على مائدة الطعام جلس السيد أندريس مارتينيز يتناول وجبة العشاء مع زوجته كارمن جوميز و طفلهما خوان ذو العشرة أعوام الذي بدأ الحديث مع والده :
– أبي لقد ظهرت نتائج المدرسة اليوم و قد حصلت على علامات جيدة جداً .
– رائع ، هذا أبني الذكي الذي أفتخر به .
– لا تنسى أنك وعدتني في حال نجاحي بالمدرسة أنك سوف تصطحبني معك في رحلة إلى إقليم الباسك لرؤية الأبقار و الطبيعة الخلابة .
– ( ضحك أندريس ) لا ، لم أنسى ، عليك أن تجهز أغراضك و تنام مبكراً ، فغداً موعد رحلتنا التي وعدتك بها .
تهلل وجه خوان فرحاً و قفز من كرسيه ليحتضن والده و طبع قبلة على جبينه ثم أنطلق نحو غرفته ليستعد للرحلة .
– عزيزي أندريس ، ألا تظن أنك تسرعت بموافقتك على أصحاب طفلنا خوان في تلك الرحلة ؟ لا زال خوان صغير و أخشى أن يصيبه مكروه .
– لا تقلقي عزيزتي كارمن ، فأنتِ سوف ترافقينا في الرحلة و سوف تعتنين بخوان و تعتنين بي أيضاً ، ثم ضحك الزوجان .
|
صورة أندريس مارتينيز و زوجته كارمن جوميز و طفلهما خوان |
و مع غروب شمس يوم 24 يونيو عام 1986 م أنطلق آل مارتينيز على متن الشاحنة التي يقودها أندريس الساعة 7 مساءً ، و كان مخطط الرحلة أن ينطلق أندريس من مدينته فوينتي ألامو دي مرسية جنوب إسبانيا محملاً في خزان شاحنته 23 الف لتر من حمض الكبريتيك المركز القادم من ميناء قرطاجنة و التي كان من المقرر أن ينقلها إلى مدينة بلباو الواقعة شمال إسبانيا ، ثم يتوجه إلى إقليم الباسك لتستمتع العائلة برحلة رائعة .
|
قاد أندريس شاحنته المحملة بكمية هائلة من حمض الكبريتيك |
استمر أندريس بقيادة الشاحنة و توقف عدة مرات للتزود بالوقود و لأخذ قسطاً من الراحة و تناول الطعام مع عائلته و من ثم انطلق لمواصلة الرحلة ، و عندما وصلت الشاحنة إلى ممر جبلي في مدينة سومرسيرا شمال مدريد ازدادت سرعة الشاحنة بصورة مفاجأة متجاوزة 86 ميل في الساعة و أصدمت بإحدى السيارة المارة على الطريق محطمةً زجاج المرايا الجانبية ، و فجأة ظهرت أمامه شاحنة أخرى مما أضطر أندريس للامساك بمقود الشاحنة و محاولة الانعطاف بها لتجنب الاصطدام ، و بصورة مأساوية انحرفت الشاحنة لتهوي من على المنحدر الجبلي و تنقلب على جانبها محدثةً غيمة كثيفة من الدخان .
|
لنقلبت الشاحنة على جانبها محدثةً غيمة كثيفة من الدخان |
و عند وصل رجال الشرطة إلى موقع الحادث لم يستطيعوا الاقتراب أكثر بسبب الانفجارات المتتالية و انبعاث الغازات السامة نتيجة تسرب حمض الكبريتيك من خزان الشاحنة المحطمة ، تم الاستعانة برجال الإطفاء و الدفاع المدني لإخماد الحريق و إزالة العوائق ، و قد تعرض الكثير منهم للاختناق بسبب الغازات السامة مما أضطرهم إلى جلب شاحنات لنقل 15 طن من الجير و الرمال لاحتواء الحمض المتسرب و إبطال مفعوله ، و بعد ساعات من العمل المضني انقشع الدخان و تمكن رجال الشرطة و الإسعاف من الاقتراب من موقع الحادث و قد كان المنظر مروعاً للغاية ،
|
اصيب الكثير من رجال الشرطة بالاختناق بسبب الغازات السامة |
فالشاحنة مقلوبة على جانبها ، بينما مقصورة القيادة منكسة على الأرض و قد غمرها حمض الكبريتيك ، لقد كانت جثتا الزوجين مثبتة بحزام الأمان بوضعية الجلوس و قد بدأتا بالتحلل و التأكل بفعل حمض الكبريتيك ، قام رجال الشرطة بانتشال الجثتين فيما واصل رجال الإطفاء احتواء حمض الكبريتيك قبل وصوله إلى نهر دوراتون منذراً بحدوث كارثة بيئية كبيرة ، و تم قطع إمدادات الماء عن ثلاث قرى مجاورة لمدة ثلاثة أيام للتأكد من سلامة مياه الشرب .
|
مقصورة القيادة منكسة على الأرض و قد غمرها حمض الكبريتيك |
كانت الجدة ماريا ليجاز تجلس على كرسيها الهزاز و على حضنها كرة من الصوف تحيك خيوطها بيديها ، و فجأة رن جرس الهاتف لتقف العجوز و تمشي بخطوات متثاقلة نحو الهاتف ، و عندما رفعت السماعة أجابها أحد ضباط الشرطة مخبراً إياها أن أبنتها و زوجها قد لقيا مصرعهما في حادث مروري ، شعرت العجوز بالصدمة و أسندت يدها على الحائط حتى لا تقع مغشياً عليها ، أخذت بضع لحظات لتتمالك نفسها ثم تحدثت بصوت مرتجف تخنقه العبرة : فليرحمهما الرب ، و لكن ماذا عن الطفل ، أرجو أخبرني على الأقل أن حفيدي بخير ؟.
ليرد عليها الضابط مستغرباً : عن أي طفل تتحدثين ؟.
|
كانت الجدة تريد الاطمئنان على حفيدها خوان |
و عندما تأكد الضابط منها أن الزوجين قد اصطحاب طفلهما في الرحلة أبلغ السلطات على الفور ، لتنطلق عملية بحث واسعة النطاق عن الطفل خوان ، شارك فيها المئات من رجال الشرطة و المتطوعون ، و بمشاركة الكلاب البوليسية و المروحيات تم مسح المنطقة بدائرة نصف قطرها 18 ميل ، استمرت عمليات البحث لأيام دون جدوى ، ظن البعض أن الطفل قد تم قذفه من الشاحنة نتيجة الاصطدام و وقع في النهر القريب من مكان الحادث و تم تكثيف البحث حول ضفاف النهار و لم تسفر عمليات البحث عن أي نتيجة ، و مع توسع عمليات البحث عاد الجميع إلى المربع الأول حيث أعتقد البعض أن الطفل ربما تم دفنه تحت الرمال و الأحجار ، و قامت السلطات بالاستعانة بالرافعات و الشاحنات لرفع الرمال و الجير و تم انتشال حطام الشاحنة لفحصها و معرفة سبب الحادث ،
|
تم انتشال حطام الشاحنة لفحصها و معرفة سبب الحادث |
و مع ذلك ظل اختفاء خوان غامضاً رغم الجهود المبذولة ، مما دفع البعض إلى الاعتقاد أن خوان المسكين قد تحللت جثته بفعل حمض الكبريتيك المُركّز ، و هنا جاء دور العلماء لاستبعاد ذلك الاحتمال ، فبعد أن قاموا بتجارب على بقايا الحيوانات النافقة و غمسها بحمض الكبريتيك و جاءت النتائج كما توقعوا تماماً ، فالحمض استغرق 5 أيام حتى يصل تأثيره إلى العظام ، كما أن الحمض لم يؤثر بشكل كبير على جثي الزوجين ، و أن الحمض لا يؤثر على أنسجة الشعر و أزرار الملابس التي كان من المفترض أن تظل سليمة .
|
قام العلماء بتجارب على الحمض و تأثيره على اللحم و العظم |
مع استمرار البحث عن خوان قامت الشرطة بالتحقيق في أسباب الحادث و ظروفه ، فتقرير المهندسين أثبت أن المكابح كانت سليمة و هذا يدحض فريضة أن السرعة الزائدة للشاحنة كانت بسبب خلل في المكابح ، و خلال فحص الشاحنة وجد المحققين جهاز التاكوغراف (1) و هذا يمثل بالنسبة لهم كنز من المعلومات ، فهذا الجهاز يقوم بتسجيل جميع تفاصيل الرحلة من السرعة و المسافة التي قطعتها الشاحنة ، و قد تمكن المحققون من رسم جدول زمني للرحلة المشؤمة مما زادت القضية غموضاً .
|
جهاز التاكوغراف الذي يقوم بتسجيل جميع تفاصيل الرحلة |
الغموض يكتنف اللحظات الأخيرة من الرحلة : استطاع المحققون كشف تفاصيل دقيقة في الرحلة و زادت القضية تعقيداً .
ابتدأت الرحلة في تمام الساعة 7 مساءً ، ثم توقفت الشاحنة الساعة 9 مساءً ، ثم واصلت سيرها حتى الساعة 12:12 بعد منتصف الليل ، ثم توقفت مرة أخرى 3 فجراً ، ثم تلتها استراحة في الساعة 4:13 فجراً ، و كانت أخر محطة توقفت فيها الساعة 5:20 صباحاً ، حيث حطت العائلة رحالها في نزل في كابانيلاس دي لا سييرا و الذي يبعُد حوالي 40 كيلومتراً عن ميناء سوموسيرا ، يقول نادل النزل : لقد كنت أخر من رآهم ، لقد وقفت الشاحنة أمام النزل و ترجل منها رجل و إمرأة و برفقتهما طفلهما ذو العشرة أعوام ، لقد كان ولد لطيف يرتدي سترة و بنطال باللون الأحمر ، و قد طلب الوالدان عصيراً و وجبة محلية ، بينما طلب الطفل حليب و بعض المعجنات ، و بعد أن انهى الجميع طعامه غادوا بسلام .
|
خوان مارتينيز ذو العشرة أعوام |
في البداية قد يبدو خط سير الرحلة طبيعياً فالشاحنة توقفت عدة مرات للتزود بالوقود و الطعام و لأخذ قسطاً من الراحة ، و لكن 80 دقيقة الأخيرة تحمل في طياتها الكثير من الغموض ، فخلال تلك الدقائق توقفت الشاحنة 12 مرة و استغرق توقفها في كل مرة ما بين ثانية و 20 ثانية ، مع أن التقارير تشير إلى أن الجو كان صحو و الطريق خالي من الازدحام المروري في ذلك اليوم ، و هذا ما جعل التوقف المتكرر للشاحنة بشكل متقارب أمر غريب للغاية ، و كأن أندريس كان يبحث عن شيء مفقود و كان يتوقف للسؤال و البحث عنه أو أنه كان يطارد سيارة أخرى ، و هذا يرجح أن خوان لم يكن معهما في الشاحنة في ذلك الوقت و ربما تم اختطافه مما دفع والده للبحث عنه و ربما كان هناك من يهدده .
و هذا ما أكده بعضاً من أفراد عائلة أندريس ، حيث أن أندريس كان قد تعرض للتهديد من قبل مافيا المخدرات مطالبين إياه بنقل شحنة من المخدرات في شاحنته قبل الحادث بأسابيع قليلة ، كما وجدت الشرطة أثار هيروين في الأجزاء الداخلية للشاحنة ، و لكن هذا لا يثبت التهمة عليه ، فأندريس كان قد أشترى الشاحنة منذ فترة قصيرة و ربما كانت ملوثة قبل أن يمتلكها .
كان من بين شهود العيان أحد سائقي الشاحنات الذي أصدمت شاحنة أندريس به و أُصيب بجراح طفيفة ، حيث أكد أنه بعد الحادث مباشرةً وصلت إلى الموقع سيارة بيضاء من نوع نيسان فانيت و ترجل منها رجل بشارب غريب و أمرأة شقراء ذات ملامح أوروبية ترتدي معطف طويل ، قامت المرأة بمساعدة ذلك السائق على عجل و أخبرته أنها تعمل ممرضة و طمأنته أن حالته مستقرة ، ثم اتجها مسرعين إلى شاحنة أندريس ، حيث تحدث شاهد العيان أنهما أخذا شيئاً ما من الشاحنة ثم غادرا بسرعة دون أن يتركا أثر .
|
سيارة بيضاء من نوع نيسان فانيت |
و بعد عدة أشهر و تحديداً في شهر مايو عام 1987 م أدعى مالك إحدى مراكز تعليم قيادة السيارات في مدريد أن أمرأة عمياء قد زارت مركزه برفقة طفل يبلغ من العمر 10 أعوام و سألته عن عنوان السفارة الأمريكية ، و عندما سألها عن السبب ، أجابته أنها لاجئة إيرانية كانت قد فرت من أيران برفقة طفلها بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران بسبب معارضتها لنظام الخميني و أنها تعيش هنا منذ 6 أشهر ،
|
كان الطفل يشبه خوان الى حداً كبير |
كانت لغتها الإسبانية ركيكة جداً ، بينما كان طفلها يتحدث الإسبانية بطلاقة و بلهجة تشبه لهجة سكان الضواحي القريبة ، و هذا ما لفت أنتباه مدير المركز الذي أقترب مبتسماً من الطفل و مسح على رأسه و قال : أنا مندهش منك يا صغيري ، أنت تتحدث اللغة الإسبانية بطلاقة رغم أنك لم تمكث هنا سوى 6 أشهر فقط !.
شعرت المرأة بالارتباك فيما أختبئ الطفل خلفها و غادرا المركز مسرعين ، و عندما رأى الرجل صورة خوان أصابته الدهشة و أقسم أنه نفس الطفل الذي رأه برفقة المرأة ، و لكن الشرطة لم تتمكن من تتبع أثرهما .
كل نتائج التحقيقات و إفادات شهود العيان ترجح أن الطفل قد تم اختطافه لابتزاز والده لدفع فدية أو لنقل المخدرات بشاحنته ، و ظهور الطفل مع تلك المرأة العمياء بعد أشهر من الحادث يرجح فرضية الاختطاف .
|
استمرت عائلة مارتينيز في البحث عن خوان |
استمرت عائلة مارتينيز في البحث عن خوان و قد استأجرت محقق خاصة و قامت توزيع 85 الف صورة لخوان في المطاعم و الفنادق و المدارس و لوحات الطرقات ، و في كل مكان قد يراه الناس ، و لم تجني العائلة من ذلك غير المتاعب فقد تعرضوا للتهديد من أطراف مجهولة .
|
تم توزيع صورة خوان في كل مكان |
تعتبر حادثة اختفاء خوان بيدرو مارتينيز من أغرب حوادث الاختفاء في تاريخ أوروبا و التي عجز الإنتربول الدولي عن فك لغزها و كشف الغموض المحيط بها.
هوامش :
1 – التاكوغراف Tachograph :
جهار يعمل على تسجيل سرعة المركبات الثقيلة و مدة حركتها و توقفها ، و يعمل كمراقب على قائد المركبة و يسجل مدى التزامه بالحد الأعلى و الأدنى للسرعة و التزامه بالراحة الإجبارية في الرحلات الطويلة ، تم استخدام هذا الجهاز في عام 1900م في القطارات ثم تم استخدامه في الشاحنات عام 1920م ، و يقوم بتسجيل القراءة على ورقة أسطوانية لمدة أسبوع ، و في عام 1969 م صدر قانون أوروبي يلزم جميع الشاحنات التي تزيد حمولتها عن 3.5 طن على استخدام هذا الجهاز.
المصادر :