أدب الرعب والعام

انتقام العالم السفلي – الجزء الأول

بقلم : آلين سليمان بن حسين – السعودية

انتقام العالم السفلي - الجزء الأول
كانت والدتي لا تكف عن تحذيري من الاقتراب منهم

كانت والدتي لا تكف عن تحذيري من الاقتراب منهم ، أو حتى ذكر اسمهم على لساني ، منذ طفولتي لم آبه بما تسميهم والدتي بالبشر ، كل ما أعرفه عنهم هو أنهم كائنات خطيرة ، ومن الحماقة الاقتراب منهم ، لم أفكر يوماً باقتحام عالمهم أو التعرف على حياتهم ، كنت أعيش في منزل قديم في عالم البشر ، اضطررت للانتقال إليه مع والدتي ، ولكنني لم أخرج منه قط ، فبالخارج عالمهم المخيف ..

كان يوماً هادئاً خرجت فيه من مطبخنا المتهالك بعد أن أعددت لنفسي كوباً من القهوة ، سمعت جلبه صادرة من الطابق السفلي ، تعجبت جداً فلا أظن أن أحدا سيزورنا في هذا الوقت من السنة ، فأبناء أقاربي منهمكون في دراستهم ، نزلت لاستطلاع الأمر ، ولكنني توقفت فجأة وعدت أدراجي مسرعة لأختبئ عن أعينهم مما جعل القهوة تنسكب علي ، ظللت أراقب عن كثب ، كان بشرياً برفقة آخر مثله ، وكانت مرتي الأولى التي أرى فيها بشرياً ، أنه يبتسم كالأبله ، ما الذي يفعله يا ترى مع ذاك الآخر ، وما هو حديثهم الممتع لتلك الدرجة ؟  لم يدم وقوفهما طويلاً قبل أن يغادرا مجدداً ، قفزت من مكاني وصعدت الدرج بسرعة وأنا أصرخ : أمي! أمي ، تلقيت ضربة سريعة من والدتي التي بادرت بلومها لي قائلةً : إلى متى ستظلين مجنونة هكذا ؟ أنا هنا والبيت هنا لن أختفي لا سمح الله ، على رسلك ، للمرة الأولى أنسى ألم ضربتها ، لم أفكر بما قالته ، كان تفكيري منصباً على ذلك البشري.

– أمي رأيت بشرياً.

– أين ؟ لا تقولي لي أنك خرجت من المنزل ! سأخيط فمكٍ الثرثار هذا إن كنتِ قد خرجتِ فعلاً.

– لا ، لا يا أمي ، ما هذه القسوة ؟ ألن تسمعيني قليلاً ، قبل قليل دخل بشريان إلى منزلنا.

– هنا ؟

– نعم ، وقفا أمام الباب لدقائق ثم غادرا وضحكاتهما تملأ المكان كالمجانين ، لا أعرف ما المخيف في هذه الكائنات ، الواضح أنهم حمقى يا أمي مجرد حمقى ، لمَ لا تسمحـ

– يكفي ، يكفي ثرثرة ، أظن أن أحدهما ينوي شراء المنزل.

– غريب ! عن أي شراء تتحدثين ، نحن نعيش هنا منذ خمسةَ عشرَ عاماً ولم يُفتح ذلك الباب قط.

– ألم أخبرك أنهم غريبي الأطوار؟ اذهبي الآن ، وكوني على استعداد لمغادرة المنزل في أي وقت.

تزاحمت الأسئلة في رأسي ، ولم أستطع النوم ليلتها من شدة التفكير ، فتحدثت مع ابنة خالتي أطلب منها القدوم على عجل.

وفي صباح اليوم التالي ، استيقظت على صوت ابنة خالتي المزعج ، أتت بالفعل ، قفزت لأعانقها ، ثم أجلستها بجواري وأخبرتها عن أولئك البشريين ، لم تمر سوى ساعة قبل صدور نفس تلك الأصوات ، نزلت برفقتها بسرعة واختبأنا خلف إحدى المزهريات الكبيرة نراقب ، نفس الرجلين وبرفقتهم امرأة وطفل وطفلة ، وفتاة تبدو في الثامنة عشرٓ من العمر ، ولكن بدلاً من وقوفهم أمام الباب هذه المرة ، دخلوا يتجولون في المنزل ، تبدو والدتي محقة في قولها بأنهم ينوون شراء المنزل ، مما يعني مشاركتهم لنا في السكن ! يا لِهؤلاء البشر البغيضين ، كانت تلك الفتاة قريبة مني للغاية ، طلبت من ابنة خالتي أن تحرك المزهرية بغيةٓ إخافتها ، ولكنها بدلاً من أن تخاف ، ابتسمت ابتسامة غريبة ظننت بسببها أنها قد رأتني ، انتظرت خروجهم بفارغ الصبر ، وقفزت إلى والدتي لأسألها إن كانت تلك الفتاة قد رأتني فعلاً.

– لا تقولي لي أنك قمتِ بتصرف غبي مجدداً.

– لا يا أمي أنا فقط طلبت من بوران أن تحرك المزهرية ، ولكن تلك ظلت تحدق فيّ كالحمقاء ، أتظنين أنها رأتني؟

– يا رب صبر ، ستظلين تكبرين بالعمر وعقلك كعقل طفل في الثالثة ، لن تراكِ ، لا يمكن للبشر أن يروننا ، متى ستفهمين؟

– آها فهمت الآن

كان ذلك قولي لأُسكت والدتي ، وعلى مدار أسبوع كامل ظللت أختبئ كلما أتوا لئلا يروني ، خلال هذا الأسبوع غادرت ابنة خالتي ، كان عملهم سريعاً كل يوم يغيرون شيء في المنزل ، وتلك الفتاة تدور كالخرقاء بينهم ، لم أحبها مطلقاً ، وها هم اليوم مجدداً ، راقبتهم من بعيد كالعادة ، ورأيتهم وهم يحركون مزهريتي المفضلة ، والتي أعتدت التباهي بها أمام بنات عمي منذ طفولتي ، حملوها بكل بجاحة وألقوها في الشارع مع القمامة ، حل الليل وغادروا أخيراً ، كانت والدتي تلملم أغراضنا مستعدة للعودة إلى عالمنا ، بينما تسللت أنا للخارج أحاول جر مزهريتي ، ولكن بلا جدوى ، كانت يدي تخترقها وتمر من خلالها ، لم أستطع حتى الإمساك بها .

استسلمت وعدت أدراجي لتستقبلني والدتي بمعزوفة طويلة توبخني لأنني غادرت المنزل ، كانت أيامنا طويلة وبائسة منذ اقتحام أولئك البشر لمنزلنا ، تركتني أمي وذهبت لعالمنا لتقابل جدي ، وتخبره باضطرارنا للعودة ، بعد أن حذرتني مراراً ألا أقترب منهم ، وخلال تلك الفترة استقرت العائلة في منزلنا ، صار صاخباً ، لا يخلوا من الأصوات والأحاديث وطقطقة الصحون ، استمتعت بهذا ، وتمنيت لو أنهم انتقلوا منذ زمن ، منظر الأطفال وهم يلعبون وضحكاتهم مدهشة ، كانت عائلة رائعة ، إلا تلك الفتاة البغيضة ، أسرعت بالدخول إلى غرفتها قبل أن تغلق الباب ، وسبقتها إلى سريرها ، كانت تثرثر على الهاتف طويلاً ، تحدثت عن منزلنا ، تشعر أنه مسكون ، أنا من يجب علي قول هذا ، تقتحم منزلي ثم تظن أنه مسكون ! ولكنها كانت تبدي سعادة عظيمة وتقول أنها متحمسة للغاية ، خرجت منذ أن فتحت الباب وتوجهت مسرعة إلى العلية لأتحدث مع ابنة خالتي وأخبرها عما استجد منذ مغادرتها

 عادت أمي في تلك الليلة وأخبرتني أننا لا نستطيع العودة الآن ، وسنظل في هذا المنزل حتى يتمكنوا من إيجاد منزل آخر ، كانت فرصتي للتسلية وابنة خالتي قادمة في الغد و ستكون أياماً ممتعة ، وبالفعل لم أعش كمثل هذه الأيام منذ طفولتي ، تارة تكسر ابنة خالتي صحناً ، وتارة تحرك الباب ، وتارة أخرى تطفئ التلفاز ، كنت أضحك من أعماق قلبي ، بدا أمر مشاهدتهم وهم يتخبطون في حيرتهم ممتعاً للغاية ، لمَ تصر أمي على أنهم مخيفين؟

في منتصف الليل ، جلسنا نراقب بضجر عندما أعدت سارا لنفسها طبقاً من المعكرونة ، انتظرنا لحظة خروجها ، ثم انطلقت ابنة خالتي تفرغ ما في الطبق ، ليجن جنون تلك عند عودتها ، خرجت وهي تصرخ وتنادي على إخوتها الصغار ظناً منها أنهم هم من تناولوه ، بينما كادت أمعاءنا أن تتمزق من شدة الضحك ، غادرت ابنة خالتي بعد أن علمتني حيلة أستطيع من خلالها إسقاط الأشياء وإصدار الأصوات ، فهي عفريتة ولدت بمميزات تمكنها من لمس وتحريك أشياء البشر عكسي أنا ، بعد عدة أيام مملة قضيتها في العلية بعد أن عرفت والدتي بأمر شغبي ، فُتح الباب ودخلت تلك الفتاة (سارا) بدت وكأنها تبحث عن شيء ما ، انتهزت الفرصة لأسقط مكنسة القش ، وقد اعتلت وجهي ابتسامة واسعة ، تسمرت في مكانها لدقائق تتلفت من حولها وقد خُطف لونها ثم تابعت بحثها ، وجدت هذا مملاً فعدت إلى مكاني أراقبها ، أخرجت دمية قديمة ، وعدة أغراض أخرى ثم غادرت المكان ، ما إن هممت باللحاق بها حتى أغلقت الباب بعنف وكأنها أدركت أنني سأتبعها ..

مرت ليلتين عندما سمعت جلبة صادرة من الأسفل ، تسللت دون علم والدتي ونزلت للطابق الأرضي ، كانت العائلة خارج المنزل عدا سارا استقبلت ثلاث فتيات يبدو أنهن نسخة خرقاء مثلها بالضبط ، أطفئوا المصابيح  ثم أشعلوا شموعاً وهم يتحدثون عن الأرواح ونيتهم في استحضارها ، ضحكت لسخافتهم ، صحيح أنها لا تصغرني سوى بأربعة أعوام ، ولكنها حمقاء كما لو كانت في التاسعة من العمر ، تحوطوا في دائرة وجلست أنا خلفهم أراقبهم ، بدءوا يتمتمون بكلمات غريبة وهم يمسكون أيدي بعضهم ، ثم توقفوا فجأة عندما قالت إحداهن : أنها شعرت بهواء ساخن يلفها ، بينما قالت الأخرى : أنها سمعت صوتاً غريباً ، كنّ مجموعة من الكاذبات ، فأنا أراقبهن بملل ولم يتغير أي شيء في المكان سوى ثرثرتهم ، اقتربت منهن ، ونفخت على الشموع لتنطفئ ، فتعالت صرخاتهن في المكان ، بينما انقلبت على ظهري اضحك .

تطورت لعبتهن بسكاكين وشموع أخرى ، وأنا أراقبهن وأنتهز أيةَ فرصة لإخافتهن ، أصدرت صوت فحيح : أنا أحبك يا سارا ، كادت أنفاسي أن تتقطع بسبب تلك الجملة ، تمكن الخوف منهن  وأنا لم أعد أقوَ على الوقوف من شدة الضحك ، صرخت تلك : من أنت ؟ لنتعرف إذاً ما دمت تحبني! ، صدقت تلك المعتوهة ، أيوجد عاقل يفكر بحب فتاة مثلها ؟ تركتها وعدت أدراجي إلى العلية ، أسندت رأسي لأنام ، وما إن غفوت حتى استيقظت مجدداً على صخبهن المزعج ، وصلن إلى العلية ، كانت سارا تمسك بسكين وتدور في المكان وهي تخبرهنّ ببطولتها الكاذبة والأصوات التي تسمعها كل يوم والأمور الغريبة التي تحدث معها بسبب الجن ، أمور أسمعها أنا للمرة الأولى !

وفي غمرة حماسهن ارتطمت قدمها بكرسي كان في منتصف الغرفة ، أطلقت صرخة مزعجة ورمت السكين من يدها لتستقر على جسد والدتي ، نسيت كل شيء حولي ، وهرعت إليها أحدثها ، ولكن الأوان قد فات بالفعل ، انقلبت حياتي و صار كل شيء كئيب فجأة ، صدقت والدتي أخيراً أنهم ليسو كائنات لطيفة كما ظننت ، كرهت تلك السارا ، وقررت الانتقام لوالدتي ، قررت أن أحرق قلبها كما حرقت قلبي ، ولكن لم تكن عندي أية وسيلة تُعينني ، بعد عدة أيام جاءني زائر من عالمنا ، وصلهم خبر والدتي ، فأرسله جدي ليعيدني.

– كيف حالك يا مريم ؟

– بخير .

– جئت لآخذك معي ، فما من داعٍ لبقائك هنا.

– لا تقلق ، سأظل هنا لفترة ثم أعود.

– جدي أمر بهذا.

– ليكن ، لن أعود.

– ستظلين حمقاء ، نحن لا نلعب.

– نعم ، نعم لا نلعب صحيح ، هيا اذهب أيها العجوز ، عد لجدك وأخبره أن مريم لا تنوي العودة

– عجوز؟ ضحكة سامحك الله أنا أكبرك بعشرة أعوام فقط.

– أها ! يعني عجوز.

– قبلتها منك ، لنعد الآن.

أمسكت يده ونزلت للطابق الأرضي واختبأت خلف الدرج.

– انظر ، تلك العائلة التي تجلس حول المائدة .

– نعم ، ما بها ؟

– إنها عائلة غبية.

– حسناً ، لم تقفين خلف الدرج الآن ؟

– ابتسامة واسعة حتى لا يروني.

– خرقاء ، لنعد.

– لا ، عد بمفردك ، سأخبرك لهذا للمرة الأخيرة : ل ن أ ع و د أيها العجوز.

بعد نقاش طويل استسلم في النهاية وعاد بمفرده ، وظللت أنا أراقب سارا كل يوم ، وأنا أفكر بطريقة للانتقام ، اتصلت بابنة خالتي ، ورتبت معها الكثير من الأمور ، سأنتظر قدومها بعد أن تفرغ نفسها تماماً ، إي بعد شهرين من الآن ..

يتبع ..

تاريخ النشر : 2017-08-06

guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى