منوعات

يونو السوري : رحلة ثائر من العبودية إلى الحرية

ماهو أكثر شيء ثمين برأيك عزيزي القارئ؟. فإن أكثر ما هو ثمين برأي الإنسان هو الحرية، فهي غريزة إنسانية بل وحيوانية، ولا يعرف ثمن الحرية إلا من امتلكها. وبالطبع إن الحرية بشكلها المطلق غير موجودة، فلا بد من وضع قوانين صارمة حتى تفصل بين الحرية وبين الانحلال والدمار. ويأخذ مستوى الحرية في حياة الإنسان حسب مستوى فكره وحياته.

ففي معظم المجتمعات يعمل الطبيب 8 ساعات باليوم بالتالي فإن ثلثي يومه له. في حين أن الرجل الذي لم يدرس يضطر للعمل 12 ساعة باليوم، بالتالي فإن نصف يومه له.

أم من ناحية حرية التعبير فهناك أشياء ممنوعة من النقاش لدى العامة، فيمنع النقاشات الطبية لدى من لا يملك شهادة.. ويمنع النقاشات العسكرية لمن هم خارج الجيش، ويمنع النقاشات في الأمور السرية السياسة لمن هم خارج دائرة الحكم.

حيث أن الحرية ليست مطلقة، وإلا لا فرق بين الإنسان والحيوان .. وكل إنسان يحصل على الحرية التي تناسب قدراته ومؤهلاته.

أما العبيد فهم أولئك الناس الذين لا يملكون أي حق بحرية العمل أو حرية الكلام. أولئك الناس الذين يتوجب عليهم العمل 18 ساعة يوميا ولا يحق لهم الحديث عن كلمة واحدة اتجاه أي شخص وأي شيء، فعليهم الصمت والطاعة مهما كان السبب.

لقد ظهرت العبودية منذ قديم الزمان، منذ عصور البشرية الأولى، لكنها اليوم زالت وأصبحت عبودية بصيغة أجمل وأسهل.

إقرأ أيضا : كاليغولا .. امبراطور روما المجنون

إن ثورات العبيد هو مصطلح سياسي تاريخي أطلق على العبيد الذين تمردوا على أسيادهم وقتلوهم في سبيل الحصول على الحرية بعد أن سئموا سوء المعاملة. ولعل أول ثورة عبيد تقوم بالتاريخ كانت بالعام 135 ق.م، وقد ألهمت تلك الثورة العبيد حول العالم والأزمنة أن لا يرضوا بالظلم.

ولنعرف قصة تلك الثورة ونفهمها وما الذي جرى فيها فعلينا أن نبحث قليلا بالتاريخ.

خلال العام 339 ق.قامت السلالة السلوقية اليونانية ببدء حرب على الإمبراطورية الفارسية. وقد رغبت ببلاد ما عبر النهرين والتي عرفت بأسم “أبرناري” حيث أنها المعبر الأساسي للشرق.

استطاع حينها الملك نيكتور السيطرة على الجزء الشمالي منها وبنى مدينة جديدة عرفت باسم مدينة أنطاكيا او أنطاخيا التي سماها تيمنا بوالده أنطينخوس. وبنى دولة فيها عرفت باسم سوريا وجعلها تبعية يونانية رسمية بالعام 331 ق.م، وكانت تلك أول بلاد تحمل هذا الإسم.

استمرت الحرب ضد الفرس وكانت السلالة السلوقية تحاول ضم باقي مدن بلاد عبر النهر إلى سوريا، من دمشق بالجنوب إلى دورا أوربوس في أقاصي الشرق.

وقد كانت حربهم شبه متعادلة حتى أتت السلالة المقدونية من اليونان بقيادة الإسكندر المقدوني.. لتبدأ حينها ما عرف باسم سلسلة الحروب السورية الأولى والتي استمرت 107 أعوام ما بين المقدونيين و الفرس والبلاطمة والممالك والتبعيات السورية.

إن شرح هذه الحرب يحتاج مقالاً طويلا .. ولكن باختصار فقد انتصرت اليونان فيها ووحدت كامل سوريا تحت حكمها. وقد أكلت الحرب الأخضر واليابس تماما لدرجة أن سوريا حينها سميت بسوريا الجوفاء، فتلك البلاد تحولت لبلاد فارغة مدمرة نتيجة الحرب الطويلة.

وما الذي تفعله حينما تسيطر على بلاد مدمرة بالكامل بسبب حرب استمرت 107 أعوام أنهكت اقتصادك؟

إقرأ أيضا : لمحات من المعتقدات الدينية لقدماء اليونان

بالطبع فرض ضرائب خيالية على سكانها حتى تعوض خسارتك الإقتصادية، ومالذي يحدث حينما لا يستطيع السكان دفع الضرائب؟حينها يستوجب عليك أن تأخذهم وتبيعهم كعبيد.

وقتها بدأ اختطاف السوريين وبيعهم عبيدا في سوريا وأحيانا في أوروبا، خاصة أيتام الحرب الذين لا سند لهم. وقد ساء حظ اليونانيين حينما قرروا اختطاف راهب سوري أحرق الأرض لاحقا وكأنه صب عليهم لعنة لم تزل حتى زوال العبودية. ألا وهو الراهب يونو.

**

في مدينة حماة كان هناك راهب يدعى باسم يونو، وهو يعني باللغة السورية “الطير” أو “الحمامة”. كان راهبا وثنيا يعبد الآلهة السورية أترعتا، ولطالما ادعى انه يملك رؤية للمستقبل.

لقد كان يحيط به الكثير من الغموض، فلا أحد يعرف عائلته ولا أحد يعرف متى ولد بالضبط. اتهمه الكثير من الناس بالسحر كما قال البعض أنه نبي، ومن المؤكد أنه ادعى النبوة عدة مرات.

بالعام 135 ق.م قام مجموعة من القراصنة اليونانيين باختطافه وأخذه إلى مدينة إينا بجزيرة صقيلة التابعة لجمهورية روما .. وتم إضافة الحرف S إلى اسمه ليتحول إلى يونوس أو يونس، وكانت هذه عادة اليونانيين والرومان بتسمية كل شيء حتى يصبح لفظه أقرب للغتهم.

حينما تم شراء يونو لم يتم إرساله للعمل بالحقول الزراعية أو الطرق.. بل كان أشبه بعبد للتسلية حيث أنه انتلك مواهب غريبة لم يسبق لهم رؤيتها. فكان يونو السوري يقوم بعمل خدع سحرية أمام الطبقة العليا في صقيلة، كما كان ينفث النار ويحكي النكات ويغني بصوت جميل ويقدم فقرة كوميدية. أيضا كان يقرأ طالع الحظ، وقد كان حاد البصيرة ويستطيع معرفة الكثير عن الشخص بنظرة واحدة.

إقرأ أيضا : إيرينا نيستور : المرأة التي غيرت رومانيا

ادعى يونو امتلاكه لعلم الغيب وتنبأ بعدة أشياء وقد حدث بعضها بالفعل مما زاد شعبيته لدى الطبقة الحاكمة وأحبوه كثيرا.. لدرجة أنهم لم يستطيعوا أن يفوتوا فقرة من فقراته. كذلك كان يونو فصيحا للغاية.. فرغم أن لغته الأم كانت الآرامية وكان يتحدث باللهجة السورية الحديثة منها إلا انه كان يتحدث اليونانية بفصاحة شديدة، كذلك كان يتحدث اللغة اللاتينية.

يونو السوري
تمثال يونو السوري في مدينة إينا في صقلية

لقد كان عمله مرفها عن الطبقة العليا في الجزيرة أشبه بضربة حظ، فكان يأكل أحسن الطعام ويلبس أحسن الألبسة.. لكن الأمر لم يكن ينطبق على باقي العبيد، فقد كانوا مجبرين على العمل طيلة اليوم ولم يتم إطعامهم بشكل جيد. فكان يموت الكثير منهم من شدة الإرهاق والتعب والجوع، وكان بعضهم يهرب من مالكه ويعيش على السرقة حتى يتم الإمساك به وإعدامه.

لقد كان يخطط العبيد لشيء ما في ما بينهم، لقد كان بعضهم يفكر بهروب جماعي وبعضهم كان يفكر بالثورة والتمرد.. إلا أن فكرة الثورة كانت مخيفة بالنسبة لهم، فلم يتم تسجيل اي ثورة عبيد بالتاريخ ولم يتخيل عبد أن يقوم بكسر القانون الأزلي وقتل سيده.

وكان بعضهم ينام في غرف قريبة من مركز المدينة بل وكانوا يستمعون إلى صوت يونو والى مزحاته ونكاته وكان ذلك أشبه بوسيلتهم الترفيهية في حياتهم القاسية.

لقد أحبوا يونو دون أن يلتقوا به ودون أن يروا وجهه، فكان هذا الرجل هو الذي منح القدرة للعبيد على أن يتحملوا الألم الذي يعيشون به يومياً.

لقد كان سيد يونو رجلا يدعى باسم “ديموثاليس” ولطالما افتخر بعبد يمتلكه مثل يونس بل ورفض بيعه مهما عرض عليه من مال. وقد جلب يونس لسيده مكاناً بين الطبقة العليا بالمجتمع الصقيلي بفضل حيله ومهاراته.

في إحدى المرات قال يونو أنه رأى نبوءة أنه سيصبح ملكاً لصقيلة، وقد ضحك عليه جميع من في القاعة.. فقد كانت مزحة ظريفة منه، إلا أنه بعد تكرار المزحة أصبحت مزعجة للغاية، حيث أن نبوءته بدأت تتطور. فقال في مرة “سيثور العبيد على معاملتهم السيئة وسيقتلون أسيادهم وسيعيوني قائدا لهم وسأحكم صقيلة”

إقرأ أيضا :قصة عبيد الايغبو: الحرية أو الموت

هناك رواية تقول أن ديموثالس شعر بالإهانة من مزحة يونس وقام بجعله عبدا عادياً ورماه بالسجن، حيث التقى بالعبيد الذين كانوا يستطيعون سماع صوته وهو يغني ويلقي النكات وقد أقنعهم بالثورة. فأحبوه وقرروا تعيينه قائدا لهم في الثورة وبدأ الهجوم باليوم التالي.

أما بحسب بعض الروايات الأخرى فقد بدأ يونس عرضه بنفس النبوءة، ثم بدأ ينفث النار من فمه.. وأثناء نفثه للنار وبمشهد مرعب وبدون أي إنذار قد اقتحم العبيد القصر وقتلوا كل من فيه وتجمعوا حول يونو وصرخوا باسمه قائدا لهم.

تعمد يونس تكرار نبؤته عدة مرات حتى يسمعها العبيد الذين يعيشون قرب مركز العاصمة، بغض النظر عن الضحك والسخرية التي تلقاها في كل مرة. مما يعني أنه إذا صحت الرواية الثانية فقد حرضهم على الثورة دون أن يلتقي بهم حتى!

بعد أن بدأت الثورة عين العبيد يونس قائدهم، وقد كان أول أمر منه أن يتم قتل كل ملاك العبيد مع زوجاتهم وأطفالهم دون أي استثناء.. وأن يُحرر جميع العبيد وأن يستعبد صناع الأسلحة حتى يصنعوا السلاح للثوار.

لكنه أصدر أمرا بعدم المساس بأي رجل فقير أو أي رجل لم يمتلك عبدا. وحينما بدأ العبيد بالهجوم بدأوا بتنفيذ أوامر يونس وقلتوا كل ملاك العبيد مع زوجاتهم وأطفالهم.

كانوا يجرونهم من بيوتهم ويضعونهم في محاكم وهمية وينطقون عليهم حكم الإعدام. لقد كانت مهمة المحاكم ان تبقي النظام في البلد، فحتى بعد قتل النبلاء فلا بد من وجود محاكم حتى وان كانت وهمية في سبيل إمساك النظام.

قالت بعض المصادر التاريخية أن يونو السوري قد عفا عن بعض طيبي القلب الذين عاملوه بشكل جيد.. كما عفا عن بعض أسياد العبيد الذين تم الشهادة لهم بأنهم لم يؤذوا عبدا.

لقد سيطر العبيد بالكامل على مدينة إينا بتعداد 400 عبد، ثم بدأوا بتحرير العبيد حتى وصل عددهم ستة آلاف. وقد أعلن يونو نفسه ملكا وقائدا للجيش وسمى نفسه بأنطونخيس، متيمناً بالملك اليوناني أنطونيخس الذي يعد الأب الروحي والمؤسس لسوريا. كذلك فإن تلك السلالة هي التي حكمت مدينة حماة في يوم ميلاده.

خريطة توضح المنطقة التي سيطر عليها يونو وجيشه من العبيد
خريطة توضح المنطقة التي سيطر عليها يونو وجيشه من العبيد

كان العبيد مسلحين، وقد كان بعضهم أسرى جنود الحروب ومرتزقة وقطاع طرق، بالتالي فكان لديهم خبرة قتالية حتى وإن كانت بسيطة.

إقرأ أيضا : الصبي الذي أنقذ 3000 طفل من العبودية

لقد بدأ يونس حينها بالتجول بالأرياف قاتلا كل ملاك العبيد وبدأ بتحريرهم حتى وصل عدد جيشه إلى 10 آلاف رجل كان يونس يعاملهم بعدل وحسب خبرتهم، فلم يكن الجندي السوري أفضل وأعلى قيمة عنده من اليوناني أو الروماني.. لقد كانوا جميعا بنفس الجيش ولديهم نفس الهدف ويشتركون نفس المصير فكان يعاملهم بعدل جميعا.

حينها.. قرر الرومان التدخل في الجزيرة، لكنهم لم يأخذوا الأمور بجدية.. ثورة عبيد؟ منذ متى وكان العبيد يثورون أصلا! لطالما كنا نعاملهم باحتقار وازدراء وكانوا يصمتون. ولأن الرومان أساؤوا تقدير الوضع أرسلوا فرقة صغيرة للتعامل مع العبيد، ولم يعد أحد منهم نهائيا.

بدأت الأخبار تنتشر بالجزيرة، حتى ثارت مجموعة أخرى من العبيد عددهم خمسة آلاف رجل.. وقادهم عبد يدعى “كليون” وقد كان قاطع طرق أناضوليا سيئ السمعة قضى طفولته مقاتلا حتى وقع بالأسر.

قام كليون بقتل جميع السكان حتى الذين لم يملكوا عبيدا، وهذا ما جعله سيء السمعة أكثر وسيطر على جزء من الجزيرة. وأصبح في تلك اللحظة ثلاثة جيوش في صقيلة، جيش يونو السوري وجيش كليون والجيش الروماني.

توقف الرومان عن إرسال المزيد من المقاتلين لقمع الثورة لأنهم قد توقعوا أن كليون سيقاتل يونو على منصب القائد.. وبالتالي ستكون خسائرهم فادحة وسيقوم الجيش الروماني بالقضاء على ما تبقى منهم بسهولة.

ولعلهم توقعوا أن العبيد سيقفون مع كليون ضد يونس، حيث أنه وبعد كل شيء فإن يونو لم يكن مقاتلا أكثر من كونه راهبا.. في حين أن كليون كان مقاتلا جسورا لا يهاب الموت.

وحين ما التقى الجيشان ألقى كليون سلاحه أمام يونو وطلب منه أن ينضم إليه وأن يعينه جنرالا لديه. ووافق يونو بشرط أن يسير كليون على قوانينه وألا يقتل الفقراء ومن لا يملك عبداً.

وكانت تلك صدمة بالنسبة للرومان، فقد كبر الجيش وأصبح لدى يونو جنرالا قويا وخبيرا بالقتال. بل ولتزيد الصدمة أكثر فقد انضم الفقراء في صقيلة إلى جيش يونو، حيث أنهم كانوا يعشيون حياة صعبة للغاية. فشعروا بطريقة أو بأخرى أنهم يعيشون حياة العبيد.. فتحركت مشاعرهم حينما أمر يونو بعدم المساس بهم، وحينما عامل جميع من في جيشه بعدل دون تفرقة عرقية أو دينية. لقد عرفوا أن يونو لم يكن مجرد شخص يسعى للسلطة فحسب، بل كان صاحب رسالة ولعله سيحسن الأحوال في صقيلة إذا ما حكمها فقرروا البقاء معه.

إقرأ أيضا :عبد لاثنا عشر سنة – مذكرات الحر العبد

سرعان ما سيطر الثوار على مدينة إينا بالكامل وجعلها يونو عاصمة لمملكته ثم هجموا على مدينة أكراجاس وأخذوها.

منظر لمدينة أفاميا مسقط رأس يونو السوري
منظر لآثار أفاميا مسقط رأس يونو السوري

لقد بدأ الرومان باستيعاب خطورة الموقف، وبدأوا بأخذ الأمور بجدية أكبر، فلم تعد المسألة مجرد عبيد خرجوا عن السيطرة. بل أصبحت مسألة بلد كامل تجابه روما. وبعد شهر من التخطيط قام الجنرال الروماني لوكياس هيبسيس بإرسال جيش مكون من 8000 جندي إلى صقيلة في سبيل إنهاء الثورة.. إلا أن يونو كان لديه بتلك اللحظة 20 ألف جندي بقيادة رجل خبير مثل كليون، وقد هزموا الرومان شر الهزيمة. ثم أرسلت روما 3 كتائب أخرى إلى صقيلة، وقد تعرضوا للهزيمة كذلك ولم يعد واحد منهم.

لقد بدأ العبيد بكل أنحاء الجزيرة بالتمرد والهرب إلى المدن تحت حكم يونو، وسرعان ما تقدم جيشه أكثر وأكثر حتى سيطروا على معظم الجزيرة.. بل إن أخبار الثورة انتشرت سريعا ووصلت إلى روما واليونان.. لدرجة أن حدثت ثورة في قلب العاصمة الرومانية واليونانية، إلا أن الرومان تمكنوا من قمعها سريعاً.

بالعام 133 ق.م سيطر العبيد على معظم جزيرة صقيلة، وقد وصل تعداد جيش يونو إلى 60 ألف جندي. وقد تحكموا بالمدن المفتاحية للجزيرة مثل مورجينتينا، بل وبدأوا ببناء اقتصادهم الخاص حيث أصبحت تطبع عملات جديدة وعليها صورة يونو ولقبه “أنطونيوخيس”

العملة التي صكها يونو وعليها صورته
العملة التي صكّها يونو وعليها صورته

كل ما حدث حينها صدم الرومان، لقد ظهر هذا الرجل من العدم، لا أحد يعلم عن عائلته وعن أصوله غير أنه سوري.. وقد تنبأ بنبوءة لن يصدقها أحد لولا أنها تحققت، وكل هذا حدث خلال أقل من سنتين!

بات من الجلي أن الثورة على وشك النصر، وإن انتصر العبيد في صقيلة فسيكملون بطريقهم لتحرير باقي العبيد في أرجاء الجمهورية الرومانية. قرر الرومان حينها أن يضعوا حدا لهذه الثورة، فأرسلوا القنصل بالجيش الروماني لوكياس بيسو.. وبدأوا بجمع الجيش الروماني من أنحاء الجمهورية. وفي تلك اللحظة وصل عدد جيش يونو السوري إلى 70 ألف جندي موزعين بمختلف المدن.

كان لوكياس رجلا عديم الرحمة، ولقد كان الهدف من إرساله هو كسر إرادة العبيد. فتمكن لوكياس من أخذ مدينة مورجنتينا وقتل ثمانية آلاف عبد منهم بلا رحمة. ومن عاش منهم قد تم صلبه حيا حتى يكون عبرة لمن يعتبر.

ثم أرسل الجيش الروماني قنصلا آخر يدعى روبليوس ريبليوس إلى مدينة تورمينيا، وقد قام بفرض حصار مّمَكن عليها لدرجة أن الطيور لم تعد تستطيع الدخول. استمر الحصار عدة اسابيع فنفذ الطعام من الجنود فأكلوا كل ما يؤكل. أكلوا الكلاب وحينما نفذت الكلاب أكلوا القطط وحينما نفذت القطط أكلوا الجرذان وحينما نفذت أكلوا أوراق الشجر والعشب.. وحينما نفذت اضطروا لأكل جثث رفاقهم من شدة الجوع!

بعدها تجمع جيش العبيد في أخر حصن لهم في تورمينيا، و كانوا خائري القوى.. وكانوا على وشك الموت حتى خانهم عبد يدعى سرابيون وفتح بوابة الحصن ودخل الجيش الروماني وبدأ بقتلهم.

إقرأ أيضا :القصة الحقيقية والبشعة لمزرعة عبيد تكساس

كانوا جائعين ومتعبين لدرجة أنهم لم يستطيعوا حمل سيوفهم وكان قتلهم أمرا سهلاً. إلا أن ريبوليس لم يقتلهم جميعا وأخذ معظمهم وعذبهم أشد العذاب.. ثم أخذهم على تل في المدينة ورماهم منه حتى تحطمت أجسادهم الخائرة وأصبح العبيد يسقطون على جثث بعضهم من كثرتها.

كان الرومان يقومون بتعذيبهم ويتحاشون قتلهم مباشرة، وذلك حتى يخيفوا باقي العبيد من الثورة والتمرد وحتى يكسروا إرادة من ثار بالفعل.

بعد أن أخذ الرومان أهم مدينتين واصلوا الزحف إلى العاصمة إينا حيث تمركز جنرال يونو السوري كليون.

لقد سمع كليون ما جرى للعبيد الآخرين، وقد عرف أن هذا سيكون مصيره.. فما كان منه إلا أن حمل سلاحه وخرج مع بعض العبيد خارج الحصن في العاصمة إينا حتى يقاتلوا ويموتوا موتا سريعا. إلا أن الرومان تمكنوا من الإمساك به حياً، وقاموا بصلبه ووضعوه أمام الحصن وهو يحاول ألا يتأوه من الألم ويصمد، ثم قتلوه على مرأى باقي العبيد.

لقد عرف العبيد المصير الذي ينتظرهم حينها وشعروا بالخوف الشديد، لكنهم حاولوا الإمساك برباطة جأشهم والقتال حتى النهاية. فما كان إلا من أحدهم أن خانهم، وفتح الباب ليدخل جيش الرومان ويسفك دم كل من في الحصن ويبدأ بصلبهم وتعذيبهم عذابا شديدا. ولم يكون يونو السوري حاضرا وقت المعركة، لكن أحد العبيد تمكن من الهرب خارج المدينة وأخبره بما جرى.

علم يونو بسقوط عاصمته إينا، وعرف بمقتل جنراله وذراعه اليمين كليون.. وكل ما تبقى من جيش يونو كان عددهم 1000 جندي بل وأقل، ولن يكونوا قادرين على مجابهة الرومان فما كان من يونو إلا أن أمرهم بالتحصن بالجبل.

رغب يونو السوري بتحصنهم بالجبل ليكون لديهم الأرض المرتفعة بالقتال، وأن يصمدوا على أمل أن يثور عبيد آخرون في سبيل أن يفكوا الحصار عن ما تبقى من جيشه. إلا ان هذا لم يحدث.. فقد قتل الرومان ما يزيد عن 69 ألف شخص مما زرع الرعب بقلوب باقي العبيد.. وتمكن الرومان من حصار الجبل وبدأ الغذاء ينفذ من جيش يونو.

لم يعد لدى يونو السوري أي خطة، و قد عرف العبيد حينها أنها النهاية.. وأن تحصنهم بالجبل لن يؤدي سوى لتأخير المصير المؤلم الذي سيواجهونه.

لقد نجح الرومان بإخافتهم، فأن تموت هو أمر طبيعي وعادي لكن أن تموت من شدة الجوع أمر مؤلم. وأن تموت بسبب تحطم جسدك من السقوط من التلال هو أمر مؤلم.. وأن تموت نتيجة الصلب هو أمر أكثر ألماً. فتخيل عزيزي القارئ أن توضع على خشب وأن تدق مسامير في ذراعيك وتوضع بالشمس حتى تموت من شدة الجوع والعطش!

إقرأ أيضا :سارة برتمان : ضحية العبودية

فما كان منهم إلا أن بدأوا بقتل بعضهم البعض حتى يتلقوا الموت الرحيم، ذلك الموت الجميل الذي لا ألم فيه. لقد طعنوا بعضهم، و قطعوا رؤوس بعضهم. أما يونو فقد اختبأ مع مجموعة من أصدقائه المقربين الذين وثق فيهم داخل مغارة صغيرة بالجبل.. حتى وجده الرومان وقاموا بقتل رفاقه ورموه بالسجن.

لقد سجنه الرومان على أمل أن يجمعوا أكبر عدد من الناس ومن العبيد حتى يصلبوه أمام العامة ليكون عبرة لمن يعتبر.. وحتى لا تقوم ثورة أخرى. إلا أنه ومن سوء حظهم مات يونو السوري بالسجن بالعام 132 ق.م ولم يتمكنوا من تحقيق أمنيتهم.

قيل أنه مات بسبب التهاب جرح أصيب به بإحدى المعارك، وقيل أنه انتحر بالسم. لكن المهم أنه قد مات ولم يستطع الرومان جعله عبرة كما كانوا يُخططون بل وحرمهم من لذة الإنتصار.

بعد نهاية ثورة يونو السوري لم يعد أحد يتجرأ على شراء عبد سوري.. بل وتم تغيير اسم سوريا من كويلا سوريا -كويلا باليونانية تعني الأجوف- إلى سوريا فقط. حيث أن كلمة الأجوف يقصد بها الإهانة هنا.

كذلك فإن ثورة العبيد كانت فكرة، والفكرة لا تموت. وإن كان يونو مات فإن روحه خالدة في قلوب العبيد الذين سئموا المعاملة السيئة والذين كانوا يبحثون عن الحرية.

فبعد 30 عاما من ثورة يونو السوري ظهر عبد يدعى سلافيروس وقد أشعل ثورة في صقيلة. أخذ من يونو قدوة له لدرجة أنه قد أخذ اسم ترايفون الحاكم اليوناني الحالي في مدينة حماة مسقط رأس يونو. رغم أنه لم يكن من حماة ولم يكن سوريا حتى.. إلا أنه أخذ اسم السلالة الملكية في حماة أقتداءا بيونو، لكن ثورته قد فشلت كذلك.

ثم ظهرت ثورة ثالثة ورابعة وخامسة. ومنذ تلك اللحظة لم تكن لتنتهي ثورات العبيد حتى تم إلغاء العبودية رسمياً، أو على الأقل جعلها بصورة حضارية أكثر.

ختاماً

لقد قاتل الناس من أجل الحرية ومن أجل إنهاء الظلم لعقود طويلة. وقد حقق بعضهم مطالبه في حين أن بعضهم لم يصل إلى شيء. ولم يسبق لأي مظلوم أن انتصر فقط لأنه “مظلوم”. وصحيح أن الحرية لا تقدر بثمن، لكن ذلك لا يعني أنها مجانية. وما يفصل حرية الإنسان عن حرية الحيوان هي المبادئ والأخلاق، وإن خسرها الإنسان فهو لا يستحق الحرية ولا الحياة.

إن الجاهل لا يتعلم من خطأه، فحينما ثار العبيد المرة الأولى كان بسبب التعذيب والجوع والذل الذي يعيشونه يوميا. وبعد أن فشلت الثورة وبدلا من أن يحاول الرومان التخفيف عن العبيد ومنحهم القليل من المعاملة البشرية زادوا معاملتهم سوءا، مما جعل العبيد يثورون مجددا ومجددا.

ملاحظات : 

_الإسم سوريا له عدة نظريات عن أصله، فهو يعني الأرض الخضراء بلغات معينة. وقد كان يستخدم بالخرائط من العام 800 ق.م.

_ المفردة اليونانية كويلا مأخوذة من الآرامية وتعني “كل” أو كامل. فكويلا سوريا تعني سوريا الكاملة إلا أن اليونانيين غيروا المفردة بلغتهم لتتناسب عما بدت عليه سوريا في ذلك الوقت.

_ ثورة العبيد الثالثة في روما هي التي غيرت تعامل الرومان مع العبيد، وقادها عبد روماني يدعى سبارتكس.

ملاحظة : جميع حقوق المقال محفوظة لموقع كابوس . لا يحق لأي شخص كان النقل الحرفي أو المرئي للمقال المنشور دون إذن مكتوب من إدارة الموقع . وتترتب المسائلة القانونية المنصوص عليها على كل مخالف للتنبيه المذكور .

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا

المصدر
يونو السوري - ويكيبيدياWikipedia - first servile warSyrian_war - WikipediaWikipedia - EunusWikipedia - Seleucid_Empireمصادر إضافية

آريو

-كاتب من سوريا - الكاتب الأفضل في كابوس لشهر اغسطس 2022
guest
9 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى