على جثتي !! 4 و الأخير
اكيد هذه المرة سنمسك بالجزّار |
فقال له المحقّق “توماس” :
-“فيث” .. ليبقى هذا الأمر سرّاً ..فهناك تعليمات صارمة بأن لا يعلم أحدٌ به , حتى العاملون في القسم .. اتفقنا ؟
فهزّ الرجل رأسه موافقاً , بينما طالعت “جين” “توماس” بنظرةٍ مستفسرة ..
فهمس لها و هما يغادران غرفة المعلوماتية :
-لديّ شكٌ كبير يكاد يكون يقيناً , بأن لل”جزّار” عيناً داخل الشرطة .. لكن رغم كل محاولاتي , لم أستطع معرفة من يكون جاسوسه المندسّ بين عناصرنا..
فلاحت في عينيها نظرةً مُستنجدة لأفهامها الموضوع , فواصل المحقق “روبرتز” كلامه :
-المهم .. من الآن فصاعداً .. سنكون انا و انت و الرئيس “جونسون” الوحيدون المتابعون للمجريات الجديدة للقضية ..و سنواصل المشاركة في التحقيق العام , كيّ لا نثير الشكوك.
ثم تفحّص “توماس” التقرير الذي كان بيده , و قال :
-حالياً لدينا 3 مشتبهٌ بهم ، قضوا فترة التخصّص الجراحي في الإتحاد السوفياتي , بالفترة الممتدّة بين سنة 1989و 1999.. لذا دعينا نتحرّى عنهم اولاً .. ثم نعلم الرئيس بما توصلنا إليه ، اتفقنا ؟
فأومأت “جين” برأسها موافقة.
***
قضى المحقّقان بعض الأيام في التحرّي حول خلفيات المشتبه بهم ، لكنهما وصلا إلى طريقٍ مسدود .. لأن أحد المشتبه بهم , توفيّ سنه 1994 في حادث سيارة مع صديقته ..
و الثاني قابعٌ في المنزل , يعاني منذ سنين من اعراض الألزهايمر .. اما الثالث فهي إمرأه لا زالت تزاول مهنتها في أحد أهم المستشفيات , و لديها حججّ غياب دامغة غير قابلة لتشكيك.
***
دخل “توماس” و رمى سلاحه في يأس على الطاولة ، امام “جين” و قال بعصبية :
-كل الطرق مسدودة !! كل المشتبه بهم يمتلكون حججاً قويّة .. هل يعقل هذا ؟!! .. امعقول ان قاتلاً مسترسلاً ، طليقٌ في الخارج و لم يره أو يسمع به أحد ؟! هل هو شبح مثلاً ؟!!
فقالت جين :
ـأو ربما نحن من لا نريد رؤيته أو سماعه.
-ماذا تقصدين ؟!
فأخذت “جين” تقرأ له إحدى رسائل التهديد القديمة :
-أتعرف معنى : العوده من الجحيم ؟ .. أنا أعرفه !!
ثم تجاوزت بعض السطور , و واصلت قراءة بعض الجمل المتفرّقة في رسالة الجزّار :
(التضحيات , و ما الذي يعرفه أمثالك عنها ؟ فحتى الشيطان مثلي قدّم بعض التضحيات للوصول لما هو عليه الآن) … ..(عندما يكتوي الإنسان العادي بنيران الخيانة و الغدر يفقد الثقة في الآخرين , لكن العباقرة أمثالنا أنا و أنت , تجعلنا المحنة نتحوّل لكرةٍ من اللهب تحرق كل ما يعترضها)… (الموت هو بعثٌ جديد)..
ثم توقفت التحرّية عن القراءة , وسط ذهول المحقق ” توماس ” .. ثم قالت :
-إنه حقاً شخصٌ ذكي .. و هو المشبه به الوحيد الذي استثنيناه منذ البداية , و لم نكلّف انفسنا العناء لتحرّي عنه ، لمجرّد أنه يمتلك شهادة وفاة كحجة غياب … برأيّ …“الجزّار” هو نفسه الجرّاح “جورج جونثان هولينز” الذي قام بتدبير حادثة موته مع صديقته , ليعود من جديد كأخطر سفّاح عرفته لندن منذ عقود..
فردّ “توماس” باستغراب : و هل أنت واثقة مما تقوليه ؟! اقصد كيف توصلتي لهذا الإستنتاج ؟
ـ لأن كلماته في رسائل التهديد , ذكّرتني بكلمة قالتها إحدى زميلاته في المشفى , عندما ذهبت لأتأكّد من شهادة الوفاة .. فقد قالت لي :
-كان خبر إنتحارهما معاً , صدمة لنا جميعاً ! لعلمنا بشخصية صديقته المرحة و المحبّة للحياة .. مازلت لا أصدّق ما فعلته بحبيها الدكتور !
ثم رمت “جين” بعض الصور على طاولة التحقيق , قائلة :
-أتبدو لك من النساء اللاتي يقدمنّ على الإنتحار , و قتل حبيبها معها ؟
***
و مرّت ايام , إستطاع فيها المحقق “توماس روبرتز” و التحرّية “جين” من تتبّع بعض الأشخاص المقرّبين من المشتبه به .. و من خلال دراسة مسار حياته السابقة مع مختلف علاقاته .. و ايضاً من خلال التحرّي عن الشائعات المتداولة بعلاقته بصديقته السابقة , و مروره بضائقة مالية ..
ادّى ذلك كلّه لإكتشاف صلة بينه و بين شخصية اخرى لا تملك ايّ خلفية سابقة , يدعى ب”فريد بلاك” و هو رسّامٌ هاوٍ ، يعيش على مزاولة بعض الأعمال اليدوية .. و الغريب انه ظهر فجأة ! دون أن توجد له أيّ سجلّاتٍ رسمية.
و من وقتها .. دأب “توماس” و “جين” على مراقبة هذا الرسّام المجهول لأسابيعٍ مُتتالية , علّه يدلّهم على “الجزّار”.
***
و في سيارة المراقبة , بإحدى ليالي ديسمبر الباردة .. و بينما كانت “جين” تغالب النعاس ، فيما ذهب المحقّق لشراء بعض القهوة ، رصدت المحققة تحرّكاتٍ غريبة في منزل المشتبه به ..
ثم رأته يخرج متخفياً بمعطفٍ داكن اللون , و قبعة يحاول بها تغطية وجهه .. ثم انطلق بسيارته..
فلحقته “جين” دون انتظار عودة “توماس” ، محاولةً عدم لفت انتباهه..
اتجه الرجل لضواحي مدينة لندن , و سلك طريقاً زراعياً مظلماً .. فتبعته “جين” محافظة على المسافة الآمنة بينهما..
و بعد نصف ساعة .. اوقف الرجل سيارته بالقرب من مستودعٍ مهجور، ثم ترجّل من سيارته حاملاً كيساً ما.
اوقفت التحرّية السيارة بعيداً ، و تبعته سيراً.. انتظرت قليلاً , قبل ان تتسلّل عبر فتحة الباب الصغيرة بحذر ..
و اختبأت خلف كومة من الأكياس , و هي تحدّ بصرها لتتبين ما يحدث , لكنها لم ترى شيئاً ، فالمستودع كان واسعاً جداً و مظلماً ..
فتقدّمت اكثر و هي تسير على رؤوس أصابعها.
لكنها عادت و إختبأت مسرعة , بعدما ظهر في زاوية المستودع ، رجلٌ و هو يفتح خزانةً كبيرة حديدية .. ثم يخرج منها إمرأة مكمّمة و مقيدة ..
و جرّها بعنف , و علّقها رأساً على عقب في حبلٍ طويل..
ثم اخذ يصفّف أدواته التي اخرجها من الكيس على الطاولة ، و هو يقول بلؤم :
-لم تبدين حزينة أيتها الحسناء ، اممم ؟ .. هيا لا تقلقي ..سأرسلك قريباً للمكان الذي يليق بحقيرةٍ مثلك .. أتعرفين ماذا يُسمّى… الجحيم !! هناك ستعرفين معنى الحزن و الخوف و المعاناة.
و من ثمّ أحضر غالون محروقات قائلاً :
-أنا لا أفعل هذا عادة , و لكنك أجبرتني .. الآن ستعلمين بأنني من يبدأ اللعبة و من ينهيها ، و بأنك لست سوى وسيلة بسيطة في يدي , تماماً كهذه الأدوات .
ثم أمسك شعرها , صارخاً :
-أنا لا أهدّد أيتها ال..
و هنا !! سقطت أحدى الأكياس التي كانت تختبأ خلفها “جين” .. فالتفت الرجل ! ثم اتجه نحو مصدر الصوت , بعد أن اخذ سكيناً من عدّته .. و هو يضع مسدسه في خصره
فتراجعت “جين” محاولةً الهرب.. و أخذت تتسلّل بحذر للإفلات منه قبل ان يتصيّدها , إلى حين وصول الدعم ..
و فجأة !! انقضّت عليها يدٌ قوية ، كتمت صوتها
و اذّ بها تسمع صوت “توماس” بالقرب من أذنها هامساً :
-هذا أنا .. لقد وصلتني رسالتك .
فالتفت “جين” اليه , فوجدته برفقه الرئيس “ جونسون” .. فنزع طليقها المحقّق سترته المضادّة للرصاص , و البسها ايّاها قائلاً :
– لقد طلبنا الدعم , و سوف يكونون هنا قريباً
عندها ظهر الرجل أمامهم ، و هو يسحب مسدسه صارخاً عليهم :
-ممتاز !! جميعكم هنا ..كم انتظرت هذه اللحظة بفارغ الصبر
فوقف “توماس” بين الجزّار و “جين” رافعاً مسدسه , و متمّتماً لها :
-اهربي بسرعة ، فأنت لا تملكين سلاحاً
-لا !! لن اذهب و اتركك
فنظر الى الرجل الواقف أمامه , و قال :
-لا أنصحك باطلاق النار !! فأنت تعلم من منّا الخبير في استعمال المسدس
ابتسم الرجل في مكر قائلاً :
-قد تكون بارعاً في إستعمال المسدس ، و لكنني أبرع في إستعمال عقلي ..ألست انا من جعل شرطة لندن , نكتة يتندّر بها رجال الشرطة في كل مكان ؟!! لذلك لا تتعب نفسك , فالفوز دائماً حليف الجزّار !!
و حينها أحسّ “توماس” بشيءٍ صلب لمس مؤخرة رأسه , و قبل ان يلتفت .. بادره الرئيس “جونسون” قائلاً :
-ضع سلاحك على الأرض بهدوء ، فأنا حقاً لا أريد إيذائك
تسمّر “توماس ” في مكانه من الصدمة , و تمّتم قائلاً :
-أكان أنت أيها الرئيس ؟!
و هنا علت ضحكات الجزّار , الذي قال بخبث :
-“توماس روبرتز”.. أيها العبقري .. انت اكيد لم تتوقع ذلك .. فكل تحرّكاتك السابقة , و حتى الأفكار التي كانت تتبادر إلى ذهنك ، كانت تصلني عن طريق رئيسك المباشر الذي وضعت انت فيه كل ثقتك .. اظن بأنني بالغت في تقدير ذكاءك , يبدو بأنك محققٌ عادي , حالفه بعض الحظّ لا غير
نظر المحقّق الشاب باستنكار لرئيسه .. و هنا صرخت “جين” في وجهه بغضب :
-أكنت تتلاعب بنا منذ البداية ؟! كيف استطعت أن تخون ثقة تلاميذك ؟ كيف خنت مبادئك التي علّمتنا ايّاها في كلية الشرطة ؟ كيف شاركت في قتل ابني , و عشرات الضحايا الأبرياء ؟!!!
فالتفت الجزّار نحو التحرّية , قائلاً بسخرية :
-هيا يا جين ..لا تجعلي الأمر يبدو درامياً هكذا .. فكل ما قام به : هو اعلامي بتحرّكاتكم ، و طمس بعض الأدلة البسيطة التي نسيتها في مسارح بعض الجرائم .. و قد تسلّم في مقابل هذا العمل البسيط , أموالاً طائلة ..اليس كذلك يا مساعدي ؟
فطالع الرئيس المحققين بنظرةٍ عاجزة , قائلاً بخزيّ :
-انتما لا تعرفان شعور الأب العاجز عن توفير حاجيات أطفاله الأربعة , في ظلّ سداده لديونه المتراكمة للمرابين , بسبب مرض زوجته العضال ..
فصرخت “جين” بألم :
-و لكنك حتماً تعرف شعور الأب و الأم , اللذان فقدا ابنهما قبل ان يولد !! و شعور امرأه مثلي , بعد ان فقدت القدرة على الإنجاب !!
و هنا ابتسم الجزّار قائلاً :
-و لم تظنين بأن الجنين كان صبياً ..في الحقيقة , لقد كانت فتاةُ جميلة مثلك تماماً .. يا للأسف ..كان من الممكن أن تصبح محقّقة لامعة كوالديها .
و فجأة !! ضرب “توماس” يد رئيسه بحركةٍ خاطفة ، فأوقع المسدس من يده .. و وثبت “جين” بسرعة و تلقّفته ، فيما هجم الجزّار و طعن المحقق “روبرتز” في جانبه الأيمن , فسقط يتلوىّ من الألم ..
و هنا وجّهت “جين” المسدس صوب الجزّار , لكن الرئيس “جونسون” تدخّل و أوقعها أرضاً , و حاول انتزاع السلاح من يدها..
و استغل السفّاح فرصة تصارع الرئيس مع تلميذته .. و اتجه صوبها حاملاً السكين ، لكن “توماس” امسك بقدمه ، فوقع على الأرض ، فيما وقع السكين و المسدس على بعد خطواتٍ منهما.
و تسابق الجزّار و “توماس” للوصول للمسدس , لكن المجرم كان الأقرب له .. فصوّب السلاح نحو المحقّق الأعزل..
و في تلك الأثناء ، كان ما يزال الرئيس “جونسون” يحاول انتزاع المسدس من “جين” قائلاً :
-أنا آسف حقاً , لكن يجب ان أقضي عليك .. لمَ لم تعتبري مما حصل معك في الماضي ؟ أكان يجب أن نصل إلى هذه المرحلة !!
و هنا فاجأته المحقّقة بعد ان صوبت فوهة السلاح لصدر الرئيس , و قالت و هي تضغط على الزناد :
-نعم !! لأنه يجب ان ينال المجرمون عقابهم .. خذّ ايها الرئيس الخائن !!
و دوّى صوت الرصاصة , فوقع المدير على الأرض و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة .. فيما ركضت “جين” لإنقاذ “توماس” ..
و صوّبت المسدس باتجاه الجزّار , لكن رصاصته كانت الأسبق في إختراق صدر المحقق , الذي خرّ جسده على الأرض..
بينما ضغطت “جين” على الزناد , و أصابت الجزّار في رأسه ، فأردته قتيلاً ..
ثم سارعت بالإتصال بالنجدة ، و هي تضع يدها على جرح المحقق “روبرتز” لتوقف النزيف.
و بعد طلبها للدعم .. مسحت التحرّية بيدها جبين “توماس” المتعرّق ، و قالت مطمئنة :
-اصمد رجاءً !! فالنجدة في طريقها الينا .. “توماس” !! هل تسمعني ؟
ففتح المحقق عينيه بصعوبة و قد شحب لونه ، و تسارعت أنفاسه ..و نظر اليها قائلاً :
-سامحيني لأني لم احمي ابنتنا…. ليتني أستطيع أن أعوّضك عما حدث , حبيبتي “جين”
فترقّرقت الدموع في عينيّ “جين ” و قالت :
-لم يكن هذا خطئك .. و آسفة لأنني حمّلتك المسؤولية .. فأنا لا الومك ابداً , يا عزيزي “توماس” ..سامحني رجاءً !!
و بعد قليل .. وصل عناصر الشرطة و النجدة ، و قاموا بنقل المصابين و القتلى للمشفى ..
فيما أخذ المحقّقون لاحقاً , إفادة “جين” , و المرأة التي كانت مقيدة في المستودع
***
توقفت “ جين ” أمام محل لبيع أجهزه التلفاز ، تطالع تقريراً إسترعى انتباهها
((لقد إعترفت المرأة الناجية من حادثة المستودع ، الأسبوع الماضي : بأنها ساعدت الجرّاح “جورج جونثان هولينز” الذي عُرف فيما بعد بالرسّام “ فريد بلاك ” بعد خضوعه لجملة من العمليات التجميلية لطمس هويته السابقة , في استدراج عدداً كبيراً من ضحاياه , اللاتي كان ينتقيهنّ حسب حياتهنّ العاطفية و جمالهنّ الفائق..
“جورج جونثان هولينز” او الجزّار كما يسميه البعض : كان قد ارتكب 39 جريمة قتل , بعد ظهور أدلّة جديدة تؤكّد على انه هو من قام بتدبير موت صديقته .. و ان من مات معها في حادث السيارة سنة 1994 , كان عشيقها ..
كما أسفرت حادثة المستودع : عن وفاة رئيس قسم شرطة لندن , أثناء أداء واجبه….))
و هنا ابتسمت “جين” في مرارة , و هي تتمّتم :
-أثناء أداء واجبه ! كنت أعلم بأنهم سيتكتّمون على فعلته المشينة !
ثم واصلت طريقها , إلى أن إجتازت بوابة المقبرة .. و إقتربت من قبرين حديثين , و وضعت بعض الزهور عليهما ..
ثم وقفت تتأمّل شاهدي القبرين , حيث يرقد “توماس روبرتز” الرجل الذي أصرّ على الوقوف في وجه الشيطان , و إبنته “ميا توماس روبرتز”. …
ثم مسحت دمعتها و هي تقول :
-لترقدا يا احبائي في سلام .
… النهاية
تاريخ النشر : 2016-02-24