أدب الرعب والعام

الجسد البديل

بقلم : نوار – سوريا

الجسد البديل
أنتِ هي من ستحييني من جديد

عادت لورا مساءً مرهقة جداً إلى شقتها الواقعة في الدور العاشر بأحد المباني بعد يوم حافلٍ بالنشاطات و العمل ، أخذت حماماً ساخناً ثم استلقت على السرير و أغمضت عينيها .
بينما كانت تستسلم للنوم رنَّ هاتفها و كان صوته خافت فتذكرت أنه مازال في حقيبتها ، نهضت بخطى متثاقلة و أخرجته من الحقيبة فوجدت الاتصال من صديقتها ديانا .. و ما كادت تفتح الخط حتى جاءها صوت ديانا خافتاً مضطرباً :
– لورا و أخيراً ، ظننتكِ لن تردي 
– أهلاً ديانا ، ما الأمر ؟ ما به صوتكِ ؟
– أرجوكِ لورا تعالي إلي ، أتوسل إليكِ
– أخفتني ، ماذا تريدين ؟!
– لا أستطيع الشرح على الهاتف .. أرجوكِ تعالي لا تتركيني وحيدة 
– ديانا !!
– ……
– ديانا ما الذي يجري عندكِ ؟ أجيبي 

و انقطع الاتصال ..

بينما كانت ديانا تهاتف لورا أحسَّت بيدٍ باردةٍ توضَع على كتفها و بصوتٍ حادٍّ يقول بمكر :
– مع من كنتِ تتحدثين يا فتاة ؟
انتفضت ديانا و سقط الهاتف من يدها ، التفتت وراءها و قالت بابتسامة مصطنعة :
– لا .. لا شيء ، إنها صديقتي 
و انحنت تلتقط هاتفها من الأرض و أغلقته ، ثم اتَّجهت إلى الصالة تسبقها ضيفتها العجوز 

***

ارتدت لورا ثيابها على عجل و خرجت من الشقة قاصدةً بيت صديقتها ، و كانت أثناء ذلك تسترجع تصرفات ديانا مؤخَّراً ، لقد كانت غريبة الأطوار ، شاردة الذهن و دائمة التلفُّت حولها كمن يخشى شيئاً .. 

وصلت لورا إلى الشقة وطرقت بابها ، فاستقبلتها ديانا و إمارات الخوف و الفزع باديةٌ على وجهها .. دلفت بسرعة إلى الداخل منتظرةً أن ترى آثار عراكٍ أو فوضى أو شيءٍ يبرِّر حالة الهلع التي كانت فيها ديانا ، لكنها وجدت كلَّ شيءٍ طبيعي و الصالة مرتَّبة ، قالت وهي تتجه نحو الأريكة لتجلس :
– ما الأمر ديانا ؟ لقد جعلتني أقلق عليكِ كثيراً 
و عندما همَّت بالجلوس فاجأتها ديانا قائلةً بصراخ :
– لا ، لا تجلسي هنا 
– و لماذا ؟ قالت لورا باستغراب ، فأجابتها ديانا :
– لقد كدِّتِ أن تجلسي فوق تلك المرأة
انتفضت لورا قائلةً برعب :
– أيُّ امرأة ؟؟ ديانا أنتِ اليوم لست طبيعية !

انهارت ديانا على الكرسي و قالت بأسى :
– إذاً أنا الوحيدة التي أراها ، يا إلهي !
اقتربت لورا منها قائلةً :
– ما الذي يجري معكِ ؟ قولي لي ربما أستطيع المساعدة 

رفعت ديانا رأسها و نظرت إلى لورا بعينين جاحظتين و قالت بصوتٍ هامس :
– تلك المرأة التي تجلس على الأريكة و تبتسم لي بخبث ، تلك المرأة ميِّتة أنا متأكِّدةٌ من ذلك

لم تستوعب لورا ما قالته ديانا ، لذلك تساءلت باستغراب :
– امرأةٌ ميِّتة و ترينها أنتِ ! أرجوكِ وضِّحي أكثر فعقلي لم يستوعب شيئاً مما ذكرته 
– حسناً سأقص عليكِ كلَّ شيءٍ منذ البداية و لكن ليس هنا ، فأنا لا أرتاح لنظراتها التي ترمقني بها 

خرجتا إلى الشرفة و في طريقهما نحوها التفتت ديانا إلى الوراء قائلة :
– أرجوكِ لا تلحقي بنا ، ابقي مكانك أتوسَّل إليكِ

تسلَّل الخوف إلى قلب لورا التي ظنت أنَّ صديقتها قد جُنَّت ..

***

بدأت ديانا الكلام و قد ارتسمت على وجهها علامات الجديَّة مما جعل لورا تنصت إليها باهتمام ، فحتَّى هذه اللحظة كانت تظن أنَّ صديقتها تعاني من خطبٍ ما أصاب دماغها :
– كنت عائدةً من عملي و أثناء عبوري الشارع لمحت امرأةً على الجهة الأخرى تريد العبور هي أيضاً ، لا أعرف كيف لم ترَ السيارة التي كانت قادمةً بسرعة و خلال ثوانٍ حدث الاصطدام .. 

اتجهتُ مسرعةً نحوها بنيِّة المساعدة ، كانت ملقاةً على الأرض مضرَّجةً بدمائها ، وضعت يدها على صدري و نظرت إلي محاولةً الكلام لكنها أسلمت الروح قبل ذلك ، اجتمع المارَّة حولنا و اتصلوا بالاسعاف و أنا أكملت طريقي .. لا أخفيكِ سراً أنَّ نظرتها بقيت عالقةً بذهني لفترةٍ طويلةٍ و منذ ذلك اليوم انقلبت حياتي رأساً على عقِب 

صمتت ديانا قليلاً لتلتقط أنفاسها ثم أكملت :
– بدأت أشعر أن أحدهم يراقبني ، إحساسٌ بعدم الارتياح ظلَّ يلازمني ، و بعدها صرت ألمح ظلَّ شخصٍ بقربي ، و عندما ألتفت لأرى من يختفي ، إلى أن ظهرت لي ..

شُدَّت أعصاب لورا و شعرت بالقشعريرة تسري بجسدها رغماً عنها ، سألت بتوجس :
– من التي ظهرت لكِ ؟ 
أجابت ديانا و هي تَّتجه بنظرها نحو الصالة :
– المرأة التي صدمتها السيارة .. 
اتسعت عينا لورا دهشةً فيما تابعت ديانا :
– ظهرت لي كما لو أنها لم تمت ، ليس ذلك فحسب بل كلمتني أيضاً .. قالت لي ” أنتِ هي من ستحييني من جديد ” ثم اختفت ، ظننت نفسي أتوهَّم لأن ظهورها الأوَّل كان ليلاً عندما أردت النوم ، لكنها بعد ذلك بدأت تظهر لي في أيِّ وقت  

سألت لورا التي لم تكن مصدِّقةً ما تسمع :
– و لماذا تظهر لكِ ، ما الذي تريده منكِ ؟
أجابت ديانا بخوف تجلَّى على وجهها :
– هذا ما جعلني أكلِّمكِ و أطلب منكِ الحضور ، فأنا خائفة بل أكاد أموت من الخوف 
– اهدئي عزيزتي و قولي لي ما الذي تريده منكِ
– تريد جسدي .. قالت بأن الاختيار وقع علي ، روحها الآن بانتظار أن تنقضَّ عليَّ و تدخل في جسدي هكذا قالت لي ، ستحيا من جديد عن طريقي !
– تقصدين أن ما ترينه الآن هو روح تلك المرأة التي ماتت بالحادث ؟
– أجل

صمتت لورا محاولةً استيعاب الأمر ، و لولا الرعب الحقيقي الذي رأته مزروعٌ على وجه صديقتها لظنتها تكذب .. سألتها بعد لحظاتٍ من الصمت دامت بينهما :
– أمتأكِّدةٌ أنتِ من أنَّ تلك المرأة التي تعرَّضت للحادث قد ماتت ؟ 
– أجل متأكِّدة ، لقد لفظت أنفاسها الأخيرة بين ذراعي ، ثم أنِّي جلبت الجريدة التي صدرت في تلك الفترة ، و موجودة صورتها في قسم الحوادث حيث قالوا أنها ماتت 
– إذا كانت تريد أن تتلبَّس جسدك ماذا تنتظر ؟
– تنتظر أن يحلَّ ذكری ميلادها ، و من سوء حظِّي أنَّه لم يبقَ عليه سوى أسبوع كما أخبرتني ، لورا ساعديني أرجوكِ أنتِ صديقتي لا تتخلَّي عنِّي 
وضعت لورا يدها على كتف ديانا محاولةً طمأنتها :
– لا تقلقي ، كلُّ شيءٍ سيكون على ما يرام 

لا تعرف لورا من أين جاءتها هذه الثقة التي تكلَّمت بها ، لكن أمام فزع صديقتها لم تجد بُدَّاً من طمأنتها و التظاهر بالقوة ..  

***

عادت لورا إلى منزلها و قد تركت ديانا في حالةٍ يرثى لها من الخوف و الهلع ، استلقت على سريرها و أخذت تفكر في القصة التي سمعتها من صديقتها ، لم يستطع عقلها تصديق ما سمعت ، فما مرَّت به ديانا لا يحدث سوى في أفلام الرعب البعيدة عن الواقع ! أيعقل أنها تتوهَّم ؟ لكن لو كانت تتوهَّم فهذا يعني أنَّها تعاني من مرضٍ نفسي ، لم يقنعها هذا التفسير فلطالما تميزت ديانا برجاحة العقل و الاتزان في التفكير ، لكن لماذا ظهرت تلك المرأة لها ؟! في الأمر سر و هذا السرُّ مرتبطٌ بتلك المرأة نفسها ، يجب عليها إن أرادت مساعدة صديقتها أن تبدأ بحثها في حياة تلك المرأة أولاً و بعدها سيتضح كل شيء .. 

عندما وصلت لهذا الحد من التفكير دست لورا نفسها بين الأغطية و استسلمت للنوم 

***

في الصباح و عندما وصلت لورا إلى مقرِّ عملها اتصلت بديانا التي أخذت تكلِّمها بتوتُّر :
– أشعر أن أجلي قد اقترب ، لقد بقيَتْ متواجدة عندي حتى بعد أن غادرتِ ، لم أستطع النوم ، بقيتُ في فراشي غامرةً رأسي تحت الغطاء حتى لا أراها ، و ما إن أشرقت الشمس حتى اندفعت خارجةً من المنزل ، سأشغل نفسي بالعمل و بعدها سأظل أتسكَّع في الشوارع و الحدائق ، لا أريد أن أعود للبيت و أبقى وحيدةً معها .. 
– هل هي ظاهرةٌ لكِ الآن ؟
– كلا لقد اختفت لكنها قد تظهر بأيَّة لحظة 
– قلتِ أنَّكِ تحتفظين بالجريدة التي ذكرت الحادث الذي ماتت فيه 
– نعم 
– هل ذكروا اسمها و عنوانها ؟ 
– أجل ، اسمها “إليزابيث رايت” لكني لا أذكر العنوان 
– العنوان ضروريٌّ جداً 
– لماذا ؟ 
– ذلك حتى.. صمتت قليلاً ثم غيَّرت رأيها قائلةً :
– يجب أن أراكِ بعد العمل و عندها سأخبرك بالنتيجة التي توصلت إليها 

***

التقت الفتاتان بعد العمل و اتجهتا إلى الشقة التي تقطن فيها ديانا ، و هناك اطَّلعتا على الجريدة و عرفتا العنوان ، بقيت لورا فترة تتأمَّل صورة تلك المرأة ، كانت تبدو في الخمسينات من عمرها ، شعرها قصير مصبوغٌ باللون الأحمر و ملامحها غير مريحة ، أخرجتها ديانا من تفكيرها إذ قالت لها :
– و الآن ماذا تنوين أن تفعلي ؟
– زيارة عائلتها لمعرفة من تكون “اليزابيث رايت” ، فأنا أعتقد أن الحل يبدأ بمعرفة من كانت هذه المرأة 
– و بأيِّ صفةٍ نذهب لعائلتها 
– لا تقلقي ، لقد فکرت بالأمر .. بما أنها لفظت أنفاسها الأخيرة بين ذراعيكِ فسنذهب إليهم بحجَّة أنك متأثرة لوفاتها و تنوين زيارة قبرها و التعرف على عائلتها ، سيرحبون بكِ أنا متأكدة من ذلك .
قالت ديانا بعدم اقتناع :
– لا بأس ، موافقة
– إذاً فلننفذ الأمر حالاً  

و قبل أن تخرجا التفتت ديانا إلى الخلف كما لو أن أحدهم ناداها فسألتها لورا و هما تغلقان باب الشقة :
– ماذا هناك ؟
– تلك المرأة نادتني و طلبت منِّي أن أقبِّل حفيدها الصغير هنري 

نظرت لورا باستغراب و لم تعرف ماذا تقول ! 

***

أمام باب منزل “إليزابيث رايت” وقفت لورا و ديانا مترددتان ، لكن لورا كسرت هذا التردُّد و طرقت الباب ، بعد ثوانٍ سمعتا صوت خطواتٍ تقترب إلى أن فتح الباب لتطلَّ منه امرأةٌ في العشرينات من عمرها و على وجهها نظرات تساؤل ، فأسرعت لورا بالكلام :
– مرحباً ، هل هذا منزل السيدة “اليزابيث رايت” ؟
سارعت الفتاة إلى الإجابة بحدَّة :
– إن كنتما قد قدمتما من أجل جلسة تحضير أرواح فيسعدني أن أقولَ لكما تلك الجلسات انتهت ، فإليزابيث قد ماتت 
أجابت لورا :
– عفواً سيدتي نحن لم نحضر من أجل هذا بل إنه موضوع آخر 
ترددت المرأة قليلاً ثم أفسحت الطريق أمامهما قائلةً :
– تفضَّلا ..

***

قالت ديانا بعد أن تلقَّت إشارة خفيَّة من لورا :
– في الحقيقة نحن نعلم أن اليزابيث قد ماتت ، و جئنا لهذا السبب
ظهر الاستغراب على وجه مضيفتهما التي تساءلت :
– ماذا تقصدين ؟
– لقد كنت موجودة لحظة الحادث ، رأيت كيف صدمت السيارة تلك المرأة ، و عندما ركضت نحوها لتقديم المساعدة لفظت أنفاسها بين ذراعي ، قد يكون أمراً غريباً لكن منذ تلك اللحظة و صورة إليزابيث لا تفارق خيالي ، لن أنسى نظرتها أبداً ، كانت تزورني في أحلامي طيلة هذه المدَّة لذلك قرَّرت أن آتي إلى هنا لأتعرَّف على عائلتها و أزور قبرها .. ذلك سيشعرني بالراحة ، صدقيني

و قبل أن تجيب دخل رجلٌ في الثلاثينات و بصحبته طفلٌ صغير المنزل ، فسارعت المرأة إلى القول بعد أن أصبحت لهجتها رقيقة :
– عزيزي ريك ، هذه الفتاة رأت والدتك قبل أن تموت بدقائق 
قال الرجل بصوتٍ متأثِّرٍ :
– حقاً آنستي ! كيف ذلك ؟ اشرحي لي 

شرحت ديانا له ذلك المشهد الذي أقلق راحتها و جلب لها سلسلة من المتاعب ، فقال الرجل :
– أوه ، أمي المسكينة .. لقد رحلت عنَّا فجأة دون سابق إنذار ، أشعر أنَّ روحها هائمة و غير مرتاحة ، فقد زارتني أكثر من مرَّة في منامي 

قال جملته المفزعة تلك بينما كانت لورا تأخذ رشفةً من فنجان قهوتها ، الأمر الذي جعلها تغصُّ و تدخل في نوبة سعالٍ حادَّة ، فشعوره يتفق مع حكاية صديقتها الغير قابلة للتصديق ، و لتداري موقفها المحرج سألت :
– هل هذا طفلك ؟
– أجل ، ابني هنري و هذه زوجتي ماغي 

عندما تأكدت أن الطفل بالفعل اسمه هنري سلَّمت لورا بصدق ديانا و عدم تعرِّض عقلها للوثةٍ من الجنون ، و أيقنت أن حياة صديقتها في خطر ما لم تسارع في إنقاذها 

***

دخلت لورا شقتها و رمت نفسها على الأريكة ، أغمضت عينيها و أخذت تفكِّر بعمق ، لابدَّ أنَّ الأمر له علاقة بعمل إليزابيث كوسيطة روحية ، تعاملها مع الأرواح و مع هكذا أمور له دور فيما يحصل مع ديانا ، ربما لم تكن إليزابيث وسيطة فحسب بل قد تكون مشعوذة و تتعاطى السحر الأسود .. ربما تكون قد توصَّلت إلى تعويذةٍ ما تجعلها تعود إلى الحياة مجدَّداً 

استوت في جلستها و نفضت هذه الأفكار عن رأسها ، سخرت من نفسها ، فمنذ متى تؤمن هي بالسحر و بالأرواح و بهذه الخزعبلات ! لكن هل ما تمرُّ به ديانا أمر طبيعي ؟ هل من المنطق أن تظهر لها روح شخصٍ ميت و تتكلم معها ؟ عندما يختفي المنطق من الأحداث فالمرء مجبر على التفكير بأمور خارجة عن المعقول و عن قناعاته ، لذلك وضعت لورا معتقداتها و ما تؤمن به جانباً و أبحرت مرةً أخرى بالتفكير “اللامنطقي” ، و قررت أن تذهب منذ الغد و تجلب كل كتاب يتحدث عن الروحانيات و عالم الماورائيات علها تجد بين صفحات أحدها خلاص صديقتها ديانا من فيلم الرعب الذي تعيش أحداثه يوماً بيوم و لحظةً بلحظة ..

***

نهضت لورا باكراً و انطلقت تبحث في المكتبات بعد أن أخذت إجازة من عملها في ذلك اليوم ، فموعد انتقال روح إليزابيث إلى جسد ديانا لم يبقَ عليه سوى بضعة أيام .. 

عادت إلى المنزل و هي محمَّلة بكتبٍ تتحدَّث عن التقمُّص و تناسخ الأرواح ، و كتب أخرى تتناول العالم الآخر ، قضت ساعاتٍ و أيَّام و هي تتصفح الكتب ، و بحثت عن طريق الإنترنت أيضاً ، وجدت نفسها تغوص في عالمٍ آخر لم تكن تعرف عنه شيئاً ، تعرَّفت على أنواع السحر لدى مختلف الشعوب ، قرأت قصصاً مثيرة عن التقمُّص و عن الأشباح و عن اتصال روح الميت مع عالم الأحياء و غيرها الكثير من القصص التي لو كانت قرأتها بغير هذه الظروف لما صدَّقتها و لاعتبرتها محض افتراءٍ و أوهام .. كانت تشعر أنها في سباق مع الزمن فكل يوم يمضي يقرِّب ديانا من أَجَلِها .

أما ديانا المسكينة فأعصابها لم تعد تحتمل ، لذلك أخذت إجازةً طويلة من العمل ، و قبعت في المنزل تنتظر نتيجة أبحاث لورا ، و قد حاولت التعايش مع شبح المرأة الذي يظهر لها من وقتٍ لآخر ، فهو على كل حال لن يؤذيها قبل حلول الموعد المشؤوم ..
أرادت الإقامة عند لورا هذه الفترة لكنها خشيت أن تعلم روح إليزابيث بتحركاتهما ، فظهورها مرتبط بالمكان الذي تتواجد هي فيه ، لذلك بقيت تتواصل مع صديقتها عن طريق الهاتف فقط ، و كلَّ يوم يمر عليها يضعف معه أملها في النجاة .

***

انتهت لورا من قراءة جميع الكتب التي بحوزتها و تصفحت على الإنترنت مختلف المواقع المهتمة بهذا الشأن ، لكنها لم تصل إلى شيء ينقذ ديانا من شبح إليزابيث ، شعرت بخيبة أمل كبيرة جداً ، و لم تعرف ما هي فاعلة .. رن هاتفها في هذه اللحظة و كانت ديانا ، قالت بصوت يائسٍ ضعيف :
– لورا أنا تعبت ، أقدِّر لك جهدكِ و وقوفكِ إلى جانبي لكن لم أعد أحتمل ، غداً هو اليوم الأخير لي في هذه الحياة ، لكنِّي لن أسمح لتلك العجوز بالاستحواذ على جسدي 
سألت لورا بقلق :
– ماذا تقصدين ؟
– سأنهي حياتي بنفسي ، أعتقد أنَّ هذا هو أفضلُ شيءٍ أفعله 
اندفعت لورا قائلة :
– أرجوكِ عزيزتي لا تيأسي ، مازال هنالك بعض الوقت ، اصبري قليلاً و أعدك بأني سأجد الحل 

أغلقت لورا الهاتف و قد خطر لها شيءٌ يحتاج إلى الجرأة ، ستذهب إلى منزل العجوز إليزابيث فلربما تجد ضالتها هناك ، لقد شعرت بعدم محبَّة ماغي لوالدة زوجها لذا ستعتمد على هذه النقطة ، اندسَّت بين الأغطية و أغمضت عينها و هي تفكر بالمهّمة التي تنتظرها غداً ..

***

إنه اليوم الأخير و لم يبقَ في جعبة لورا سوى هذه الخطوة لإنقاذ حياة صديقتها المقرَّبة ، إما تنجح أو تفشل .

وقفت أمام باب منزل إليزابيث و طرقته ، لقد حرصت أن تأتي مبكِّرة حتى تضمن اللقاء بماغي وحدها ، فزوجها حتماً سيكون في العمل و ابنها في المدرسة .

قالت موجِّهةً الكلام لماغي بعد أن استقرَّت بمكانها :
– أظن أنكِ تذكريني أليس كذلك ؟
– أجل ، أنت قدمتِ مع تلك الفتاة التي رأت إليزابيث في لحظاتها الأخيرة ..
صمتت قليلاً ثم أكملت :
– لكن بصراحة لا أعرف سبب زيارتك لي !
أسرعت لورا إلى القول :
– آسفة لتطفلي لكني أحتاج مساعدتك 
– تفضلي 
– أنا لي اهتمام كبير بعالم الروحانيات ، و أقوم ببحث شامل و موسَّع لأضع كتاباً في هذا الشأن ، و بما أنَّ السيدة إليزابيث كانت وسيطة روحية فقلت لنفسي ربما تكون قد تركت كتباً تساعدني في بحثي أو مذكَّرات وضعت فيها خبرتها أو شيءٍ من هذا القبيل ..

أنهت لورا كلامها و قد تعلَّقت عيناها بماغي منتظرةً ردَّة فعلها و دَعَت الله سرَّاً أن تقتنع بكلامها ، أجابت ماغي بعد أن فكرت قليلاً :
– بصراحة عمل والدة زوجي كان يضايقني ، فقد كانت تقوم بجلسات تحضير الأرواح خلال الأسبوع الواحد أكثر من مرة ، و تستقبل زبائنها هنا في المنزل ، و كانت تجبرني على المشاركة في هذه الجلسات ، عملها كان يجعلني أشعر أنَّ أرواح جميع الموتى تسكن معنا ..

كانت لورا تستمع إلى مضيفتها بكلِّ انتباه و بأعصاب مشدودة ، حرصت على عدم مقاطعتها فواضح جداً أن ماغي لم تكن تحبُّ عمل إليزابيث و قد وجدت الفرصة سانحة للتعبير عن ذلك ..

أكملت ماغي :
– موتها جعلني أرتاح ، و لم أدخل غرفتها منذ أن توفيت ، نفسي تنقبض منها فهي تعجُّ بالكتب الغريبة و لا أخفيك سراً بأني أظن أنها كانت تتعاطى السحر أيضاً ، فهناك أمور غريبة كانت تحدث في المنزل ، و كانت تستقبل زبائن من نوع خاص في غرفتها و لا أعرف ماذا كانت تصنع معهم !

قالت لورا بتردد :
– هل تسمحين لي بزيارة غرفتها ؟ أودُّ أن أرى نوعيَّة الكتب التي كانت بحوزتها 

نهضت ماغي سامحةً للورا بالدخول إلى غرفة إليزابيث فهي لم تجد ضرراً في ذلك ، خصوصاً بعد أن صدَّقت قصة الكتاب الذي تنوي لورا وضعه 

***

دخلت لورا غرفة إليزابيث و قد شعرت بشيء من الرَّهبة ، و بالفعل وجدت مكتبةً صغيرةً في إحدى جوانب الغرفة صفت فيها الكتب بعناية ، و على الطاولة كانت هناك أيضاً بعض الكتب الملقاة .. قالت موجِّهةً الكلام لماغي :
– لا أريد أن أعطِّلكِ سيدتي ، بإمكانك الذهاب لإكمال أعمالك أما أنا سأبقى اتصفح الكتب الموجودة هنا ، بعد إذنكِ طبعاً 

أومأت ماغي موافقة و مضت خارجةً من الغرفة ..

لم تُضِع لورا الوقت و أسرعت تقرأ عناوين الكتب الموجودة في المكتبة ، و قد صدق ظنها هي و ماغي ، فإن قسماً من هذه الكتب يتناول السحر و الشعوذة ، بعضها كانت تعرف مضمونه نتيجة بحثها المحموم في الأيام السابقة ، و بعضها الآخر عناوينها لا توحي بوجود مبتغاها فيه لكنها مع ذلك كانت تقلِّب صفحاته على عجل و تطَّلع على عناوين فصوله و فقراته ، أمضت وقتاً لا بأس به و هي تبحث ، و كلما انتهت من كتاب كانت تعيده إلى مكانه و تأخذ غيره ، و مع كل دقيقة تمضي توتُّرها يزداد و أملها يخيب ، إلى أن وقع بين يديها كتابٌ قديم و مهترئ من كثرة الاستعمال ، لا تعرف كيف لم تنتبه له منذ البداية ، كان عنوانه لوحده كفيل بجعلها تقفز من الفرح ، فقد قرأت على الغلاف : “الأرواح و طرق التعامل معها” .. كان كتاباً ضخماً و يحتاج لهدوء و تركيز في القراءة ، خشيت أن يأتي زوج ماغي في أيَّة لحظة و تظهر لها متاعب تفسد مخطَّطها ، فليس بالضرورة أن يكون الزوج ساذجاً كزوجته و يسهل الكذب عليه .

أطلَّت ماغي في تلك اللحظة و سألت لورا إن كانت بحاجةٍ إلى شيء ، فأجابت لورا :
– في الحقيقة هناك كتب كثيرة أثارت فضولي وستفيدني جداً في بحثي ، لكن لن يتسنَّى لي الاطلاع عليها في وقت قصير ، هل تسمحين لي باستعارة الكتب التي أحتاجها و سأعيدها لك حالما أنتهي منها ، أعدكِ بذلك .

كانت ملامح لورا مريحة و تدعو للثقة ، كما أنَّ هذه الكتب لم تكن تعني لماغي شيئاً على العكس كانت تتمنى في قرارة نفسها أن تتخلص منها و كانت تنوي مناقشة زوجها في هذا الموضوع لذلك قالت لها :
– بكلِّ سرور عزيزتي 

و هكذا خرجت لورا مودِّعةً ماغي شاكرةً لها تعاونها ، و بحوزتها ذلك الكتاب الذي ضمَّت إليه بعض الكتب الأخرى للتمويه .

***

دخلت شقَّتها مسرعةً و جلست تلتقط أنفاسها ، فهي لم تكن تظن بأنَّ الأمور ستسير معها بهذه السهولة ، كانت تشعر بالتعب و الإجهاد الشديدين ، فقد أمضت الأسبوع الفائت كله في القراءة و السهر و بالتفكير بطريقةٍ تنهي فيها عذاب صديقتها و لم ترتح لحظةً واحدة .
فتحت الكتاب بأصابع مرتجفة فقد كان يمثِّل بالنسبة لها الأمل الأخير و إن لم تجد فيه ضالَّتها فستعلن استسلامها مع الأسف .

غاصت بين صفحاته و أخذت تقرأه بهدوء و تركيز منذ الصفحة الأولى ..

مضت أكثر من ساعتين و هي واضعة رأسها بين دفَّتي الكتاب ، شارفت الشمس على المغيب و هي ماتزال تقرأ ، فجأة التقطت عيناها هذه السطور :
” يقال بأنَّ الروح بإمكانها العودة مجدَّداً إلى الحياة ، و ذلك إن تمكَّن الميت بلحظاته الأخيرة من التركيز بشدَّة في عيني آخر شخصٍ يراه و لمس موضع قلبه ، ليتمكَّن من الظهور له و التلبس بجسده فيما بعد “

تسارعت نبضات قلب لورا و هي تقرأ هذا الكلام ، الآن فقط فهمت ما جرى لديانا .. مضت في القراءة  فهي الآن عرفت ما حدث و بقي أن تعرف طريقة نجاة صديقتها من هذا التلبس .

و بعد عدِّة صفحات وجدت الخلاص في هذا العنوان :
” طريقة إعادة الروح الهائمة إلى راحتها الأبدية بعد الموت “
أسرعت لورا بقراءة مضمون هذه الفقرة ، و مع كلِّ سطرٍ تقرأه كانت ابتسامتها تتسع ، فقد عرفت الطريقة التي من خلالها ستتخلَّص من روح إليزابيث إلى الأبد ..

***

في هذه الأثناء كانت ديانا جالسة في سريرها تتلفَّت حولها بخوف ، كانت عيناها غائرتان نتيجة السهر ، وجهها شاحب و شعرها أشعث ، حاولت الانتحار لكن شجاعتها خانتها في اللحظات الأخيرة ، و فجأة ظهرت لها إليزابيث و هي تبتسم بخبث و قالت لها :
– ساعاتٌ قليلة و تودِّع روحكِ جسدك لتسكن فيه روحي أنا ، شيءٌ جميل أن أعيش مجدداً بجسدِ فتاةٍ ماتزال في ريعان شبابها 

قالت ديانا :
– أرجوكِ ، أتوسَّل إليكِ دعيني و شأني ، أفعل أيَّ شيءٍ تريدينه فقط ارحلي عني ، لا تؤذيني .. سأعتني بحفيدك ، سأواصل زيارة قبرك ، سأقوم بأيِّ شيءٍ توصين به إن رحلتِ عني 
– أنتِ من ستجدد حياتي ، فكيف تريدين منِّي الذهاب ؟!
– لماذا أنا من بين كل الناس ، ما ذنبي لتختاريني ، سأقتل نفسي لأرتاح 
– لا ، لن أسمح لكِ بقتل نفسك ، إن متِّ قبل أن أحصل على جسدك فسأموت معك ، و أنا لن أدعَ ذلك يحصل ، لكن توجد طريقة واحدة فقط لأرحل عنكِ  
سارعت ديانا إلى القول :
– ما هي ، أخبريني بها حبَّاً في الله 
– رشِّحي لي شخصاً آخر أسلبه جسده ، شخصاً يكون عزيزاً على قلبك ، و إن كذبتِ و ذكرت لي اسماً لا يعنيك أمره فإنني سأبقى و لن تتخلَّصي مني 

كانت ديانا قد وصلت لدرجةٍ من اليأس جعلتها تفعل أيَّ شيءٍ للحفاظ على حياتها ، لذلك قالت دون تفكير :
– لورا ، صديقتي المقرَّبة لورا ، أعرفها منذ زمن بعيد و هي أكثر شخصٍ أحبه ، كما أنها أجمل مني ستسعدين جداً بجسدها .

و ما إن أنهت كلامها حتى اختفت إليزابيث من أمامها ..

***

أمسكت لورا هاتفها بسعادة و اتصلت بديانا ، قالت لها باندفاع :
– ديانا وجدتها ، لقد توصَّلت إلى الطريقةِ التي نطرد فيها روح إليزابيث إلى الأبد ، يجب أن نذهب بأسرع وقتٍ إلى قبرها و نحضر معنا… 
لم تكمل لورا كلامها فقد سمعت ديانا تبكي على الطرف الآخر ، فسألتها بقلق :
– ديانا ما بكِ ؟ لماذا تبكين ، تماسكي أرجوك سآتي إليكِ حالاً 

جاءها صوت ديانا مخنوقاً من البكاء :
– لورا سامحيني أرجوكِ ، كنتُ في أشدِّ لحظاتِ اليأس و لم أدرك ما أقدمتُ عليه إلا بعد فواتِ الأوان .. الروح غالية و جميعنا نخشى الموت ، أحبِّك جدَّاً لورا لكني أحب نفسي أكثر .. سامحيني  
– ديانا ماذا تقصدين ؟
– ….
– ديانا !!

لم تلقَ رداً من ديانا ، فجلست محتارة على طرف السرير واضعةً رأسها بين يديها ، و فجأة شعرت بالتوتر فرفعت رأسها و جالت بنظرها في أنحاء الغرفة ، و وقعت عيناها على منظرٍ جعلها تنتفض في مكانها و تتراجع إلى الخلف ، فقد رأت في زاوية الغرفة العجوز إليزابيث واقفةً تنظر إليها و على فمها ابتسامةٌ ماكرة ، أخذت تتقدم منها و هي تقول :
– إذاً أنتِ هي لورا ، لم تكذب ديانا عندما قالت بأنكِ أجمل منها 
قالت لورا و قد تملَّكها الخوف :
– لماذا ظهرتِ لي ، ما الذي تريدينه مني ؟!
– لنفس السبب الذي كنتُ أظهر فيه لصديقتك ديانا ، غير أنَّ ديانا عاشت أياماً كثيرةً في رعب الانتظار أما أنتِ فساعاتٌ قليلة و ينتهي كل شيء ..

تسمرت لورا في مكانها بينما تابعت إليزابيث كلامها :
– يبدو أنكِ لم تعرفي كيف تختارين صديقاتكِ جيداً ، فلقد ضحَّت بكِ ديانا مباشرةً لتنجو بنفسها ، هي من دلَّتني عليكِ ، ما كنت لأظهر لكِ لولاها ..
قالت لورا غير مصدِّقة ما تسمع :
– غير معقول ، لا أصدق ! ديانا لا تغدر بي 
– بل صدِّقي يا عزيزتي ..
ثم أخذت تقهقه بطريقة مرعبة و تتقدم نحو لورا التي أخذت تتراجع إلى الخلف إلى أن التصقت بالنافذة ..

قالت إليزابيث :
– أشعر بالشفقة تجاهكِ لكني سعيدة بأني سأعود للحياة بعد وقتٍ قصير ، اطمئني سوف أعتني بجسدك و أحافظ عليه

توقف عقل لورا عن التفكير ، كانت صدمتها شديدة جداً بحيث لم تصدق أنَّ ديانا قد ضحَّت بها ، تقدمت إليزابيث أكثر نحوها و مدت يدها التي ما إن شعرت لورا ببرودتها حتى تراجعت أكثر للخلف و سقطت من النافذة هاويةً إلى الأسفل يتبعها صراخ إليزابيث :
– لا ، أرجوكِ لا تموتي الآن ، لا تموتي…

و اختفت من الوجود مع ارتطام جسد لورا بالأرض مفارقاً الحياة 

*** 

«« سقوط فتاة تدعى “لورا ميد” من نافذة غرفتها في الطابق العاشر ما أدّى إلى وفاتها بشكلٍ مباشر ، جميع الدلائل تشير إلى عملية انتحار ، لكن يجدر القول أن شقَّتها كانت مليئة بالكتب الغريبة التي تتحدث عن الأرواح و السحر و الشعوذة مما جعل البعض يعزو سقوطها إلى رؤيةِ شيءٍ مخيف ظهر لها بشكلٍ مفاجئ ، خصوصاً أنَّ وجهها لحظة الموت ارتسمت عليه علامات الفزع الشديد ، لكن لا دليل يؤيِّد هذا الكلام و على الأغلب ستغلق القضيَّة و سيعتبر موتها انتحاراً »»

طوت ديانا الجريدة و ألقتها جانباً ، قالت تحدث نفسها بحزن :
– سامحيني يا صديقتي العزيزة ، أنتِ كنتِ خلاصي .
 

تاريخ النشر : 2017-09-15

نوار

سوريا
guest
40 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى