أدب الرعب والعام

ثـلـوج الـصـحراء -الـجـزء الـثـانـي

بقلم : وفاء سليمان – الجزائر

ثـلـوج الـصـحراء -الـجـزء الـثـانـي
فُتحت أبوابها وانهال وابل من الرصاص باتجاه جميع من كانوا هناك

الجزائر العاصمة

بمنطقة حيدرة الراقية ، انتصب مبنى حديث وفخم ٍ، يحيط به سور عالٍ وينتشر أمامه العديد من الحرس المسلحين ، إنه مقر السفارة الفرنسية.

كان السفير الفرنسي يلملم أوراقه و يستعد للمغادرة عندما ولج سكرتيره إلى الداخل:

– سيدي إن مسؤولاً رفيعاً من الحكومة الجزائرية يطلب مقابلتك.

– الآن !  ،ودون سابق موعد ؟.

– نعم يا سيدي.

شعر المسيو بيار بالغرابة لهذا التصرف ، فهو لا ينتمي للبروتوكولات الدبلوماسية المتعارف عليها ، ولكن لا بد له من استقباله ، فحدسه ينبئه أن وراء هذا النشاز أمراً خطيراً.

* * *

سارع المساعد رحيم لمكتب المحقق حميد ، فتح الباب واندفع مسرعاً إلى الداخل:

-آسف حقاً ، ولكن وردتنا معلومات مهمة.

أشار له بالجلوس ، فاتخذ رحيم مقعده و راح يكمل:

بعد أن عممنا الخبر على كافة المراكز ، وبناءً على إخبارية محلية عثر رجال الدرك مساءً على سيارة بقلبِ الصحراء ، على مسافة غير ببعيدة عن حدود ولاية أدرار ، و طِبقاً للمواصفات فإنها هي نفسها التي اختطفت فيها الفتاة ، ولكن….

– لا تقل فقط أنها قتلت !.

– لا ليس هذا ، وجد داخلها رجلان ميتان ، اخترقت رصاصتان رأس كل واحد منهما و لا أثر للفتاة ولا للرجل الثالث ، فحسب أقوال الشهود فإن رجلين من أمسكا بالفتاة ، وآخر ثالث كان هو السائق.

خيّم الصمت لوهلة وعم الهدوء المكان ، كسره حميد بقوله :

– قمت ببعض الإتصالات ، رشيد كان يدرس بالعاصمة قبل وفاة والديه ، أتعلم ما هو تخصصه ؟ ، سكت قليلاً ثم نطق و كأنه يفشي سراً :

علم الآثار يا صديقي ، لقد تحصل على شهادة اللّيسانس و كان سيلتحق بالدراسات العليا لولا أن حدث ما حدث.

سأل رحيم بعد أن رفع حاجبيه دهشة:

– ولكن ما علاقة دراسته بقضيتنا ؟.

– أنت مخطئ يا رحيم ، بل له كل العلاقة ، لقد تعلمت من خبرتي الطويلة أن مجرد طرف خيط قد يبدو بلا فائدة يقود لحل جريمة ما ، لا يمكن أن نغفل أي تفصيل ، شغّل عقلك قليلاً ، أثبتت تحرياتنا أن رشيد يقوم برحلة للصحراء في كل شهر ، و يخبر عائلته أنه مبعوث لصالح شركته ، لماذا يكذب إن لم يكن الأمر مريباً ؟.

– إذن لديهِ سر ما.

– بالضبط ، إن تِلك المناطق الصحراوية بها العديد من المواقع الأثرية ، و هي مرتع خصب للباحثين عن الآثار والمولعين بها.

– ربما كان يمارس هوايته هناك.

– لو كان الأمر كذلك لما جاهد بإخفائه ، ثم فكر باختطاف أخته أثناء غيابه ، و حتى هاتفه النقال مغلق!.

– أنت تشوشني حقاً.

أمسك حميد بقلم و راح يقلبه بين يديه ويقول :

– هناك حلقة مفقودة ، إذا اكتشفناها ستتجلى كل الحقائق.

* * *

في اليوم الموالي أزِف وقت الشروق منذ مدة ليست بالقصيرة حين ركب كل من سي العربي ورشيد في الجهة الخلفية للسيارة ، تلقى السائق الإشارة بالمسير، فانطلق موكب يضم العديد من السيارات وشاحنة ضخمة وحفارة ، نظر رشيد من خلال الزجاج الخلفي للسيارة فأبدى امتعاضه من المنظر و توجه لسي العربي قائلاً :

– ألا تظن أنك تبالغ ؟ ، دعنا نتأكد من مكان الكنز أولاً ثم أرسل في طلبهم.

تجاهل سي العربي كلامه و قال بضحكة خفيفة :

– لنتسلى قليلاً ، سأقص عليك حكاية مشوقة مما قَصّته علي عمتي لالة فاطمة رحمها الله.

همس رشيد في نفسه : لقد خف عقل الرجل !.

شرع سي العربي يحكي:

– في أواسط القرن الثامن عشر عاش جدي الأكبر سِيدي الجيلالي ،كان رجلاً ذا عز ومال وجاه ، لن أبالغ إن قلت أنه إذا أمسك التراب بين يديه فسيحيله ذهباً ، فالصحراء الكبرى آنذاك كانت حاضنة للقوافل التجارية الداخلية و كذا الآتية من البلدان المجاورة ، وجدي كان تاجراً وحامياً في نفس الوقت ، يرسل رجاله لحماية القوافل من قطاع الطرق الذين يتربصون بها مقابل إتاوة يفرضها على القوافل الكبرى ، وأما القوافل الصغيرة فكانت تُحمى بالمجان ، و بهذا فرض سيطرته على طرق التجارة واكتسب محبة وحظوة وسطوة لا منازع له فيها.

كان يحب زوجته لالة خيرة حباً جماً و يبجلها و يستشيرها في جميع أموره ، و ذلك لحكمتها و رصانتها و رجاحة عقلها ، كانت الزوجة الأولى بين زوجاته ، لم تنجب له أولاداً لكنه لم يأبه ، فعنده من الأولاد ما سيجعل صدى أسمه يتردد لعدة أجيال أخرى.

– آه ، فهمت أنت تروي لي قصة الكنز إذاً.

ضحك رشيد باستخفاف ثم أردف:

– القصة متداولة وقد سمعتها عدة مرات.

رمقه سِي العربي بنظرة شزراء وأكمل دون أن يلقي لكلامه بالاً:

– صناديق كنوزه كان يضرب بها المثل ، قناطير مقنطرة من الذهب الخالص ، كانت مكدسة داخل مغارة حجرية و يحرص العديد من الحراس الضخام ذوي الأجساد القوية على التداول لحراستها ، ولكن لالة خيرة كانت تشعر دائماً بالقلق على ثروة زوجها ، فإن هي ضاعت ستتلاشى سطوته وهيبته ، ففي فترة من الفترات كثرت جماعات اللصوص و قطاع الطرق ونُهبت العديد من القوافل وسُفكت دماء الكثير من الرجال ، لذلك لا يُستبعد أن يعقدوا تحالفات من أجل الفوز بهذا الكنز العظيم.

أشارت لزوجها أن ينقل مكان الكنز و يجعل الأمر طي الكتمان ، فأخذ برأيها وأعد العدة بقافلة تحوي أكثر من ستين ناقة مع الكثير من حرسه الأوفياء و الأقوياء ، و سار ليلاً مع القافلة بإحدى الطرق الآمنة ، قطع مسير يومين قبل أن يستقر به الرأي على أن يحط بمكان ما لا أحد يعلمه سوى الله ، طمر كنوزه و اطمأن بأن لن تطالها يد مخلوق إنسياً كان أو حتى جنياً ، و بعد ثلاثة أيام قفل عائداً لدياره و لكن قدر الله كان لهم بالمرصاد ، ضرب إعصار رملي عظيم القوة المنطقة و حجب ضوء الشمس عنها وأطاح بالبشر والدواب والمتاع ، حاول الجميع التمسك بأهداب الحياة و لكن دون جدوى ، لم يهدأ الإعصار إلا بعد أن أتى على القافلة بمن فيها و مات سِيدي الجيلالي و جميع من معه وغاصوا تحت الرمال و دُفن سر الكنز معهم.

– ومن أين أتتِ المخطوطة إذن ؟.

– أعطتني إياها عمتي سراً ، قالت أنها ورثتها عن جدتها ، ولا أحد يعلم أصلها الحقيقي إلا الله.

شعر رشيد ساعتها بالقليل من الراحة ، فمهما تكن مخططاته ، هو لم يكن ليجرؤ على إتلاف أثرٍ تاريخي هام ، رمق سي العربي بنظرة جانبية وتملكته رغبات عديدة تجاهه ، قاوم نفسه بشدة كي لا يتهور ويطلق العنان لها.

* * *

كان الوقت منتصف النهار تقريباً حين توقفت دراجة نارية مسروقة من صاحب محطة بنزين أمام مكان ليس ببعيد عن إحدى مراكز الدرك الوطني التابعة لولاية غرداية المجاورة لولاية أدرار.

– انزلي وأطلبي المساعدة ، و ستعودين لمنزلكِ مع حلول المساء.

نزلت هيفاء من الدراجة ببطء ، كانت في أقصى حالات التوتر ، من يراها فلن يظن أنها هي نفس الفتاة ، فقد غارت عيناها و شحب وجهها حتى غدت كالمرضى ، غمغمت قائلة :

– وما الذي سيحدث لكما ؟ ، إني مرتعبة جداً يا عادل.

بابتسامة باهتة أجابها:

– ثقي بي ، سأتدبر الأمر ، اعتني بنفسكِ والزمي المنزل حتى تسوّى كل الأمور.

تدثّرت هيفاء بالصمت ، لم تجد ما ستقوله ، كان قلبها يخفق بشدة ، و روحها مترعة بمشاعر متناقضة ، ودعته باقتضاب ثم أسرعت إلى داخل المركز فيما انطلق هو بسرعة البرق ، إنه بالتأكيد على شفا حفرة من الضياع.

* * *

وصلت السيارة إلى المكان المحدد ، أرض قاحلة تمتد على مساحة كبرى ، انتشرت فيها بقايا آثار قديمة والعديد من شجيرات الصبار والسدرة ، تفرقت المركبات في دائرة قطرها ربع كيلومتر ، تلك هي الحدود التي قدر رشيد أن الكنز مدفون داخلها ، استخرجت من الشاحنة آلة كشف المعادن ، وتناثر الرجال يقومون بعملهم بناءً على توجيهات رشيد الذي كان يفكر وقتها ببداية كل هذه الفوضى وذلك منذ أربع سنوات.

– لم نجد أنسب منك يا رشيد ، أنت تملك الذكاء والفطنةَ اللاّزمين لتخترق صفوفهم ، والأهم من ذلك الدافع و الذي ستظهره في الوقتِ المناسب.

– لكن يا سيدي أنت تعلم وضع أسرتي ، لا يمكنني التخلي عنهم.

– لن تتخلى عنهم ، ستعيش بطبيعية و ستتخذ لغدواتك و روحاتك عذراً كل فترة ، أخبرتني سابقاً أنك تريد الاستقالة ، لك هذا ، لن أجبرك على شيء ، فلتكن هذه آخر مهمة لك ، أرواح الكثير من الناس معتمدة علينا ، لقد مرت بلادنا بفترة صعبة جداً ولا نريد أن يعيش غيرنا ما عشناه ، خاصة إن كان بمقدورنا منع الكارثة.

فتح فمه ليرد و لكن كلماته خانته ، إن كلام رئيسه صحيحاً ، الوضع جد خطِر و قد يجر أقدام البلاد لمشاكل هي في غنى عنها.

أجاب بحماس وطني قائلاً :

– موافق يا سيدي ، و لكن من سيشاركني العملية ؟.

– شاب جديد أسمه عادل انضم إلينا حديثاً ، فتى ذكي ومؤهلاته و قدراته كبيرة ، سيساعدك و يعمل تحت قيادتك ، كل ما عليكما فعله أولاً هو العمل على الاندساس في صفوفهم ، و سأزودكما بالتعليمات تباعاً ، و ستراقب أعيننا الوضع من بعيد ، و لكن لا تنسى يا رشيد السرية ثم السرية ، إذا تسربت كلمة واحدة ستنهار العملية بأكملها.

* * *

كانت داخل سيارة للدرك الوطني تسير على الطريق العام متوجهة نحو مدينتها ، إنها تشعر وكأنها كبرت أعواماً كثيرة خلال هذين اليومين ، كانت مشتاقة جداً للصغيرين ، منذ تحملت مسؤوليتهما لم تتركهما يوماً واحداً ، و رشيد ، لم تصدق للآن أن حياته كانت بمثل هذا التعقيد ، وأنه يحمل أعباءً عظيمة على كاهله ، ترددت كلمات عادل الليلة الماضية بأذنها ، و رغم كل الأحداث اللامنطقي التي مرت بها ، كانت تلك الأكثر جنوناً بينها.

-هل تعرف أخي رشيد ؟.

تنهد عادل عميقاً وعدّل بجلسته ثم قال:

– ما مدى قدرتك على حفظ الأسرار؟

لمحت نظرات الجدية في عينيه فأجابت بثقة:

– دون حدود ، بئر ماله قرار.

– اسمعي ، أنا عندما أنقذتك و خالفت أهم قوانين عملي ، الالتزام بالأوامر ، لن يغير من الأمر شيء إن أوضحت لك الحقيقة الآن لكن على شرط ، الكتمان.

هزت رأسها مؤمنة على كلامه فاسترسل :

– منذ ما يزيد عن الأربع سنوات التقطت أجهزة المخابرات الجزائرية معلومات عن عبور شحنة من اليورانيوم المخصب عبر الحدود الجنوبية مع دولة مالي ، كان الأمر يتعلق بأحد المطلوبين الهاربين الذي أتخذ من الجزء الغربي للصحراء معبراً لتجارة الأسلحة و تهريبها ، كان وقع الصدمة كبيراً على الدولة ، فهي تمر بمرحلة نقاهة وإعادة بناء بعد استقرار الأوضاع عما كانت عليه في التسعينيات.

نظر في عينيها المشدوهتين وسأل:

-هل تفهمين ما أقوله ؟.

– لست غبية يا سي عادل ،أنا مدهوشة فقط ، أكمل رجاءً.

– حاولت الدولة بكل إمكاناتها العثور على تلك الشحنة دون جدوى ، كان جل ما تخشاه أن تتعرض لهجمة داخلية نووية ، وساعتها سيقصم ظهرها و لن تقوم لها قائمة أخرى ، صحيح أن صُنعها ليس بالأمر السهل ، ولكن ما أكثر فاعلي الخير المستعدين لعرض خدماتهم هذه الأيام.

بعد البحث والمحاولة المضنية لاستجداء المعلومات وضح أن هذا البارون أو العقرب كما يطلق عليه قد أبرم صفقة مع جماعة أخرى ، يرأسها مجنون يدعى سي العربي ، هو الآخر ذو نشاطات مشبوهة ولكنه يعرف كيف يحمي نفسه جيداً ، كانت الصفقة تعتمد على ما يلي : أن يهبه سي العربي ثروة من الذهب والتي يؤكد أنه سيعثر عليها ، وهي طبقاً لما قال “كنوز أجداده الضائعة “، وذلك مقابل أن يأتي له العقرب باليورانيوم المخصب ويساعده على تهيئة سلاح نووي ما ، لست بارعاً بالفيزياء و لكن عشرون كيلوغراماً من المادة الانشطارية لنظائر اليورانيوم كافية لصنع سلاح يحقق به انتقامه على مبدأ المعاملة بالمثل.

سألت هيفاء و قد نالت الرجفة منها:

– انتقامه ممن؟.

– هل تذكرين هجمات منطقة رڨان ؟ ، تلك التي ألقت فيها فرنسا قنبلة نووية لتجربتها داخل الصحراء الجزائرية و دخلت على إثرها النادي النووي العالمي ، تعلمين ما نتج عنها من آثار وخيمة على سكان تلك المناطق ، و هذا الرجل كان أحد ضحاياها ، وُلد مشوها بسببها فقرر الانتقام والأخذ بثأره ، على ضوء ما رأيت منه إنه رجل مهووس و خطير جداً ، و مستعد لفعل أي شيء دون أن يردعه رادع.

– و ما صلتك أنتَ و رشيد بكل هذا وما علاقته باختطافي ؟.

استجمع أنفاسه قبل أن ينطق:

– أنا و رشيد عميلان تابعان للمخابرات الجزائرية ، اخترقنا جماعة سي العربي لنحاول إيقاف الصفقة ، والذي أرسلني بالأمس لاختطافك والضغط بكِ على رشيد الذي كان يساعده لإيجاد كنزه.

سهمت نظراته في منظر النجوم المتلألئة بالسماء وهو يستطرد:

– كان عليّ أن ألتزم بالخطة كي لا أفتح عينيه علينا ، طلبت مني القيادة الامتثال لأمره وستؤمن لكِ الحماية اللازمة ، و إلا فإن العملية التي كانت مشرفة على النهاية ستفشل ، كنت أحترق بين نارين و لكن في منتصف الطريق غلبتني عواطفي فاتخذت قراري ، لم أرِد التضحية بالمدنيين ، خاصةً أنكِ أخت صديقي رشيد.

انفعل فضرب قبضته بالصخرة بعنف ، جُرحت يده و سالت الدماء منها ، عندما أدار وجهه ناحية هيفاء لاحظ صدمتها من ملامح وجهها الجامدة ، أفلتت طعامها من يدها ثم ما لبثت أن انهارت وانخرطت بالبكاء.

هدأ والتقط أنفاسه ثم ربت على كتفها:

– إهدائي أرجوكِ.

– يا إلهي ، لا أستوعب شيئاً مما قلته !، عصابات ومخابرات وأسلحة و كنوز ، أين أنا، في شيكاجو ؟!.

– الأشرار في كل مكان ، و لكن اطمئني ، أعدك أن يكون رشيد بخير.

– لن يكون أحد بخير ، أنا أعلم هذا ، ستسقط ضحايا يا عادل أنا متأكدة ، مكتوب علينا أن ندفع دمائنا ضريبة للأمان ، كما حدث سابقاً لوالدي وللآلاف من الناس.

رد بابتسامة متفائلة:

– ضعي ثقتك في الله فهو قادر على أن ينصرنا على الشر كما نصرنا من قبل ، والآن تعالي لنرتكب جُنحة صغيرة تخرجنا من هذا المكان.

تحاملت على نفسها حتى استطاعت الوقوف ، لاحظت الدماء التي تسيل من يده فمسحت دموعها بطرف كمها وقالت:

– إن يدك تنزف.

-لا عليكِ ، سأضمدها لاحقاً ، هيا بنا.

* * *

كانت ظهيرةً لاهبة الحرارة حين بدأت أعمال الحفر ، وحُدد مكان الكنز بدقة ، حيث كانت الحفارة العملاقة تغرس أسنانها في جسد التربة ، وقف رشيد يراقب الوضع ، و مع كل ضربة على الأرض كان قلبه يهتز وينتفض بقوة ، إذا عُثر على الذهب فذلك يعني حتمياً بدء المواجهة.

اقترب منه سي العربي قائلاً :

– وعدتك أن أدلك على مكان العقرب فور أن نجد الكنز ، أليس كذلك ؟.

لمس رشيد السخرية بكلامه ، و لكنه سايره قائلاً :

– هذا ما اتفقنا عليه  ،أرجو ألا تكون قد غيرت رأيك !.

– لا ، لم أغير رأيي ، ولكني عدّلت عليه قليلاً ، سأرسل في طلب العقرب إلى هنا فور أن أضع يدي على الذهب.

ازدرد رشيد ريقه ، صحيح أنه أخذ هذا الاحتمال بالحسبان بل هو ما كان يسعى إليه ، و لكن هذا يعني تحركاً أسرعَ من قِبل القيادة.

– هل هذا يعني أنك ستغريه بالذهب وتنصب له فخاً ؟.

ضحك سي العربي ضحكة عالية وقال:

-أنت ذكي حقاً ، لكن قبل ذلك سآخذ منه شيئاً يخصني وبعدها سأسلمه لك لتفعل به ما تشاء.

حاول رشيد تغيير موضوع حديثهم فسأل :

– صحيح لم أر عادل منذ يومين ، أهو في مهمة ما ؟.

– أجل ، ولكنها لم تعد بذلك الـ…..

قاطعه صوت أحد العمال:

-سيدي ، سيدي لقد وجدنا شيئاً.

اندفع الرجلان بسرعة وألقيا نظرة على الحفرة العميقة التي توسطت الأرض ، لحسن حظهم لم تكن طبيعة المكان رملية بل تربتها جافة ، و لذا كان حفرها يسيراً ، أبصرا صندوقاً خشبياً قديماً متوسط الحجم يخرجه عاملان ويضعانه جانبا ، كان يبدو ثقيلاً نظراً لكيفية حمله ، و من ثم كانت تعلو أصوات العمال كل دقائق موضحة اكتشاف صندوق آخر ، وهكذا لم تمر ساعتان إلا وكان أمامهم عشرون صندوقاً تلفهم جنازير ذهبية و أخرى فضية.

– قناطير مقنطرة من الذهب و قافلة بستين ناقة !  يبدو أن الحكاية نالت من المبالغة ما نالت.

قالها رشيد بمزيج من السخرية والعجب.

تجاهله سِي العربي الذي كانت عيناه قد جحظتا و زادتا اتساعاً من وقع الصدمة ، وطلب فأسا ليدشن بيده فتح أول صندوق.

وسط مراقبة الجميع ضرب السلسلة  ، ضربة فالثانية فالثالثة حتى انكسرت ، ثم أزاح الغطاء الخشبي الثقيل بصعوبة.

* * *

– عادل إني آمرك ، عد أدراجك الآن ، لقد عصيت الأوامر بما يكفي هذه الفترة.

– المواجهةُ على وشك البدء ،  ورشيد يحتاجني بجانبه ، لا أستطيع تركه ، سألفق أي قصة لذلك المجنون ، وإن كان قد حصل على مبتغاه فلن تفيده الفتاة في شيء.

– لقد وردتنا المعلومات الآن ، لقد استخرجه بالفعل ، وهذا يعني أن الصفقة على وشك الإتمام ، إن قواتنا في طريقهم للمكان ، سيقبضون عليهم و يسيطرون على الوضع ، وجودك هناك لا داعي له.

– لن أترك رشيد ، هذا أمر مفروغ منه ، عند إتمام العملية يمكنك أن تأمر بإعدامي ، أما الآن فإلى اللقاء.

وأغلق هاتفه ثم ضغط على المكابح و زاد من السرعة.

* * *

بعد عدّة ساعات

قال خبير الذهب لسي العربي مؤكداً:

– إنها سبائك من الذهب الصافي عيار 24 قيراطاً.

سأل رشيد مغتاظاً :

– ماذا الآن ؟.

ضحك سي العربي ضحكة صاخبة وأشار للطريق:

– ها قد جاء صاحبك يا سي رشيد.

التفت رشيد فرأى جمعاً من سيارات الدفع الرباعي تسير باتجاههم ، كان منظرها مهولاً بوجود الرجال الملثمين الجالسين على حواف النوافذ والمدججين بالأسلحة ، لقد دقت ساعة الصفر.

قال رشيد مرتبكاً :

– كما اتفقنا ، لن تغدر بي أليس كذلك ؟.

– اطمئن ، العربي رجل عند كلمته.

توقف هدير المحركات و ركنت السيارات بالقرب من الحفرة ، ترجل جميع الرجال منها ، ثم فُتح باب خلفي لسيارة حديثة ، نزل منها رجل يرتدي طقماً رسمياً !.

تساءل رشيد في نفسه:

– هل هذا هو العقرب ؟ ، يبدو مختلفاً عن الصور تماماً !.

كان رجلاً عادياً أسمراً، حليق الوجه ، في أواخر الأربعينات من العمر ، باستثناء ندب على الجانب الأيسر من وجهه فإن سيماه لا تدل على كل ذلك الشر القابع في داخله ، تقدم نحوهم ضاحكاً يتبعه رجاله ، ثم قال بصوت عميق وهو يمد ذراعيه ليعانق الآخر:

– سي العربي ، مضى زمن طويل يا صاحبي ، سررت برؤيتك و رؤية صناديقِك.

ثم أشار إليها و اعترف قائلاً :

ظننت أن لوثة من الجنون أصابت عقلك عندما حدثتني عن الكنز ، ولكني سايرتك للنهاية ، وإن ما أراه الآن ليدل على أنني من كنت المجنون لا أنتَ.

ضحك الآخر وقال:

– لستَ الوحيد من ظن ذلك ، هل أحضرتَ البضاعة ؟.

– تلك التي تنتظرك منذ سنوات ؟ ، طبعاً أحضرتها.

– أكيد ، أكيد هذه جميع الصناديق ، ولقد اتفقنا سابقاً على أن أعطيك ثلاثة أرباع قيمة ما أجده.

كانت مشاعر الحنق والغضب تستعر داخل أعماق رشيد ، إن هذين الرجلين يتصرفان وكأنهما يتفاوضان على شيء تافه.

– اتفقنا إذن .

تقدم أحد رجال العقرب بصندوق فولاذي متوسط الحجم و وضعه أمام سي العربي ، خاطبه العقرب:

– تأكد من البضاعة أولاً.

تقدم رجل آخر من رجال سي العربي الذي أشار له أن يفتح الصندوق ، فتحه ثم أخذ آلة تشبه الماسح ، مررها على المادة لبضع دقائق ، أرسلت الآلة طنينا حاداً فأوقفها الرجل و قرأ معطياتها على الشاشة وأومأ لسيده بالإيجاب.

– عظيم ! ، هتف سي العربي ثم أعطى الأوامر لرجاله بجلب خمسة عشر صندوقاً من مجموع الصناديق ، ثم توجه للعقرب الذي كان يبتسم بمكر:

– يمكنك التأكد منها إن أردت.

– لا ، أنا واثق أنك لن تجرؤ على خداعي ، و الآن أخبرتني أني سألقى بعض التسلية هنا ، أين هي ؟.

صُعق رشيد الذي كان يراقب الوضع بهدوء مصطنع ، التفت لسي العربي فرأى أمارات الغدر مرتسمة على محياه.

– آه ، لقد تذكرت  ،رشيد تعال إلى هنا يا صاحبي.

تقدم برجلين ثقيلتين و هو يأمل أن تصِل القوات في الوقت المناسب.

– أقدم لك رشيد ، مختص بعلمِ الآثار ، استغل خبرته ليساعدني على إيجاد الكنز الذي بين يديك ، ولكنك تعرف أن لا شيء في هذه الأيام دون مقابل.

صمت قليلاً ليتلاعب بأعصاب رشيد ثم انفجر ضاحكا وهو يتابع:

رأسك يا صديقي ، وأنا وعدته أن أسلّمك إليه ، وأنا عند وعدي دائماً كما تعرفني..

أفلتت ضحكة متهكمة من العقرب وقال:

-حقاً !، ولماذا ؟.

– يقول إنك قتلت والديه ، أحقاً فعلتها ؟، كم أنتَ قاسٍ !.

التفت العقرب لرشيد وسأل :

– أبن من أنتَ يا فتى ؟.

ابتلع رشيد كلماته و لم يجب ، كان لا يخشى على نفسه بقدر ما خشي أن تتداعى المهمة و أسرته ، من ذا الذي سيحميها بعد موته.

كرر العقرب سؤاله بنبرة أشد.

بعد ثوان من الصمت سُمع صوت قوي ، و كأنه صوت قرع على الطبول ، مع ازدياد حدته استدار الجميع ناحيته، فإذا هي سرب من المروحيات العسكرية تحوم باتجاههم ، و لم تقتصر كارثتهم على ذلك ، ففي خضم انشغالهم لم ينتبهوا للطوق الذي أحاطتهم به سيارات الشرطة.

صاح العقرب:

– خيانة ! ، و سارع نحو سيارته وأشار لرجاله بالمواجهة.

صاح الآخر مخاطباً رجاله :

– هاتوا الصندوق واتركوا كل شيء ، و لنلذ بالفرار من هنا.

انبطح رشيد على الأرض ، فيما اقتربت المروحيات وطافت على ارتفاع عدة أمتار ، فُتحت أبوابها وانهال وابل من الرصاص باتجاه جميع من كانوا هناك ، تم تبادل إطلاق النار من قِبل رجال العقرب وسي العربي لكنهم كانوا الحلقة الأضعف ، فالقوات البرية والجوية بأسلحتها الثقيلة تكاتفت لإبادتهم جميعاً.

في أثناء ذلك زحف رشيد بحركات متمرسة صوب سيارات الشرطة ، كان يحاول ما استطاع أن يتفادى رصاصة طائشة حين وجد العقرب أمامه ممسكاً بمسدسه ومصوباً إياه نحوه:

– أنت الجاسوس أليس كذلك ؟ ، اللعنة عليك يا سي العربي ألا تعرف كيف تنتقي رجالك.

– قتلتَ والداي أيها الحقير.

– وسأُلحقك بهما ، أطلق رصاصة فأصابت كتف رشيد ، كان سيتبعها بأخرى ولكنه فجأة سقط أرضاً واندفعت نافورة من الدماء من ثقب في رأسه.

اندفع عادل نحوه وهو يصيح:

– رشيد!.

-عادل ، أين كنت يا صديقي ؟.

– كتفك مُصاب ، تعال معي.

أسنده على كتفه وسحبه نحو إحدى سيارة الإسعاف التابعة للجيش ، و ما إن كادا يصلان إليها حتى أصابت عادل رصاصة تابعة لِرجال العقرب أسقطته أرضاً.

* * *

وصلت هيفاء إلى منزلها أخيراً ، لا أحد يستطيع وصف سيل المشاعر التي فاضت لدى التقائها بأخويها ، كان التوأمان يبكيان بشدة ويصرخان عليها بأن لا تتركهما مجدداً ، لبثا في أحضانها ولم يتزحزحا خشية اختفاءها ثانية ، فقالت لهما مداعبة:

– هذا كي تتعلما ألا تخبئا فطوركما عني كل صباح.

بصوت واحد:

– لن نفعلها ثانية ، نحن نعدك.

ضحكت السيدة يمينة وسط دموع تأثرها وقالت:

-العشاء جاهز ، لنأكل الآن ، وستبيتين الليلة عندي يا عزيزتي فحالك لا يسر.

كادت أن ترفض لولا أنها تذكرت الخطر الذي يتهددها ، فسلمت بالقبول ، مر بخاطرها في تلك اللحظة والدتها التي كانت تخبرها أن معادن الناس الحقيقية تظهر وسط الشدائد ، وهذا بالفعل ما اكتشفته اليوم.

-هل أنتِ بخير؟ ، ألم يمسَّك أحد بسوء؟.

نفت الأمر برأسها وقالت بهدوء يلفه الامتنان :

-شكراً لك يا أمين ، وأنتِ أيضاً يا خالة ، أنا حقاً ممتنة لكما.

كانت كلماتها الصادقة وتعابيرها الرقيقة مبعث أمل كبير في نفس الشاب ، فعل وعسى.

* * *

في اليوم الموالي.

مساء الأمس قضى الجيش الجزائري وبالتعاون مع قوات الشرطة على أخطر مجرم و تاجر أسلحة في شمال إفريقيا ، كما ألقي القبض على شريكه بعد معركة حامية في قلب الصحراء الكبرى ، سقط على إثرها العديد من الضحايا في كلا الجانبين ، هذا وعُثر أيضاً على صناديق من الذهب الخالص بعين المكان و قامت الحكومة بمصادرتها ، أغلب الظن أنها كانت ثمناً لصفقة سلاح لم تتم “

“……وفي تصريح آخر نقلته وكالة الأنباء الفرنسية فإن رئيس فرنسا يعتزم زيارة الجزائر نهاية الشهر الجاري للقيامِ بمباحثات حول الوضع الراهن في المنطقة”

أغلق المحقق حميد التلفاز و رمى بجهاز التحكم من يده ثم قطّب حاجبيه مفكراً.

– ما الأمر؟ ، لما أنتَ متجهم هكذا؟

-لا شيء ، مجرد فكرة خطرت لي ، أخبرني أهذا كل ما قالته الفتاة ؟.

– أجل ، كانت جريمة خطف عادية مقابل الفدية ، قالت أن الثلاثة اختلفوا فيما بينهم ، وقتل أحدهم الإثنين الآخرين وفر هارباً تاركاً إياها.

أمال ظهره للخلف وقال:

– رغم أن القصة لا تبدو منطقية ، لكن قم بإغلاق المحضر يا رحيم ، وأطلب لي فنجاناً من القهوة.

* * *

خاتمة

بعد مرور سنة.

وسط طلقات البارود و زغاريد السيدة يمينة وجاراتها وأمام قاعة الحفلات التي سيتم فيها حفل الزفاف ، ترجل كل من العروسين من سيارة فارهة تزينها ألوان من الورود وشرائط الزينة ، توسطت موكب السيارات الذي ركن هناك ، ثم سارا على البساط الأحمر باتجاه مجلسهما في نهاية القاعة وراءهما بإطلالتها الفاتنة مشت هيفاء تحمل ذيل ثوب الزفاف الطويل الخاص بزوجة أخيها ، يتبعها التوأمان وهما قمة في الفرح.

بعد أن لزم الجميع أماكنهم ، راحت القاعة تصدح بألوان من الأغاني الشعبية ، وتهتز تحت وقع الرقصات الشرقية ، راقبت هيفاء كل ذلك بعينين دامعتين وقلب مفعم بالسعادة ، كانت عيناها تجولان على الوجوه المألوفة من المدعوين حين لمحته قادماً باتجاهها بمشية يشوبها عرج خفيف وابتسامة صافية تشع من وجهه ، لم تره منذ ذلك الوقت ، إنه يبدو مختلفاً كثيراً الآن ، واضح أن مرحلة العلاج أثرت فيه بشكل كبير.

قطع عادل حبل أفكارها عندما قال مازحاً :

– أظنك مصابة بحساسية ما في عينيك ، أنصحك باستشارة طبيب ما.

ردت ضاحكة : لن ينفع مع الأسف ، فحالتي ميؤوس منها ، عموماً حمداً لله على سلامتك ، سمعت أخبارك من رشيد  ،أتمنى أن يعوضك الله خيراً.

– لا بأس ، يسرني أنني تقاعدت مبكراً.

ساد الصمت لهنيهات راح يحدق فيها حوله ثم تابع قائلاً : أنظري هناك.

– أين؟.

– ذلك الشاب.

– إنه جارنا ، ماذا بشأنه ؟.

– لم ينزل عينيه عنكِ منذ دخولنا إلى القاعة ، لم أكن أعلم بوجود منافسٍ لي !.

احمرت وجنتا هيفاء خجلاً ، ولحسن حظها فإن بشرتها السمراء حالت دون أن تفضحها ، كانت سترد عليه بنبرتها اللاذعةِ المعتادة ، و لكن الكهرباء انقطعت فجأة وأظلمت القاعة ، فسيطرت حالة من الذعر على الجميع ، وتعالت الأصوات والصيحات والتساؤلات..

انتصبت هيفاء مكانها ، فقد داهمها قلق غير مريح ، وراودها إحساس بضيق يجثم صدرها ، عضّت على شفتيها عندما تأكدت أنها نفس المشاعر الغريبة التي عاشتها منذ سنة ، شعرت بثقل في الهواء من حولها ، ثقل رهيب يحمل بين ذراته رائحة الشر ، تشبثت بذراع عادل و قالت بصوت مرتجف:

-أنا خائفة.

-لا تخافي ، إنه مجرد انقطاع في الكهرباء.

في أثناء المعمعة وبخطى متسارعة انسحب أحدهم باتجاه المخرج ، كان يريد النجاة بنفسه بعد انتهاء مهمته ، فلم تبق إلا دقائق قليلة على اكتمال العد التنازلي للنهاية..

 

تـــمـــت..

تاريخ النشر : 2018-11-28

وفاء

الجزائر
guest
45 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى