أدب الرعب والعام
الحافة
للتواصل : [email protected]
![]() |
كانت بارعة بحق فألحانها إن لم تتطابق مع الأصل كانت تحوي لمسة أنثوية حانية |
العيش في الحرمان لبعض الناس يجعلهم يعتادون عادات سيئة ، و مهما حاولوا التخلص منها تلتصق بهم حتى تكون جزءاً من كيانهم ، أن تحمل هم اليوم و الغد هذا أمر في غاية الصعوبة .
أن تكدّ من أجل لقمة عيشك بقدر ما يسد رمقك إنها حياة متقشفة بحق ، في فقر مدقع نشأت آنا ؛ في شارع كوهين الشعبي ، حي فقير عمره خمسون عاماً من الفقر ، و أحلامها كانت أكبر من أن تستمر بالعيش في ذلك المنزل المعدم .
تحدث والدها بهدوء و هو يقرأ صحيفة :
– آنا تعالي .
و لكن آن الصغيرة كانت تحدث نفسها و تلعب فلم تسمعه و عندما لم يأتيه رد منها ، استشاط الوالد البدين و زمجر :
– آنا غيبسون فلتأتي إلى هنا فوراً قبل أن أصلك .
عندما سمعت صياحه نهضت من فورها ، و ارتدت ثوبها الزهري سريعاً ، استندت على حافة السرير و قد تملك الخوف من أطرافها الصغيرة ، اقتربت من الباب تختلس النظر إلى الخارج و همست ” يبدو غاضباً “.
ثم تسللت على أصابع قدميها العاريتين و هي تطالع الممر الذي يؤدي إلى غرفة المعيشة ، الهدوء القاتل زاد من تسارع أنفاسها و ضربات قلبها ، ها هو ذا عملاق الجزيرة بانتظارك هناك ، كيف ستتغلبين عليه ؟ تمتمت ” سأغمض عيناي و سيكون قد تقلص حجمه أو اختفى ” .
هذه ليست إحدى قصصك المصورة يا آن ، إنه شارع كوهين ، حيث لن يكترث أحد لصراخك ، إنه الجحيم يا آنا ؛ فلتستيقظي حالاً ، العملاق هناك بانتظارك فلتذهبي و لتواجهي مصيرك .
ثم تأتي بخفة و تقف أمام والدها و هي عاقدة ليديها كمذنب ينتظر صدور الحكم ، و ينظر لها سيد غيبسون ملياً ، بينما هي تجاهد لتسيطر على أنفاسها و تحافظ على رباطة جأشها و يردد سيد غيبسون :
– من أنا ؟.
تستبق شفتيها الكلام و تجيب دون صوت ” بابا “.
– هل تعلمين أن هذا البابا يمكن أن يعرضك للتبني و في المقابل يحصل على أموال ؟.
ترمش بتتابع ثم ترد :
– أعلم .
ينهض غيبسون من مقعده فيزداد طوله حتى يكاد يلامس السقف هكذا خُيّل لآن فتتراجع و تستند على المنضدة ، و يتحدث بهدوء :
– الأباء الذين يتبنون أبناءً يعاملونهم بسوء ؛ تعلمين ذلك ، و لابد أنك رأيت كيف يعيش المسكين جون؟.
تتسع حدقتيها البنيتين و هي تتذكر جون بوضوح ، كيف لا و والدها يجبرها على النظر إليه كل ما مرا بالشارع ، تخلت عنه عائلته البديلة ؛ ينام المسكين على الطرقات و يلتحف الخرق لتقيه ثلوج يناير ، و يأكل من قمامة الفقراء ، أو قمامة شارع كوهين .
تجيبه و قد اغرورقت عينيها :
– دعني أبقى معك و لا ترسلني إلى الشارع .
يجيبها بصوت محايد :
– لن أرسلك للشارع إذا أخبرتني لما سرقت قلم صديقتك ؟.
– ليست صديقتي .
بعد هذه الإجابة يصبح السيد غيبسون غاضباً لأنها حادت عن الطريق و لم تجب على السؤال ؛ فيمسك بيدها الصغيرة و يتجه إلى الكرسي المتهالك ، حيث تتم محكمة السارقين ، و بعد أن يتخذ وضعية مريحة لجسده الضخم يتحدث :
– و ما شأني أنا إذا كانت صديقتك أم لا ؟ ما يهم هو لما سرقت بحق الرب ؟.
تضُمُ شفتيها الغضتين محاولة حبس دموعها و لكن عينيها تخونها ، و تظهر الوجنة التي أسفل ذقنها بوضوح لغيبسون ، فتتدارك ما سقط من دمع بكفها الصغيرة و تجيبه :
– لقد ضاع قلمي .
– أوتعلمين أمراً ، أنتِ سارقة كاذبة ؛ و ماذا نفعل بالسارق ؟.
فاضت دموعها كنهر لذلك خرج صوتها متقطعاً :
– نضربه … لكي يتأدب و لا …. لا يكرر ذلك مرة أخرى .
يشير لها :
– إذاً إذهبي و أجلبي ذلك السوط أيتها السارقة .
تذهب و تجلبه له ، أحياناً يسامحها و في كثير من الأحيان تُسمع صرخات لطفلة تتردد في شارع كوهين و لكن لا أحد يهتم ، بعد انتهاء جلسة التأديب تذهب آن لغرفتها و تنام تحت سريرها و هي تردد بصوت خفيض ” عاجلاً أو آجل سيُهزم العملاق ، في الغد سننتصر يا آن ” و تغط في نوم عميق .
تستيقظ بعد عدة ساعات على صوت أبيها و هو يخبط الباب :
– تعالي و ساعديني في إعداد الطعام ، أنت لست في فندق باراديس !.
تنتظر حتى سماع خطواته و هي تتلاشى في الممر حينها تخرج من تحت السرير ، لتواجه الواقع ، واقع أنها لا تستطيع أن تسيطر على رغبتها بامتلاك كل ما يعجبها ، كانت تنتابها نشوة بسرقة الغير ، ما كان لك إنه الآن لي و ما حرمت منه أستطيع الحصول عليه بكل سهولة .
* * *
ارتدت آنا سروالها الجينز الباهت مع سترة بنية توافق شعرها و وضعت أحمر شفاه قرمزي على شفتيها النضرتين ، تناولت حقيبة الكمان و ارتدتها على ظهرها ثم خرجت إلى شارع كوهين ، رنّ هاتفها و بالكاد سمعته مع صياح الباعة و أصوات أبواق السيارات فأتاها صوت هادئ خشن لشاب :
– آنسة آنا ، أنا أيهَم ، تحصلت على رقم هاتفك من موقع المواهب .
أجابته و هي تعبر الطريق :
– أهلاً يا سيد ، العزف لساعة مقابل خمسون دولار.
اندهش الشاب من سرعتها في الإجابة و ردِّ بغرور ملحوظ و فاتن :
– لا مشكلة في ذلك يا آنا غيبسون ، أيمكنك المجيء إليّ بعد ساعتين ؟.
أجابته بامتعاض و ودّت في نفسها لو رفعت السعر:
– أرسل لي العنوان ؟.
* * *
بعد ساعتين أنزلتها سيارة الأجرة أمام مبنى جيد في حي راق ، تأملته لبضعة ثوان بنشوة و حسد كان كفيل بإرجاعها لشارع كوهين المقيت ، طردت الفكرة من رأسها و قرعت الجرس لمرات متتالية .
بعد برهة ظهر من خلف الباب شاب نحيف متوسط الطول ، ابتسم لها بلطف و مد يده :
– آنسة آنا ، مرحباً بك .
عندما ألتقت يديهما شُيد جسر خفي و سرت برودة من خلاله ، قرأت آنا شيئاً خلف حدقتي أدهم ، الدهشة هي ما رأته أو ربما تكون حيرة ! ردت عليه بابتسامة طفولية بلهاء شابها بعض من الحذر و التوجس و فسح لها المجال لتدخل ، منزله أنيق و مرتب بعناية فائقة ، تقدمت بتؤدة و هي تطالع ما حولها ، و بعد أن أشار لها بالجلوس ، اختارت كرسي وحيد في الزاوية كان مكملاً لطقم الجلوس النابض بالألوان ، و جلس هو على يمينها ، ثم أضاء وجهه بابتسامة و تكلم بصوت جذاب هادئ كأنه قدِم من المحيط :
– يمكنك البدء فوراً إن لم يكن هناك مانع .
أومأت إليه ، ثم أمسكت بالكمان و وضعته على جانب عنقها الأيسر ، رفعت عينيها إليه فسرت كهرباء في جسدها مجدداً عندما ألتقت نظراتهما و تسارعت أنفاسها ، سرعان ما أشاحت بوجهها إلى الكمان و باغتها بسؤال قبل أن تبدأ :
منذ متى و أنت تعزفين ؟.
أجابته سريعاً و هي تتفحص الأوتار :
– عامين .
– و أين تعلمت العزف ؟.
– ثانوية الملكة إليزابيث للفتيات .
و بدأت بالعزف فوراً لتهرب من مزيد من الأسئلة .
عزفت نوتة لباغانيني ، لم تكن مطابقة لنسختها الأصلية و لكن آنا كانت بارعة بحق ، فألحانها إن لم تتطابق مع الأصل كانت تحوي لمسة أنثوية حانية .
استرخى أيهم في مجلسه و أغمض عينيه و لم يفتحهما مطلقاً و كانت آنا تسترق النظر إليه من حين إلى آخر .
بعد ثمانية جلسات تعلم أيهم الحُب والعزف معاً ، حب قادهم إلى الحافة بهدوء ؛ مع أن آنا كانت تقف عليها بالفعل منذ سنوات .
* * *
– هل أنتِ قلقة من أمر ما ؟.
قال أيهم متسائلاً ، و أجابته آنا و هي تتحسس أوتار الكمان بأناملها الناعمة لتوحي له بأنها غير مبالية به :
– لا .
أراد أيهم إغضابها ؛ لا لشيء سوى أنها أنثى دخيلة ، غريبة أثرت في حياته بشكل خطير خلال مدة وجيزة ، فتُفرج شفتيه عن ابتسامة عذبة تخللتها لغة ساخرة :
– ألحانك في بعض الأحيان تكون درجاتها خفيضة ناعمة و في لحظة ترتفع فجأة كأنك تنوين هزيمة شيء ما ؟!.
يبتسم بخفة ثم يسترسل بصوت عميق لاذع :
– لن تهزمي شيئاً بهذه الطريقة ؛ عليك أن تدخلي أرض المعركة آن ؛ و بعتادك الملموس و ليس بعضاً من الألحان الغير مرئية .
مراوغة سيئة جداً من قبله ، تصعق آنا فتتوتر و تهم بالنهوض ، تجمع أشيائها على عجل فترى خيال الصغيرة آن تُعلق بانهزام ” لقد قام بتعريتك “.
و لأول مرة تخونها دموعها أمام غريب فتنهمر كسيل جارف أخذ كل شيء في طريقه ، تحاول إدخال الكمان إلى حقيبته الجلدية و لكنه يأبى و يعلق رأسه ، يشعر أيهم بارتباكها فيعقد جبينه باستغراب ” هل تبكي ؟ “.
إنها تبكي يا صاحب العطر الذي يبلغ ثمنه أربعمائة دولار ؛ أتظنها مثل إبنة عمك الغبية تلك كلما سخرت منها تبتسم لك كالبلهاء ؟ إنها آنا يا أيهم ، آن الصغيرة التي نشأت في شارع كوهين .
تندفع آنا راكضة و في هذه اللحظة يرى أيهم فيض عينيها فيهم للإمساك بها و لكنها تنفلت منه و تتجه إلى الحمام لتوصد بابه عليها بيدين ترتجفان ، ها هي تُهزم و تنكسر لأول مرة خارج جزيرتها ، لا يحق لشخص تجريحها غير سيد غيبسون ، يتقاطر دمعها في دفقات و هي تتمتم ” لا أريد الانتصار لشيء ؛ فقط أريد العيش بسلام” .
تسكت بعد فترة من الزمن ، و تستجمع قواها ثم تخرج من مخبئها لتواجه أيهم ؛ فتجده وافقاً أمام الباب ، يتفحص وجهها الشاحب باهتمام ، تشعر آنا بنظراته تقول ” كم أنت ضعيفة و هشة ! ” و لكنه يتساءل :
– هل أنتِ بخير ؟.
– أنا بأحسن حال .
تتجاوزه و تسير هي أمامه و هو خلفها حتى تصل إلى أشيائها .
” لقد جرح كرامتك “.
يأتيها صوت آن الصغيرة من البعيد حاداً :
” لقد أهانك “.
” أنظري أنا آسف ” يردد أيهم و هو يقترب منها :
– كنت أود مشاكستك فقط ، لقد كنت أخمن ؛ إنها مجرد سخافات تفوهت بها .
استشاطت في وجهه :
– ما أدراك بحياتي ، من أنت حتى تقوم بتحليل سلوكي و تبني عليه ترهات لتلقيها بوجهي ؟.
يقطب أيهم جبينه و يعود لعهده السابق :
– لقد اعتذرت منك ، و لكن إن كان ما قلته حقيقة فلتضعيها في الحسبان إذاً .
– أنت ..
قالتها و هي تقترب منه :
– أنت مغرور أحمق .
يرن هاتفه فيجيب و يغمغم بكلمات غير مفهومة و يغادر إلى الشرفة .
” أكلما ظلمك أحدهم تسكبين الدموع و تتقوقعين حول نفسك ؟ ” قالت آن الصغير و هي تتفحص منزل أيهم بغبطة ” يا لك من ضعيفة و مثيرة للشفقة ! فلتلقني ذلك المتعجرف درساً يا آنا ” .
تراقب آنا حركات أيهم و انفعالاته بينما هو يتحدث عبر الهاتف و يصدر تعليماته لشخص ما ، كانت وقفته معتدلة و صامد كقلعة ، بينما عينيه الزجاجيتان صافيتان و باردتان كجليد ، لكم تكرهه ! ألتفت إليها و هو يشير معتذراً بتهذيب ؛ بادلته بابتسامة صفراء ثم همست تحدث نفسها :
– سيدفع الثمن .
تحركت بخفة في شقته .
إنها تبحث عن شيء ما ؛ لا تدري ما هو ، و لكن عندما تجده ستعرفه ، تختلس النظر إليه فتراه منهمكاً في حديثه عبر الهاتف .
فقررت الدخول إلى غرفته وأغلقت الباب خلفها و بدأت بحثها سريعاً و هي تتمتم :
– سترى المعركة الحقيقية الآن .
لا يوجد شيء مميز في خزانته فقط ثياب و المزيد من الثياب ، أدخلت يديها تحت كومة من الملابس مرتبة بعناية ” لا شيء “.
ثم رأت جزلانه ، فجذبت منه بطاقة حوت صورته و لوت شفتيها بامتعاض :
– أيهم محمد خالد ، مواليد 14- يونيو 1996 .
تصمت لبرهة ثم تواصل سريعاً :
– الجنسية أمريكي ، مكان الميلاد نيويورك ، لأم أمريكية و أب عربي .
و عندما تشعر آنا بأن الوقت بدأ يداهمها و لربما أنهى أيهم مكالمته ؛ تدخل الجزلان بين ثيابها و تغادر ، لتجده بالكاد آتياً من الشرفة و هو يحمل هاتفه :
– أنا حقاً أعتذر ؛ و أتمنى أن تسامحيني .
تناولت حقيبتها و رددت :
– جد شخصاً غيري لتتسلى به .
و تغادر كإعصار مُدمِّر هكذا خيل لأيهم و هو يردد:
– غبية .
* * *
بحثت آنا في كل أرجاء الغرفة عن جزلان أيهم و لكنها لم تجده ، هي متأكدة بأنها وضعته أسفل تختها.
لم يكن المكان ليتسع لحجمها ، و مع أن التخت صار كبيراً الآن و يتسع لشخصين إلا أن الدخول تحته أصبح عملية في غاية الصعوبة و ليس مثل السابق ، أخذت هاتفها و فتحت الفلاش و هي تزحف بصعوبة على ظهرها ، تمتمت ” أنا متأكدة بأنني وضعته هنا ، إلا إن …. ” تسمع صوت آن الصغيرة بوضوح ، كانت هيئتها و صوتها داخل المنزل أكثر وضوحاً منه خارجه :
– ماذا ؟.
تجيبها بحنق :
– أخذه شخص ما .
تهمس آن الصغيرة ” لقد أخذه العملاق “.
و تنفجر آن الطفلة و آنا البالغة بالضحك ، و تدخلان في نوبة حادة من القهقهة ” يا للهول لقد سرق العملاق ! “.
بعدها دخلت آنا في نوبة هيستريا حيناً تضحك و حيناً تبكي و يدها الممسكة بالهاتف ترتجف حتى أطفأت الفلاش و حل الظلام تحت السرير ، عم الهدوء مجدداً في الغرفة و استعادت آنا توازنها النفسي و همت بالخروج .
ثم أتاها صوت الصغيرة مجدداً قبل أن تخرج كلياً محاولة تذكيرها :
” ماذا نفعل بالسارق ؟ “.
تجاهلتها عمداً و لم تجب و ذهبت لإصلاح بعثرة شعرها في المرآة المموهة و لكن النظرة الشاردة تلك قد أجابت ” نضربه لكي يتأدب ” .
تضحك الصغيرة بصوت مشاكس ” بربك يا آنا إنه العملاق ، عملاق الجزيرة الأخضر “.
تخرج من غرفتها و هي تسير بخطوات واثقة في الممر ؛ ثم تسمع الصغيرة تهددها ” فلتجربي حظك مجدداً أيتها البائسة “.
تعود للغرفة و تجيبها ” أنت مجرد خيال لذلك أصمتي ” .
تغلق عليها الباب بالمفتاح و بعد أن تتأكد بأنها علقت بالداخل ؛ و لن تستطيع الخروج مجدداً ؛ تذهب إليه ، وقفت خلفه مباشرة ، كان ينظر إلى شارع كوهين – لقد تحسن وضع الشارع الآن و لم يعد بذلك السوء ليس مثل شوارع ميسوري الحال و لكنه جيد – فصرخة واحدة إذا انطلقت بالخطأ من أحد الأبنية ستجد أمامك رجال شرطة غاضبين و غير متسامحين يكبلونك و يجرونك إلى الحبس دون حتى أن تتفوه بكلمة ، فقط يتلون عليك حقوقك أثناء اقتيادك ، و لولا هذه القوانين الصارمة من قبل رجال الشرطة و الشرطة المجتمعية لظل شارع كوهين في الحضيض و لم يكن ليرتقي أبداً .
كان هذا عزاء آنا الوحيد و الذي يجعلها ترفع صوتها على أبيها من حين إلى آخر دون أن تتلقى صفعة مهينة لسنها و كيانها – و لكن أيضاً من ناحية لا تستطيع التمادي فسيرميها خارجاً تحت اية لحظة – و ستكون حينها مشردة فعلياً مثل جون ، أسوأ مثال للبؤس و التشريد في هذا الشارع و في المنطقة عموماً خلال سنوات .
كان والدها يراقب عبر الشرفة متفحصاً الشارع و كأنه يراه للمرة الأولى ، هناك سوبر ماركت أنيق ، و ذاك مطعم جيد ، و هذا …
– أبي .
قالتها آنا بصوت جعلته واضح ، واثق بقدر الإمكان و ألتفتت يسارها فرأت آن الصغيرة قد خرجت معلنة هزيمتها باكراً أمام العملاق و ابتسمت لها ” لقد خرج صوتك ضعيفاً “.
أرجعت خصلتها البنية خلف أذنها و أعادت الكرة بصوت أعلى :
– سيد غيبسون .
لقد سمعها من أول مرة و لكنه تجاهلها ليس لضغينة سابقة و لكن هكذا إعتاد :
– ما الأمر ؟.
لقد فقدت شيئاً .
التنهيدة الساخرة التي خرجت منه قالت ” عجباً لقد سُرق السارق ” استدار إليها و قال لها بفتور :
– لقد تمت مصادرة ما قمتِ بسرقته .
أجابت و هي تقترب منه :
– لا يمكنك ذلك ، كنت أنوي إرجاعه .
يدخل يديه الضخمتين في جيبه :
– عادةً أصادر ما تقومِ بسرقته ، هذا قانون و لا يمكنك خرق القوانين .
– أنت لا تدرك ما تفعل إنه مبلغ كبير لا يمكنك أخذه ، أرجعه إلي و إلا سأكون في ورطة .
كان الجزلان يحوي كمية من الأوراق النقدية فئة المئة دولار .
يقترب منها سيد غيبسون و تظهر النافذة التي زُينت بالأزهار من خلفه – تلك الأزهار زرعتها آن بنفسها و تعتني بها كل يوم – و لكن حتى الأزهار اليوم وقفت في صف أبيها و جعلت منه عملاق جزيرة أخضر بأعين صفراء و قال بهدوء :
– ألا تنوين دفع ثمن معيشتك ؟ تدينين لي بخمسة عشر عاماً .
في هذه اللحظة رأى السيد غيبسون وجه زوجته في آنا ، منذ صغرها كان يعلم بأنها نسخة عن أمها و الآن بعد أن كبرت لقد أصبحت هي ، طريقة تفكيرها و غطرستها ؛ محاولة فرض هيمنتها في من حولها ، و حتى عينيها الصغيرتين الباردتين ورثتهم عن أمها ؛ بشعرها البني و الوجنة التي زينت أسفل ذقنها ، كانت المدام صوفيا فريدريك غيبسون بنسختها المُحدثة ، لكم كره هذا الوجه الجميل ! لذلك دفع آنا من أمامه و غادر إلى الممر الذي يؤدي لغرفته ، إلى المكان الوحيد الذي لن تجرؤ صوفيا أو آنا بالدخول إليه ، على الأقل لن تقربه صوفيا فهي ميتة الآن .
و ترتمي آنا على الكرسي الخشبي المتهالك ، كرسي محكمة السارقين ؛ بينما تنظر إليها الصغيرة آن مستندة على الجدار و هي تغمغم ” لقد كُسر العملاق القيد “.
* * *
إنكار الشيء لا يعني عدم وجوده ؛ مجرد فرضيات خمنها أيهم و قد أصابت عين الحقيقة فآنا تخفي خلف شخصيتها القوية تلك طفلة ضعيفة ، هشة ، غير متزنة و هي لا تزال آن الصغيرة هناك في مكان ما ، هكذا رسم أيهم صورة مصغرة عن آنا ، أراد فقط استفزازها و مشاكستها ؛ لا لشيء سوى أنها أنثى دخيلة على حياته الهادئة و أراد التعرف عليها أكثر ، و لكن آن كانت أضعف من تتحمل تلك الإهانة .
كغريب تجول أيهم في شارع كوهين باحثاً عن منزل آنا ؛ الشمس في المنتصف ، الشوارع صاخبة و مكتظة و رائحة الطعام المطهو انتشرت في الجو ، وصل إلى منزل آن ، كان صغيراً مصنوع من ألواح الخشب و مُطعم بالجص ، قرع الباب بخفة بينما يطالع رجل يحدق فيه كأنه قادم من كوكب آخر .
بينما آن في الداخل تترجى والدها :
– افتح الباب ، إنها أموال ضخمة و ليس إحدى أقلام الرصاص التي صادرتها في طفولتي .
و عندما لم يأتيها رد منه خبطت الباب بعنف :
– بابا .
يجيبها من خلف الباب :
– أي يوم سرقتي شيئاً و أرجعته ، أم أن الشاب أعجبك ؟ ستطرق الشرطة بابك قريباً و سيرميك ذلك الغني في السجن .
سمعت الطرق ، فذهبت لتتحقق منه ، لتجد أيهم عند الباب ، اندهش من مظهرها ؛ لقد اختلفت هذه عن تلك كثيراً بشعرها المبعثر و سروالها الجينز المقصوص كمنشار .
– أنا آسفة ، كنت سأعيده .
– قلتها لك في ذلك اليوم و لكن إنظاري ماذا فعلت ؟ لقد سرقتني .
يصمت لبرهة محاولاً استيعاب ما فعلته :
– لا أصدق بأنك سارقة !.
قالت بتوتر بينما تكاثفت دموعها في مقلتيها و أوشكت على الهطول :
– سأرده إليك ؛ كنت أنوي إغضابك فقط .
يشير لها بيده متوعداً :
– سأنتظر هنا في ذلك المقهى المقابل و أتمنى أن تجلبي ما سرقته قبل أن أتصل بالشرطة .
تومئ إليه فقط مثلما تفعل دائماً ؛ بينما تراقبه و هو يغادر ، و يخطو سيد غيبسون ناحيتها و هو يردد :
– لطالما عاقبتك و حذرتك آلاف المرات أن تستقيمي ، و لكن أنظري إلى أين وصلنا الآن ، لو كنت أعلم بأنك ستكبرين كحثالة مثل والدتك لرميتك في الشارع خلفها مباشرة .
تمسح آن وجهها بكفها :
– ليتك فعلت .
تظهر آن الصغيرة في نهاية الممر و تلح عليها :
– هيا قولي له ما سكتي عنه لسنوات ، لقد طفح الكيل فلتقضي عليه الآن .
تجلس آنا على الكرسي المتهالك فيصدر صرير خفيف تحت وزنها :
– إذا كنت تشعر بالألم لأن أمي هجرتك ، فأنا كنت أحلق سعادة لأنها تخلت عنك ، بالرغم أن فراقها كان موجعاً لي لكنني باركت رحيلها ، و لا زلت أغبطها على تلك الشجاعة ، أنظر إليّ أنا لا أود التخلي عنك بالرغم من كرهك لي ؛ لقد انتقمت مني و مارست شتى أنواع العذاب علي ، و بالرغم من ذلك بقيت قربك كي لا تهزمك الوحدة ، و لأعتني بك حين تخونك قواك .
دوت صافرة سيارة الشرطة بالخارج ، نظرت آنا من النافذة فرأت أيهم يتحدث إليهم و هو يحمل بيده ورقة ، لابد و أنه قيد البلاغ منذ الصباح و الآن نفذه فتمتمت بحزن لوالدها :
أعطني جزلان الشاب ؛ و إلا سأسجن يا أبي ، أرجوك لا تسمح بذلك .
يجيبها بحزن و هو يجلس على كرسي محكمة السارقين :
يجب أن تعاقبي هذه المرة عقاباً قاسياً حتى لا تكرري فعلتك .
توقفت سيارة الشرطة لصيقة للمنزل ، فقد كان شارع كوهين ضيقاً بالكاد يتسع لثلاث سيارات ، و ما هي إلا دقائق حتى وضعوا الأصفاد في يدي آنا ، بينما أيهم يقف بعيداً بقميصه الأزرق متفرجاً دون أن يرف له جُفن ، ألقت آن الصغيرة بنظرة أخيرة على والدها الذي كان يقف عند النافذة و رددت بصوت مسموع :
– لم تُعد يوماً أقلام الرصاص .
* * *
مرّت الأيام رتيبة كئيبة على أيهم ، و هو لا يقوى على صرف التفكير بآنا ، ابتسامتها و نظرتها الخاوية دوماً كانت مُخدراً لأحاسيسه ؛ لطالما انتابته نشوة مُسكرة بوجودها .
كان يقضى ساعات النهار نائما مُتقلباً في فراشه بينما يذهب في الليل إلى سويتي بار ، وهو ناد ليلي يقع خلف بنايته مباشرة .
ليله طويل صاخب ، أنوار نيون متوهجة في سقفه ، حشد و غناء و الكثير من الكؤوس تتبارى هناك بالداخل .
دفع أيهم بالكأس الصغيرة إلى الشاب ليملأها مجدداً بمزيج من التيكيلا الحامضة و الويسكي اللاذع و قال آمراً :
– أجلب لي فلفل حار .
يجيبه الشاب محتاراً و هو يملأ الكأس :
– حسناً .
و ما هي إلا دقائق حتى يجلب له آنية صغيرة تحوى فلفل أحمر و معه معلقة و يضعه أمامه بينما يراقبه بفضول ، أخذه أيهم و سكب نصفه في الكأس الصغيرة فأمتلئ عن آخره ، و بدأ بمزج الخليط و بعد أن تجانس وصار لونه أحمر ثقيل . شربه جميعه بجرعة واحدة و وضع الكأس بعنف على الطاولة الرخامية حتى كاد ينكسر ، خفق قلبه بعنف بينما لهيب ساخن غزى حلقه و صدره و سالت دمعات من عينيه ، مسح أنفه بيده و غمغم :
– مجدداً .
” بربك ” قالها الشاب و لكنه لم يكن ليمانع و نزل تحت الطاولة مغمغماً ليجلب زجاجة التيكيلا :
– إذا كنتم لا تحتملون الفراق ، فلما تلقون بأنفسكم إلى الجحيم منذ البداية ؟.
كان أيهم قد هدأ قليلاً من نوبة سيلان الأنف و الدموع فأجابه بصوت أجش :
– نحن لم نلتقي أساساً حتى نفترق .
– لما لا تذهب و تلتقي بها إذاً ؟.
اقترح الساقي بينما تبسم أيهم ساخراً :
– في السجن هي ؛ أنا من وضعها هناك تنكيلاً بها .
صب الشاب مجدداً من الشراب اللاذع في الكأس و خلطه بحامض التيكيلا الأبيض ، بينما اتجهت يدي أيهم لآنية الفلفل و سكب ما تبقى منه ، تساءل محدثه محتاراً :
– إذاً أنت الآن تعاقب نفسك بالفلفل الحار بينما هي تحصل على عقوبة السجن ، يا لك من رجل ظالم !.
ينفجر أيهم ضاحكاً و هو يأخذ كأس الخليط و يصبه في فيه ؛ فينكفئ على وجهه دون أدنى حركة ، يقترب الشاب منه قائلاً :
– هل أنت بخير يا رجل ؟.
فيشير له مطمئناً بيده :
– أقول إنها سارقة ، لصَّة.
– أتعلم أمراً ؟.
يقترح الشاب بينما يجلب مناديل و كأس ماء ليضعها أمامه و يستأنف حديثه :
– عليك الصفح عنها ، لربما تترك عادتها تلك و تكون إمرأة صالحة .
قال أيهم وهو يمسح أنفه بعنف :
– أنا أكرهها ؛ و لن تخرج أبداً من هناك حتى تنهي عقوبتها .
يأخذ جاكيته و يغادر وهو يُجر قدميه إلى الخارج مترنحاً ، فيستقبله هواء الليل برائحة أشجاره المنعشة ، متجاهلاً للحريق الذي يلهب حنجرته تذكر آنا :
هل سجنها شديد البرودة أم الحرارة ؟ أتنام جيداً ؟
لِمَ لا تحاول تخليص نفسها و تعيد المال ، و لما قد تسرق مبلغاً تافهاً كهذا بينما احتوت الشقة على أشياء ثمينة ؟ كاد أن يسقط فاستند على حاوية قمامة فارغة و لكنها تدحرجت على الرصيف مُحتكة به ” يا لك من لصة تسلب الأموال و القلوب “.
ها هي ذي تظهر أمامه في الشارع الخالي لتعترض طريقه بوجنتها الفريدة و نظرتها البريئة المُدوخة ، دون استئذان و كالسرطان غزت حياته ، عقله لا يقدر على الفكاك منها بينما قلبه يتلاطم في صدره كل حين ، زمجر بصوت عال ” لن تخرجي حتى أسمح أنا بذلك ” .
* * *
في شارع كوهين تحت ضوء المصباح بعد أن سيطر الظلام على الحي و أغلقت جميع المحال أبوابها ؛ نام جون المشرّد ملتحفاً بقطع الكرتون لتقيه بردٌ أنذر يناير بتساقط ثلوجه كل حين .
حسَّ بوجود آنا فتحرك و سحب قطعة الكرتون منه و هو يطالعها باستغراب ، و قد تعرف عليها و بالرغم من أنه لا يتحدث فقد وصلتها رسالته ” لقد تحررت أخيراً من سجنك ” .
تجيبه بابتسامة :
– لقد أعاد عملاق الجزيرة أقلام الرصاص .
ترفع آنا عينيها لأعلى فلا ترى سوى غيوم كثيفة غطت الأفق ، و بتلقائية يتجه بصرها لبيتها ، و لأول مرة يبدو دافئاً .
جون بلحيته الكثيفة و ثيابه الرثة ، كانت تخشاه آن مثل والدها ، مع أن الأخير هو من زرع الرعب في نفسها ضده ، و لم تفكر يوماً بأن والدها لربما كان يكذب .
يخرج المشرد قطعة خبز من أسماله و يمدها لآنا بلطف ، فتتناولها و تجدها نظيفة ؛ شبه طازجة ، و تأخذ قضمه لتسكت غرغرة معدتها ؛ أو لتعرف ما مدى سوءها ، و المفاجأة أنها لم تكن سيئة كما ظنت طيلة سنوات فتتمتم بسخرية و هي تلوح بيدها ” قمامة الفقراء ” ثم تفلت منها ضحكة صغيرة ، لأنها تذكرت بأن أسوأ أنواع القمامة تلك التي تعود للفقراء و الآن لا تبدو بذلك السوء .
ندت من عينها دمعة دافئة و قالت ” أنا حثالة ، هل تعرف ذلك ؟ ” .
هبت نسمات باردة فسحبت قطعة الكرتون و غطت بها ساقيها العاريتين ثم أشارت لمنزلها ” أنظر ، عشت أنا هناك فوق و أنت هنا ، و لكننا متشابهين ، لقد أدركت ذلك بعد فوات الأوان ” .
تزفر بتأفف و تتأمله فتجده هناك في عالم آخر لربما قريب من ذلك الذي صنعته ليؤنس وحشتها ، جزيرتها كانت محض خيال طفولي و لكن العملاق كان موجود بالفعل لطالما أيقنت بأنه هناك ، متمثلاً في سيد غيبسون و الآن حلّ أيهم مكانه ، غريب أمر الحياة ما نفتأ نتخلص من زائلة حتى تستقبلنا أخرى همست ” المصائب متشابهة ” .
نهضت و لفت سترتها حول نفسها و استطردت حديثها مع المشرّد :
أنا راحلة ، وداعاً جون .
و بعدها اندمجت مع الظلام كأنها لم تكن يوماً نوراً لأحد .
* * *
في هذه الحياة تقابلنا كثير من الأشياء البرّاقة ، تشع من وسط العتمة و تضيء طريقك الموحش ، ألام طالت روحك لسنوات و فجأة تجدها ضُمدت بواسطة مُنقذ أرسلته إليك الحياة ؛ هكذا تظُن أنت .
تلوح لك في الأفق و تغزو كيانك ، تخالها ذهباً أو ماساً ، تبرع في خداعك فلا تكاد ترى فيها شائبة .
تشابهت أرواحهم و امتزجت ببعضها في لحن الحب ، و ها هي ذي اليوم تجرُ قدميها دافعة بنفسها إلى الحافة .
تحفزها لوعة القلب و يشجعها الحنين مصفقاً و تضرب الذكريات سياطاً على روحها ، أي ألم ذلك الذي يجردك من هويتك و يسحب روحك فتسير بلا إحساس ، و تجر قدميك إلى حافة الجرف منتحراً .
عادت آن لمنزل جدتها في ضاحية فرجينيا و مكثت فيه لشهرين علها تنتصر لهزيم وجدانها و لكن عبثاً حاولت ، فروحها لم تزدد إلا تعلقاً و توقاً لأيهم ، فارقت الكمان و العزف و كل شيء يرتبط بذكرى أيهم ، حتى آن الصغيرة لم تعد تظهر لها و لربما اختفت للأبد ليحتل محلها أيهم ، حنين ، ألم ، و اشتياق تملك منها و حاصرها من كل الجهات .
تقدمت خطاها ببطء من الجرف الترابي ، و هي تجر نفسها ، بعد أن تمكن منها و سلب عقلها فعلياً ازدادت حالتها سوءاً و تدهور وضعها الصحي حتى باتت تتقيء كل ما يدخل جوفها ، وحيدة في منزل عند الحافة أقامت مأتم لروحها .
و لم تكن لتشفى بعد ذلك أبداً ، فركعت على قدميها و هي تسعل لتلفظ حبه من جوفها ، إنه ذلك الهيام الذي يترك شرخاً لا ينغلق أبداً و لو جلست دهراً كاملاً و أنت تطببه .
تساقطت أوراق شجرة التفاح الصفراء التي من خلفها و سحبتها الرياح ثم ألقت بها من الجرف مرسلة وعيداً إليها بأن لكِ نفس المصير .
من البعيد تناهت إلى مسامعها ألحانها ، بينما داعب خياله عينيها و هي تتوسله ؛ و لكن هيهات أن يسمع فقد سبق أن كسر أيهم الكمان .
مسحت آن فيض عينيها ثم أسندت روحها و نهضت ، لفحت نسمات حارة جسدها النحيل و تراقص ثوبها الأسود ليزفها إلى الهاوية ، ألقت بنظرة أخيرة على شجرة التفاح و كانت لا تزال أوراقها تتساقط تباعاً .
كان أيهم على بُعد كيلو متر يطرق باب المنزل الكائن كيتيم في نهاية القرية ، منزل متواضع و من الوصف الذي حصل عليه بدى له بأنه هو .
قرع الباب لعدة مرات و لكن لم يأتيه رد ، بعدها سمع صوتاً و ألتفت إلى الخلف ليتبينه ، فرأى طفلاً صغيراً ردد :
– لا يوجد أحد .
استدار و واجهه بفضول ثم سأله بارتباك :
– كيف ؟ أليس هذا منزل آنا ؟ .
أجابه ” تعال معي لأريك “.
قاد الطفل الدراجة أمام أيهم و سار هو خلفه بخفة ، بالرغم من ضجيج دراجة الصبي إلا أنه كان يسمع ضربات قلبه و شعر بأنها تتباطأ ، حتى خُيل إليه أن عجلات الدراجة الهوائية تبطئ فعل الزمن ، توقف الطفل و توقف أيهم بدوره متعرقاً و هو يلهث :
– أين هي ؟.
أشار الطفل بيده :
– ألا تراها ؟ إنها هناك عند الحافة .
و لوهلة لم يرى أيهم شيئاً بطبيعة الأرض المنبعجة و الملتوية ، و بعد برهة راها بكل وضوح عند الحافة فصرخ ملئ حنجرته :
– توقفي .
تردد صوته حول آن و نظرت إلى البعيد بشرود و لكنها لم تره ؛ فظنت بأن الوله يُشيد جسراً ليربط بينهما كما فعل أول مرة .
و في لحظتها الأخيرة حلقت بذكرياتها بعيداً و عادت لشارع كوهين .
ها هو أيهم يتصل صباحاً بصوته العذب يطالبها بالعزف .
ها هي ذي نظراته تحاصرها في الزاوية و هي تعزف لحن سوداوي لبيتهوفن ، ينتشلها من عالمها ذاك لتكون رهينة عينيه .
في اليوم الرابع أمسك بأناملها بغتة و دون استئذان بينما ترتسم على شفتيه ابتسامة عذبة أضاءت ظُلمة حياتها .
و بعد أسبوع كان أيهم قد جُنَّ تماماً ، و تحول لشخص آخر ، بارد ، مغرور ؛ استفزازي ، و لا يملك قلباً ، أيهم كالحلم الآن أمامها و لكنها لم تره ، ركعت على قدميها مجدداً و هي تمسك بصدرها فقد شعرت بجرح غائر بدأ بالنزيف .
ثم ها هي ذي مكبلة تُقاد إلى السجن و قد نثر ذلك رحيق أيامهم ، و أحالها إلى رماد .
وصل إليها ليجدها ممددة على الأرض تشهق منتفضة ، رفع رأسها و وضعه على حجره فتلألأ شعرها البني تحت أشعة الشمس ملتهباً بنيرانها و همس أيهم بنبرة رنانة أذابتها و خلبت لبها :
– أنا آسف لأجل كل شيء .
كأن لم تذُق عذاباً منه قط أجابته وهي تتنهد كطفل :
– لن أسرقك مجدداً ، أقسم بذلك .
النهاية ……
تاريخ النشر : 2020-04-28