قتلة و مجرمون

ريتشارد كوكلينسكي : رجل الثلج

بقلم : عيسى – ليبيا

اسموه رجل الثلج لبرودة اعصابه وتحجر قلبه

شهدت امريكا في مطلع الخمسينات والستينات بزوغ وإنتشار الجريمة المنظمة ، بما فيها تجارة المخدرات ، البغاء، والاحتيال والإبتزاز..

اغلب افراد هذه العصابات كانوا من المهاجرين الإيطاليين والاوربيين الشرقيين الحالمين بعيش هانئ على عكس ما عانوه في بلدانهم الأصلية .. ومن بين هؤلاء كان بطل قصتنا “ريتشارد كوكلينسكي”؛ والذي نشأ في ظروف مهيئة للوقوع في أحضان هذا العالم المظلم ..

في البداية من هو ريتشارد؟

ريتشارد كوكلينسكي : رجل الثلج
ريتشارد ليونارد كوكلينسكي في طفولته

ولد “ريتشارد ليونارد كوكلينسكي” في آبريل من عام 1935, لوالدين بولنديين مهاجرين، كانوا قد فروا من اوروبا ابان الحرب العالمية الاولى، أبوه كان عاملا في “السكك الحديدية”، وعرف عنه الغلظة والصرامة وقسوة القلب، كما كان سكيرا من الدرجة الأولى..

كان والده سريع الغضب، وكان يضربه لأتفه الاسباب، ومن الطببعي في ظل هكذا أب ، أن يلجأ الأبن ويتعلق بأمه، لكنها بدورها كانت تسيء معاملته وتضربه بإستمرار.. بأختصار كان جو المنزل عاصفا معظم الوقت ، حتى أن ريتشارد كاد أن يشهد مقتل والده على يد أمه في أحد الأيام، لولا أن الأب نجأ باعجوبة من الموت .

في ظل هذا المناخ المضطرب ؛ نشأ ريتشارد كطفل معقد منطوي على نفسه ، وازدهرت ميوله السادية ، فكان يفرغ كل طاقاته السلبية على الجراء والقطط السائبة في الحي، يمسك بها ويقيدها ويلقي بها من اعلى نقطة في سطح بنايتهم ..

وكان لريتشارد ثلاثة اخوة، كان أحدهم ، و اسمه”فلورين”، قد توفي في الثامنة من عمره جراء الضرب مبرح الذي تلقاه من والده ، وللتغطية على الجريمة كذب الأب على الشرطة واخبرهم بأن وفاة ابنه عرضية نتيجة لسقوطه من السلالم، وبشكل لا يصدق انطلت هذه الحيلة الزائفة على رجال الشرطة..

بعد وفاة الاخ بوقت قصير، هجر الاب العائلة وترك والدتهم لوحدها تعيل العائلة.

طفولة “ريتشارد” بالفعل كانت صعبة ؛ وأنا هنا لا احاول أن ازكيه او اجد المبررات لما سيفعله مستقبلا من موبقات، صحيح النشأة المضطربة والصعبة تؤثر في سلوك الأطفال وقد تدفعهم إلى عالم الجريمة ، لكن في المقابل هناك أيضا العديد من الذين عاشوا حياة وظروف مماثلة واستطاعو أن يستفيدوا من معاناتهم ويحولونها إلى النجاح، بل أن هذه المعاناة زادت من انسانيتهم واصرارهم على التفوق واثبات الذات .. لكن هذا لم يحدث مع ريتشارد للأسف ..

بداية الانحراف

ريتشارد كوكلينسكي : رجل الثلج
في شبابه .. نال سمعة سيئة في وقت مبكر من حياته

أدعى “ريتشارد” بأن أول جريمة قتل ارتكبها كانت وعمره لا يتجاوز 14 ربيعا ، وكان الضحية فتى من فتيان الحي، أدعى انه كان يضايقه ويتنمر عليه بإستمرار..

كل من في الحي كانوا يعلمون ان “ريتشارد”هو الفاعل.. ولكن لم يجرؤ أحد على التقدم وإخبار الشرطة.. فـ “الوشاية” أنذاك كانت قد تؤدي بك وعائلتك للهلاك..

منذ إرتكابه لجريمته الاولى ، اصبح الجميع يخشى “ريتشارد”.. بما في ذلك سكان الحي والجيران. وهذا الصيت الذي ناله ” ريتشارد” ، جلب أنظار رجال المافيا والجريمة المنظمة، فكان رجال ورؤساء تلك العصابات يبحثون عن امثال ريتشارد ليعملوا كحراس شخصيين لهم او يستخدموهم كقتلى ماجورين.. والسمعة التي نالها ريتشارد كانت تخوله ليصبح أحد هؤلاء ..

ريتشارد كوكلينسكي : رجل الثلج
سيموني ديكافلكانتي .. زعيم العائلة التي تحكم نيوجيرسي من بين عائلات المافيا الخمس

من بين المنظمات الاجرامية كانت عائلة “سيموني” الإيطالية المهاجرة تضم أعتى رجال المافيا والقتلى المأجرين في مطلع الخمسينات و الستينات.. وقد ظفرت عائلة “سيموني” بخدمات هذا الفتى الجامح .. أستقبلوه بكل حفاوة وعاملوه منذ البداية كفرد أصيل من العصابة ..

كانت عائلة “سيموني” تخطط لأن يصبح ريتشارد كـ “منظف” للعائلة ، وطبعا أنا هنا لا أعني بالمنظف عامل نظافة .. ولكنه لقب عرف به القتلة المأجورين في ذلك الزمان.

تعاون “ريتشارد” لم يقتصر على عائلة ” سيموني” فقط، بل امتد ليشمل منظمات وعائلات إجرامية اخرى كانت حليفة لها. فكان يتم إرسال “ريتشارد” وطاقمه لكل من كان يتخلف على دفع الأموال من قروض وأتاوات وأرباح في وقتها المحدد .. طبعا الزيارة الأولى كانت تحمل طابع التهديد فقط، كانوا يحذرونهم انهم في الزيارة القادمة سيلاقون مصيرهم المحتوم – ألا وهو الموت ..

كان ريتشارد يعمل بإستمرار ويرسلونه لاي مكان طالته سلطة العائلة.. فكان يذهب لمدن “فيلادلفيا” “نيويورك” و”نيوجرسي”.. من اجل اتمام أعمال العائلة ..

عمل “ريتشارد” في البداية كان يختصر على التهديد والابتزاز.. ولعلها مجرد تجربة من المافيا للنظر في قدرات هذا الشاب .. حتى جاء اليوم الذي سيتم فيه ترقية ” ريتشارد” رسميا ليصبح فيه قاتلا ماجورا..

وبالفعل ارسلت المنظمة “ريتشارد”ومع زمرة من رجال العصابة المخضرمين من العائلة في مهمة للوهلة الاولى كانت تبدو روتينية؛ ستنتهي ببرح أحدهم ضربا او ما شابه، ولكن ما لم يعلمه “ريتشارد”ان الأمر كله كان مجرد اختبار له لمعرفة مدى ولائه للعائلة ..

وبالفعل قاد رجال العصابة السيارة ومعهم ريتشارد، وهناك توقفوا عند ناصية أحد الشوارع.. والمهمة كانت تقضي على أن يخرج ريتشارد من السيارة، ويقتل أول شخص يقابله من المارة..

ومن دون ان يتلفظ بحرف تلقف “ريتشارد” مسدسا من احد هؤلاء وخرج من السيارة ليفعل ما أمر به.. وقد قاد الحظ التعيس رجلا كان يتنزه بكلبه في صباح ذاك اليوم المشمس الجميل، على أن يكون الضحية التي أختارها ريتشارد.. ومن دون سابق إنذار .. أطلق ريتشارد عليه النار وأصابه في مؤخرة راسه .. تعجب كل من كان في السيارة بما فيهم رئيس المافيا “ديميو”، ففي العادة كان الافراد الجدد المنظمين للمافيا يترددون أو يرفضون ان يفعلوا أمر مشابه؛ ولكن ريتشارد لم يتردد للحظة ونفذ بالحرف ما طلب منه.. منذ ذاك الحين أصبح “ريتشارد” القاتل المأجور المفضل للعائلة ونال على أثر هذه الفعلة لقب الرجل الثلجي (The Iceman).. لبرودة اعصابه وقساوة قلبه ..

ريتشارد كوكلينسكي : رجل الثلج
اطلق النار على الرجل من دون تردد

ادعى ريتشارد انه قتل المئات طيلة فترة عمله للمافيا.. استخدم فيها كل ما كان يعتبره سلاح كالمسدسات والسكاكين؛ وكذلك السم..

كان المال ينهمر عليه من أعماله الغير شرعية، وفي عام (1961) تزوج “ريتشارد”، وكان له بنتان من زواجه..

ريتشارد عامل ابنتيه على اكمل وجه فكان يدللهما اخر دلال ولا يبخل عليهم بالهدايا او المال، ومن الطبيعي كان عليه ان يفسر لعائلته وخصوصا لزوجته مصدر هذه الأموال الوفيرة التي يحصل عليها .. فأدعى انه يعمل في مجال العقارات، وبالفعل صدقت زوجته والعائلة الامر، فظاهريا لم يبدو عليه مظهر رجل المافيا التقليدي، والذي يكون قاسيا وفظا مع الجميع، ولكن على الرغم من هذه المثالية كانت لعائلة ريتشارد بعض الشكوك، ففي إحدى المرات كانت العائلة تتجول في نزهة بالسيارة، وخلال ذلك ضايق احد المارة سيارة ريتشارد، ومن الطبيعي في هكذا حالات ان يصدر سب وشتم بين السائقين، ولكن ريتشارد لم يكتفي بهذا؛ بل أخذ يطارد الرجل في شوارع “نيويورك”، وسط صراخ عائلته متوسلين إياه بالتوقف، ولكن الاخير لم يهدأ حتى حاصر ذلك الرجل وانزله من سيارته وأنهال عليه بالضرب حتى كاد ان يفقده حياته، بعد ذلك رجع ريتشارد للسيارة و شغل المذياع وكأن شيئا لم يكن .

ريتشارد كوكلينسكي : رجل الثلج
 صورة لريتشارد مع زوجته في بداية زواجهما

كان لريتشارد قانون واضح وهو : (لا نساء.. لا اطفال)، فكان يرفض تنفيد اي عملية تشمل عوائل أو أطفال.. يا للطافته صراحة :).

وفي إحدى المرات كان هناك أحد رجال المافيا يريد التخلص من زوجته وأطفاله، وألح على ريتشارد القيام بالعملية، بل وحتى أعطاه المبلغ مقدما، ولكن ريتشارد رفض الامر نهائيا.. ولكن الرجل استمر يلح على ريتشارد، حتى اصابه الصداع من إلحاح هذا الرجل ، وفي ظل جدالهما المستمر، أخذ ريتشارد مسدسه وأسكته للأبد .. على الرغم من ان الرجل كان من المقربين من المافيا..

ريتشارد كوكلينسكي : رجل الثلج
ريتشارد مع ابنتيه .. ياله من اب حنون! ..

التغير الملحوظ لريتشارد بعد زواجه لم يعجب المافيا.. الامر الذي اوصلهم لزيارته في البيت، الأمر الذي اغضبه جدا، فكان من البداية يرفض توريط عائلته في اعمال المافيا الغير شرعية.

الامر الذي أدى لشرخ في العلاقة بين ريتشارد وأفراد المنظمة؛ الاخير كان يشعر بان المافيا ستتخلص منه قريبا.. لذا قرر ان يتخلص منهم الواحد تلوا الاخر.

فكان يرتب لقاءات عمل مع افراد المافيا، وفي العادة تكون في المقاهي او الفنادق، وهناك يقوم بتصفيتهم واسكاتهم مدى الحياة

أخيرا.. السقوط

ريتشارد كوكلينسكي : رجل الثلج
بدأت الشكوك تحوم حوله ..

الشرطة منذ البداية شكت بأن عمليات القتل هذه مترابطة، فجميع القتلى كانوا قد تقابلوا مع “ريتشارد كوكلينسكي” سويعات قبل العثور عليهم جثث هامدة، مما جعله بلا شك المشتبه به الرئيسي، وهكذا انطلقت حملة تعقب أسمتها الشرطة بـ “عملية رجل الثلج”..

نصبت الشرطة فخا لريتشارد للإيقاع به متلبسا، فارسلوا احد العملاء الفيدراليين المتخفين ليتقرب من ريتشارد ويكسب ثقته.. العميل المتخفي أخبر ريتشارد بأنه سيوظفه لإغتيال شخص ما .. مما سيدر عليه بالمال في حال نجاح العملية..

اتفق الرجلان للإلتقاء في احد المقاهي وهناك اعطى العميل المتخفي لـ “ريتشارد” سم السيانيد القاتل وهو مركب شديد السمومية، واخبره بموقع الرجل المزعوم (وهو ايضا عميل متخفي) لكي يقوم بقتله، وكانت كل العملية تجرى تحت انظار ومراقبة الشرطة للايقاع بـ (رجل الثلج) متلبسا، ولكن الاخير لم يكن بهذه السذاجة وكانت له شكوكه في تصرفات العميل؛ الذي لم يبدو عليه منظر الإجرام، على عكس ممن كان يتعامل معهم في السابق..

ريتشارد كوكلينسكي : رجل الثلج
اخيرا في قبضة العدالة ..

وضع ريشتارد السم في ساندويتش (لحم) وقدمه لكلب وجده في احد الشوارع، ولكن الكلب لم تظهر عليه اعراض هذا المركب شديد السمية؛ فارتأب جدا وعاد لبيته سريعا، ولكن الشرطة كانت له بالمرصاد، فما أن خرج بسيارته من مرأب المنزل حتى حوصر من جميع الجهات ليتم القاء القبض عليه رسميا عام (1986).. لتضع بذلك حدا لقصة اشبه بما تكون لفيلم سينمائي على امر يحدث في الحياة الواقعية.

المحاكمة

ريتشارد كوكلينسكي : رجل الثلج
العديد من الشخصيات السينمائية والالعاب مستمدة جزئيا من عمله مع المافيا

اتهم الادعاء العام “ريتشارد” بـ 5 جرائم قتل، وحكم عليه بالسجن المؤبد مع عدم إمكانية اطلاق سراح”مشروط”.. مما يعني أنه سيقضي طيلة حياته خلف القضبان..

خلال فترة سجنه أجرى ريتشارد عشرات اللقاءات الصحفية حكى فيها عن حياته الشخصية وانضمامه لعالم الجريمة حتى وفاته عام (2006)..وكانت نسبة المشاهدة عليها جدا عالية، فريتشارد اخبرهم بالتفصيل عن حياته منذ النشأة حتى اليوم الذي شهد إلقاء القبض عليه

ملاحظة

ريتشارد كوكلينسكي : رجل الثلج
مع زوجته وابنتيه وحفيده .. كان يمكن ان يعيش حياة عادية كرب اسرة .. لكنه اختار حياة الاجرام

ريتشارد وعلى الرغم مما يبدو عليه من قسوة وقوة؛ إلا اني اعتبره شخصا ضعيفا للغاية، لانه سمح لطفولته الصعبة ونشأته المعقدة في ان تسيطران عليه وتوجهانه لطريق الجريمة المظلم.. بدلا من ان يصبح شخصا ناجحا تضرب به الأمثال .

المصادر :

The Story Of Richard Kuklinski : The Most Prolific Hitman In Mafia History
Richard Kuklinski

تاريخ النشر : 2019-01-18

عيسى

ليبيا
guest
45 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى