أدب الرعب والعام
نحن نجوم سرمدية
نحن أعمق من أن ننطفئ ، نحن نجوم سرمدية الضياء |
التأقلم مع الضجيج سيجعل من الهدوء ضيفاً عزيزاً كان أو غريباً.
أخذت خمار والدتي لأستنشق رائحته كلما تملكني الحنين ، كان الوسيلة للخروج من قفص الواقع المرير للذة الخيال الدرير.
قابلتني حديقة واسعة كأنها الوِهاد ، كأني احتضنت كنف الحرية و رداء المجد بمجرد استنشاقي هوائها ، استمتعت بأمانها وخيراتها ، تدلت بين عناقيدها و دواليها الحلوة تحت ظلال الزيزفون.
بينما أدور حول نفسي بسعادةٍ ، وجدت نفسي في بهو بارد حاوطته أبواب معدودة ، اقتحمت الباب الأول لمجرد سماعي أغنية كانت تدندنها أمي لأكف عن النواح ، أرض مسطحة بغيوم اندمجت ألوانها بالوردي والأرجواني الباهت متداخل الأبيض ، أما الغيوم فكانت غزل بنات ، و وددت بشدة قضم القليل منها لولا شعوري بوكزة في فخذي ، حولت أنظاري للطفلة التي شدتني للنزول لمستواها ، و بحركة خاطفة وضعت طوقاً من أزهار المارغريت حول عنقي ، بضحكة طفولية سحبتني من معصمي لنركض سوياً في حقول الياسمين والأقحوان ، و فجأة باغتتني بدفعة قوية خارجاً مودعة أيادي بابتسامة بريئة.
ضوضاء قوية ، كأنها تلك التي تصدع من سجون الاحتلال ، فتحت الباب الصدئ بهدوء و أمسكت المشعل أقترب أكثر فأكثر ، آه من الديجور!
بأماكني رؤية مراهقة بملامح أربعينية أنهكتها دسائس السنين ، بفاه باسم يجتث بؤس بائسٍ نطقت: ” النار التي اكتويت بلهيبها لم تعد مؤذية”.
حزنت على حالها ، إن استمرت هكذا سينهش الاكتئاب طاقتها حتى يتركها يباباً ، وهنا فرطت بأعظم ما لدي ، لففت رأسها بخمار أمي لتحملق فيَّ بنظرة امتنان ، ثم أرشدني اليراع لمكان الخروج.
في الجهة الموالية من البهو كانت شابة يافعة تسترق النظر إلي ثم حركت يدها بخجل طالبة مني الدخول ، أرادت مني وضع مساحيق التجميل لها وتصفيف شعرها فاليوم موعد زفافها ، ومع انتهائي حملني سرب الحمام عالياً أرى تقدمها بثوب أبيض طويل لخليلها ، منظر دافئ و جياش بالحب.
نفس عميق وامتطيت الجمل لدخول الباب الموالي ، صحراء برمال ذهبية ، لمحت ضريحاً ، تقدمت بخطوات حذرة لأرى ملكة الصحراء أمامي ، لطالما أعجبت بها مع أنني قرأت عنها في الكتب فقط ، تلك ملكة قبائل الطوارق والأم الروحانية لهم ، تلك التي حكمت بدهائها و قوتها ثلث القارة الأفريقية ، من دافعت عن أرضها و شعبها ضد الغزاة ، إنها الملكة تينهينان ! آه أذن أنا الأن في تمنراست الجزائرية !.
لفت على وجهي اللثام و دعتني لشرب الشاي الصحراوي ، تجولنا بين الكثبان الرمية ثم أرتني قمة تاهات اتاكور ، ثم عبرنا في جولة إلى كهوف الطاسيلي بنقوشها التي تعود لحضارات قديمة لأكثر من 6 آلاف سنة قبل الميلاد ، متى تفك الأسرار التي تكتمها هذه الصخور؟.
عبرنا لواحة الحمراء، قصر تاغيت ثم قنطرة والقرية الحمراء مروراً إلى مدينة الألف قبة وقبة ، ثم عدنا إلى أدراجنا و راقبنا أجمل غروب شمس من ممر الاسكرام ، هنا أنتهت جولتي مع أنني لم أرى الكثير من كنوز الصحراء الجزائرية الكبيرة.
بقي الباب الأخير، ما إن دخلت حتى أطلق سهم مسموم باتجاهي، لحسن الحظ لم يصبني !
لمحت عجوزاً حفر عليها الزمن أحقابه و دسائسه ، أنزلت قوسها قائلة “إن كان عليكِ الغوص في مغامرة عليك أن تكوني أكثر حكمة ، الحيطة والحذر أمران مهمان “.
” لما سكتتِ؟ ” قالت بينما حملقت في ملاحي مليًا.
أجبتها “السكوت من الخوف ، كان عليك أن تقولي صامتة ! فالصمت من الأدب والحكمة”.
صفقت لي بحرارة ثم قالت : فعلاً إنك تشبهين سيرتا عندما تشع بنور تزيري” بعدها رافقتي للبهو، وأردفت: كل تلك الشخصيات بما فيهم أنا هي صفاتك. “البراءة ، الحزن ، الخجل ، القوة ، الحذر والحكمة “.
عليك اختيار باب واحد لتكوني نجمة سرمدية له، إذن ما قرارك ؟.
ضحكت بسخرية مشيحة نظري لكل باب قائلة : “بما أنكِ الجزء الحكيم مني ، فأنت تعرفين الإجابة مسبقاً ” ثم أضفت ” كل صفة من تلك الصفات ناقصة ، كل واحدة منها تحتاج الثانية لتكملها ، لولا الحزن لما ذقنا السعادة ، ثم ما فائدة القوة دون حكمة ؟ إن كان علي اختيار باب لمجرد أني رأيت عيوب الباقي سأفضل البقاء في البهو”.
نحن أعمق من أن ننطفئ ، نحن نجوم سرمدية الضياء.
النهاية…….
شرح الكلمات:
درير: مضيء ، متلألئ.
الوِهاد : أرض منخفضة.
وَطفاء: كثيفة الحواجب والأهداب.
الديجور: الظلام الحالك.
تزيري: القمر.
سيرتا: اسم قديم لقسنطينة (بالجزائر) في عهد الملك النوميدي ماسينيسا
تاريخ النشر : 2020-11-01