نبوءة .. والخطايا السبع
كانت الفتاة التي أبحث عنها .. الفتاة الملائكية .. بطُهر أمي |
لندن _ 2012
ورد :
هل فكرتَ يوماً بندوب الأرواح ؟ تلك الندوب المنتشرة كالنجوم ، تلك التي يُخلّفها الإنسان لأخيه الإنسان ، إذن ، لتعلم فقط .. الندبة لا تصبح شامّة ، والشرخ العظيم لا يُنسى ، والخطايا _ إن لم تُكفِر عنها _ تُصبح كابوساً أبدياً ، كابوساً يصرع روحك لآخر رمق . . .
فصل النبـــوءة
بيروت _ أيلول _ 1989
صفاء الحاكم :
يا إلهي كَم أكره المناسبات بكل أنواعها ! أمقت أن أكون حدثاً معيناً ، أو حديثاً يُدار بين الحاضرين ، أمقت أن أكون أحد أطراف نفاق الكبار ، أمقت المجاملات واللباقة المعهودة ، لكن اليوم لا مجال للتنصل ، وخلق أعذار واهية ، أخي هشام ينتظرني بشكلٍ خاص ، ولا أستطيع مضايقته بِدَلالي الآن ، فهو سعيد وعلي أن أحترم ذلك ، فاليوم يُقيم حفلاً بمناسبة تكريم زوجته وحصولها على جائزة في الأدب ، وهذا ليس بغريبٍ عنها ، لأنها و مُنذُ دخولها عالم الكتابة ، ورواياتها تُسَبب ضَجيجاً لا يهدأ ، ما يستدعي الآن أن أكون حاضرةً لِتهنئتها ، ومقابلة كل من أعرفهم ، وسيبدأون بِسرد النصائح والحِكَم الكَونية .. وأن علي خلع رداء الحداد فقد مضى وقت طويل مُنذ وفاة والديّ ..الخ ، لكن كُل هذا بات لا يُهمُني ، علي أن أكون لَبِقَة اليوم ، ولا أسبب الضيق لهشام ، وحتماً سأعود الليلة لعالمي .. وحزني المقيت .
لا داعي للتفكير طويلاً ، فالتفاصيل أصبحت أضيق بكثير من السابق ، لا ألوان .. لا زينة مُبالغة .. ولا تبرُج صارخ ، يكفي أن أرتدي فستاناً أسود ، تعلوهُ ياقَة مُهذبة .. و بأكمام طويلة وواسعة ، وقلادة يتيمة ورثتها عن أمي .. تتدلى منها نجمة سُباعية ، ولا شيء آخر .. لا عربة ولا عرّابة ، فأنا لستُ سندريلا _ هذا يليق بزوجة هشام فقط _ ولأن بيت هشام قريب من بيتي ، ولا يفصلني عنه سوى مسافة أغنية قصيرة ، كَأُغنية فيروز ( ايه في أمل ) مثلاً ، سأسير وحدي ، كما أكون دائماً . .
بدأتُ أمشي في الشارع ، الجو هادئ جداً ، لا بُدَ أن الجميع أصبح في الحفلة الآن ، لكن لا بأس بالتأخير ، وبينما كنتُ أدندن بأغنية ما ، لمحتها جالسة على الرصيف ، تلك المرأة ذاتها ، بلباسها الغجري المُعتاد ، وجاذبيتها الخاصة ، و هالتُها اللازوردية _ أستطيع تخيل ذلك _ أذكر أنني لمحتُ هذه الغريبة أكثر من مرة ، كنت أراها دائماً تسير من هُنا ، بينما أكون جالسة على شُرفتي .. أسقي صبارتي العنيدة ، وأشرب قهوتي الفرنسية . .
ولسبب أجهله ، اقتربتُ منها لِأُسلمّ عليها ، وما فاجأني أنها لم تُفلت يدي ، حاولت أن أتدارك الأمر وأسحب يدي بلطف ، لكنها رفضت إفلاتها ، ونطقت بما جعلني أسلم نفسي للأمر :
بختك يا بنيتي عجيب … ما شفت يوم مثلاه
ثُم رفعَت نظرها وحدقت بالقلادة التي أرتديها ، وأغمَضَت عيناها ، و وجدتُ نفسي أُغمض عًينيّ و أستمع لها ، كما لو أنني أستمع لموسيقى الكون . .
خطـــــــــاياهم سِته … وسابــعـــــهم قلبج
تَراه شرَه وشَهـــوه … الكمــــال ما يغرج
يفتح القلب ويزرعه … ويبقى الورد وردج
أفلتَت يدي ، ومَضَت بطريقها وهي تدندن تهويدة ما ، تُشبه تهويدة ما قبل النوم ، وأخذتُ أنظر لها بِبلاهة حتى اختفت من الطريق ، إلى أن تَنَبَهتُ أنني تأخرتَ كثيراً ، وسِرتُ بِخُطى سريعة ، كما لو أنني أحمل قلباً آخر .
بيروت _ أيلول _ 1989
كمال :
لم يًكُن حضوري اليوم عبثاً ، كُنتُ أعرف جيداً ما أُريد ، كُنتُ أريد رؤيتها فقط .. رزان .. هذا الاسم الذي كان _ فيما مضى_ يعني لي الكون بأسره ، كان ذلك في الماضي ، كُنتُ شابا وحيداً ، بائساً ، مُعدماً وفقيراً ، ساخطاً على نفسي ، وعلى الحياة ، أحاول نسيان طفولتي البائسة ، و ألعن أبي السكير بكُل مُناسبة ، والشيء الوحيد الذي كان يفصلني عن الجنون ، هو وجود الطيف الملائكي .. رزان ..
كُنتُ أعشق كل تفاصيلها ، أجزم أنني أعرف عدد رموش عيّنيّها ، ولا أدري عن عدد المرات التي غرقتُ فيها بِضحكتُها المجنونة ! كُنتُ مسحوراً بها بلا أدنى شك ، كنتُ أحمد الربّ كل يوم على جعله رزان جارتي في الحيّ ، وصديقة طفولتي ، والطريق الوحيد الذي كان سيوصلني لقلب رزان ، هو ان أكون رجلا متعلما وثريا ،وهكذا اخذت أنحت قدري بيدي العاريتين ،كنت أعمل بجد ، وأدرس بجهد أكبر ،وعند دخولي الجامعة –برفقة رزان – انتهى كابوس الطفولة ، نعم ..لقد مات أبي وجدوه على قارعة الطريق ، مخموراً .. وحيداً .. وبلا أنفاس ، لم أشعر بالحزن عليه .. حتى اليوم الثالث لوفاته ،وجدتُ نفسي أستيقظ ليلاً بعد كابوس مرعب .. كان بطلهُ أبي ، والضحية أنا _ كما كان الحال دائماً _ سرتُ في الظُلمة إلى أن وصلت المطبخ وجلست تحت الطاولة وشعرت بقلبي يتحطم ، و رحتُ أبكي لساعات .
لم أكن أبكي أبي بالطبع ، كنتُ أبكي طفولتي البائسة ، وحياتي الفارغة، أبكي شوقا لأمي ، أمي التي لا أذكر وجهها حتى ، أمي التي تركها أبي تصارع المرض حتى آخر انفاسها ، أبكي لأنني لا أجد كتفاً أستند عليه ، كنتُ أبكي ذلك الكم الهائل من الحب الذي لم أحصل عليه ،أبكي لأن الطفل المشوَه – الذي صنعهُ والدي – ما زال حياً ، لكن الآن كل هذا مضى ،تجاوزت كل شيء ، تجاوزت طفولتي وما بعدها حتى ، واليوم لم أعد ذلك الطفل الرعديد ، الطفل الذي يرتجف حالما يسمع طقطقة حذاء والده ، اليوم أنا رجل كامل ، متعلمًا ..مثقفًا ..وطبيبًا مرموقًا ..وسيمًا ..وحلم أية فتاة ، صورة مذهلة و رائعة ، لا يعكرها سوى ثقب أسود كبير ، ثقب اسمه رزان .
بيروت _ أيلول _ 1989
رزان :
يبدو كل شيء رائعًا اليوم ، والخطط تسير كما وضعتها أنا ، ارتديت فستاناً أزرق – بلون عيني – وصُمِم خصيصًا لي وحدي ، وزينت صدري بعقد الماس الذي أهداني اياه هشام بهذه المناسبة ، تفقدت نفسي على المرآة ، أبدو مذهلة ، ولا يختلف اثنان على هذا ، سرت نحو الشرفة ، ونظرت للحديقة ، تبدو الحفلة كما تخيلتها تمامًا ، الزينة ..ترتيب الطاولات ..المسرح الصغير في وسط الحديقة ..و الورود المنثورة في المسبح .. حتى طول الكؤوس كما أردته تمامًا ، وجميع من دعوتهم قد حضروا ، وهشام يبدو ساحراً ببدلته هذه ، الآن حتى الأعمى لا يستطيع نقد ذوقي ، وما كان ينقص الحفلة سوى شيء واحد ..هو أنا بالطبع ، لا أظن أن هناك حفلة كاملة دون وجود الأميرة
رفعت فستاني وسرت للأسفل بخطى واثقة ، وانشغلت بتلقي التهاني والهدايا ، ولم يبقَ أحد لم يقل لي بأنني فاتنة ، وبينما كنت أناقش بعض الزملاء بموضوع روايتي ، كانت هناك تلك اللحظة ، تلك التي تجمد الزمن عندها ، تلك اللحظة التي أيقظت بي شعوراً من الماضي ، تلك اللحظة التي لمحتُ بها وجها أعرفه جيداً ، إنه هو ..كمال !
ذلك المعدم يبدو ساحراً وأنيقاً حتى أكاد لا أعرفه ، لكن حتى فتاة مثلي لا يمكن أن تنسى خطاياها ..وهو أحدها ، لم أعد اسمع أي شيء ، ويُخَيَل لي أنّ لا صوت هنا سوى صوت دقات قلبي تصدح بمسرح صدري الفارغ ، وقادني المشهد الى الماضي .. الى أيام الجامعة بالتحديد ..
كنا – أنا وكمال – بذات الجامعة ، كنت أدرس الادب وهو يدرس علم النفس ، وبالطبع كنت اعلم أنه سيصبح طبيباً بعد التخرج ، وبالطبع كنت أعرف أنه متيم بي ..وكان كمال فرصة لا بأس بها ..حتى لفتاة جميلة وفقيرة مثلي .. كان هو الخيار الأنسب لي ..لكن الحياة لا رهانات عليها ..و وسط رقعة الشطرنج هذه ..رمت الحياة بـ “هشام الحاكم ” لتجعلني أعيد حساباتي ..هشام الثري ..حلم كل فتيات الجامعة أعجب بي أنا .. ولا مجال للمثاليات هنا .. جمالي الساحق شكل إغراءً له .. وثراءه الفاحش شكل إغراءً آخر بالنسبة لي ..وهكذا و وسط دهشة الجميع .. تقدم هشام لخطبتي ..لكني رفضته بطريقة لبقة وناعمة .. ولم يكُن هذا الرفض إلا لجعله يصر على الزواج بي .. وأخذ يقنعني بكل الوسائل – رغم اقتناعي التام – وتقدم لي مرة ثانية وعندها وافقت .. وهذا هو بالذات ما حطم قلب كمال ..
لم يجرؤ على معاتبتي .. حتى هو – بطريقة ما – أدرك أن الحياة لا تسير إلا بهذا الشكل كان لدي طموحات وأحلام ..كنت أود أن أصبح كاتبة مشهورة وثرية أيضاً .. وهذا ما كان لِيتحقق مع كمال .. وإن كان سيتحقق فكان سيأخذ سنوات طويلة ..وأنا فتاة لا أحب الانتظار .. ولا أراهن على جواد خاسر .. وهشام كان الطريق الأقصر لكل أحلامي ..وضعت تُرهات الحُب جانباً ..ومضيت لما هو أفضل بكثير .. بعدها اختفى كمال من حياتي ..ولم اتوقع أنني سأعود لرؤيته يوماً ..وبهذا الشكل خاصة ..لكن الحياة لا تكف عن ادهاشي .. وها هي ذا ..تجلب لي كمال ..وسيماً ..بهيًا .. وعلى ما يبدو ثريًا أيضاً .. ولا يقف الأمر عند هذا .. بل يجلس مع صفاء ويقهقه مِلء شدقيه ..تلك البائسة بثوب الحداد البالي ..تذكرَت الآن كيف تضحك .. لكنه ليس وقت الاستسلام الآن ..
تقدمت بخطى واثقة وسلمت عليهما .. وانضم هشام لنا .. وتوضح أنهما لا يعرفان كمال قبلاً ..وكان عليّ الآن أن أعرفهما عليه ..كمال ..صديق قديم من أيام الجامعة .. ولا يبدو أن هناك من شمّ رائحة الكذب بحديثي .. وانتهت الحفلة الأسطورية ..ومضى كل واحد الى بيته .. وما إن وضع هشام رأسه على وسادته حتى أصبح في عالم الأحلام .. أما أنا ..فالنوم جافاني .. وبقيت أحدق بالسقف .. وعقلي لا يتوقف عن سرد الأسئلة .. لماذا عاد كمال ؟ ولماذا الآن ؟ هل يسعى للانتقام ؟ هل ما زال يحبني ؟ ولماذا قلبي يدق هكذا ؟
بيروت _ نيسان _1990
هشام الحاكم :
لا شيء في هذا العالم أجمل من قوس ابتسامة صفاء ، تلك الابتسامة التي مضى سنوات على اختفائها ، مُنذ وفاة والداي أصبحت صفاء وحيدة وبائسة .. بعيدة عن العالم .. وعنيّ أيضاً ، حاولت بشتى الطرق أن أجعلها تعود كما كانت ، لكن وقع الصدمة كان كافياً لجعلها تنسحب من كل شيء ، أهديتٌها سيارة جديدة .. أخذتُها لـِ “لندن” لِكونها أكثر المدن التي تُحبها ، وعرضتُ لوحاتها في أكبر المعارض بالعاصمة ، كل هذا لم يُعِد صفاء للحياة ، انطوت على نفسها .. ودفنت نفسها بقوقعة الحزن ، ورفضت أن تُغادر منزل العائلة .. حتى بعد زواجي ، لكنني لم أستسلم للأمر ، بقيتُ أزورها و أحِنُ عليها وأهتم بكل أمورها ، كُنتُ أثق أنها ستعود للحياة ، لكن ما لم أتوقعه أن تعود بفضل شخص آخر غيري !
حدث هذا قبل أسبوع ، دعَتني صفاء للعشاء قائلةً أن هناك أمر مهم تود إخباري به ، اصطحبتُ رزان للموعد ومضينا ، وهناك كانت المُفاجأة ، كانت صفاء برفقة شخصٍ آخر ، وبعد الكثير من المقدمات .. إتضح أنه كمال ، ذلك الطبيب النفسي .. والصديق القديم لرزان ، استطعت معرفته .. فسبق أن تعرفت عليه في حفلة التكريم الخاصة برزان قبل بضعة أشهر ، في الحقيقة .. كانت دهشتي كبيرة ، لكن فرحتي أكبر ، وأخيرًا فكرت صفاء بالزواج والاستقرار ، وعن حُب وقناعة ، وليس نتيجة أي ضغط
على الرغم من أن كمال هذا لا يروقني كثيراً ، لكن ما يُضيرُني أنا ؟ المهم أن صفاء تحبه وتجد سعادتها معه ، سعادتها التي بدأت بالظهور منذُ بضعة أشهر ، وأنا الذي ظننتها تجاوزت حزنها لوحدها ، لكن في واقع الأمر ، كمال هو مَن انتشلها من حزنها ، فمنذُ أن دخل حياتها .. بدأت بالتغيُرّ ، خلعت الأسود .. وبدأت بِـارتداء ألوان ربيعية .. وعادت لوحاتها المذهلة للنور ، حتى عيناها بدأتا تلمعان ببريقٍ غريب .. بريق لم أعرف سببه حتى الآن ، إذن .. فالحب طرق باب قلبها .. و أنا سعيد بهذا جدًا .
كمال :
لا شيء يُخيفُني الآن أكثر من غضب رزان ، فمنذ علمت بعلاقتي بصفاء وهُناك تحدٍ واضح بعينيها ، بالطبع تظاهرت بالسعادة .. وهنأتني وصفاء على زواجنا ، حيلها وكذبها ينطلي على الجميع ، لكن ليس عليّ أنا ، أعرفها أكثر مما تعرف نفسها ، ربما تظن أنني أسعى للانتقام منها عن طريق صفاء ، لكن هذا ليس صحيحاً ، لم أخطط لهذا أبداً ، كان الأمر مجرد مصادفة ، قابلتُ صفاء بحفل التكريم .. وجذبتني بهدوئها واتزانها ، كانت الفتاة التي أبحث عنها .. الفتاة الملائكية .. بطُهر أمي ، فتاة لا تُشبه رزان بشيء ،وحتى بعد معرفتي أنها قريبة رزان .. لم أتراجع عن الارتباط بها ، صفاء تبدو كملاك تحطمت أجنحته .. و أنا أصلحتُها ، ولا يًمكنني الآن إفساد الأمر ، لا أريد أن أكون سبباً في تعاستها .
صفاء :
تلك اللحظة التي تصل بها لِـ أقصى مرحلة من القنوط ، تُذهلك الحياة بلامنطقيتها .. وتغدق عليك بأماني قديمة .. أنت نفسك كنت قد نسيتها ، كنتُ فعلاً نسيتُ أمر الحب والمشاعر ، كنتُ محطمة بالفعل ، وجاء كمال .. كاملاً كالبدر ، وسحبني نحو عالم ساحر .. مضيتُ معه بلا تردد .. لِأُشاركه تفاصيل حياته ، وليكون حاضرًا في كل تفاصيلي ، منذُ اللقاء الأول .. منذُ دهشة البداية .. علمت أن هناك قدراً بهيجًا ينتظرني برفقة كمال .. وليس أي رجل آخر .
فصل الجنـــون
رزان :
منذُ عودة كمال بهذه الطريقة ، و أنا أشعر بقلبي يحترق ، نار الغيرة تشتعل بقلبي ، والماضي لا ينفك عن ملاحقتي .. بصحوتي ومنامي ، ذلك الماضي .. الذي اقترفتُ به خطيئتي الأولى .. عندما فضلتُ هشام الثري على كمال المُعدم ، هل يجب عليّ الشعور بتأنيب الضمير ؟ بالطبع لا ، أنا فعلت الأفضل لكلينا ، لكن ما يجعلني الآن أفكر بكل هذا هو زواج كمال من صفاء , تلك البائسة تحصل على كمال البهيج .. و أنا أفني عمري مع هشام العقيم !
أعترف .. أن حياتي مع هشام استثنائية ، هشام الذي وهبني أكثر مما لديه و أكثر مما أستحق ، هشام المخدوع بي والذي يظن أن الحب وحده هو ما يمنعني من الإشارة لموضوع عُقمه .. و أنني لن أصبح أمًا أبدًا ، هشام الذي حقق كل أحلامي ، هشام الذي جعلني سُلطانة ، هشام يُحِبُني كثيراً .. مسكين .. لو يعلم فقط بما يدور برأسي ، لو يعلم أنني لم أحبه يومًا ، لو يعلم أنني أحسد صفاء على كل ما تملكه ، بل و أنوي سلبها كل شيء ، لن أسمح لها بالسعادة ، وقلبُ كمال .. لي أنا .. لي وحدي ، ولي بكمال مآرب أخرى .
بيروت _ 1991
كمال :
لم يكن علي فعل ذلك ، أشعُر بالدنس .. لكن ما حيلتي ؟ لم يكن ذنبي .. أجل لم يكن ، أنا ضحية فقط ، ضحية الحب اللعين ، وهي التي بدأت كل شيء ، حاولتُ أن أقاومها بكل جهدي ، تهربتُ منها .. ومن رغبتي بها ، لكنها أغوتني ، تعلم أنني لا زلتُ أحبها .. واستغلت هذا بأبشع الطرق ، قادتني معها لدرب الخطيئة ، جعلتني أخون أطهر إنسانة عرفتها ، لا زلتُ للآن لا أستطيع فهم هذه المرأة ، أحببتها لسنوات .. تحملت كل شيء .. تفضيلها لهشام عليّ .. تركها لي .. سُخريتها مني .. تحملتُ البُعد واليأس ، تحملتُ ليالي الشوق القاتلة ، و أقسمتُ أن أكُف عن كُوني عبدًا لها ، وما إن قدَمَت نفسها لي .. حتى نقضتُ كل عهودي السابقة ، ووجدتُ نفسي أمضي معها لقدر يُفضي لِأرذل الإحتمالات ، للقدر الذي أكون به خائنًا .. لعينًا ، وكيف أرفض ذلك ؟ بعد أن أغدقت علي بما لم أكُن أحصل عليه منها حتى في أحلامي !
مُنذُ شهور و أنا أعيش معها مُغامرات مجنونة ، تسوق مجنون .. رقص تحت المطر .. تذاكر لا تحصى للسينما والمسارح ، المقاهي .. الشوارع .. الفنادق .. والكوخ السري .. المدينة بكاملها شهدت على حُبنا ، صنعنا معرض هائل من الصور لنا .. بكل الأماكن التي زُرناها ، استندنا على كل جدار في المدينة ، ولم تَعُد الجاذبية تعني لي شيئاً .. سوى حضن رزان , مع رزان فقط .. أعودُ طفلاً تُغني لهُ أمه حتى ينام ، أعود مُراهق مجنون .. يصطحب حبيبته للسينما .. يجلس في المقاعد الأخيرة .. ويتعمد أن يكون الفلم المعروض سيئاً .. رُبما ليسرق قُبلة أو اثنتَين ! كيف لي أن أتجاهل كل هذا الحُب الذي انتظرتُه لسنوات ؟ إنها لعينة .. و أنا عاهر .. لكنني أحبها ، ولا جدال في ذلك .
صفاء :
لم تكُن بداية هذا اليوم جيدة , كُنتُ أشعر بصداعٍ قاتل .. كنتُ مشوشة .. و أفكر في الليلة الماضية ، أفكر بذلك الحلم الغريب .. تلك الغريبة التي التقيتُها بذات اليوم الذي التقيتُ به كمال لِأول مرة ، لقد عادت تسرد لي كلامها الغريب .. رددت تلك الأبيات ذاتها ثلاث مرات ، ومَضَت بطريقها وهي تُقَهقِه ببلادة المجانين ، كُنتُ أسأل نفسي .. لماذا الآن ؟ كُنتُ قد نسيتُها بالفعل ، كان قلبي ينقبض كُلما فكرت بهذا الحلم .. وبحقيقة النبوءات ، كنتُ بمزاج سيء حقاً .. ولولا موعدي مع الطبيبة وصديقاتي ما كنتُ لِأخرج من المنزل
لكن كُل هذا الصراع اختفى مع جملة الطبيبة ” مبارك .. أنتِ حامل ” ورحتُ أخطط فورًا بالطريقة التي سأخبر بها كمال ، ألغيتُ موعدي مع صديقاتي .. ولم أشأ أن أتطفل على كمال بعيادته .. فهو لا يُحِب ذلك .. وبالتأكيد لديه الكثير من المرضى و المواعيد ، سرتُ لمنزلي و أنا أنوي أن أحضر مُفاجأة لِه , لكن ما لم أتوقعه أبدًا .. أن تكون المُفاجأة في انتظاري .. على هيئة كمال يحتضن رزان وهي ممددة على الأرض وغائبة عن الوعي .. وكمال بحالة صدمة .. فقد كان يبكي كطفلٍ فقدَ أمه ، و يُردد كلمات لم أفهمها .. كان المشهد الأكثر فجعًا بحياتي .
كمال :
لا تكفي أية شتيمة بحق هذه المرأة ، و أنا الذي ظننتُ أن الحُب وحده هو ما يجمعنا ، وفي واقع الحال .. كان الحُب من طرفي أنا فقط .. هذه اللعينة لا تُحِب سوى ذاتها ، لكن كُل هذا ليس بغريب عنها ، تزوَجَت هشام لِأجل مالِه ، و قدَمَت نفسها لي باسم الحُب المُزيف ، وفي الحقيقة كانت تستغفلني فقط .. فعَلَت كُل ذلك لِأجل الحصول على ملفات مرضايّ .. لِتكون المادة الخام لرواياتها ، على مدى أشهر كانت تستغلُني فقط ، جعَلَت مني فاسقا وخائنًا ، كنتُ مسحورًا بالوهم فقط ، حينما قرأت روايتها ، و أنا أغوص بسحر كلماتها .. كنتُ أتمنى لو أكون مُخطئاً .. أتمنى لو يكون مجرد شك ليس بمكانه ، لكن مع كُل سطر آخر كانت الحقيقة تتجلى أمامي ، الشخصيات .. الأحداث .. النهايات .. الرواية بأكملها كانت تجسيد حقيقي لحياة عدد من مرضايّ .
أخبرتُها أن تأتي فورًا لمنزلي ، فقد كنتُ أعلم أن صفاء لن تعود لِوقت مُتأخر ، اندفعتُ بجنون لِمنزلي .. لِأجدها قد وصلَت قبلي ، كنتُ أنوي مُعاتبتها .. شَتمِها ربما .. تَركها .. لكن أبدًا لم أكُن أنوي قتلها ، وبدأتُ أعاتبها على سرقة ملفات مرضاي .. وأنا أسرد لها بغضبٍ واضح ما يُمكن أن يحصُل لي لو اكتشف أحد المرضى هذا الأمر ، كنتُ بالتأكيد سأتعرض للمُساءلة القانونية ، وقد بدا هذا الكلام لا يُثير اهتمامها حتى ، جلَسَت على الأريكة واضعةً قدم فوق أخرى ، و أخذت تُخبرني بما جعلني أفقد صوابي حقاً
قالت بإيجاز : أنها حامل ! وتُريدُني أن أهرب معها .. أن أترُك كُل شيء خلفي وأمضي معها ، رفضتُ ذلك بالطبع ، هُنا بالذات تَخَلَت عن هدوئها وأخذت تصرُخ وتُهددني بأنها ستُخبر الجميع بعلاقتنا وستفضح أمر الملفات .. بل وستجعَل نفسها ضحية بكل هذا ، عندها فقط تحَوَلتُ لِإنسان آخر ، فكرتُ فقط بأنني لا أريد أن أخسر صفاء .. عملي .. حياتي .. ووسط كُل هذا الضجيج ، وجدتُ نفسي أمسك برقبة رزان وأضغط عليها بقوة ، كُنتُ أريد أن تصمت فقط ، لكن ليس وصولًا للِصمت الأبدي .. أُقسِم أنني لم أكُن أنوي قتلها ، الآن لا يكفي أنها جعلت مني خائنًا .. بل أصبحتُ قاتلًا أيضًا .
فصل الهـــروب
هشام :
أتمنى فقط لو أستطيع نسيان كل هذه التفاصيل المريرة ، أجل .. أنا هُنا الرجل المخدوع بزوجته ، لا تكفي أية كلمة لِوصف هذا الشعور ، بدأت الحقيقة بالظهور وجَلَبَت بؤسًا لا ينتهي ليّ ولِصفاء ، بدأ كُل شيء من نتيجة تقرير تشريح جُثة رزان ، لقد كانت حامل عند وفاتها .. وتمّ قتلها خنقًا بِواسطة اليَدَين ، وتابعت الشُرطة تحقيقاتها ، لِيَتبَين أن القاتل هو كمال ، وأن هُناك علاقة بينهما بدأت مُنذُ شهور ، والقتل نتج بعد خلاف بينهما ، طبعا بدون الغوص بالتفاصيل المريرة ..
وبالوقت الذي أخذته الحقيقة حتى تظهر .. كانت هذه الحقائق وحدها كفيلة بتحطيم قلبي تماما ، أما صفاء .. فقدت عقلها وإحساسها بالحياة بشكل تام ، وذلك اللعين .. كان بحالة صدمة .. كانت كل الدلائل تشير اليه .. وكانت الشرطة تُحملهُ على الاعتراف لِيُدان بجريمته ، كُل هذه الأحداث مرتّ بسُرعة مُدهشة ، وسُرعان ما وجدتُ نفسي وحيدا مع صفاء ، وعلى عاتقي مهمة ارجاعها للحياة من جديد ، كنتُ أشعر بكل ما تشعر به .. كنا بذات الموقف ، ولذلك لم يكن علي الاستسلام ، كنتُ أعلم أنني سأنهار في أيةِ لحظة .. لكنني كنتُ أُقنع نفسي بأنهُ ليس الوقت المناسب لهذا ، عليّ إنقاذ صفاء من دوامة الحزن واليأس وجلد الذات ، وعليّ الهروب من أصداء هذه الفضيحة ، المجلات .. الصُحف .. المواقع الاخبارية .. كانت كُلها تثرثر باستفاضة عن قتل زوجة رجل الأعمال الشهير .. و الأسوأ خيانتها له ، كان علي أن أمضي بما تبقى لي من كرامة ، إن كنتُ قد خسرتُ كل شيء .. فَلَن أخسر أهم شيء .. لن أخسر صفاء أبدًا .
صفاء :
يصعُب عليّ الحديث عن كُل هذا ، لكن لِكُلٍ منا قدَرُه .. وعليهِ أن يَعشهُ بالكامل ، وقدري كان يُحتم عليّ أن أشهد في المحكمة ضد أكثر إنسان أحببته في الوجود ، كانت آخر كلمة سمعتُها منه هي ” سامحيني ” ، ولا أدري كَم يلزمني من السنوات حتى أُسامحهُ فعلاً .. أو حتى أتجاوز كُل هذا ، لكن ما أعلمهُ أن وجود هشام بِجانبي يخلق لدي حالة من الطمأنينة والدفء ، وما أعلمهُ أيضا أنني _ وكمال_ سنلتقي غدًا في محكمة الله .. وهُناك العدلُ يُقام .
هشام :
كانت أولى خطواتي للنسيان ، هي الهروب للجانب الآخر من الكُرة الأرضية ، برفقة صفاء بالطبع ، والبُعد عن كُل ما يتعلق بالماضي وكوارثه ، لذلك حينما وصلنا ِلِـ “لندن” كانت صفاء قد فقدت نصف عقلها ، وللحفاظ على ما تبقى من روحها ، أودعتُها في مصحة نفسية ، خاصةً بعد محاولتها في إجهاض طفلها ، قائلةً : أنها تمقِت كُل شيء يُذكرها بذلك القاتل .. ولا ألومها في ذلك أبدًا
وقبل أن أضع أية احترازات أخرى بهذا الشأن ، رُزِقَت صفاء بطفلة تُشبهها لِأقصى حد .. ووسط دهشة الجميع .. الطفلة التي ظننتُها ستكون وباءً على صفاء .. كانت وابلًا من السعادة والفرح ، جلبَت معها الشفاء لِروح صفاء ، بالطبع خلّفَ الماضي نُدبة عظيمة بأرواحنا .. لكننا تعلمنا ألا نلمسها حتى لا تعود للنزف ، كان علينا بِكُل الأحوال أن نمضي بِحياتنا .. و أن نعتاد كل شيء .
فصل النسيـــان
لندن 1_ نيسان _ 2012
ورد الحاكم :
لعنةُ النهايات ، هي ذاتُها لعنة الفواصل .. لا يكفي أن تُجيد النحو بشكلٍ جيد ، ولا تكفي معرفتك أين توضع الفاصلة .. وأن النقطة هي النهاية ، لأن الحياة ليست سهلة كما النحو _ حتى لِفتاة مثلي ولِدَت بِبلد أجنبي _ دائمًا ما تأخذ الأحداث مُنحنى آخر ، وتَجِدُ الحياة كَممحاةٌ عظيمة ، تمحو نِقاطُك وتُسطّر بدلًا منها فواصل دامية ، والحبر بلا شك .. هو دماؤكَ أنت .
“اليوم هو يوم النسيان” هذا ما قالتهُ أمي اليوم ، بعد أن أخبرها الطبيب أنها مُصابة بالزهايمر .. لكنها مازالت في المرحلة الأولى فقط ، أمي فرحت بشكل مرعب ، بل وقررت أن نحتفل على الشاطئ !
كنتُ أراقبها بصمت ، أعلم أنها غريبة الى حد ما .. لكنها سعيدة وتضحك من أعماق قلبها ولا أستطيع القول أنني أريد أكثر من هذا أصلاً ، أراقبها منذُ الصباح .. وهي تدندن .. تُسرح شعرها الطويل .. تضع أحمر الشفاه .. وتطبع قُبلة على المرآة .. ترتدي فستاناً ربيعياً .. تُمسك صندوقها الأسود .. وتمشي بزهو وفرح .. وعلى غير العادة .. أصرت أن تقود السيارة بنفسها ، حينما وصلنا للشاطئ حدقت في عّينيّ طويلاً وقالت : أنا سأنسى كُل شيء يا ورد .. وربما أنساكِ أيضاً .. لكنني سأطلب شيئاً واحداً فقط .. لا تنسيني .. إن طواني الزمن في صفحات النسيان .. أبقيني في ذاكرتِك وقلبكِ .. ولا يُهمني ما بعد هذا .. وأردفت وهي تُخرج صندوقها : اليوم الشمس لي أنا .. لي وحدي .. !
وركَضَت نحو الشاطئ بلهفة عاشقة .. وأخذَت تَحرِق دفاتر مُذكراتها .. كأنها تفعل شيئاً عادياً .. كأنها تُصلي .. ورحتُ أسأل نفسي عما يجعل الإنسان يدون تفاصيل حياته على مدى سنين .. ثُم يحرقها بلا أدنى شعور ؟
ومن زاويتي هذه ، بينما أدون هذا ، أُراقب زوجة خالي “بيلا” وهي مُتسمرة مُنذ أكثر من ساعة ، تجلس على كرسيها وعلى وجهها ابتسامة مُتعَبَة .. بعدَ أن ادّعى خالي هشام أنهُ يستطيع رسمها ويملك الموهبة لكنهُ لم يجد الوقت المُناسب لهذا .. أجزم أنني سأسمع صرخة مُدوية حالما ترى “بيلا” اللوحة العظيمة .. مسكين خالي ، لقد ورطَ نفسه . . .
وأمي .. أمي التي لا تُشبه أحدًا .. ترفع فُستانها .. وتقترب من الموج الغادر .. تبدو بعالم آخر .. تبدو مثل لوحة قديمة .. في غروبٍ مَنسيّ .. تُغمض عينيها وتبتسم .. تُلوح لي كما لو أنها تُلوح للقدر .. تشعُر باللحظة ذاتها بدون أن تُمثِل شيئًا آخر .. أجزم أنها الآن فقط .. في هذه اللحظة بالذات .. استطاعت أن تُسامح ذلك الرجل .. الرجُل الذي قال لها قبل عشرين عامًا “سامحيني” .
_ تمت_
ملاحظة :
1 ـ فكرة الخطايا السبع مقُتبسة من الفيلم الأجنبي ” seven ” لكن أحداث قصتي لا تُشبه الفيلم بشيء ، والخطايا هي ( الشرَه ، الجشع ، الكسل ، الشهوة ، الكبرياء ، الحسد ، الغضب ) حيثُ أن “رزان” و”كمال” تشاركا سِتة خطايا ، أما الخطيئة السابعة فقد كانت من نصيب “صفاء ” لكن أية واحدة ؟ حسنا .. هذا يُعد لُغزًا عليكُم التفكير به .
2 ـ البيت الأول مُقتبس من الكاتب ” ديك الجن ” وبقية الأبيات هي بقلمي أنا ، وحرف “ج” الذي في نهاية الأبيات يٌقرأ كما بالانجليزية ” ch ” .
تاريخ النشر : 2018-04-30