أدب الرعب والعام

آكل السحت

جثم الليل مصاحبا ظلمة موحشة، لا يسمع فيها خفق النعال، هو الآن في أضعف حالاته، كائن بشري متهالك، مضعضع العزيمة، مستنزف القوى، يرتمي على سرير مهترئ، يترنح ذات اليمين و ذات الشمال كلما حرك ساكنا، لقد كان وغدا شرانيا منغمسا في النجاسة ومازال، لكنه الآن استخلص لنفسه مبيحات لسلوكه المنفلت، صحيح أن معظمها مجرد أباطيل خاوية المكنون، لكنها قادرة على جعله يتلذذ بآخر نفس، في لفافة النيكوتين، قادرة على جعله ينسلخ عن أفكاره المعلقمة، التي تجثو فوق ظهره كصخرة سيزيف، هي عقابه الأبدي الحتمي، مصيره المدلهم الملحمي، الويل لمن كان السبب… الويل لنفسه.

لا يزال الوقت يتخذ طابعه الحلزوني المتلكئ، بينما خرقته البالية ممددة على طول الفراش، مقلتاه تحملقان في السقف بثبات، يحاول أن يفكر في اللاشيء، لكن ذكرياته البائسة، تأبى أن تضمحل أو ترضخ، كأنها شريط سينمائي خام، يتجدد من تلقاء نفسه، كلما استقرت جمجمته على الوسادة، نبدأه من سارة، تلك الحسناء العشرينية، زميلته في العمل، يتذكر اليوم الذي قرر أن يفصح لها عن مشاعره، أن يطلب يدها، و كشخص أربعيني مبتذل يعشق التكرار، اصطحبها إلى مكان شاعري جدا، مقهى مطل على البحر، تردد كثيرا، و انحبست الكلمات في زوره، كأن لم يعرف أبجدية في حياته.

إقرأ أيضا: على قارعة الطريق

المهم أن الفتاة لم توافق في النهاية، لكنها رفضته بطريق لبقة، لبقة بشكل مفرط، أجزمت أنها تكن له من الحب و الاحترام، ما يجعلها غير قادرة على تخيل شخص وقور مثله، يقطن معها بنفس البيت، يلبس بيجامة متآكلة، و يزمجر بحنق لأن السلطة اليوم لم تكن متبلة بشكل جيد…

يتذكر أيضا، ذلك اليوم الذي قدم إليه شخص يريد خدمات خارجة عن صلاحيات عمله، فأبى عنها. لكن الرجل أخرج من جيبه مبلغا ماليا مخضرما لإتمام المهمة، كان يعلم في قرارة نفسه، أنه سيصبح موظفا مرتشيا ذليلا يشار إليه بالبنان، آن الفلوس الحرام بلا بركة، لكن الرجل ظل يحولق و يستذكر الله، مرددا أن المبلغ ليس رشوة، إنه مجرد (قهوة). لا ينكر أنه استساغ الكلمة، نعم مجرد (قهوة)، دراهم معدودات لا تسمن و لا تغني من جوع. و من هنا بدأت اللعنة، و أصبحت معاملاته لا تتم إلا بأقداح البن المغلي، ينهب، يسرق، يزور، فقط ليحصل على بصقة من الكافيين.

مع هذه الحفنة الزاخرة من الذكريات، تأججت آلالام رأسه ثانية، يحتاج فقط إلى جرعة معززة من الميلاتونين اللعين، ليدخل في سبات عميق فارا إلى العالم الآخر، عله يفلت من هذا السيناريو، الذي بات يطوقه كل لحظة، و يقذف به أسفل سافلين، لكن يبدو أن الأرق سيكون خله الوفي لهذه الليلة أيضا.

إقرأ أيضا: رحلة إنسان

طرقات متراتبة تصاعدت من العدم مهشمة وصلة الجمود التى تحتل الغرفة، ينتفض سعيد بتوجس محاولا تبين مصدر الجلبة، يهندم منامته و هو يتقدم ببطئ نحو المرآة الراسية أمام السرير، الحقيقة أنه يعرف هذه الطرقات جيدا، لقد اعتاد عليها منذ زمن، لكنه يحب أن يتخذ شخصية المتناسي، الأبله من حين لآخر.

يتسمر سعيد أمام المرآة، يتمعن في انعكاسه الواقف كالبنيان المرصوص، و هو يتفحصه بمقت و اشمئزاز، كيف لا و هو المحارب الأناضولي، منبع القيم، صاحب الأنفة، و العزة في نفسه، حتما هو من يستحق أن يكون في هذا البعد من العالم، لكنه لن يصمد، إنه مجرد غر يعتز بمثاليته الوهمية في عالمه الأجوف، إنه مجرد انعكاس فظ، يقطن هذه المرآة الرثيثة، يهوى زعزعته كل ليلة بطرقاته الخائبة، طمعا في دخول سجال عقيم عن الأخلاق، و المثل العليا، لكنه لا يملك من الحمية، ما يجعله قادرا على الخروج و مجابهة جبروت هذا العالم العفن، حيث انهزم سعيد، حيث أصبحت الرشوة قهوة، حيث أضحى الليل فرصة للتفكير، و الصبح نقاهة العودة للملذات.

إقرأ أيضا: في منفى حياتي

لا يزال الإنعكاس يحتفظ بقسماته الواجمة، لكنها تحولت فجأة لملامح ساخرة مفتعلة، كأنه يؤكد عدم اقتناعه بما سبق. نظرات شاخصة يتبادلها الطرفان قي تحدي ملحوظ، يبدو لوهلة مشهدا تراجيديا، لم تعد فيه الكلمة سيدة الموقف… أطلق سعيد ضحكة هستيرية، أتبعها بصراخ عنيف أزهق قواه، حتى هوى إلى الأرض مستسلما، اكتست بعدها الغرفة لونا داكنا، استحال من بعده الرؤية، فعاد الصمت ضيفا سمجا، يتربع عرش المكان من جديد.

استفاقت الشمس من رقادها، و أرسلت حزما لا متناهية من الفوتونات، اللاتي اخترقن الحاجز الزجاجي لغرفته. استيقظ سعيد بتثاقل كعادته، مرتسما ابتسامته المصطنعة… ارتدى بذلتة الابهة، و حمل حقيبته الجلدية، ثم خرج من داره يتخلل شوارع الحارة بخفة و بشاشة، يوزع التحية برصانة من حين لأخر، رآه جاره فهمس لصاحبه و هو يحاوره:

_ انظر هناك يا صاح الرجل الأصلع، ذو البذلة الرصاصية ،إنه سعيد الذي حدثتك عنه، سعيد الموظف بالمصلحة الادارية يا رجل!!! حقا إنه شخص أصيل كريم المحتد، فقط أكرمه ببضع أوراق نقدية، ليقضي لك حوائجك.

فرد صاحبه بعد أن قام بتفحصه هو الآخر:

_ آه!! نعم نعم تذكرت، إنه صاحب الرشوة.

ليزمجر الآخر ناقما:

_ لا تقل رشوة يا صاح، إنها مجرد قهوة!

كوثر الحماني

ـــ المغرب ـــ للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
7 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى