في شارع هابحيفيم هرتسليا شمال مدينة حيفا وفي منزل صغير مطل على الميناء جلست آني موشيه في شرفتها تتأمل البحر و السفن الداخلة و الخارجة من الميناء و تفكر بكل ما عاشته في حياتها و بكل ما هو آتي في المستقبل الذي تراه مظلماً و كئيباً ، فهي وحيدة في مدينة لا تعرف فيها أحداً و لا يزورها أحد.
جلست على الأريكة و حملت سماعة الهاتف و طلبت رقماً في روما وانتظرت ، ألو من يتكلم ؟ أجابت آني : أنا أختك ، ألم تعرفيني ؟ فرد الصوت بحدة شرسة : أنا لا أعرف أن لي أختاً ، كانت لي أخت يوماً ما لكنها ماتت ، و صرخ الصوت عالياً : ماتت و اختفت من ذاكرتي.
قد تعتقدون أعزائي القراء أن هذه المرأة الوحيدة مظلومة و أن أختها قاسية ، لكن ستغيرون رأيكم عندما تعرفون أن هذه المرأة الوحيدة و الكئيبة ما هي إلا جاسوسة إسرائيلية صالت و جالت في الدول العربية لمدة طويلة ، و وصلت حتى إلى ياسر عرفات شخصياً ، أجل أنها أمينة داوود المفتي و هذه قصتها.
بداية حياتها و نشأتها :
وُلدت أمينة داوود المفتي عام 1939 م في عمان بالأردن في أسرة شركسية مسلمة كانت قد هاجرت أسرتها إلى الأردن منذ مدة طويلة و تولت مناصب عالية في السياسة و المجتمع ، كان والدها تاجر مجوهرات ثري و معروف ، وعمها لواء في البلاط الملكي الأردني ، و أمها سيدة راقية و مثقفة تتقن أربع لغات و لها علاقات قوية بسيدات المجتمع الراقي ، كان لأمينة شقيقتان متزوجتان و ثلاث أشقاء أخرين و كانت هي أخر العنقود ، فحظيت بحب و دلال كبيرين و لم يُرفض لها طلب أبداً.
 |
عاشت أمينة المفتي حياة سعيدة و فارهة وسط عائلة مرموقة |
عاشت أمينة حياة سعيدة و مريحة و فارهة و درست في أرقى المدارس و قد كانت ذكية و طموحة و جامحة أيضاً ، فرغم تقاليد أسرتها المحافظة إلا أنها كانت دائمة السخرية من تقاليد مجتمعها الشرقي المحافظ و اعتبرتها كقيد و سجن وتخلف و حلمت بالاستقلالية والحرية والحب كذلك.
في المدرسة الثانوية تعرفت بشاب فلسطيني يُدعى بسام ، و هو من عائلة متواضعة و لكنها أحبته كثيراً و لم ترى سواه ، لكن بعد مدة هجرها و أحب فتاة أخرى ، كانت الصدمة قوية على أمينة و لم تتحملها خاصةً أنه كتب لها يقول : أنها فتاة مغرورة و أنانية و سريعة الغضب و شرسة ومتحررة أكثر من اللازم ، و أنه أختار فتاة أكثر تعقلاً و أخلاقاً ، غضبت أمينة و لم تتحمل شدة الصدمة و الجرح الذي سببه لها بسام و رغبت بالانتقام منه والثأر لكبريائها المجروح.
 |
تعرضت أمينة لصدمة عاطفية قوية و قررت الثأر منه |
بعد الصدمة العاطفية التي تلقتها من أول حب في حياتها جاءت نتائجها في الثانوية العامة متوسطة ، ما جعلها تفكر في السفر إلى أوروبا لمواصلة دراستها الجامعية و نسيان بسام أيضاً ، و قد كان هذا تقليدا تتبعه الكثير من العائلات الثرية في الأردن ، و قد اختارت لها عائلتها النمسا للدراسة ، التحقت أمينة بجامعة فيينا في عامها 19 عام و قُبلت بالقسم الداخلي المخصص لإقامة الطالبات المغتربات ، و هناك بدأت أمينة أحلامها بالحرية والتحرر والحب ، فلا تقاليد ولا أسرة و لا مجتمع يراقبها و يتحكم فيها و يقيدها.
في القسم الداخلي شاركت أمينة الغرفة فتاة تدرس الطب في السنة النهائية أسمها جولي باتريك من جنوب أفريقيا ، كانت جولي خبيرة بالحياة الأوروبية فكانت المعلمة بالنسبة لأمينة في أمور الحياة والخطيئة و الانحطاط ، فقد علمتها التدخين و حذرتها من إقامة العلاقات مع الشباب و خطورة الحمل و الإجهاض ، و طبعاً قدمت لها بديلاً آمناً و هو الشذوذ ، و قد أدمنته أمينة و رأته كحرية من قيود مجتمعها المحافظ.
 |
سافرت أمينة الى النمساء لاستكمال دراستها |
عند انتهاء عالمها الدراسي الأول رحلت جولي بعد أن أنهت دراستها ، فوجدت أمينة نفسها وحيدة فبحثت عن رفيقة أخرى تشبهها في الميول ، فتعرفت على فتاة أخرى تدعى جنيفيف ووترود ، وسعت في الإدارة لكي تشاركها جنفيف الغرفة و الشذوذ أيضاً.
مرت السنوات و أكملت أمينة دراستها في فيينا و حصلت على بكالوريوس علم النفس الطبي وعادت إلى وطنها عام 1961م مكرهة فقد تعودت على الحرية والخطيئة والاستقلال والذي طبعاً لن تجده في الأردن ، و في غمرة حزنها و كأبتها بعد عودتها إلى وطنها ومجتمعها الذي تكرهه تذكرت حبيبها الأول بسام ، فسعت للبحث عنه طويلاً حتى وجدته ، و تلقت صدمتها الثانية فقد تزوج فتاته الفقيرة فزاد حقدها عليه فكيف يفضل فتاة فقيرة عليها هي ؟ فلم تجد حلاً لوحدتها و صدمتها سوى العودة إلى فيينا بحجة إكمال دراستها في الدكتوراه ، و عزمت على عدم العودة إلى الشرق أبداً ،
كانت أمينة في سن 24 عام عندما عادت إلى فيينا من جديد و هي محطمة القلب و كارهة لكل ما هو شرقي ، فبدأت تعيش حياة الاستقلالية مثل فتيات أوروبا في العمل والاعتماد على النفس رغم أن والدها كان يرسل لها مصروفها الذي يكفيها ، لكنها بحثت عن عمل فوجدته في ورشة صغيرة للعب الأطفال ، و هناك ساقت لها الأقدار فتاة يهودية تُدعى سارة بيراد شاركتها العمل والسكن وكذلك الشذوذ ، فالتصقت بها أمينة و أصبحت لا تفارقها ، كما اندمجت معها في تيار الهيبيز الذي انتشر في أوروبا ، و قد تجاهلت رغبة أسرتها في تزويجها من أبن عمها التاجر الثري.
في أحد الأيام زارت أمينة صديقتها سارة في منزلهم في وستندورف ، و هناك تعرفت على أخ سارة موشيه ، كان شقيق سارة الأكبر وسيماً ذو نظرة ساحرة و كان طياراً عسكرياً برتبة نقيب ، كان يكبرها بسبع سنوات ، محباً للموسيقى الكلاسيكية و بالشرق و حسناواته أيضا ، افتتنت أمينة بموشيه و أحبته وسلمت نفسها له ، و خلال خمس سنوات من العلاقة ساعدها موشيه من خلال علاقاته في الحصول على شهادة دكتوراه مزورة في علم النفس المرضي ،
ثم عادت عام 1966 م ليستقبلها أهلها بحفاوة و طالبوها بالموافقة على الزواج من أبن عمها ، لكنها طلبت مهلة حتى تفتتح مشفاها الخاص في عمان ، و فعلاً بدأت في الإجراءات ، لكن السلطات الصحية في عمان شككت في صحة شهادة أمينة و طلبوا منها تقديم تصديقات جديدة من جامعة فيينا حتى يمنحوها التصريحات اللازمة ، وخوفاً من يكتشف أمرها عادت إلى فيينا وقلبها يملئه الخوف والكره لبلدها.
 |
وقعت أمينة في حب موشيه الطيار الاسرائيلي |
بداية تورط أمينة مع المخابرات الاسرائيلية :
في فيينا عادت إلى موشيه وهي غير مكترثة لهزيمة بلدها عام 1967 م بل شمتت في بلدها و كل العرب بدون حرج أو خجل ، في ديسمبر من نفس العام عرض عليها موشيه الزواج فوافقت بحماس ، و لكنه اشترط عليها أن يتم الزواج في المعبد اليهودي وفق الطقوس اليهودية ، فوافقت واعتنقت اليهودية و تم زواجها من موشيه في معبد شيمودت و غيرت أسمها إلى آني موشيه براد ، و أقامت مع زوجها في فيينا ، لكنها عاشت في خوف من انكشاف أمرها و وصول أخبارها لأهلها أو إلى المخابرات العربية التي كانت تحاول حماية الشباب العربي من الوقوع في مستنقع الصهيونية.
ظلت أمينة تعيش الخوف في فيينا خاصةً من عائلتها التي تبحث عنها ، و في عام 1972 قرأت أمينة إعلان في احدى الصحف تطلب فيه إسرائيل متطوعين من يهود أوروبا للالتحاق بجيش الدفاع مقابل مرتبات و مزايا مغرية ، فرأت أنه الحل الأمثل لمعاناتها و خوفها الدائم ، ففي إسرائيل تكون بأمان و لن تصل اليها أسرتها ، فكان عليها أن تقنع موشيه بفكرة الهجرة ، و رغم معارضته في البداية بسبب حالة الحرب التي تهدد إسرائيل لكنه وافق بعد الحاحها المتكرر ، و قدم موشيه أوراقه للسفارة الإسرائيلية ، و في نوفمبر عام 1972م طارت أمينة مع زوجها إلى إسرائيل.
 |
بدأ جهاز الموساد في استقطاب امينة للعمل لصالح اسرائيل |
حظيت أمينة باستقبال رائع في المطار ، و بعد أيام قليلة استدعيت إلى احدى الجهات الأمنية حيث تم سؤالها مئات الأسئلة عن نشأتها في الأردن و عن عائلتها و وظائف أقاربها و كيفية تعرفها على موشيه و زواجها منه ؟ فأجابت بسرد طويل ، كما سُئلت عن ماذا تمثله لها إسرائيل وعن مشاعرها تجاه الأردن و فلسطين ؟ فتحدثت أنها تكره العرب و لا تعترف بالقضية الفلسطينية .
أثنت الجهات الأمنية الإسرائيلية على أمينة و أُعيدت إلى منزلها و وعدوها بتوفير عمل مناسب لها ، أما موشيه فقد تقلد رتبة رائد طيار في سلاح الجو الصهيوني ، و في عام 1973 م طار بطائرته (سكاي هوك ) باتجاه الجبهة السورية ، فأسقطت طائرته من قبل المدفعية السورية في أول جولة استطلاعية له و أُعتبر مفقوداً لأن سوريا لم تعلن عن أسره بل أعلنت أن الطائرة انفجرت في الجو وهو بداخلها.
 |
تم اسقاط طائرة موشيه بنيران المدفعية السورية |
لم تصدق أمينة الخبر و زاد كرهها للعرب و تمنت لو تنتقم لزوجها فقد صارت وحيدة بين أناس لا تعرفهم و لا تعرف لغتهم و لا عاداتهم ، وحاولت أن تنسى أنها من دفعت نفسها للهاوية واختارت الهجرة إلى إسرائيل ، و بعد شهر ونصف على الحادثة تكلمت وقالت : أنها تشك في البيان السوري و أن موشيه ما زال حياً متخفياً ، و طلبت من السلطات الإسرائيلية الأذن بالسفر إلى بيروت و دمشق لتقصي أخبار زوجها.
طارت أمينة بجواز سفرها الإسرائيلي إلى فيينا و ألتقت بأسرة موشيه و بقيت عندهم عدة أيام ثم سافرت إلى بيروت بجواز سفرها الأردني ، و في أحد الفنادق بشارع الحمراء التقت بسيدة لبنانية أردنية الأصل تُدعى خديجة زهران ، تملك محلاً لبيع الملابس الجاهزة ، فاشترت منها ملابس بمبلغ كبير للتقرب منها ، و دلتها خديجة على شقة صغيرة بحي عين الرمانة و منه بدأت أمينة البحث عن زوجها وجمع الأخبار من الفلسطينيين الذين يقيمون بكثرة في ذلك الحي ، و بعد عدة رحلات بين بيروت و دمشق فشلت أمينة في الوصول إلى زوجها و تأكدت أن زوجها قُتل ، فغادرت إلى فيينا حزينة .
رحلة الأنتقام و الغوص في عالم الجاسوسية :
في شقتها في فيينا ايقظها اتصال هاتفي من تل أبيب و في اليوم التالي استقبلت 3 ضباط صهاينة مهمتهم إنهاء إجراءات الإرث الخاص بها دون مشاكل مع أسرة زوجها أو الجهات الرسمية النمساوية أو الصهيونية ، كان ميراثها نصف مليون دولار مع شقة فيينا و ضمانات حماية و أمن فوق العادة.
 |
التقت أمينة بضباط من المخابرات الاسرائلية لتجنيدها |
كان المطلوب منها التعاون معهم لقاء كل ذلك و تنفيذ ما يُطلب منها ، فهي كنز بالنسبة لهم ، فهي عربية فقدت وطنها و أهلها وتعيش وحيدة و خائفة و لا مأوى لها سوى إسرائيل ، فلا بد من استغلالها و هي في قمة الوحدة والخوف والانهيار ، لم يكن من الصعب إخضاع أمينة فهي بلا وطن ولا أهل وتكره العرب جميعاً خاصةً بعد مقتل زوجها ، فأقام لها الضباط دورات تدريبية في فيينا لمدة شهر ، تعلمت أساليب التجسس والتصوير و التشفير والتقاط الأخبار و كيفية الالتزام والتمييز بين الأسلحة وتحميض الأفلام و الهرب من المراقبة ، استخدام الأسلحة ، تقوية الذاكرة و تخزين المعلومات والأرقام ، و قد ساعدها ذكاءها وحقدها على التعلم بسرعة من أجل الانتقام لزوجها.
 |
تعلمت أمينة كل أساليب الجاسوسية و حصلت على معدات متطورة |
غادرت أمينة فيينا إلى بيروت و كانت مهمتها تقصي أخبار رجال المنظمات الفلسطينية و رجال المقاومة والتحري عن مراكز إقامة المقاومة و الطرق التي يسلكها المقاتلون ، فاستأجرت شقة في بيروت في احدى بنايات حي الروشة ، و هو أحد أجمل مناطق بيروت ، و سرعان ما تعرفت على مانويل عساف ، موظف الاتصالات الذي وجدت فيه صيداً سهلاً للوصول إلى أرقام هواتف وعناوين القادة الفلسطينيين ، و منحته جسدها في المقابل ، وعن طريقه تعرفت على رئيسه في العمل مارون الحايك الذي كان يسعى خلف نزواته ومنحته جسدها أيضاً ، و في غمرة نشوته أجاب عن كل أسئلتها و اطلعها على أرقام الهواتف السرية للمنظمات الفلسطينية و زعماء الجبهات وعناوين أقامتهم بحي الريحانة الشهير.
 |
سافرت أمينة الى بيروت لتبدأ في مهمتها الجاسوسية |
أرسلت امينة المعلومات لرؤسائها عبر عملاء لهم في بيروت لتأتيها الأوامر بالتحرك في منتصف عام 1973 م و طُلب منها الحصول على القوائم الأسماء السرية لرجال المخابرات الفلسطينية في أوروبا ، و لن يُتاح لها ذلك إلا من خلال مكتب عرفات شخصياً أو مكتب رئيس المخابرات علي حسن سلامة المُطارد في كل أنحاء العالم ، و هو مخطط عملية ميونخ التي قُتل فيها 11 رياضياً إسرائيلياً ، كان حسن سلامة أحد مساعدي عرفات و المختص بحراسته ، ثم أوكل له عرفات رئاسة الأمن و المخابرات التابعة لمنظمة فتح و قوات الحرس الداخلي ، و لأن المخابرات الصهيونية كانت تجهل صورته فقد فشلت في اقتفاء أثره و اغتياله ، و كان المطلوب من أمينة الوصول إلى مخبئه والحصول على قوائم أسماء قيادات و عملاء المخابرات الفلسطينية في أوروبا بهدف تفكيكها و عزلها.
 |
رئيس المخابرات الفلسطيني علي حسن سلامة |
كانت هذه مهمة أمينة في بيروت ، و بعد عدة لقاءات حميمة مع مارون الحايك لم تجد لديه المعلومات التي توصلها لهدفها ، ففكرت في مغادرة بيروت إلى تل أبيب ، لكنها وجدت خطة بديلة و انتقلت إلى شقة أخرى بكورنيش المزرعة ، و هي منطقة شعبية يرتادها قاطنو المخيمات الفلسطينية في بيروت ، وهناك تعرفت على ممرضة فلسطينية تُدعى شميسة ، تعمل بعيادة صامد بمخيم صبرا ، فقدمتها إلى مدير العيادة الذي أوضح لها أن الكثير من الأطباء من حول العالم يشاركون في علاج الفلسطينيين كمتطوعين ، فعرضت خدماتها و اطلعته على شهادتها المزورة ، فطلب منها الانتظار حتى يخبر رؤسائه .
كان ياسر عرفات يقابل المتطوعين في شتى المؤسسات الفلسطينية و يستعرض معهم المخيمات الفلسطينية و ملاجئ الأيتام و مؤسسات الهلال الأحمر ، و من هنا وجدت أمينة فرصة ذهبية للاحتكاك بالفلسطينيين والتجسس عليهم على أوسع نطاق.
في مساء 22 يوليو 1973 م دق جرس الهاتف بشقة أمينة ، كان مارون الحايك على الخط و أخبر أمينة بوجود حسن سلامة في فندق الكورال بيتش ، فذهبت أمينة إلى هناك و جلست قرب حمام السباحة حيث كان حسن سلامة يسبح ، و راحت تراقبه بحذر ، حتى رسمت في صورته في خيالها ، و داومت على زيارة الكورال بيتش لمدة أسبوعين فاعتاد على رؤيتها ، حتى دفعته للتعرف عليها في سبتمبر 1973م .
 |
استطاعت أمينة التعرف على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات و كسبت ثقته |
بواسطة معرفتها لحسن سلامة أصبحت أمينة محل ثقة الفلسطينيين و علاقاتها بالقادة طالت حتى ياسر عرفات ، و انخرطت في صفوف المقاومة لتضمد الجروح ، و كانت تزور مخيمات اللاجئين في الجنوب تصحبها مجموعة من الأطباء المتطوعين كتذكرة أمان لدخول كل الأماكن المحظورة.
كانت أمينة تلتقط بعيونها كل الصور و تحفظها في عقلها و تسمع كل شيء وتسجله ، و حفظت مئات الأسماء و رسمت خرائط في عقلها بدقة مستغلة ثقة الفلسطينيين بها ، وهكذا عملت أمينة دون أن يتفطن لها أحد أو يُكشف أمرها ، و قد زارت عرفات في مكتبه ثلاث مرات لتطلعه على النواقص في الجنوب اللبناني ، و أهتم عرفات بكلامها و أصبحت مقربة منه و مكتبه مفتوح لها دائماً.
 |
استطاعت أمينة جمع معلومات سرية عن المقاومة الفلسطينية |
بعد معايشتها للخطر الدائم أدركت أمينة أنها بحاجة إلى تدريب أكثر فعادت إلى فيينا ثم إلى إسرائيل و طلبت تعلم المزيد ، لكنها فوجئت بقرار إنهاء عملها في الموساد ، كان تقرير الموساد أن أمينة قد اُستهلكت نفسيا لكثرة عملها الخطر وقد تُكتشف ، لكنها رفضت القرار بشدة و قالت : أنها مستعدة لتنفيذ عملية انتحارية في مكتب عرفات ، فأسرع الضابط إلى رؤسائه يخبرهم برفض أمينة أنهاء عملها و وجوب إيجاد حل لها ، رأى فريق من الخبراء أن أمينة ربما تشعر بالزهو في عملها فتتخلى عن حذرها و تنكشف ، لكن رأى الأغلبية أنها جديرة بالعمل في بيروت ، و مع حصولها على تدريب أكثر ستكون أشد حذراً ، وتمت الموافقة على عودتها إلى لبنان من قبل رئيس الموساد ريفي رامير.
أخذها الضباط الصهاينة إلى المبنى المركزي حيث جلس أحد أمهر الرسامين ، و من خلال وصفها لحسن سلامة استطاع أن يرسم صورة تقريبية له ، و تعهد بها اثنان من الضباط أحدهما تولى تدريبها على استعمال أحدث ما ابتكره العلم في أجهزة اللاسلكي ، و تقرر لها أن تبث رسائلها مرتين أسبوعياً يومي الخميس والاثنين ، و تلقي الرسائل من تل أبيب كل ثلاثاء في الحادية عشر و دقيقتين مساءً.
سافرت أمينة من تل أبيب إلى فيينا و من ثم إلى بيروت ، و بدأت في إرسال الرسائل بالبث اللاسلكي إلى تل أبيب و التي استقبلت الرسائل بفرح واطمئنان فهي واضحة بلا أخطاء و تحتوي معلومات مهمة ، و بينما بدأت أمينة العمل حتى بدأت الحرب و عبر المصريون خط بارليف و عمت الفرحة كل الدول العربية و كذلك بيروت ، فانهارت أمينة من الصدمة ، ظلت أمينة في بيروت كطبيبة عربية تجوب لبنان وتتجسس للموساد ،
 |
شعرت أمينة بالصدمة عندما عبر الجيش المصري خط بارليف |
و زاد استبسال المقاومة الفلسطينية بعد انتصار الجيوش العربية و عاد حسن سلامة إلى اوروبا لترتيب خطط جديدة ، أما أمينة فقد غادرت بيروت متجهة إلى صور ومعها جهاز اللاسلكي حيث عملت على إرسال رسائلها يومياً ، و اندفعت أمينة بجرأة أكثر إلى العمل حاملةً جهاز اللاسلكي بحقيبتها في تجوالها بالجنوب اللبناني طوال معركة أكتوبر 1973 م متنقلة بين المستشفيات الميدانية والمواقع العسكرية ،
و تقول أمينة في مذكراتها التي بلغت 600 صفحة : حملت جهازي و جبت مناطق الجنوب ، كنت أتوقف و أكتب رسالتي على ورقة ثم ارسل الرسالة عن طريق الجهاز ، ثم أحرق الرسالة ، ثم انتقل إلى مكان أخر ، لقد كنت انتقل بأمان بفضل تصريح المرور الذي وقعه عرفات شخصياً ، و كنت اطلع على مختلف أنواع الأسلحة و كمية الذخائر و معسكرات التدريب السرية ، لقد حالفني الحظ و وثق بي القادة الفلسطينيين.
 |
كانت أمينة تتجول بين المواقع و معها جهاز اللاسلكي بدون خوف |
انتهت حرب أكتوبر بوقف اطلاق النار ، لكن الفلسطينيين واصلوا النضال ، و توالت العمليات القتالية على الصهاينة و كثرت الضغوط و الأوامر على أمينة ، فاضطرت إلى الانتقال إلى الجنوب اللبناني و استأجرت شقة بمنطقة الشجرة في صور على مسافة 20 كلم من الحدود الفلسطينية .
تزايد الشكوك حول أمينة المفتي :
اتخذت أمينة من شقتها مركزاً لاستكشاف تحركات الفلسطينيين و اتصلت بضابط فلسطيني أسمه أبو ناصر و حاولت الحصول منه على معلومات ، لكن الضابط المحنك استطاع أن يظللها و ساد التوتر في الموساد ، فمنذ صدور الأوامر لأمينة باستدراج أبو ناصر كانت رسائلها تصل مشوهة ، كأن الضابط الفلسطيني يتعمد ذلك و أن أمينة وقعت تحت دائرة الشك أو انكشفت فعلاً.
بعد أن أصبحت الرسائل التي ترسلها أمينة إلى تل أبيب تصل مشوهة و غير واضحة و خوف الصهاينة من انكشاف أمرها ، صدرت الأوامر لها بالتوقف عن العمل و مغادرة صور إلى مدينة بيروت ، لكن أمينة لم تستجب للأوامر بالتوقف عن العمل بل ظلت تعمل تحت الخطر و قررت تجنيد مارون الحايك و تجبره على تسجيل مكالمات سرية بين القادة الفلسطينيين عن طريق الغرفة السرية في السنترال المركزي ، وعن طريق التهديد نجحت أمينة في تجنيد مارون الحايك ، و قد كان لتجنيده فائدة كبيرة لإسرائيل فالتجسس على مكالمات القادة الفلسطينيين و كشف مخططاتهم .
 |
قامت أمينة بتجنيد العديد من الجواسيس لمساعدتها في عملها |
انشغلت أمينة بشكل كبير في التجسس و ساعدها مارون الحايك و مانويل كذلك في التنصت على هواتف القيادات الفلسطينية ، كما تمكنت أمينة من تجنيد خديجة زهران التي كانت قد التقتها سابقاً والتي تطلقت مرتين و سقطت في شبكة أمينة في لحظة ضعف.
عندما طلبت أمينة الأذن بمغادرة بيروت إلى تل أبيب ، طُلب منها أن تجد حلاً لدخول شقة علي سلامة و محاولة الحصول على القوائم السرية لرجال مخابراته في أوروبا ، و على ذلك انتهزت أمينة فرصة التقائها بحسن سلامة في فندق الكورال بيتش كالمعتاد و سألته في خطأ فادح و بتسرع غير معهود منها عن أولاده ؟ فاندهش حسن و الذي لم يحدثها سابقاً عن أولاده و عائلته أبداً ! وب حاسه الأمني شك فيها و قرر البحث في ماضيها ، و طلب من رجاله في عمان البحث عن معلومات عن الطبيبة أمينة المفتي ، فكان الرد بالفعل أنها طبيبة أردنية درست في النمسا وغادرت بلادها بعد مشاحنات مع أهلها ، فاطمأن لتحريات رجاله و جدد الثقة بها.
كشف حقيقة أمينة المفتي و اعتقالها :
لكن بلاغ سري جاء من أوروبا وصل إلى مكتب المخابرات الفلسطينية يفيد أن شاباً فلسطينياً في فرانكفورت بالمانيا صرح لأحد المصادر السرية بأنه تقابل مع أحد الفلسطينيين في فيينا ، و بعد لقاءات في حانات و ملاهي أخبره بأن له صديقة نمساوية يهودية ماتت بجرعة زائدة من المخدرات و كان لها أخ تزوج من فتاة عربية مسلمة وهربت معه إلى إسرائيل خوفاً من المخابرات العربية ، و أن الفتاة درست الطب و انتقلت إلى لبنان بعد سقوط طائرة زوجها و فقدانه .
كان البلاغ يحمل نبرة الشك ، فطُلب سلامة إعادة استجواب الشاب في فرانكفورت بسرعة كبيرة ، كما طلب حصر كل الطبيبات العربيات المتطوعات في فلسطين ولبنان ، كانت القائمة أمام حسن سلامة بعد ثلاثة أيام تضم 37 طبيبة 4 منهن درسن في النمسا ، و كانت أمينة من بينهن ، أمر حسن بوضع الطبيبات تحت المراقبة الصارمة طوال 24 ساعة.
أحست أمينة بالخطر فأبرقت إلى تل أبيب ، فأمروها بالهرب والتخلص من اللاسلكي ، لكن المخابرات الفلسطينية كانت أسرع وألقت القبض عليها ، تم تفتيش شقتها بدقة من قبل فريق خاص لكنه فشل في العثور على أدلة ، فقد قامت أمينة بإخفائها كلها ، قبعت أمينة في زنزانتها بباطن الأرض ، بينما كانت المخابرات الفلسطينية تواصل البحث و التأكد من حقيقة الفتاة العربية التي أُبلغ عنها، و بواسطة خطاب مزور أصدرته السفارة الأردنية في فيينا لإدارة مكاتب الزواج من أجانب تمكنت المخابرات الفلسطينية من الوصول إلى شقة أمينة في فيينا و انكشفت حقيقة أمينة و زواجها المُحرّم و خيانتها ، فقد عثروا في الشقة على مذكرات أمينة و فيها تفاصيل عملها في بيروت ، بعد انكشاف أمينة و مخططاتها أقترح حسن سلامة خطة جديدة لكي تعترف أمينة بكل المعلومات التي تملكها ،
 |
تمكنت المخابرات الفلسطينية من أعتقال أمينة المفتي |
والخطة هي أن يتم خداعها و إيهامها بأن زوجها موشيه كان أسيراً عند السوريين و قد أًطلق سراحه منذ أيام ضمن فريق أسرى في عملية تبادل نُشرت في الصحف ، كان الغرض من هذه الخطة هو تحسيس الجاسوسة أمينة بالذنب لتحس بالندم على ما ارتكبته فتعترف بلا إكراه أو تعذيب ، فسربوا اليها احدى الصحف و قد تصدرت في صفحتها الأولى صورة لزوجها الأسير وسط زملائه قبل مغادرته الأسر في سوريا إلى فلسطين برفقة الصليب الأحمر ، و طبعاً هذه النسخة من الجريدة كانت نسخة واحدة فقط ، فهي صُنعت من أجل إيهام و تضليل أمينة فقط.
صُدمت أمينة ولم تستوعب الأمر ، فزوجها الذي بحثت عنه طويلاً ما زال حياً يُرزق ، و في 8 سبتمبر1975 م و بعد تسعة أيام من اعتقالها اقتيدت إلى مكتب أبو داوود حيث تم استجوابها ، كان أبو داوود ضابطاً فلسطينياً أتبع طريقة المهادنة في الاستجواب ليشعر المجرم بالذنب فيعترف بسرعة ، لكن أمينة المدربة على أساليب الاستجواب استطاعت مواجهة كل الأسئلة ، واجها أبو داوود بمذكراتها فأنكرت و قالت : أنها مريضة بالوهم و أحلام اليقظة و تخيلت أنها مثل الجاسوسة ماتا هاري ، و كذا رغبتها في الانتقام من العرب لأنهم قتلوا زوجها و كذلك شعورها بالغربة والوحدة ، و لأن أسلوب المهادنة لم ينفع فقد لجأ أبو داوود إلى العنف معها ، لكنها خططت وعرفت أن الأدلة هشة وغير كافية لإدانتها ، كما أنه لم يتم القبض على أي فرد من شبكتها ، بعدها حدثت المفاجئة فقد تدخلت السلطات اللبنانية وأجبرت الفلسطينيين على الإفراج عنها للتحقيق معها ، خرجت أمينة منتصرة و تسلمتها السلطات اللبنانية وتم تبرئتها ، و خيّرتها بين البقاء في بيروت وبين المغادرة ، ففضلت المغادرة إلى فيينا ،
 |
قرر رجال المخابرات استخدام العنف في التحقيق مع أمينة |
قبل سفرها نجح أبو اياد في التدخل لدى وزير الداخلية اللبناني وأعاد أمينة للجانب الفلسطيني للتحقيق معها لثلاثة أيام ، قبل نهاية الأيام الثلاثة نجح رجال حركة فتح بخطة إقناعها بأن زوجها موشيه كان عميلاً للموساد مكلفاً باستدراجها لليهودية وتجنيدها ، فانهارت واعترفت بكل شيء ، تم القبض على مارون الحايك و خديجة زهران ، و أًدين مارون ب3سنوات و خديجة بعام واحد سجناً ، و سلما إلى لبنان ، أما أمينة فقد امتنع الفلسطينيون عن تسليمها إلى لبنان و لم يستجيبوا لضغوطات وزير الداخلية اللبناني لمحاكمتها ، بل تركوها في كهف السعرانة الذي تم التحقيق معها بداخله مقيدة يقتلها الخوف والرعب.
كانت صدمة الموساد كبيرة بخبر القاء القبض على أمينة و بدأ التخطيط لاستعادتها ، فقد كانت استراتيجية الموساد هي العمل على استعادة العملاء لرفع معنويات العملاء الآخرين.
كان رأي عرفات أن يتم مبادلتها ببعض الشخصيات المسجونة عن الصهاينة ، لكن حسن سلامة رأى بسرعة إعدامها لإرعاب عملاء العدو و كشفهم ، في سجنها قبعت أمينة لكنها لم تستسلم و فضلت المواجهة للنهاية ، فعملت على استدراج أحد حراسها بالسجن وأقنعته بأنها بريئة .
بعد عدة أشهر كان الحارس غسان الغزاوي قد تقارب جداً مع أمينة ما دفعه للتفكير في إنقاذها ، و طبعا هي كانت تنوي النجاة بنفسها و تركه على الحدود لمصيره مع الفلسطينيين ، قام غسان بإخبار أحد أصدقائه عن علاقته بأمينة و رغبته في مساعدتها ، فقام صديقه بالإبلاغ عنه فوراً و تمت مراقبته و ضبطه وهو يحاول إدخال بزة عسكرية إلى كهف أمينة ، فألقي القبض عليه و أُعدم بالرصاص في أكتوبر 1976 م ، و تم تشديد القيود على أمينة و تقليل الطعام والشراب المقدم لها ، فهزل جسمها و أصابها الوهن و تقيحت جروحها
 |
تم الافراج عن أمينة في صفقة لتبادل الأسرى |
الجاسوسة حرة طليقة :
في فبراير 1980م تم نقل أمينة إلى قبرص و تم مبادلتها مع اثنين من أسرى المقاومة ، وعند وصولها إلى تل أبيب و اكتشافها أنها خُدعت و أن زوجها لا زال مفقوداً ، انهارت وأًخضعت للعلاج النفسي ، انتهت مسؤولية الموساد تجاه أمينة بعد استجوابها و منحها 60 الف شيكل مكافأة ، و أمنوا لها الحماية و سبل العيش ، و تم تغيير مكان إقامتها في ريشون لتسيون إلى مستوطنة كريات يام شمال حيفا ، و مُنحت منزل بشارع هابحيفيم هرتسليا يمكنها من رؤية البحر ، و قبعت في منزلها وحيدة تجتر الذكريات ، و حاولت الاتصال بأختها في إيطاليا كما جاء في بداية المقال ، لكن أختها أنكرتها مثل كل العائلة ، عانت أمينة بعدها من الاضطراب والوحدة و لم تشعر بالطمأنينة أبداً.
 |
أخر ظهور لأمينة المفتي في لقاء صحفي |
عام 1982م افتتحت عيادة خاصة في المستوطنة، و في عام 1984م نشرت مجلة بمحانية العسكرية الصهيونية خبراً صغيرا يقول : أن وزير الدفاع اصدر قراراً بصرف معاش دائم لأمينة ، كما تصدرت لوحة الشرف بمدخل مبنى الموساد ، و هي لوحة لأمهر عملاء الموساد.
النهاية الغامضة للجاسوسة أمينة المفتي :
أما عن نهايتها فهناك عدة روايات ، أولها أنها حصلت على وثيقة سفر أمريكية باسم جديد وتعيش بتكساس حيث تملك مزرعة واسعة و تزوجت من بحار أسباني و لم تنجب ، أما الرواية الثانية فتقول أنها أجرت تعديل لوجهها بمعرفة الموساد وتعيش بجنوب أفريقيا منذ 1985م باسم مزيف و تعمل في الاستيراد والتصدير ، و أنجبت ولداً من ضابط روماني اسمته موشيه ، و الرواية الثالثة ، تقول أنها انتحرت بحقنة داخل حجرتها بقسم الأمراض العصبية بمستشفى تل هاشومير ، و هو أكبر مشفى للصهاينة.
في رأيي أنا أنها انتحرت ، فمع مرور الوقت وتقدم الأنسان في العمر يتمنى رفقة العائلة و الأولاد والوطن ، لكنها عانت من الوحدة والاضطراب والتشتت ، فلا زوج ولا وطن ولا أولاد ، و طبعاً هذه أحسن نهاية لمن باعت شرفها و وطنها من أجل حرية مزيفة و حب مُحرّم ، و من أجل أن تنتقم خانت وطن و أمة كاملة .
و أنت عزيزي القاري ما رأيك في قصة هذه الجاسوسة ؟.
المصادر : كتاب اخطر الجاسوسات في التاريخ
مواقع أنترنت