حكاية ابرة فى الغربة

كتب الشاعر تيوفيل جوفيه قصيدة طويلة بعنوان مسلات تحن الى ماضيها سنة 1851 وفيها تعرب مسلة رمسيس الثانى الموجودة فى ميدان الكونكورد بباريس عن حزنها الشديد للغربة التى تعيش فيها لوحدها ولبعدها عن شقيقتها الموجودة بمعبد الكرنك بالاقصر :
(انا المسلة التى فقدت شقيقتها اشعر فى هذا الميدان بالملل ولقد تجمد جبينى من الثلج والضباب والرذاذ والمطر)

ولمسلة الكونكورد التى تعد من معالم باريس الرئيسية حكاية طويلة وتبدأ القصة من بداية حكم محمد على لمصر حيث كان يحاول ارضاء الدول الكبرى فاهدى الى ملك فرنسا لويس فيليب مسلة رمسيس الثانى والتى تقف شامخة بمعبد الكرنك مع شقيقتها لتكون المسلة الرابعة بعد ان اخذ نابليون ثلاث مسلات قبلها تتوسط ميادين الونتابلو وفنسان وارل.
وقد ارسل العالم شامبيلون رسالة الى اخيه من الاقصر بعد ان اصيب بالنشوة والذهول ووقع اسيرا الاعجاب بمسلتى معبد الكرنك اعرب فيه عن امنيته بان لا تفرط فرنسا فى هديتها الثمينة قبل ان تضيع الفرصة منها.
وسريعا تم تشكيل لجنة برئاسة الملك لكن كيف يمكن نقل كتلة تزن 230 طنا وطول 22 مترا من الاقصر الى فرنسا دون تقطيعها ؟
رغم ان سبقهم الرومان باخذ مسلة من معبد الكرنك فى القرن الرابع الميلادى وضعت بميدان القديس بطرس .

اقترح شامبيلون على اعضاء اللجنة تشييد سفينة بمواصفات خاصة ذات قاع مستوى تستطيع السفر فى البحر والصعود فى النيل والهبوط فى نهر السين وتم تشيد السفينة والتى سميت باسم الاقصر وغادرت السفينة فرنسا يوم 15 ابريل وعلى ظهرها طاقم يضم 150 فردا ما بين حدادين ونحاتين وميكانيكين برئاسة المهندس ابو للينير لوبا.
وعاش افراد الطقم لمدة عام فى الاقصر وقاموا بتحويل جزء من معبد الكرنك الى حى سكنى يضم مطابخ ومطحنة ومخبز ومخازن للبارود والمتفجرات وبداء العمل لانزال المسلة عن قاعدتها لكن توقف العمل بسب تفشى وباء الكوليرا وبعد فترة تم استانف العمل مرة اخرى وكتب قبطان السفينة سان مور رسالة الى شامبيلون : ( ابتهج معنا يا سيدى المواطن العظيم لقد غادرتنا الكوليرا وخضعت المسلة الغريبة اخيرا للوسائل الميكانيكية الحديثة فقد امسكنا بها ومن الموكد اننا سنحضر الى فرنسا هذا الصرح الذى سيحوز على اعجاب الفرنسين وستشهد باريس ما صنعته حضارة قديمة من اجل صيانة التاريخ فى ظل انعدام المطابع وسيرى انه اذا كانت فنوننا مدهشة فانا شعوبا صنعت قبلنا بازمان طويلة اشياء تذهلنا الى اليوم )
وبعد ان نزلت المسلة عن قاعدتها تم شراء منازل للفلاحين وهدمها من اجل افساح الطريق امام المسلة وتم نقلها على قضبان خشبية بمعاونة 400 عامل تم استاجرهم لسحب المسلة نحو نهر النيل

واخير تم شحن المسلة فوق سفينة الاقصر وابحرت الى مدينة رشيد دون مشاكل لكن بدأت الصعوبات فى العبور من نهر النيل الى البحر المتوسط وتم استدعاء سفينة بخارية قامت بسحب الافصر من مصب النهر الى البحر المتوسط ووصلت الاقصر الى نهر السين ورست فى مدينة باريس.
لكن اين ستنصب المسلة المصرية فى باريس ؟
دار جدل شديد حول موضع المسلة حيث كان شامبيلون وفريق من العلماء يرى ان مكان المسلة الامثل هو امام متحف اللوفر اما الملك فيلب وحاشيته فرؤوا اقامة المسلة فى ميدان الكونكورد حيث كان يوجد تمثال الملك لويس الخامس عشر
وبعد نقاش امتد صداه الى سكان باريس استقر الراى على نصبها فى ميدان الكونكورد
اما بالنسبة الى تماثيل القرود الاربع الذين كانوا حول المسلة وتم انتزاعهم مع المسلة تقرر عرضهم بمتحف اللوفر .

وبدأت المعضلة الثانية امام المهندس لوبا وهو كيفية نقل المسلة ونصبها على قاعدتها سالمة دون ان تتارجح او ان تقع على الارض ، وتم استداع 420 جندى من المدفعيىة الفرنسية لسحب المسلة ورفعها فوق قاعدتها وتم صناعة روافع معقدة لرفع المسلة وتم ربط المسلة باربع سلاسل معقودة من اعلى فوق اسلاك تثبيت وتجمع اعداد غفيرة لمشاهدة هذا الحدث النادر واعطى المهندس لوبا اشارة البدء للجنود لسحب الروافع مع اصوات الموسيقى حيث كان هناك مائة عازف يعزفون مقطوعة لموزارت بعنوان اسرار ايزيس الغامضة
وبدأت الروافع تدور حول محوارها حاملة المسلة الى قاعدتها واخيرا تم نصب المسلة وسط تصفيق الجماهير الغفيرة والملك بينهم وعلى قاعدة المسلة تم نقش السطور التالية فى حضور الملك لويس فيليب :
“تم نقل هذه المسلة من الاقصر الى فرنسا ونصبت فوق قاعدتها بواسطة المهندس لوبا وسط تصفيق جمهور غفير فى يوم 25 اكتوبر 1836”.