الأعمى والأرواح التائهة
أرى نفسي أقف أمام القبور وتأتي إلي الأرواح التائهة لأساعدها |
وُلدت أعمى ، لا أتذكر كيف كان شعوري وأنا صغير ، كان بالطبع حضن أمي هو ما أطمئن فيه ، لكن الآن صرت في الخامسة عشر من عمري وفقدت حضن أمي وفقدت معها اطمئناني ، لا ليست ميتة بل هاربة ، هكذا قال لنا أبي منذ صغرنا ، إنها لم تحتمل فقر معيشتنا ، بينما أجلس في غرفتي أتى أخي حسن و قال لي :
يوجد ضيوف بالخارج مع أبينا ، أبي يريد أن يحفر في البيت مرة أخرى بحثاً عن مقابر أثرية ، منذ أن سمع كلام أحد مدعي المعرفة أن بيتنا يحتوي على كنوز فرعونية ، وهو مهووس بتلك الكنوز و يحاول العثور عليها ، لربما يتبدل حالنا .
منذ صغري كنت أسمع عند قلقي من النوم ليلاً صوت حفر أبي في الغرفة المجاورة لي وكانت أمي تساعده ، يبدو أنها سئمت وهربت ، بالرغم من إنها تركتني لكن لم أستطع أن أكرهها يوماً ، تظل أمي مهما فعلت .
أسمع صوت باب غرفتي يُفتح ، إنه صوت أقدام أبي ، أستطيع أن أميزها .
ينادي : ياسين .
– نعم يا أبي .
قال : تعال أجلس معنا في الخارج ، الشيخ سلامة يريد رؤيتك .
خرجت معه للغرفة المجاورة ، وجهني أبي لمكان الشيخ وأجلسني بجانبه .
قال الشيخ : كيف حالك يا ياسين ؟.
قلت : الحمد لله.
قال : أنت تعلم ما جئنا لأجله هنا ؟.
قلت له : نعم ، لقد أخبرني أخي .
قال : وما رأيك ؟.
قلت : الرأي رأي أبي .
مدحني الشيخ وقال : و نعم الولد أنت .
وأردف : لكن نحن نريد منك خدمة لكي تساعدنا فيما جئنا من أجله .
قلت له : أنا أعمى ، أحتاج من يساعدني دوماً. كيف أساعدك ؟.
قال : لن تشعر بسوء ، لا تخف من شيء ، سأرسلك إلى خادم المقبرة لترشدنا على أماكن الكنوز فقط..
قلت له : ترسلني إلى أين ، وأي خادم ؟.
قال : قلت لك لا تخف ، ستكون معنا بجسدك وستشعر أنك تحلم برجل مثلنا ، سأقوم بسؤاله عن مكان الكنوز وتعرف إجابته وتقولها لنا ، سيشير لك على المكان.
قلت له : و كيف أراها وأنا لا أبصر ؟.
قال : ستبصر و كأنك تحلم .
تحدث أبي وقال : ياسين نفعل هذا كله من أجلك و أجل أخيك .
قلت له : أنا لا أمانع يا أبي ، أنا فقط أريد أن أفهم.
– تفضل يا شيخ سلامة قل لي ماذا أفعل ؟.
أجلسني الشيخ أمامه وأخذ يتمتم بكلمات لا أفهمها و وضع يده علي رأسي وقال : أغلق عينيك واسترخي يا بني ، بعد انتهاءه من التمتمة قال : ماذا تري يا ياسين ؟ لم أكن مستوعب ما يحدث لي ، أرى أني خارج بيتنا ، أرى بوضوح ولكن بدون ضوء ، رؤية باهتة ، ولكني أستطيع أن أميز الأماكن والأشخاص ، ظهر أمامي شخص منحني الظهر قدماه مقوسة وطويلة و لديه قرون صغيرة فوق رأسه ، لوح لي بيديه أن اتبعه ، أراه متجها إلى بيتنا.
هنا دخل صوت الشيخ سلامة وهو يقول : اتبعه يا ياسين ، تبعته إلي أن دخلنا غرفة أخي حسن وأشار تحت فراشه ثم اقترب مني ومسح على عيني واختفى ، كنت مفزوع عندما شعرت بيديه تلمس وجهي أو طيف يديه لا أعرف ، بعدها استيقظت على صوت تمتمة الشيخ سلامة ، قلت لهم : أنه أشار تحت سرير أخي حسن.
واتفقوا مع أبي على أن يبدأوا الحفر بعد عدة أسابيع قليلة و رحلوا.
لقد تغيرت كثيراً بعد هذا اليوم ، بت أسمع همهمات كثيرة وأصوات خافتة ليست لأبي أو أخي .
بعد يومين دخلت غرفتي لأنام ، لكن ما بدأت أن أتعمق في نومي حتى وجدت نفسي خارج البيت ، أرى نفس ما حدث عندما أرسلني الشيخ سلامة للخادم ، ظننت أن ذهني يعيد ما حدث ، بعد رؤيتي للكائن مرة أخرى وهو يلوح لي بيده كي اتبعه ، لكن هذه المرة لم يتجه إلى بيتنا بل أخذ يمشي وأنا خلفه حتى وصل إلى مقابر القرية ، كنت أرتعد من الخوف لكن ما يطمئنني علمي أني داخل حلم ، أخذ يسير بين القبور و أنا خلفه ، لا أصدق الأصوات التي اسمعها ، أسمع من يناديني بإسمي ، لا أعرف ماذا يحدث ، إلى أن وقف الكائن أمام أحد القبور ثم أشار لي عليه و رحل ،
لم أفهم سبب وصولي إلى هنا إلا عندما رأيت طفلة تخرج من خلف القبر وتقول : أريدك أن تساعدني لأرقد بسلام في قبري ، قلت لها وأنا غير مدرك ما يحدث : أساعدك في ماذا ؟ قالت : لم يكن موتي طبيعي كما قالوا ، لقد قتلتني زوجة أبي ، ولم يحقق أحد في موتي لأننا في قرية صغيرة ، أريد منك أن تُخبر أبي ، قلت لها : وأنا من سيصدقني ؟ قالت : غداً سأظهر له في منامه وتذهب له أنت في اليوم التالي وتقول له أن زوجتك قتلت أبنتك وهي من أرسلتني لأخبرك ، و دليل صدقي أنها جاءت لك الليلة السابقة في المنام وهي تقول لك أحبك كثيراً
في اليوم التالي فعلت مثل ما قالت وأخبرت والدها الذي بدا على صوته الدهشة بعد سماعي وهو يقول : كيف علمت بذلك ؟ قلت له : لقد زارتني أبنتك في منامي أيضاً ، وأخذ أخي حسن بيدي وذهبنا ، بعد يومين جاءتني الفتاة في المنام وهي تقول : لقد اعترفت زوجة أبي بقتلي بعد ما واجهها أبي وهددها ، وقالت : إنها وضعت لي منظف به مواد سامة في طعامي قبل النوم مما أدى إلى موتي ، ثم اختفت الفتاة وهي تقول : الآن سأرقد في سلام .
و صار يحدث معي ذلك من وقت لأخر ، بعد نومي أرى نفسي أقف أمام قبر من القبور وتأتي إلي الأرواح التائهة لأساعدها ، لقد قل خوفي مع تكرار الموقف ، ولكن ما أرعبني بحق ما حدث في إحدى الليالي ، لقد تعودت أن أرى نفسي أقف أمام أحد القبور لتظهر لي الروح التائهة وقد تعدى هذا الأمر قريتي الصغيرة ، ساعدت أرواح كثيرة في القرى المجاورة أيضاً ، لكن اليوم لم أذهب لأي قبور ، أنا أقف الآن داخل بيتنا وبالتحديد داخل غرفة أبي وأمي المغلقة منذ أن هربت ، لا أحد يقترب منها إلا أبي من حين لآخر ، لا أعرف ماذا أفعل في هذه الغرفة ، ارتعدت من الخوف حين ظهرت إمرأة كانت تبكي وتنادي بإسمي وتقول : اقترب يا بني ،
ولكني أبيت من شدة الخوف ، لم أتزحزح خطوة عن مكاني و لا أنزع عيني من عليها ، لكنها هي من اقتربت مني وهي تقول : لا تخف يا بني ، أنا أمك .
كأني فقدت القدرة على النطق فقلت بصعوبة : أمي ! .
كنت أعرف أن معنى ظهور أمي بهذه الطريقة تعني موتها ، لا بل قتلها !.
قالت : ترددت كثيراً قبل الظهور لك يا بني ، لكني لم أعد أحتمل خداع أبيكم لكم كل ذلك ، لا أريد أن تشوه صورتي في عينيك أنت وأخيك ، لم أكن لأتخلى عنكم بإرادتي أبداً .
كنا نبكي كثيراً ، كنت أريد أن احتضنها ولكن هي مجرد طيف لا يجوز لمسه .
قلت لها : ماذا حدث يا أمي ؟.
قالت سأجعلك ترى ما حدث بنفسك في هذه الليلة .
وبدون مقدمات رأيت نفسي أقف بأحد أركان الغرفة وأرى أبي وأمي أمام حفرة كبيرة في وسط الغرفة وأبي يقول : لقد ظهر باب المقبرة في قاع الحفرة ، ولكن حارس هذه المقبرة قوي جداً لن يترك لنا الكنوز والذهب بدون فدية.
سمعت أمي وهي تقول : ومن أين سنأتي بخروف أو بهيمة نحن فقراء تكاد نقودنا تكفي زاد يومنا ؟.
نظر لها أبي وهو يقول : يا ليت كانت هذه المشكلة ، إنه لا يريد دماء حيوان ، إنه يريد دماء إنسان !.
صرخت أمي في وجه أبي وهي تقول : لقد تملكك الجنون ، أردم هذه الحفرة على الفور ، لا نريد أي كنوز ، لا نريد شيء ،و لن أعيش معك بعد اليوم .
اتجه أبي نحوها وهو يقول : اخفضي صوتك سيسمعنا الناس .
صمتت أمي وأخذت تحزم صرة ملابسها ، وعند اتجاهها لباب الغرفة جذبها أبي للحفرة فوقعت فيها وهي تحمل صرة ملابسها صرخت لكن ارتطامها بقاع الحفرة أسكتها سريعاً . أنا مصدوم مما أراه ، أبي قتل أمي بسبب هوسه بكنوز المقابر والذهب ، رأيت أبي بعد ذلك ينزل إلى الحفرة ، اقتربت من الحفرة لأراه يحاول فتح باب صخري وهو يقول : هيا أيها الحارس ألم تكفيك كل هذه الدماء ؟.
لكن مرة واحدة توقف أبي عن المحاولة وصعد إلى أعلى الحفرة وأخذ يردم التراب على أمي وهو يبكي ويندب حظه ويردد : الحارس اللعين يريد دم فتى صغير ، وأخذ يردد هذه الكلمات إلى أن ردم كامل الحفرة و وضع على الأرض الفراش ليخفيها.
و رأيته في اليوم التالي وهو يقول لي ولأخي بوجه متجمد : أمكم أخذت ملابسها وتركت البيت ولا أعلم أين ذهبت .
ثم عدت مرة أخرى أمام أمي بعد ما جعلتني أرى ما حدث تلك الليلة ، قالت : القرار في يديك إما أن تترك روحي تائهة أو تقوم بالإبلاغ عن والدك وتدلهم على مكان جثتي لأدفن وتستقر روحي ؟.
بعدها استيقظت من النوم و عيناي لا يتوقفان عن البكاء مما علمت ، كيف وصل أبي لهذا الحد من الجنون ، هل الفقر يفعل ذلك أم الطمع وحب المال ؟.
أخي حسن يطرق على باب غرفتي ودخل .
قال : ياسين ما يبكيك يا أخي ، أتريد الذهاب لأي أماكن اليوم كعادتك في الأيام السابقة ، ومن ستزور أهو بداخل البلدة أو خارجها ؟.
قلت له : أين أبي ؟.
قال : ذهب للشيخ سلامة .
سيبدأوا الحفر في غرفتي من اليوم .
قلت له : حسناً ،أريد الذهاب إلى مركز شرطة البلدة .
قال : لماذا ؟.
قلت : ستعلم لاحقاً .
ذهبت إلى مركز الشرطة ، جلست مع مأمور المركز وقلت له عن ما أرى ، لم يصدقني في البداية ولكني قصصت له بعض الحالات التي ساعدتها ، تركني في مكتبه وذهب بقوة من المركز إلى بيتنا وحفروا في غرفة أبي و وجدوا جثة أمي وقد تحللت وصرة ملابسها بجانبها ، قبضوا على أبي وادخلوه إلي السجن ، قمنا بدفن أمي أمام كل القرية في المقابر لكي نخرس ألسن من قالوا بأنها هاربة وهتكوا في عرضها بغير حق .
زارتني بعد ذلك بأيام وهي تبتسم لي هادئة مطمئنة أخيراً بعد مرور سنوات سترقد بسلام ، حكمت المحكمة بعد أيام قليلة على أبي بالإعدام جراء جريمته .
النهاية .
تاريخ النشر : 2019-01-20