تجارب ومواقف غريبة

الجرن

بقلم : جيجي عادل – مصر

الجرن
الجرن .. يستخدم لتخزين الحبوب ..

من الممكن أن تكون كلمه جرن بضم الجيم هي كلمه غريبة على آذان البعض , فالجرن معروف بالريف المصري بتخزين الغلال , وهو عبارة عن شكل مخروطي من الطين اللبن يبنى على أسطح المنازل للاحتفاظ بالغلال , ويكون بناءا مصمت من كل الجهات إلا من فتحه باب صغيره في أسفله ويرتفع عاليا عده أمتار . ولقد أثرت أن ابدأ بهذا الشرح الأكاديمي الرتيب حتى تستطيع عزيزي القارئ تخيل أحداث قصتنا التي حدثت أمامي واستأذنت صاحبتها قبل أن أنشرها .

ولكن دعني أسألك سؤالا قبل أن اشرع في سرد قصتي .. هل تعتقد أن ذاكره الأطفال من الممكن أن تحتفظ بذكريات معينه على الرغم من مرور السنوات وبرغم صغر سن الطفل ؟ ..

فمثلا هل تتذكر أنت أحداث مرت عليك عندما كنت في الثالثة أو الرابعة من العمر ؟ ..

إذا أجبت أنا على هذا السؤال فالإجابة ستكون نعم . فانا أتذكر أحداث كثيرة من طفولتي المبكرة بعضها بشكل خاطف و بعضها بدقه مذهله , ولى في ذلك قصه أخرى .. المهم .. لنعد إلى قصتنا الحالية , ففي احد الليالي المقفرة قرر ابن عم أبى رحمهم الله أن يذهب إلى مزرعته الجديدة التي اشتراها في إحدى المناطق النائية و البعيدة عن العمران والتي أطلقنا عليها اسم الجبل , وتوسل إليه والده أن ينتظر حتى الصباح وقال له يا أبنى النهار له عنين , وهذا مصطلح مصري شعبي نستخدمه لثني الشخص عن القيا م بأي مهمة ليلا . و ليته استمع إلى نصيحة والده , إلا انه أبى و أصر أن يصطحب معه زوجته و طفلته ذات الأربعة أعوام معه في السيارة , وكان الطريق وعرا و طويلا , والإنارة خافته .. وقبل أن يصل للمزرعة بعدة كيلومترات ارتطمت السيارة بكتله صخريه و انقلبت عده مرات و تدحرجت بشكل مخيف حتى انزوت بين تله من الصخور محاطة بالأشجار بشكل يخفيها عن العيون . وظلت السيارة على هذه الحالة لمده 36 ساعة , ولم تكن وسائل الاتصال في ذلك الوقت ميسرة مثل الآن .

عندما لم يصل عمي لمزرعته تلك الليلة خرجت العائلة بأكملها و سيارات الشرطة و كل أهل المنطقة في البحث عنه , وتم اكتشاف السيارة على وضع يدمى القلوب , فالسيارة كانت محطمه وشكلها العام لا يوحى بنجاة أي شخص من ركابها , و كانت الشرطة في سبيلها لرفع حطام السيارة بشيء من عدم الاكتراث لأنهم كانوا موقنين انه لا يمكن أن يظل احد من الركاب على قيد الحياة , لكن فجأة سمع احد الأشخاص الواقفين قرب السيارة آهة الم ضعيفة وواهنة , لكن لم يصدقه احد من الموجودين ففضل أن يطبق فمه لما شعر باستهانتهم بكلامه , و خاف أن يحيى في القلوب أملا ثم لا يكون إلا سرابا .

لكن مهلا ! .. لقد ندت آهة ثانيه , خافته أيضا , لكنها مسموعة أكثر من سابقتها , و على الفور تغير الحال , فتدافع الجميع للمساعدة و تجدد الأمل في النفوس , و قامت الشرطة بجلب وحدات إضافية ووحده إسعاف , وتم فتح السيارة بحرص شديد , وللأسف أخرجت جثتي الأم و الأب , لكن رحمة الله كانت قد تداركت ابنتهما الصغيرة فأبقتها على قيد الحياة وكانت والدتها رحمها الله تحيطها بذراعيها , وعلى الفور قام الأطباء بالعناية بالصغيرة , ونصحوا جدها المكلوم بعرضها على طبيب نفسي لان الفتاة عاشت تجربه مريرة و كانت قاب قوسي أو أدنى من الموت . وبالفعل قام الجد بعرض حفيدته على طبيب نفسي , لكن الفتاة كانت طبيعيه تماما و لم تتذكر أي شيء سوى إنها كانت نائمة في حضن أمها .

الطبيب طمأن الجد قائلا بأن ذاكرة الطفلة لم تسجل أي شيء من المحنه . و بالفعل عاشت صديقتي كطفله عادية و طبيعية في كنف جدها محاطة بكل أشكال الحب و العطف و الحنان .. حتى أتى ذلك اليوم المشئوم بعد مضي سبعة سنوات على الحادثة .. ففي إحدى العطلات الصيفية ذهبنا جميعا إلى بلدتنا وأيضا ذهب أبناء أعمامي وكان منهم شقيقان غاية في السماجة مغرمان بعمل المقالب , وكانت صديقتي هي ضحيتهم , إذ كنا نلعب اللعبة الشهيرة " العسكر و الحراميه " , وكان يجب على صديقتي أن تختبئ , فاقترح عليها ابن عمى أن تختبئ داخل الجرن ولن يعثر عليها احد , و بالطبع لم يفكر احد بالبحث عنها داخل هذا الجرن المهجور الذي هم جدي بهدمه مرارا إلا انه كان يتركه في آخر لحظه .

المهم .. قامت صديقتي بالاختباء داخل الجرن وقام الصبي بإحكام باب الجرن من الخارج متعمدا , وبعد أن تعبنا من اللعب ذهبنا لتناول الطعام و اخذ القليل من الراحة و نسينا أمر صديقتي تماما , لكن جدي جمعنا للسؤال عنها ؟ .

وبالطبع حاول الفتى المراوغة , لكنه اعترف في النهاية بفعلته فصعدنا جميعا مهرولين لسطح المنزل وقام جدي بفتح الجرن وهالنا ما رأينا ..

لقد كانت صديقتي متكومة عل الأرض وقد هالني جحوظ عيناها و شحوب وجهها وزرقة شفتيها و بروده أطرافها .. وما أن أخرجها جدي و أحتضنها حتى انفجرت بالبكاء و هي تصيح بابا مات …..ماما ماتت ! ..

وتعجب الجميع لقد مر على الحادثة أكثر من سبع سنين , لكن الأعجب ما هو آت .. إذ تذكرت صديقتي فجأة كل شيء بدقة بالغة و كأن الزمان رجع بها إلى تلك اللحظة و توقف عندها .. فلقد تذكرت دعاء والدتها وهى تقول ربى إني لا أسألك رد القضاء لكنى أسالك اللطف فيه وهي تحتضنها , وتذكرت محاولة والدها السيطرة على السيارة .. لا بل تذكرت حتى لون الملابس التي كانت ترتديها والدتها والأغنية التي كانت تغنيها لها قبل الحادثة ..

عجيب هو عقل الإنسان .. فكم من الذكريات المؤلمة تنزوي في ركن خفي من ذاكرتنا و نظن إننا نسيناها حتى يؤتى مؤثر ما فتطفو على السطح واضحة حية جلية كأننا لم نبرح اللحظة التي عشنا فيها تلك الذكرى , أما بالنسبة لصديقتي فهي لم تفتح هذا الموضوع بعد ذلك أبدا , غير أنها أصبحت تخشى أي مكان مغلق و مظلم و بارد .

تاريخ النشر 12 / 02 /2014

guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى