة وأرقص معها في عزف الموت القاسي.

ملاحظة : إنها رسالتي الأخيرة، تُوجَهُ لكل الأجيال المقبلة، إلى ذاك الشخص الذي أحببته بشدة، ولكنه تجاهلني، وإلى كل فردٍ سكن كرهه في صدري. بينما أنا هنا، أعيشُ في دنياً مُليئة بالألم واليأس، أمامكم أن تصيغوا كلماتي الحزينة والملكية بأسلوبٍ جديد.

فأيها الحب الذي انطفأ في غياب الرجاء، كان يُنسيني السعادة ويجرح قلبي المُحطم. وأيها الكراهية التي زرعتَها في قلبي، كانت تزيد من آلامي وتمزق وجودي الذي ينبض بالأسى. انتشلوا روحي من براثن الوحدة والألم، وصياغوا رسالتي بلغةٍ مليئةٍ بالحزن العميق والنُكَرات الملكية.

فأنا الذي لم يجد ملاذًا لوجعي إلا في هذه الكلمات المبعثرة، أعلم بأنني سأترك بصمتي الحزينة على أجيالٍ مقبلة. لتتلاقى آهاتي مع نداءات الأرواح القادمة، ولتترنح كلماتي كرقصة الموت الحزينة في قاعةِ الألم الملكي.

التجربة بقلم: محمد أديب حجامي

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا
guest
32 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى