بضعة أنفاس
فلتبكي أيتها الدنيا و لِتُعلني الحداد على صغيري و لتتشح أيها العالم بالسواد للأبد |
بعد توقف إنسياب مياه الأمطار و تشبّع الأرجاء بأريج الأزهار و أوراق الخريف ، يعبق بيتنا الدافئ برائحة كعكة التوت التي أعدتها ليلي ، بينما يخرج توني و جوليا ليلهوان في الفناء المُخضرّ و قد ضجَّ صراخهما في حينا الهادئ و الآمن ، و بعد ضجرهما يدخلان و يمطراننا بقبلة رجل الثلج و هي قبلة مباغتة و متزامنة بينهما يطبعانها على و جنتي ، بالطبع بعد وضع شفتيهما في قوالب الثلج و كُنت أجفل منها في كُل مرة يُنفذاها على خدي و تكون النتيجة صراع حامي بين ثلاثتنا ينتهي بقذف إحدى تُحف ليلي و حينها يأتي صوتها صاخباً و مدوياً :
نعم لقد تبرع بها أحدهم لي و لم أخسر قرشاً واحداً عند شرائها .
تصمت لبرهة محاولة السيطرة على غضبها ثم تأتي متوعدة بعقابها الذي تفشل دائماً في تنفيذه بينما يختبئان الصغيران خلفي :
توقفوا عن الشغب ونظفوا الفوضى و إلا لن تكون هناك ملاهي نهاية الأسبوع .
ثم تغادر محذرة بسبابة تتأرجح في الجو بينما عاد الصغيران للضحك بصوت خفيض .
بعدها يجلبان حقيبة مليئة باللعب و يدخلان في شجار ينتهي بارتماء جوليا في حضني مادة فمها الصغير المتورد لمترين كاملين و صوتها المتهدج :
أبي أطلب منه إرجاع دبي الأبيض فدبه ذا الصوف البشع .
أتحدث أنا بلهجة المحايد بالرغم من معرفتي أن الدب البشع يعود في الأصل لجوليا و ذلك بعد استبدالهما ، أخذ توني الأبيض و هي الأصفر و بعد أن نقعته في سخان الطبخ لساعتين بالكلوركس تساقط البعض من صوفه و كانت تنتف البقية كلما شعرت بالتوتر حتى أضحى يلو عبارة عن دب أصفر أجرد بالكامل ، و لكن لا يزال بحالة جيدة هكذا أزينه لها بالرغم من عكس ذلك و أقول بينما أحاول الالتزام بأقصى درجات المحايدة :
” يمكننا استعارة الدب الأبيض من توني ”
قُلت هكذا بينما أتفحص المارد الصغير ممسكاً بكنزه و يبدو بأنه لن يتنازل عنه إلا بمعركة ضارية ” لساعتين فقط أعرنا إياه ” و لكنه يومئ بفظاظة و حينها ألجأ لتزيين ” يلو ” الدب الأصفر بالرغم من أنه أضحى قُماشاً محشواً أجرداً الآن ” أنظري لا يزال رائعاً و يمتلك فم جميل يمكنه من لعق العسل ” و أبتسم بغباء مبرزاً أسناني و شاهراً الدب البشع بمحاذاة وجهي ” و ملاحقة النحلات السريعات ” .
النظرة المقيتة التي ترمي بها جوليا على الدب المنتوف كانت كفيلة بأن تنسف نظرية تدليس الحقائق و ممارسة الوهم الزائف على طفل ، كنت دائماً ما أستخدمها في حل النزاعات بين الطفلين و دائماً ما أنجح بذلك إلا في معركة الدب الأجرد فكانت تفشل هذه النظرية فشلاً ذريعاً أشعر بطعمه في فمي عندما تتدخل ليلي لفض النزاع :
جولي ما رأيك بأن نصعد للغرفة و نجرب بعض مساحيق التجميل و الأزياء الأميرية من أجل حفل القصر ؟.
تغادر الصغيرة حضني إلى والدتها بشغف ” ستكونين الساحرة و أنا سندريلا “.
تطبع ليلي قبلة على شعر جولي الأشقر موافقة حاملة إياها على خصرها و هي تتمختر ، نظرة أخيرة تلقيها علي ليلي تحمل كل معاني لقد تغلبت نظرية خلق حل بينما لا تزال المشكلة قائمة على نظرية البروفيسور و عميد جامعة هارفرد المبنية على التدليس و إخفاء الحقائق كانت تقولها بطريقة مذيع نشرة التاسعة ! .
طريقتها تلك كانت تسحرني بها في كل مرة ، فهي عكسي تماماً فبينما أميل أنا إلى المنطق و التحليل ، كانت هي تستخدم المرونة و الحلول المؤقتة و تنجح في ذلك معي و مع الطفلين و الجميع ، ببساطة حياتنا مثالية ولا يُعكر صفوها شيء .
* * *
كان هذا في الصباح … !.
و في المساء أمسك أنا بإحدى روايات فوكنر التي قرأتها لعشرات المرات و أستمتع بها في كل مرة بنكهة فريدة عن التي تليها و متخدر بكل تفصيل فيها حتى ينال مني النعاس على الكرسي الهزاز في الشرفة منتظراً توني الذي خرج مع أصدقاءه للسهر و في كُل مرة أحذره بألا يتأخر كان يأتي حتى منتصف الليل بدراجة صديقه النارية المزعجة غاضة مضجع أولئك الأغنياء و مغلغلة سباتهم ، و لكن الجيد في الأمر أنه لم يكن يثمل أبداً .
بينما تقضي جولي ليلة الخميس عند صديقتها و أوافق ذاعناً لضغط ليلي و بعد وضعي للائحة جولي الصارمة و حشرها في حقيبتها أسمح لها بالذهاب ، و أتصل من حين لآخر على هاتف منزل صديقتها الثابت لأتأكد بأنها لم تلوي الطريق .
حياتنا مثالية و لا تشوبها شائبة لا زلت أستاذاً للفلسفة في أعرق الجامعات لا ينوي التقاعد قريباً ، توني تخرج من كلية الهندسة و جوليا لا تزال في الجامعة تدرس الأحياء و في كل اتصال لي بها كانت تمدني بمعلومات هائلة عن الحشرات الموجودة في أدغال أفريقيا واصفة للقارة كأنها كانت هُناك ، و بالرغم من طول محادثاتها لم أكن أضجر منها أبداً ، تخيلوا الجدل القائم بين عالمة أحياء و بروف في الفلسفة ؟ نزاع أبدي بين النظرية و المادة الحية ، كان ينتهي بي الأمر منتصراً عليها بفضل لسان العميد الطليق و منطقي الصلب و تودعني متمسكة بمبدأها و لم تكن تستسلم أبداً ، عنيدة كوالدتها ليلي جنتي و عذابي ، كان هذا في الصباح .
و عندما حلّ الظلام ..
تراءت أمامي حياتنا القصيرة بكل مراحلها و ما رافقها من تكسُرات ، بضعة أحرف أحالت نور حيوات غضة إلى سواد ، أهذه النهاية ؟ أيعقل أن تكون الحياة بهذا الجبروت لترسم لك طريقة موتك و تُلقي بها أمامك بكل وحشية ؟.
أبي أعتقد بأنك تقود سريعاً !.
إنتشلني صوتها الصغير من خيالاتي و نظرت إلى مؤشر السرعة كان قد دقّ في المئة و عشرون فخففتها ببطء و التفتت إليهما لطمئنتهما ، و بمجرد نظري لوجهيهما البريئان سألت مني دمعات ساخنة محتجة على الفقد باكراً .
بعد ذلك حدث الأمر سريعاً و حتى الآن لا أذكر تلك اللحظة بالذات و لكن ما بعدها حفر جيداً في ذهني بأدق تفاصيله ثم هوينا سريعاً إلى الحضيض.
* * * *
عدت إلى المبنى و رأيت قطرات من المياه تسيل من بين السلالم ، راقبتها و إذا بها تأتي من الطابق الثالث حيث أسكن ، صعدت الدرجات ببطء و أنا أراقب سقوطها قطرة قطرة بتناسق عجيب ! و صوتها و هي تصطدم بحافة السلم الحديدية جعلها كناقوس يدق محذراً بالخطر .
قابلت جارتي و قد بدى الحنق على محياها :
أحضر السباك ، لقد سالت المياه من شقتك حتى وصلتنا .
لم آبه بثرثرتها الصاخبة و استمريت في مراقبة قطرات المياه و هي تصطدم بالحافة ثم تتناثر لجزيئات أصغر تتحد مع بعضها مجدداً ثم تنساب مُشكلة بِرك صغيرة تنحدر للأسفل .
فتحت بابي ، كانت الفوضى عارمة بالداخل فقد غطى الماء جميع أرجاء الشقة ، فسرت متابعاً مسارها فإذا بها تأتي من المطبخ ، أيعقل أن أكون قد نسيت الصنبور مفتوحاً ؟ ” لا بد بأنني نسيته ” هكذا تمتمت ثم حاولت إغلاقه و لكنه استعصى علي فأحضرت كماشة و لويته قليلاً فقط فانكسر و اندفعت المياه منه بقوة و فقدت إثر ذلك الوعي .
بدأت أستفيق من الصدمة أو بالأحرى الألم هو من أفاقني من الصدمة و نظرت إلى ذراعي فإذا بها قد كُسرت و خُدشت عميقاً ، و بصفتي بروف في الفلسفة كُنت أعلم خياراتي جيداً ، قرارات قد تضطر فيها إلى بتر أحد الأعضاء كي لا تتضرر البقية .
هكذا تردد صدى صوتي عبر المكبرات التي في القاعة أمام ألف و نيف من التلاميذ و كتبت كلمة قرار مثالي بالقلم الأحمر على البورد :
المعنى العام للأخلاقيات هو القرار الأمثل الذي يعتبر أفضل الحلول في الوقت الراهن و يكون قائم على أساس التفكير السليم .
صمتُ قليلاً ثم أردفت بهدوء و أنا أتفحص وجوه طلابي اليافعين :
قد تطبق الدولة حجراً كاملاً على مدينة نصف سكانها قد أصيبوا بالطاعون و ستضحي بالأصحاء فيها مقابل سلامة بقية المدن التي تحوي الملايين ، إنه لقرار صعب أليس كذلك أن تحكم على حياة أحدهم بالموت ؟ .
ثم أردفت وأنا أُطبق يدي معاً فأصدرتا صوتاً :
مع عدم تجاهل احتمالية الأضرار المترتبة نتيجة قرارك المتعمد و إلا ستجد نفسك في مواجهة الضمير و هذا آخر ما تودون نزاعه في هذه الحياة لأنكم ستُهزمون أمامه شرّ هزيمة .
* * * *
اللوكيميا غزت جسده الصغير بوحشية و قال الطبيب : ستة أشهر فقط هي ما تبقى له و لن نستطيع مساعدته بأي طريقة ، و طلب إحضاره في الصباح ليمكث ما تبقى من أيامه في المشفى ، أثناء طريقي إلى المنزل حاولت حبس دموعي أمام الطفلين عازم على ادخارها حينما نصل .
أبي خفف السرعة !.
قال ذلك الصغير توني بصوت يرجُف من الخوف ، ثم انحرفت السيارة من الجسر و غاصت في عمق المحيط الهادي ببطء تاركة أمنيات غير مكتملة قد لاحت في الأفق مختفية كأضواء الجسر الذي أضحى فوقنا الآن ، الألم في ذراعي هو من أفاقني من الصدمة و تبين لي بأنها قد كُسرت ، نظرت من حولي و لم أرى سوى الظلام ، صوت التصدع في الزجاج الأمامي نتيجة لتيارات الحياة القوية بين لي بأنه لن يصمد كثيراً ، ثم بدأت المياه تتسرب من بين الأبواب و الشقوق ناسفة الحصن الذي ظننته آمناً ، فيما سبق و من خلفي الصغيرين استعادا وعيهما و بدآ بالبكاء ، فنزعت حزام الأمان و قلت لهما ” لا بأس ، سنكون بخير ” .
” أنظر يا أبي المياه في كل مكان سنغرق بالتأكيد “.
ثم دخلت جوليا في نوبة بكاء بصوتها المتهدج و لم يكن هذه المرة نحيبها لأجل الدب المنتوف بل كان من أجل النجاة ، و حينها فقط أدركت مصيبتي طفلان دون السابعة لا يجيدان السباحة مع أب بذراع مكسورة يجيد السباحة ولكنه ليس ماهراً .
نظرت من حولي محاولاً حصر خياراتي و رأيت أضواء السيارة و قد أضاءت عتمة المحيط البارد و لكنني لم أرى شيئاً سوى الظلمات التي طوقتني منذ ذلك الوقت .
* * *
الأخلاق :
هي قوانين أو قواعد أو أُسس تحدد المعايير لمهنة أو مجتمع أو أشخاص .
هذا هو عنوان محاضرتنا اليوم لكن ما الذي يحكم الأخلاق ؟ .
أجابتني سالي طالبة السنة الأولى في الفلسفة :
ربما القيم.
قد يتنكر الإنسان للقيم في لحظة ، قُلتُ ذلك ثم تقدمت من البورد و كتبت كلمة مسئولية و رسمت أسفلها دائرتين كتبت بداخلهما كلمتي قانون و أخلاق :
الأخلاق تحكم القانون أم القانون هو من يحكم الأخلاق ؟.
تنقلت بنظري بينهم بحثاً عن إجابة و ابتسمت لهم بمكر ثم أردفت :
” لقد أُختُلِف في ذلك ” قُلت ” و لكن عندما تتجاوز الأخلاق تلقائيا ستجد نفسك في مواجهة مسؤوليتان قانونية و أخلاقية ، الأولى تتغير دائماً مع تغير الوضع و هي مجموعة من التشريعات وضعها و حددها الإنسان و بصورة أشمل الدولة و تكون تجاه الغير ، فعندما يرتكب شخص ما جريمة يعاقبه القانون ولكن ماذا إن لم يمسك به القانون للأبد ؟.
” ماذا إن أفلت بفعلته و هرب بعيداً ” قلتها و أنا أُلوح بيدي .
الجريمة
سماء صافية و جو معتدل و طيور نورس حلقت فوق زورق قريب من السواحل الشفافة و بدأت أشرح لسامي مخاطر الغوص و من ضمنها :
لا تغص بمفردك أبداً لأي سبب من الأسباب و لا تستخدم معدات غيرك فأنت لا تعلم عيوبها و إذا اضطررت لذلك قم بفحصها أولاً .
قال سامي بسخرية واضحة :
لقد رأيتك تغوص وحدك ذلك اليوم .
أنا حاصل على شهادة الاتحاد العالمي لمدربي الغوص المحترفين ” بادي ” لذلك لا تقارن نفسك بي أيها المبتدئ .
صمتُ قليلاً و أنا أتطلع لصفحة المياه الزرقاء و قد أخترق هواء البحر المميز أنفي :
في الأعماق لا يجب عليك خشية أسماك القرش ذات الأنياب المسننة و لكن خاف من الضغط لذلك صعودنا سيكون بطيئاً والآن حان وقت النزول .
هممتُ بارتداء بزة الغطس و أنا أغلق سحابها ثم قلت : تأكد من سلامة المعدات و بالأخص أنبوب ضخ الأوكسجين للمرة الثانية و هذه هي القاعدة الخامسة .
بدأت بارتداء الزعانف على قدمي و تقدم سامي مني و قال :
أنا متوتر بشأن النزول.
التجربة الأولى في الغوص دائماً ما تكون هكذا ، قلت له مطمئناً ” لكن بمجرد نزولك للماء ستتبدد كل مخاوفك و ستشعر بإثارة حقيقية ” .
واحد …. اثنان …. ثلاثة ، و نزلنا إلى الماء .
ألغي الغوص إذا وخزك قلبك و لم تشعر بالراحة و لا تجازف بحياتك أبداً ، القاعدة الثامنة لم أقلها أبداً لسامي هي و واحدة أخرى .
كُنت قد خططت جيداً لجريمتي في عرض البحر و بعيد عن الأعين ، في الأعماق المظلمة لا صراخ أو استنجاد ، بلا شهود ، بلا دليل و بلا جثة ، اختناق فقط لا غير .
في الغوص نحمل معنا أوزان لتسهل علينا النزول ، محاولة فقط لخداع الجاذبية فخفة وزنك بداخل الماء تعسر كثيراً وصولك للأعماق و الأوزان تجعلك ثقيلاً و سريعاً في النزول و قد ربطت تلك الأوزان جيداً بسامي كي لا يستطيع التحرر منها .
وصلنا إلى عمق عشرون متراً ، فثلاثون فأربعون و خمسون و في هذه النقطة بالذات يصبح الضغط عالياً و إذا لم تكن حذراً في خطواتك ستنفجر رئتاك و يتسمم الأوكسجين إذا كان مخلوط بالنتروجين نتيجة للضغط العالي ، يتخلل إلى رئتاك ببطء و لن تشعر به في بداية الأمر و منها إلى قلبك و بعد انفتاح الصمام ليضخ الدم المسمم بالأوكسجين في أطرافك ستُعرض حياتك البائسة أمام عينيك ، لذلك إذا كُنت ستغوص إلى أعماق سحيقة يجب أن يكون الأوكسجين مخلوط بالهليوم أو النيون و هذا ما لم أفعله مع خزان سامي و تلك كانت القاعدة الأخيرة ، فتذكرها جيداً .
ليس ذنبي إنه ذنب والده ، ما كان يجدر بعمي أن يسرق ميراثنا أبداً و لكن الآن سأستعيده .
اتساع بؤبؤ عينيه خلف النظارة المائية ذات الحواف الصفراء و تباطؤ حركته كان يوحي بأنه قد بدأ يشعر بالدوار الآن و بعدها سيهلوس ، ثم تتخدر أطرافه و يفقد الإدراك و بعدها يموت ببطء.
حركت يدي و قدمي كالفراشة و بمنتهى الاحتراف و التففت من خلفه و ابتعدت عنه ، كنت سريعاً و ماهراً في الغوص و حصلت على عدة ميداليات و شهادات عالمية و أستطيع المغادرة إلى السطح في أقل من عشرة دقائق تشمل توقفي لمعادلة الطفو و الضغط ، و غفلت إلى السطح تاركاً إياه وحيداً ينازع الموت في الظلمات ، حزنت لأجله ولكن الأبناء يدفعون ثمن أخطاء أباءهم ، أنا لست سيئاً و ليغفر الله لي .
تردد صوت البروفيسور في نفس الوقت عبر المكبرات في إحدى قاعات جامعة هارفرد مواصلاً حديثه من النصف الغربي للكرة الأرضية :
إن أفلت المجرم بفعلته و هرب بعيداً عندها تظهر لنا المسؤولية الأخلاقية الثابتة و هي ثابتة لأن القوة التي تمارسها تنبع من داخلك و تلك القوة هي الضمير و هو أقوى بعشرات المرات من القانون و أكمل منه ، و يكون أمام ربك و نفسك ثم غيرك ، و إذا لم تتدارك نفسك قبل لحظة الصفر سيجعل قدماك هي من تقودانك إلى المسؤولية القانونية التي بدورها ترمي بك في الكرسي الكهربائي .
* * * *
في داخل السيارة و هي تهوي إلى قاع المحيط المظلم كنتُ وحدي بذراع مكسورة و صغيرين لا يجيدان السباحة ، توني شُخِّص باللوكيميا و تبقى له ستة أشهر فقط لا غير ، و جوليا سليمة و بصحة جيدة و من الممكن أن تعيش طويلاً ، موقفي كان صعباً أيستطيع والد الاختيار بين فلذة أكباده ؟ أن يحكم بالموت على أحدهم و يمنح حق الحياة للآخر ؟ خياران فقط لا غير إما أن نموت ثلاثتنا في الأعماق أو أن يخرج اثنان أنا و أحد الطفلين ، إلتفتت و نظرت إليهما و أنا أفكر بالقرار المثالي المبني على الحس السليم محاولاً تنفيذ ما تعلمته و علمته لغيري ، و لكن إحساسي لم يكن سليماً أبداً في تلك اللحظة فقد ذُبح قلبي و نُثر إلى ألاف القطع و تمزقت روحي .
الماء وصل إلى المنتصف و لا يزال يستمر بالارتفاع كل حين فقلت مطمئناً لتوني :
سآخذ شقيقتك و نصعد إلى السطح ، لا تخف سأعود من أجلك ، هل أنت موافق ؟.
الصدمة و نوبة بكاءه جعلته لا يفهم ما أقول فمددت يدي إلى أدويته و تناولت كمية من الحبات المسكنة و بعدها أمسكت بيد جوليا و سحبتها و قلت لها سريعاً :
ستأخذين نفساً عميقاً عند إشارتي بعدها سأسد بذراعي هذه أنفك و فمك و لا تحاولي مقاومتي أو التنفس ، أفهمتي ما أقول ؟
أومأت لي ، فأخذنا أنفاساً متزامنة و أحكمت ذراعي المصابة على وجهها ، تجاهلت الألم الذي غزاها ، أو هي فطرة التمسك بالحياة أمدتني بالقوة ، فتحت الباب فاندفعت المياه بكميات هائلة و سبحت بقدمين و يدٍ واحدة إلى السطح مع طفلة صحيحة ، و تركت توني من خلفي و قد لفه الظلام و احتضنته المياه ، آمل أن ترفق به و لا تقسو عليه مثلما فعلت أنا ، فلتبكي أيتها الدنيا و لِتُعلني الحداد على صغيري و لتتشح أيها العالم بالسواد للأبد .
تلاشت أضواء السيارة من تحتي و لم أرى شيء سوى الظلام ولا أثر للنور مطلقاً .
بدأت جوليا في مقاومتي طالبة للأوكسجين و تباطأت بدوري و بدأت أفقد الوعي و الإحساس بما حولي و لم أستفق إلا في اليوم التالي و وجدت نفسي في المشفى و قد لحقت الصغيرة بتوني و اتشح العالم بالسواد للأبد و توقف الزمن .
* * * *
تكتكت ساعة الغوص التي على معصمي في كبد المحيط الهادي ، و أوشك الأوكسجين على النفاد ، أقلها انتهينا من عملنا في منصة البترول الذي استمر لخمسة ساعات داخل المياه مع فريق متكامل من المهندسين و الغواصين ، و قد عادوا جميعاً إلا أنا و مهندس آخر ، فسحبتُ السلسلة المختبئة أسفل أنبوب مياه ضخم ببطء كي لا تنقطع و لكنها استعصت علي كأنها قد كُتب لها أن تكون هناك للأبد .
أحتاج فقط إلى عشر دقائق ، ثمانية تكفيني للعودة إلى السطح و إثنين لسحب السلسلة هكذا فكرت و أنا أصارع فيها برفق و أراقب عداد الأوكسجين و قد انتقل عقربه إلى الخط الأحمر .
بدأ المهندس راي يفقد السيطرة و يشير إلي بالمغادرة و أشرت إليه من قبلي بالرحيل موضحاً له بأنني غواص مياه مفتوحة محترف و أستطيع تدبر أمري في أعتى محيطات العالم ، ففهم مقصدي و وضع يده على الساعة مذكراً إياي بالدقائق المتبقية و رحل ، لم أكن لأخاطر ببقائه معي في ذلك العمق مع معدل أوكسجين منخفض ، أوصى اتحاد الغواصين أن يكون الثلث من مجمل الأوكسجين عبارة عن احتياطي و لا يمكنك استخدامه لزيادة رحلتك في المياه لأي سبب من الأسباب ، تلك كانت قاعدة ولا يجوز لأي غواص أن يحيد عنها ، و لكن أنا دائماً ما أخرقها مع عدة قواعد أخرى ، ألم يوجد القانون لنخرقه ؟ ثم أعود بثلث خزان إلى السطح قد يبقيني لأكثر من نصف ساعة داخل المياه ، حارماً نفسي من متعة البحر ؟ بالطبع لا .
تراجعت قليلاً و تلفتت من حولي لأجد شيئاً أقطع به الأعشاب التي تبقي السلسلة الفضية ملتصقة بالأنبوب ، لطالما ذخرت البحار بالعديد من الكنوز بعضها لا يقدر بثمن و في كل مرة أغوص فيها أحضر شيئاً مختلف .
* * *
ما هو الزمن ؟
علا صوته متردداً داخل القاعة عبر المكبرات ثم رسم دائرة على البورد و ضع في منتصفها نقطة انطلق منها عقربان أشار أحدهما إلى الساعة الثانية عشرة و الآخر إلى الربع .
هل رأى أحدكم الزمن ، أنستطيع الإمساك به ؟.
نحن نحس بالزمن من خلال الشمس ، قال ذلك الشاب من منتصف القاعة ” انتبه ” قُلتُ ” نحن لا نحس بالزمن بل ندركه و ليس بالشمس ، حسناً إذا كان ملموس فأنت تحسه و لكن الزمن غير مرئي لذلك ندركه بعقلنا و مع التقدم في الحضارات تخلينا عن الشمس و صنعنا عدة أدوات لقياسه و أسركم بأمر أنا أكره الوقت و لا أراقبه مطلقاً و لست كبعض الناس يمتلك ساعة في يده و أخرى على الحائط و تلك على الهاتف ، في اعتقادي الشخصي مراقبة الوقت كل حين تسلب منك الإحساس بجمال الحياة ” .
فركتُ جبيني و اقتربت من طلاب الصف الأول :
عرّف العلماء الزمن بأنه الوقت المُستغرق لحركة الأشياء ، و لكن ماذا إن فقدنا الإدراك بالزمن ؟.
صمتُ هنيهة لأستدرجهم لأقصى درجات الانتباه ثم قُلتُ مُحْكِماً على الكلِمات :
ماذا لو تعذر علينا التمييز بين الماضي و الحاضر و اختلطت علينا الأمور و توقف عقلنا عن إدراك الوقت ؟.
مياه في كل مكان ؟.
يا أستاذ أين أنت ؟.
هكذا قلتُ و أنا أقترب بحذر من شقته فرأيته مضطجعاً على الأرض و مياه الصنبور النافرة تصُبُ على رأسه ، فأمسكت به و حاولت جاهداً رفعه عندها استفاق شاهقاً من إغمائته و أخذ بضعة أنفاس متتالية فقلت له و أنا أطبطب على وجهه المبلل :
هل أنت بخير بروفيسور ؟.
لست كذلك يا جوش لست كذلك ، قالها لاهثاً ثم واصل حديثه :
” أجربت أن تُمتحن في إيمانك من قبل ؟ هل أنت مؤمن ؟ “.
أجبته و أنا أسنده و أسير به إلى الأريكة :
” نعم ، ولكن هل أنت كذلك يا أستاذ ؟ “.
قلت ذلك ثم تناولت منشفة و بدأت بتجفيف شعره و سألني مبعداً لها :
” أتعلم ما هو أصعب اختبار قد يمر به المرء ؟ ”
” ربما الموت ! “.
إبتسم بسخرية من إجابتي السخيفة وهو يمسح شاربه من الماء :
” أنت لن تعود مجدداً من قبرك إلى هذه الفانية لتدرك بأنك كنت في امتحان أم لا و لكن قطعاً سيتبين لك أنك من أصحاب الجحيم أم الجنة “.
قال وهو يرسم تموجات بقدمه على الأرضية المغطاة بطبقة من المياه :
من ذروة الألم تولد حياة .
قُلت ” هذا ما علمتنا إياه ذات يوم و لكن هل أنت مؤمن بذلك الآن و قد اصطدمت بما علمته لأجيال ؟ “.
أجاب و هو يتمعن النظر في ملامحي :
” لم أعد أؤمن بشيء ، أنا في تلك المرحلة التي لا هي هنا و لا هناك و من جرب الألم يعرفها جيداً ، لا دموع ، لا مشاعر ، لا أحاسيس فقط تبلُد “.
صَمتَ لدقائق ثم أعاد الكَرّة :
أتظن بأن الله سيغفر لي و قد تخليت متعمداً عن صغير في الأعماق لو اخترته لربما كتب له العيش و لم تصبني فاجعتان ؟.
” ما حدث كُتب مُنذ الأزل فأسلم بذلك ، ثم هذا يعتمد على مدى معرفتك بالله ، فأكبر الآثمين يتأمل الغفران و دخول الجنة و قد تجده موقناً بهذا و أصغرهم إثماً سيظن بأنه ذاهب إلى الجحيم لا محالة “.
” دعك من الفلسفة و أشف قلبي “.
قالها بيدين تلوحان في الهواء و قلت و أنا أدفع بقطع من الإسفنج لتمتص مياه الأرضية قليلاً :
سيغفر الله لك إذا استقمت يا أستاذ ، إذا كففت عن تعذيب روحك ، و توقفت عن إلقاء اللوم على نفسك.
” إلى اللقاء بروفيسور سأزورك قريباً ” قلتها ثم سرتُ في الأرضية المبللة و قد أصدرت صوتاً و سمعته يُدمدم من بعيد :
أنس ما علمته لك بشأن الأخلاق لأنك لن تستطيع فعل الصواب في اللحظة الحاسمة .
أسندتُ ظهري للباب بعد إغلاقه من خلفي و أنا أمارس الفلسفة مع عقلي :
وضع البروف مشابه تماماً للضمير الخادع الذي يجعلك تظن بأن الصواب خطأ و يتلذذ بإنزال الشيطان على ظهرك ، و لكن ما هي مقاييس الصواب و الخطأ ؟ أتلك التي وضعها الناس أم ما أملته عليك نفسك ؟ أهو العرف أم القيم أو ربما يكون القانون ؟
همستُ ” تأملها ”
ملامح الشبه الواضحة للرجل الذي بأن في بداية الممر بالزيّ الرسمي بينت رابطة الدم التي بينه و بين البروفيسور ، قلت :
من الأفضل أن تساعده و إلا فقدته .
أومأ إلى و تبادلنا النظرات بأسى ثم غادرت تاركاً إياه أمام الباب و لا تزال المياه تتسرب من الشقة و تقطُر بين حواف السلالم كساعة جيب لا تتوقف أبداً عن التكتكة بإيقاعها المُنذِر .
* *
جلبتُ دلواً و شرعت برفع قطع الأسفنج المشبعة بالمياه و عصرتها بداخله :
إذا تلاشى الزمن و اختلطت عليك الأمور و تضارب الماضي مع الحاضر عندها اعلم بأنك تهوي إلى بِئرٍ سحيق ، و بما أنني درّست الفلسفة الأخلاقية لعشر سنوات كُنت أعلم جيداً أنني بمواجهة من ؟ و مدى قوة خصمي و أعلم بأنه أوشك على أن يفتك بي إذا لم أتدارك نفسي ، ولكن لأجل من و قد فقدت كل شيء قُلتُ ” ضميري المعذب ” بصوت مسموع .
وضعك مزري .
قالها ريون بعد أن فتح الباب ودخل على .
” أنا بخير ” قُلتُها بكبرياء جُندي و أنا أحمل الدلو و أذهب لسكبه في المرحاض .
” تجفيفك للأرضية بينما لا يزال الصنبور المكسور يرسل دفقاً هائلاً من المياه يوضح إلى أين تتجه أنت ” .
توقفت مكاني و بادلت نظري ما بين المطبخ و الأسفنج :
الشاب هو من وضعه !
” أترك من يدك الآن و تعال إلى هنا ”
ثم أمسك بيدي و جلسنا قرب بعضنا و نظر إلي عيني بجدية :
لا يعجبني وضعك مطلقاً ، ألم تكفيك عامان من الحداد ؟ ألم يحن الوقت بعد لتستأنف حياتك ؟
…….
عندما لم أرد عليه أكمل بسؤال آخر :
سأغادر لرحلة عمل أترافقني ؟
لا ..
أنا أيضاً أحتاجك كما أنت الآن ، علينا الجلوس مطولاً و الحديث طلابك يحتاجون لعلمك و أمامك الكثير لتتعلمه بعد و أفضل العلوم هي التي تأتي بعد الاختبار أليس كذلك بروفيسور ؟ أم أقول أخي ؟ .
يجب أن أتلافى نفسي هكذا فكرت ثم قلت دون اهتمام ” إلى أين “.
إلى القارة السمراء حيث الشمس في المنتصف .
” حسناً سأرافقك “.
قُلتها بفتور وأنا أتطلع من حولي و مياه في كل مكان مجدداً ، لربما كان الحل في المواجهة و الارتطام ..
” جيد “.
قالها ثم أردف و هو ينهض و ألقى نظرة على حذائه :
سأرسل إليك السباك و أحلق ذلك الشعر الكثيف .
بعدها عانقني و ربت على ظهري ثم غادر ، نظرتُ إلى الصنبور و كان لا يزال يرسل دفقاً من المياه كساعة رملية أبدية .
* * * *
الإطار
بدأت بترتيب ثيابي على الحقيبة الصغيرة التي لم أستخدمها منذ أعوام ، و آخر مرة رُتبت أغراضي عليها عندما سافرت إلى إيطاليا مع التلاميذ بواسطة لي لي التي لا يغيب عنها أي شيء ، لا يزال وجهها يلاحقني بنظراته المعاتبة و صوتها المبحوح و المتشنج بالألم :
أنظر ، هناك مكانهما حيث يلعبان و تتعالى أصواتهما.
أمسكت بكتفيها و هي تحاول الانفلات مني و أنا أطلب منها :
” لا تفعلي ..”.
” تلك صورة جوليا عندما كانت في الحضانة و هناك ، هناك توني و هو يرضع إصبعه من اليوم الثاني لمولده حتى صار عمره خمس سنوات ولم يتخلى عن تلك العادة ” .
أَمسكَتْ بإطار الصورة المُذهب و انهالت بضعة قطرات من عينيها غاسله الوجهين الصغيرين :
” هنا كانت حياة ، الدفء خُلق داخل هذا الإطار و إذا كُسر لم يعد هنالك شيء ” .
ضممتها على صدري محاولاً تهدأتها و السيطرة على حزنها قبل أن يفيض فأنا أعلم أين سننتهي و لكن تتفلت مني و تستمر بإرسال الطعنات إلى قلبي :
أنظر لهذا المنزل و أمعن النظر لما حولك الآن ، أترى الصمت ؟ أتتلمس الأنين في هذه الزوايا ؟ أتشم عبيرهما ؟ أتشعر بالبرد ؟.
تحررتُ من حضنه و أردفتُ :
” نعم يوجد سقف ولكن أنظر ليس هناك جُدران تمسكه البيت يتداعى “.
مسحت عيني و أنفي بكم قميصي و قلت ” لا يوجد ما يحجب عنا الحُزن ، لا نملُك سوى بعضنا و بعضنا مُمزقة ، لقد عصفت بنا الحياة لذلك الألم استوطن هنا ” .
و أشرتُ إلى قلبي ، كُنت أشبه الطفلين كثيراً أو هم يشبهانني و لم يأخذا شيئاً من والدهما سوى الذكاء و الفصاحة ، لذلك كلما نظر إلى وجهي يرى الصغيرين و أنا أرى ذلك اللوم العميق لنفسه خلف حدقتيه و لا يمكنني تحمل ذينك الثُقلين ، أن أذهب و هو يظن أنني ألومه أفضل من مكوثي بقربه مُذكرة إياه بالصغار كل حين .
” أنظر مايكل ” قُلتُ و أنا أتطلع من حولي و لم أرى سوى آثار لأقدام صغيرة لثمت الأرض ذات يوم :
” أنظر لم يعد هناك المزيد من القبلات الثلجية لقد نضب المخزون ” .
ثم نظرتُ لحياتنا الوردية و المؤطرة على الجدران فرأيتُ بيت احتوى على الأحلام و الآمال و الضحكات البريئة ذات يوم و لكن سقط السقف الآن.
سأترك البروفيسور مايكل من خلفي غارقاً في الألم حتى النخاع ، و أنا واثقة بأن رجلاً مثله سيتجاوز ذلك و لكن لست و أنا أمام ناظريه و ليس في هذا المكان الصامت .
حشرتُ آخر شيئين للطفلين في الحقيبة أحدهما أصفر كانت تراه جوليا بشعاً و الآخر أبيض لتوني كنت أنوي أخذهما معي و لم أكن لأتركهما خلفي مطلقاً و إلا تمزق مايكل لألف جزء و جزء ،
و سقط الإطار من يدي و السقف من ورائي .
* * * *
الساحل الشفاف
التقت السماء شبه الصافية مع صفحة مياه البحر الأحمر الزرقاء في صباح حيوي أعلن عن بداية يوم عملي جديد في بورت سودان ، دفء الشمس المتوهجة و هي قادمة من ناحية بلاد الحرمين أمدت الطقس بالدفء قليلاً في مطلع شتاء 2018 م ، قفز في ذلك الصباح قاسم الصغير ذي البشرة السمراء مع شعر أسود غطى جبينه و عينين بريئتين تُشِعان أملاً و تلهمانك أن تتفاءل اليوم قبل الغد .
ذاك رجل كهل يعرض أكوام من الأسماك و هذا الشاب يعرض أصداف متنوعة على طاولة و ذاك البائع المتجول يحمل شاياً ساخناً بيد و أكواب بالأخرى و هذان الزوجان بالحناء التي لطخت أيديهما بديا حديثا الزواج و ذاك ، سائح اقترب من قاسم بحذر و أوقفه بلغة عربية ركيكة قليلاً :
مرحبا أيها الصغير !.
كَشّر الصبي وجهه و لم يرد عليه ، عندها نزل الرجل بمحاذاته :
من أين حصلت على تلك السلسلة .
أجابه مقتضباً :
إنها ملكي .
هل تبيعها لي ؟.
لا .
قالها حاسماً و هم بالذهاب .
فلحق به و أوقفه :
أنظر ، سأعقد معك صفقة أستأجرها منك لليوم فقط و أعدك بإعادتها .
رد عليه الصغير بصوته الحاد متعالياً :
لست بحاجة إلى أموالك و أتركني و شأني و إلا صرختُ و جمعت الناس و عندها سيسحلونك هنا دون معرفة الأسباب أيها الإنجليزي .
ثم غفل ذاهباً و تبعه خلسة و عندما وصلا لمنطقة مزدحمة بالحشود دفعه دفعة خفيفة جعلته يسقط على وجهه ، اقترب منه و سحبها من عنقه ” أنا آسف أيها الطفل ” و تراجع مايكل إلى الخلف متوارياً عن الأنظار .
عندما نهض الصغير وجد السلسلة قد اختفت من عنقه و عرف السارق ، فركض مسرعاً بين الزوارق إلى والده ، و وجده ينظف واجهة اليخت الزجاجية فأندفع ممسكاً بقدمه .
– ألم أخبرك مراراً ألا تقفز علي و تشُمني كالقط المشرّد ؟.
قال ذلك الغوّاص المتقدم في المياه المفتوحة أبو القاسم ثم نظر إليه فلاحظ بأنه يتنهد رفعه للأعلى و وضعه على جانب الزورق :
ما الأمر أخبرني ؟.
لقد سرق أحدهم سلسلتي .
كيف ؟.
سائح أبيض .
* * *
المغفِرة – 1
لَمَعتْ على صدر الصغير فجعلت ذاكرتي و روحي تعودان القهقري ، فاستعدتها و توجهت إلى حافة البحر النقي لأغسل آلامي و خطيئاتي و عازماً على جمع شتاتي في كبده ، وضعتها على عُنقي و أمسكت حلقتها المستديرة براحتي ، و هواء مميز اخترق أنفي كقرينه منذ عامين ، و كلما اقتربت منه استقبلني بأمواجه مرحباً بي ، أخذتُ بضعة أنفاس لآخر مرة و امتزجنا ببعضنا ، و في الأعماق كانت هناك حياة كاملة و قد نبضت بمختلف الألوان و الأصناف لطالما علمتها و جهلتها ، بعضها مُتحرك و الآخر ساكن ، أشياء ثمينة و أخرى ذات ثمنٍ بخس ، تلك سامة و هذه شافية ، إنه خطر و هي ضعيفة ، الضمير و النفس ، دائماً ما يطغى أحدهما على الآخر و لكن أيهما أكثرُ بغياً و فتكاً ؟ ، النفس السيئة أم الضمير الخادع و هذا الأخير دائماً ما يتآمر على النفس و يُمزقها و لكي أكون أكثر تحديداً الروح .
سمحتُ للهيب البحر الأحمر الحارق أن يتسرب إلى أنفي و فمي ثم رئتاي مُنكلاً بضميري و هازئاً به ، و عندما طفحتُ من المياه المالحة ألقيتُ نظراتي الأخيرة على السلسلة فتلألأت مع قرص الشمس و إتشحاً معاً بمياه زرقاء شفافة لاح من بينها توني بوجهه الغض و أمسك بيدي ، أتراه سامحني ؟ هكذا فكرت و أنا أتحسس أنامله الناعمة بكفي ، و عندها فقط تبددت كل آلامي و اندملت جراحي ، و داعبت نسمات باردة من الجنة وجهي ، و جولي الصغيرة كانت هناك أيضاً بشفتيها المتوردتان و ابتسامتها المعهودة ذات الوجنة الواحدة ، ها نحن الآن معاً و لن نفترق للأبد .
بعدها تناهى صوت توني إلى مسمعي و هو يتوسل ” أبي لا تفعل ” و حلّ النور ..
المغفرة –
عُدنا من عرض اليَمّ المالح و أحكمتُ ربط حبل الزورق الأبيض بالرصيف و من خلفي كان الصغير و شخص آخر يضحكان بصوت عالي ” الآن سيفسد الصغير ” هكذا تمتمتُ و أنا أتجول بنظري دون هدف في المرسىَ .
عندها رأيته كان متجهاً إلى الشرق واضعاً على صدره يد و الأخرى مسح بها دمعات أفلتت من عينيه ضاربة بكل مقولات أن الرجال لا يبكون ، على الأقل ليس أمام الناس ، راقبته يسير ببطء إلى حتفه ، حتى غطى الماء رأسه و مكث دقيقة … فإثنتان … فثلاث .. و لم يظهر .
عندها أيقنت أن الرجل ينتحر ، وجهتُ قاسم أن يتصل بالإسعاف ، ثم أخذتُ بضعة أنفاس و لحقت به إلى الماء بغوص حُر سريع دون مُعدات و بلا تخطيط مسبق كُنت قادراً على حبس أنفاسي لخمسة عشرة دقيقة متتالية و هو رقم مُذهل أستطيع به الوصول إلى قرابة المئة متر في العمق و العودة من هناك .
عندما أمسكتُ بيده كان قد وصل إلى عُمق ثلاثون متراً خلال أربعة دقائق و هذا دليل واضح على أنه لم يقاوم أبداً ! أي جروح تلك التي تدفع برجل إلى الانتحار ؟ أي حياة هذه التي جعلته يزهد بروحه و يقذف بها دون ثمن ؟.
تماسك أيها الغريب .. تماسك .
المياه الشفافة و ضوء الشمس المنعكس حتى العُمق جعلا من السهل رؤيته سريعاً و كان قد نزل إلى قرابة المسافة التي تخليتُ فيها عن سامي ، أهي رسالة من الله لتذكرتي بما سولت لي نفسي به ؟ و بالرغم من إنقاذي لسامي في آخر أنفاسه متداركاً لجريمتي لا تزال روحي مُعذبة ، و عسى يكون إنقاذي لروح أُخرى كفارةً لي و أرجو المغفرة .
وصلنا يداً بيد إلى السطح ، و وضعته برفق على أرضية أحد الزوارق ، و بدا هامداً ثم دعوت الله أن ينجيه و أنا أضغط على صدره لثلاثة دقائق متتالية ، لفظ في نهاية الدقيقة الأخيرة كمية من المياه و فقد الوعي .. ” أبي إنه السارق أنظر تلك سلسلتي ” قالها ، قاسم و هو يُشير إلى صدر الرجل المبلل ! .
” سنستردها الآن ” قُلتها و أنا أسترجعها برفق من عنقه و كان حينها الإسعاف قد وصل .
شفاء
استيقظت في المشفى و لاحظت بأنها قد اختفت من عنقي ” لابد بأنها استقرت الآن في الماء ” هكذا خِلتُ ، حنجرتي المُجرّحة بسبب المياه المالحة آلمتني كثيراً و بالمقابل اطمئن قلبي و ضُمّدت جراحي و هدأ ضميري قليلاً و سكنت نفسي .
بعد الغروب تتبعتُ أثر مُنقذي و وجدته في زورقه و قد اتجه إلى الشرق مصلياً فراقبته ، و كان حنطي البشرة بشعر مع لحية سوداء ، و بنية قوية برهنت بالفعل على أنه غوّاص ماهر دائماً ما ينجح في مهماته الصعبة و من ضمنها إنقاذ الغرقى .
رافقه شاب يافع دعاه الطفل ب ” العم سام ” و كانا يضحكان ملئ شدقيهما كاسران سكون الدُجى ، نعم ذلك الصغير و قد كُلّلت عنقه بسلسلة فضية لمعت بضوء القمر مُبددة غسق الليل ، سُررت كثيراً برؤيتها على صدره ، و قد شابهت تلك التي لتوني كثيراً و أكاد أجزم بأنها هي .
” ربما نلتقي في يوماً ما أيها الصغير ” هكذا همستُ و أنا أطالع من نافذة الطائرة الأراضي السودانية الخصبة و قد تلألأت أضواءها من تحتي.
النهاية …
تاريخ النشر : 2019-12-21