أدب الرعب والعام

إبراهيمي الجَنان

مقدمة:

بعضنا قد يحتاج صفعة قاسية من الحياة ليستفيق؛ بلاء يشتت وجدانه، روح تنسحب من بين ذراعيه أو دمعة على خد عزيز عليه.

لكن البعض الآخر يحتاج قلبا جديدا ليتغير،  يحتاج روحا جديدة تدعمه من الداخل كي يحارب الحياة بقوة، يحتاج أن يولد من جديد.

….

سحب جِنان نفسا عميقا محاولا استجماع شتات نفسه، وضع الطبيب قناع التخدير على وجهه مبتسما،  تنفس منه فأغلقت عيناه غصبا عنه ثم سريعا تلاشت أصوات الطاقم  ليجد نفسه غارقا في ظلام مريح تام، ظلام لا تزعجه نوبات قلبية مفاجئة ولا ألم حارق.

لم يكن جنان قد بلغ بعد الثالثة من عمره حين اكتُشفَ  أن لديه فشلا في القلب، ونظرا لصغر سنه آنذاك كان من المستحيل إجراء جراحة زرع له قبل سن الخامسة عشر، لكن إفلاس عمل والده المفاجئ وقف عائقا قويا أمام هذا.

ومضت خمس سنوات أخرى وهو يعاني مع نوباته القلبية المفاجئة ونوبات الإغماء المتكررة التي تصيبه بسبب عجز قلبه عن إرسال أوكسجين كاف للدماغ.

لم يكن بإمكانه أن يعبر عن غضبه وانفعالاته كغيره بل حتم عليه أن يعيش كرجل جليدي لا يملك أية مشاعر والمرات القليلة التي سمح فيها لنفسه بفقدان السيطرة قد كاد يفقد معها حياته في نوبات حادة.

الرياضة كانت حلما صعب التحقيق وأكداس الأدوية التي ترافق وجبات الطعام باتت شيئا عاديا له.

عاش عشرين سنة من حياته وهو يستيقظ كل يوم خاشيا أن يكون قلبه المرهق قد توقف خلال نومه، ولربما هذا هو ما عجل بانهياره النهائي فلبث في المشفى بضعة أيام قبل أن يقرر الطبيب أن قلبه لن يستطيع الصمود أكثر، وأن أمامه أسبوع على الأغلب قبل أن ينهار قلبه تماما، وإن لم يتم إجراء الجراحة خلال هذا الوقت الوجيز فلا أمل في إنقاذه مما دفع بعائلته للتحرك العاجل.

 اضطروا لرهن إحدى طوابق المنزل وبيع كل الذهب الموجود في المنزل، إضافة للاستلاف من معظم أفراد العائلة والجيران. في النهاية تم الأمر وأدخل جنان غرفة الجراحة على عجل.

……

سحب جنان نفسا عميقا، ثم ابتسم لصورته المنعكسة على المرآة.

خرج من غرفته على مهل ثم  قفز فوق الداربزين لينزلق عليه حتى آخر السلم، لم يكن مولعا بالرياضات الخطيرة لكن أصبحت هذه عادة لديه مؤخرا .

دلف لغرفة الجلوس حيث اجتمعت العائلة على الفطور، ملأ إبريقه المحمول بالقهوة ثم قال مبتسما

«سأغادر الآن»

عبس للحظة ثم أردف : «ولا تتصلوا بي كل دقيقة، فأنا بخير تماما»

سأله أبوه :

«هل أخذت معك المال الكافي؟»

وسألت أمه

«هل أخذت أدويتك؟»

نظر جنان لهم وقال وهو يحكم غطاء الإبريق الأسود:

«معي مال كاف يا أبي وقد أخذت بطاقة البنك للاحتياط. أخذت دوائي يا أمي. سأكون بخير»

تمتم أخوه الأكبر وهو يرفع كأس الشاي لفمه

«اتصل بنا حين تصل»

«سأفعل. إلى اللقاء»

ارتدى حذائه عند الباب ثم خرج مسرعا ليلحق بالحافلة. إنه يسكن في طنجة وقد قرر هو وصديقه المحب الانضمام لمجموعة على الفيس ستذهب في  رحلة لمراكش  لمدة أسبوع كامل.

لطالما أراد الحصول على هذه الحرية في الذهاب لأي مكان يريده دون أن تقلق عائلته عليه ولا أن يقلق هو على نفسه؛ يركض ويشرب ويأكل كيفما يحلوا له ويسهر الليالي دون هوادة ويشرب الكثير من القهوة، بالرغم من أنه مؤخرا بدأ يميل  للشاي بالنعناع أكثر من القهوة وخصوصا إن كان حلوا جدا، وهو يعالج هذا الميل الغريب بإضافة سكر إضافي لقهوته.

ميله للأشياء الحلوة غريب عليه، لقد اعتاد تجنبها بسبب أوامر الطبيب الصارمة لأنها كانت تسبب له مضاعفات مثل ارتفاع في سكر الدم الذي يضاعف متاعب قلبه، لكن مهووس بها الآن، إضافة لهوسه بأشياء أخرى مثل الوجبات الخفيفة.

وصل للمحطة سريعا فوجد الحافلة الزرقاء مركونة بمكان قريب وبجوارها يقف صديقه بطوله المهيب وبيده علبة عصير.

«صباح الخير»

عبس أمجد:

«لقد تأخرت»

«أنا آسف»

« إن المرشد ينادي، لندخل»

دخلا للحافة معا واختارا مقعدا من المقاعد الخلفية ثم جلسا عليه متجاورين، قال جنان بعد برهة حين كان المرشد يجمع سعر الرحلة ويعطي التذاكر:

«قهوة؟»

«لا بأس»

أفرغ  جنان بعضا من القهوة في غطاء الإبريق فقال أمجد متغضن الجبين بينما يتذوقها

«جنون منك أن تضيف كل هذا السكر! هل تريد أن تصاب بجلطة!»

ضحك جنان من جديد

«يعجبني مذاقها هكذا»

هز أمجد رأسه ثم ترك كوب القهوة وشأنه وعاد ليشرب عصيره:

«هذا يجعل فمي يلتصق، أ لم تكن تقول دوما أن جمال القهوة في مرارتها!  على كل العصير أفضل لي»

استغرقت الرحلة ساعات طويلة، توقفت في محطة واحدة تناول فيها الصديقان فطورا محترما ليسكتا جوعهما ثم استمرت الرحلة بعد ذلك بصمت تام، إذ كأنهم ذاهبون لجنازة، فالكل نائم أو مشغول بهاتفه.

منذ البداية اتفق الشابان مع منظم الرحلة أنهما لن يشاركا قط في البرنامج، وكل ما سيدفعانه هو ثمن الحافلة فقط، لذا بمجرد أن وصلوا لمدينة مراكش اتخذ الصديقان طريقهما مبتعدان عن المجموعة.

كشر أمجد جبينه

«يا لها من مجموعة مملة، من الجيد أننا لن نستمر معهم»

ضحك جنان مقهقها:

«وكأننا ذاهبون لجنازة»

 ثم توقف عن المشي وقال مبتسما

«أنت تعرف مراكش أكثر مني يا أمجد، لن نمشي دون هوادة هكذا! أنا جائع جدا وعرقان»

غضن أمجد جبينه

«أنت قليل الصبر كعادتك يا جنان محمد!»

ابتسم جنان هازئا

«هل تعتقد أن نطقك لاسمي كاملا سيجعلني أجلس تحت الشمس راضيا أتغزل بجمالها؟ أنا أذوب يا رجل! أذوب!»

سحب أمجد نظاراته الشمسية من جيبه وقال هازئا

«عندما اقترحت عليك الذهاب لواد لاو ثم للشفشاون اعترضت وقلت أنك تريد رؤية مراكش، اذا  اخرس واتبعني»

كان أمجد من النوع الصلب الحازم، في الثانية والعشرين من عمره لكنه يبدو كرجل ثلاثيني.

  له شعر بني محمر، عيون ضيقة رمادية، وبشرة تميل للسمار.

 لعل سلوكه الجاف وألفاظه تعود لأن والده واحد من قيادات الشرطة الجنائية، وأمه طبيبة شرعية، لقد عاش بين فرضيات الجثث والتشريح وبين صور الضحايا والمجرمين، فأصبح صارم الملامح.

 عكس جنان تماما، الذي كان ليبدو أجمل وأوسم مما هو عليه لولا أن المرض لم يفتك بجسده الضعيف فيجعله شديد النحول،  والعناية الشديد من عائلته والخوف الدائم من الموت منحاه شخصية ضعيفة مترددة.

 وقد كان  في هذه الرحلة كما الطفل الصغير الذي يخرج من حديقة منزله لأول مرة ليقابل الحياة ويعيش فيها دون رقابة وسلطة ودون قوانين، كان يجرب الحرية للمرة الأولى…حرية مع قلب جديد ينبض بداخله.

لوالدي أمجد معارف كثيرة لذا تدبير إقامة مجانية في مراكش التي تغلي أسعارها في فصل الصيف لم يكن بالشيء الصعب، بهذا حصل الاثنان على شقة متواضعة مفروشة ليقضيا بها أيام الرحلة.

بمجرد وصولهما ارتمى جنان على الكنبة راميا حقيبته على الأرض، ثم جذب هاتفه من جيبه وتنهد حين اهتز بين يديه؛ اتصال وارد من والدته.

وضع الهاتف قرب وجهه وأخذ يحدق فيه بتعابير متعبة حتى توقف اهتزازه وعادت الشاشة لسكونها، إنه الاتصال الرابع والعشرون لهذا اليوم، في ظرف ست ساعات فقط! وطوال الرحلة أجاب على أربعة منها وتجاهل العشرون الباقية بنفس الطريقة.

«اتصال آخر؟!»

رفع جنان بصره لنظرات أمجد الهازئة الذي أخرج هاتفه من جيبه ووضعه على الطاولة مع باقي مستلزماته، لقد ترك أمجد هاتفه مشغلا طوال الرحلة، وتصفح الأنترنت بهدوء دون أن يعاني من اتصالات واردة فجائية مزعجة.

تنهد:

«أجل»

هز أمجد رأسه وقال

«سأخرج لأحضر قنينة غاز وأعود»

انزلق جنان في مكانه وقال بتراخٍ

«حسنا»

عاد أمجد بعد لحظات يحمل قنينة الغاز على ظهره ومعه كيس فيه بعض الأدوات اللازمة للتركيب وتبعه جنان حافي القدمين مكتفيا بالمراقبة، ثم مازحه:

«هل سأصبح ضخما مثلك إن تناولت طعاما كثيرا في الشهور القادمة؟»

«تحتاج أطنانا من الأكل لتصبح مثلي»

نهض أمجد واقفا بقفزة بدفعة رشيقة وأعقب

«تأكدت من كل شيء، استحم أولا وسأستحم بعدك»

ابتسم جنان ثم استدار ببطء نحو الحمام

«حسنا أيها الضخم»

اكتفى الشابين بتناول العشاء في مطعم محلي قريب، ثم قضيا باقي السهرة في الشقة مع كيس ضخم من الوجبات الخفيفة والمشروبات، بيدهما قلم وورقة يخططان لما سيفعلانه بالتحديد ويقسمان المصروف بينهما  لتأمين نقود المواصلات والواجبات، ثم لترك ما يكفي من المال لأجل اللهو وتجربة بعض الأطباق  الشعبية التي يكون ثمنها مرتفعا.

سحب جنان قطعة رقائق من الكيس وضعها في فمه ثم قال متحمسا

«والطنجية، لا تنس الطنجية يا أمجد»

دفعه أمجد بقبضة يده الضخمة

«لا تصرخ بأذني، لا تبصق بقايا طعامك في وجهي»

نظر له جنان مدهوشا

«ولا أتكلم!»

«أجل، ولا تتكلم»

احتدت عينا جنان ودفع رأسه فوق كتف أمجد ثم وضع يده الملوثة بفتات الرقائق على الورقة وضغط بقوة قائلا بعزم

«الطنجية..اكتب، الطنجية!»

«طُنجنت أيامك، لوثت الورقة!»

نظر له جنان وقال

«من يأبه بهذه الورقة السخيفة، اكتب الطنجية، أعرف جيدا كم أنت مرواغ وأنا لن أخرج من هذه المدينة إن لم آكل الطنجية»

نظر له أمجد بضيق ثم كتب الكلمة بسرعة على الورقة فاندفع جنان للوراء واندس بين أكداس الوجبات الخفيفة التي تحيط به.

نظر له أمجد بطرف عينه وقال

«ثم ما هذا الوضع؟ ما كل هذه الحلويات!  عندما طلبت منك الذهاب للتبضع لم أقصد أن تحضر كيسا ممتلئا بالتراهات!»

«هذه ليست تراهات»

صمت ثم أردف ساخرا

«أم أنك حين قلت وجبات خفيفة قصدت رأس خروف مشوي؟»

«لا رأس خروف هنا غير رأسك يا جنان. أي أحمق يصرف مئة درهم على هذه الأشياء!!»

«أنت تبالغ، إنها سبعة وثمانون درهما فقط. كن دقيقا يا ابن الشرطي فإن  معلومة واحدة غير دقيقة قد تؤدي لجريمة، كما يمكن لحركة سكين خاطئة أن تمزق عضوا مهما في الجثة»

صمت أمجد طويلا ثم قال

«أحيانا أتساءل من ابن والدي حقا، أنا أم أنت؟»

انقلب جنان على ظهره ضاحكا فزمجر أمجد وهو يدفعه بطرف قدمه. لكنه بعد مدة عاد يتأمله، لقد تغيرت تصرفات جنان حقا خلال الشهرين الأخيرين بشكل لا يمكن تجاهله.

مزاجه غريب جنان الذي يعرفه كان هادئا على الدوام، طيب القلب، حتى عندما كان ينفعل ويضحك كان يفعل ذلك ضمن حدود معينة، لطالما تمنى أن يتعافى صديقه ويتخلص من القيود، فهل هذه الشخصية المنطلقة ذات اللسان اللاذع هي صديقه بعدما كسرت قيوده؟

عفوي، منطلق، جريء، وعنيد كالحيتان، وله لسان حاد يعرف متى يصبح معسولا، لسان يعرف كيف يقلب الناس له أو عليه، أيهم جنان الذي كان وأيهم جنان الذي خرج بعدما كسرت القيود؟ وأيهم جنان الذي لم يكن أبدا!

تحرك جنان أيقظه من شروده، فتبعه بعيناه ورآه يتجه نحو حقيبته على يديه وقدميه، سحب منها علبة ثم دس قرصا منها داخل فمه وابتلعه دون مياه.

أدار رأسه وقال بتعب

«لقد نسيته»

«متى ستتوقف عن تعاطي هذه الأدوية؟»

تنهد جنان واستلقى ينظر للسقف

«إنها تخفف تدريجيا، لكن الطبيب يقول أنها ضرورية كي لا أصاب بأية مضاعفات لو أن قلبي الجديد حصل فيه خلل بسبب وجوده في جسد جديد، أو لو أن جسدي اعتبر هذا العضو الجديد دخيلا»

رفع يده ثم وضعها على قلبه وقال

«أحيانا أشعر أن هذا القلب يتألم يا أمجد، يتألم جدا»

«ماذا تقصد؟»

تنهد جنان

«حين أنظر لأختي،  حين أنطق كلمة «أمي» ينقبض قلبي…إنه كما لو أنني فقدت أمي، لكن كيف لي أن أفقد أمي وهي أمامي يا أمجد! كيف لي أن أحن لها وأبكي على فراقها وهي بقربي تمرر يدها على وجهي»

سحب نفسا عميقا، ثم رفع طرف بصره نحو صديقه الذي تخشب في مكانه، ثم أطلق ضحكة

«لقد شحب لونك أيها الضخم. انس الأمر لا شك أنها مجرد هلاوس لدي»

نهض واقفا ثم اتجه نحو الحمام حيث غسل وجهه ويديه.

«سأخلد للنوم، أنا متعب. هل ستأتي؟»

«لا. سأسهر قليلا»

«كما تشاء»

في صبيحة اليوم التالي وبعد فطور متخم اتجه الصديقان للتعرف على المدينة.

تجولا  في الأزقة والشوارع على غير هدى ممتعين أنفسهم بطعام الأكشاك الصغيرة وحمرة مباني مراكش الزاهية.

كانت الدروب  تضيق تارة وتتسع تارة، مضيئة مليئة بالرسوم والألوان،  وأحيانا غامضة مرعبة تحجب المباني العالية الشمس عنها كالمتاهات المرعبة.

وما أكثر ما ضاعا!

لكنهما خرجا بطريقة أو بأخرى أحياء ودون خدش. لهث جنان:

«الحرارة لا تطاق هنا»

تقدم أمجد خطوة لأمام مباعدا ما بين ساقيه

«هل ستفقد الوعي؟»

«لماذا تتخذ هذه الوضعية! لن أفقد الوعي، أنا متعب فحسب»

بدا أمجد حائرا، هذه هي الوضعية المثالية التي كان يلجأ لها دوما لاستقبال جسد جنان الذي ينهار فوقه، لا يستطيع بعد أن يتكيف مع كونه لن يفقد الوعي مجددا.

« لن أفقد الوعي!»

ضم أمجد شفتيه بعبوس ثم انحاز مبتعدا، مرر جنان يده على جبينه المتعرق وقال

«سأكون سعيدا إن دخلنا مكانا لنستريح ونحصل على عصير منعش»

همهم أمجد ثم قال:

«لنذهب لمقشدة ونشرب شيئا إذا»

ابتسم جنان ورفع رأسه يحدق بالمباني الضخمة حوله:

«لنخرج من هذا الزقاق الضيق أولا. لقد أضعتنا مجددا وأنا الذي ظننتك تعرف مراكش»

«قلت لك أني عشت في مراكش حين كنت طفلا بسبب قضية تولاها والدي، ولم أكن أخرج كثيرا»

«حسنا أيها الضخم. فهمت»

حدجه أمجد بنظرة ساخطة، لن يتحمل أكثر هذا اللسان السليط، إن جنان يبدو أحيانا كما لو كان يتعاطى الحشيش.

لقد التقيا  في الإعدادية، كان جنان فتى مريضا دائم الغياب عن المدرسة، وكان أمجد ذكي الفصل، لكنه أيضا الطفل الذي لن يجرؤ أحد على مصادقته لأن أمه طبيبة تشريح، وكثيرا ما تشاجر مع الطلاب بسبب هذا.

حصل ذات مرة أن غيرت مدرّسة مكانه لأنه تشاجر من جديد، وبالصدفة جلس مع جنان، الطالب الضعيف المثير للشفقة، ولاحظ بسهولة أن هذا الفتى الصغير يحاول جاهدا أن يفهم مضمون التطبيق الذي أعطي لهم لكنه لم يكن يفقه شيئا، لاحظ أن القلم يرتجف في يده البيضاء الشاحبة وأن عيناه ذات الهالات مركزة على الورقة لا تتحرك. لم يكن تلميذا، كان جثة مفتوحة العينين بقلب يجاهد لينبض.

في اليوم التالي جلس بجواره من جديد مع نفس المدرّسة،  وجلس معه مع مدرّس آخر، ومن فصل لفصل  لاحق أمجد جنان حتى تمكن من تحويل تلك العينان الجامدتان نحوه، ومن ذاك اليوم بدأت أغرب صداقة في الفصل، بين جثة حية وابن طبيبة تشريح. صداقة نمت فباتت غير قابلة للكسر.

أخيرا رأى أمجد الشارع الرئيسي يلوح له فزفر أنفاسه، استدار لينظر نحو جنان لكن الزقاق كان خاويا.

«جنان  أين أنت؟  جنان»

ارتعب من فكرة أنه فقد الوعي في مكان ما، وخشي أنه تركه في ممر ما من الممرات الكثيرة التي دخلوا لها أثناء محاولة الخروج من الزقاق، كان عليه أن يبقي ذهنه صافيا، كان عليه أن ينتبه له أكثر.

«جنان، أين أنت؟»

ركض عبر الزقاق يقطر جبينه عرقا، سحب هاتفه من جيبه واستمر بالنداء بينما الهاتف يرن في أذنه.

«نعم يا أمجد»

الصوت الخاوي المتعب عبر الهاتف حفز خلاياه

«أين أنت بحق خالق السماء؟»

«أنا…»

«ماذا؟»

«لا شيء، أنا قادم»

أقفل جنان الخط فنظر أمجد للهاتف مدهوشا، وبقي في مكانه متخشبا حتى لاح له جسده جنان قادم نحوه ويده تحمل الهاتف دون أدنى قوة.

«لماذا لم تتبعني أيها ال..»

رفع جنان يده وابتسم

«أنا آسف»

«ماذا حصل؟»

ارتجفت عينا جنان لكنه قال

«شعرت بقليل من الدوار، لا شك أن الجو الحار هو السبب»

عينان لا تنظران له مباشرة، أصابع ترتجف، إن جنان يكذب.

«إنك ضعيف جدا يا رجل، ضعيف جدا»

«أجل»

«لنذهب لشرب شيء، وخلال ذلك ستخبرني بما حصل معك. هل تفهم؟»

رفع جنان نظره وابتسم

«أجل»

لحسن حظهما وجدا مقشدة قريبة، فدخلا وطلبا لنفسيهما عصيرا باردا.

«إذا؟»

رطب جنان شفتيه وقال

«ليس هناك شيء حقا، شعرت بالدوار فلبثت في مكاني قليلا ثم لحقت بك»

«أنت تكذب»

صمت أمجد للحظة ثم أعقب

«أو لربما هذا جزء من الحقيقة. ما الذي أصابك بالتشتت والدوار؟»

«الحرارة»

«جنان!»

زفر جنان أنفاسه وقال  بشرود

«فقط شعرت ببعض الغرابة»

«بسبب اختلاف المدينة؟»

 ابتسم جنان بتوتر

«لربما بسبب أنها مألوفة أكثر مما هي مختلفة»

حدجه أمجد باستنكار

«أحجية جديدة؟»

 أشاح جنان بوجهه، فهز  أمجد رأسه وقال متنهدا:

«أيا يكن.  أين نذهب تاليا؟»

«لست جائعا بعد تناولنا كل ذلك الطعام في الشوارع. ما رأيك أن نكمل النزهة في المدينة حتى المغرب ثم نعود للمنزل؟»

«كما تشاء»

مرت الأيام التالية بسلاسة، شاركا في زفاف كان في أحد الأزقة ورقصا مخترقان حشود الرجال ثم قبلا بكل سرور دعوة رجل منهم للعشاء. لقد غضب جنان من العرس الممل الذي كان أمامهما فاخترقه وبدأ يصيح بالأغاني الشعبية ويرقص أمام العازفين وسريعا انضم له باقي الشباب فاشتعل الحفل عن آخره بالصياح والرقص والطرب .

خاضا نقاشا طويلا مع المدعوين حول الأماكن التي يمكن لهم زيارتها في مراكش، وتكلم جنان مع الجمع بكلمات مراكشية واضحة وإن كانت لهجته الشمالية واضحة وضوح الشمس.

تعمقا في المدينة وتمتعا برؤية المباني الحمراء الزاهية، والمباني القديمة المليئة بالزخارف والنقوش. زارا متحفا مشهورا والتقطا الصور، ثم أخيرا في اليومين الأخيرين قررا زيارة أشهر مكان في مراكش كلها، ساحة جامع الفنا.

لقد  تركا المكان لآخر الرحلة حتى يتسنى لهما التجول في المدينة بحرية ورؤية كل ما يمكن رؤيته قبل ختمها بأجمل العروض الإستعراضية والطنجية التي صدع جنان رأس أمجد بها.

ولا وقت تكون فيه ساحة جامع الفنا حية تزخر بالناس كمثل الساعة الأخيرة من النهار، حيث تنحدر الشمس الحمراء لتنعكس على أسوار المدينة.

«ضع هاتفك في حقيبتك، واحملها من الأمام، لا تريد أن تسرق في أيامك الأخيرة. أنا سأتولى الدفع عن كل شيء لذا لا تخرج أموالك. ولا تبتعد عني حتى تضيع، لا تظن هذا المكان سهل كالزقاق الخاوي الذي كنا فيه قبل أيام. هل تفهم؟»

«حاضر سيدي الرئيس»

«أنا لا أمزح!»

«فهمت، فهمت، لنتحرك»

قامة جنان ونحوله الشديد بسبب المرض بقرب قامة أمجد الضخمة متناقضتان تماما، فهما يبدوان كأب وابنه لا كصديقان  يفرق بينهما  عامان، لكن  الصدف تدخلت لتجمعهما ببعض، فأمجد لم يكن ليرى جنان طوال حياته لولا أنه أضاع عاما دراسيا بسبب سفريات والده الدائمة.

الراقصون، العازفون، مدربوا الأفاعي والمهرجين المختلفون، هذا ما كانت تزخر به الساحة، وشعر جنان بالذهول لكل هذا الجمع الغفير فهو لم يسبق له من قبل الخروج لأماكن تزخر بالناس، وكل ما كان يفعله هو الذهاب للمبيت عند أمجد من حين لآخر أو الخروج في رحلات مدرسية تنتهي به مغمى عليه بين يدي صديقه.

لكن عاوده ذلك الشعور الغريب بألفة المكان. ذلك اليوم حين تخلف عن صديقه في الزقاق كان ذلك لأنه رأى أمام عينيه طريقا يعرفه، رأى أبوابا سبق له رؤيتها.

أصابه ذلك بالذهول وحرارة الشمس لم ترحمه فهزه دوار عنيف شتت تركيزه عن صديقه الذي غاب خلف الزقاق.

وطيلة الايام الماضية حاول جاهدا أن يتماسك بينما يتجولون هنا وهناك، لم يكن يشعر بالدهشة لاختلاف المكان، بل يشعر بالذهول من معرفته لكل زقاق ولكل طريق، تعجب من نفسه حين انطلق يتكلم بلهجة أهل المدينة رغم أنه لا يجيدها.

ارتجف بدنه وهو ينظر لوجوه العارضين، واقترن كل وجه باسم له.

 هذه ليست مرته الأولى في ساحة الفنا رغم أنها فعلا كذلك.

شد أصابعه على راحة يده وسحب نفسا عميقا وهو يشيح ببصره نحو منطقة مختلفة ثم رآها، امرأة عجوز تجلس مفترشة الأرض وتبيع أمامها ثيابا قليلة، عجوز وجهها مجعد بالكامل ويداها ترتجفان، عيناها الرقيقتان تنظران للأرض بسكون وتعب، عجوز يبدو أنها فقدت من الدنيا كل شيء.

آهة عميقة خرجت من فاه، وضع يده على قلبه وشد على قميصه بقوة. استدار ببطء فارتطم جسده بجسد صديقه الضخم الذي أمسك كتفاه بقوة

 «ما خطبك؟»

«قلبي…يؤلم…»

أمسكه أمجد باهتياج:

«تتألم! هل أحضرت أدويتك معك؟ تعال اجلس هنا»

إنه ليس ألما جسديا، ليس ألما قد تعالجه الأدوية، إنه ألم فقدان، ألم شوق، ألم ابن اشتاق لأمه، لكن كيف يفسر لصديقه المهتاج هذا؟!

تقبل رغما عنه القرص الذي دسه أمجد بين شفتيه وتجرع الماء الذي أعطاه أحد الناس لهما، بقيت عيناه معلقتان بالمرأة العجوز وازداد الألم حرقة حين رفعت عيناها الحانيتان فنظرت إليه، ولم يشعر سوى بدموعه الساخنة تنزلق على وجهه، ثم بشهقاته تمزق ضجيج الساحة المعتاد، هذا يؤلمه جدا.

استقبل كتف أمجد دموعه وانهياره الغريب وقد جعل القلق وجهه مصفرا. تجمع مزيد من الناس حولهما يراقبونهما بفضول.

«هل تتألم كثيرا؟ هل تريد أن أطلب لك الاسعاف؟»

«لا أريد الاسعاف. دعني هكذا قليلا يا أمجد. أشعر أني مرهق»

«هل نعود للمنزل؟ سأطلب سيارة أجرة»

«لا!»

وضع يده بشعره ثم أردف

«أنا بخير، الدواء ساعدني. أريد أن نكمل جولتنا»

«هل أنت واثق؟ إنك شاحب كالأموات»

«لطالما كنت شاحبا كالأموات. أنا بخير»

صاح أمجد بغضب:

 «أنا لا أصدقك، لا تنس أنك خضت جراحة من مدة يسيرة، ما تزال عرضة للمضاعفات»

شد جنان يده على ذراع صديقه ونظر له مبتسما

«ثق بي، أنا بخير»

نهض واقفا ليثبت لصديقه قوته، بلل يده بالماء ثم مسح على وجهه وتحرك خطوة للأمام ثم ابتسم

«أترى؟ لنذهب»

تنهد أمام نظرات صديقه الحازمة وقال

«إن حصل لي هذا مجددا فخذني حيث تشاء، لن أمانع حتى لو غادرنا المدينة. هل هذا يكفيك؟»

وقف أمجد باستقامة

«أنا لم أعد أفهمك. ما خطبك هذه الأيام؟ إنك تتصرف بغرابة. جنان!»

استدار جنان مندهشا، ثم ابتسم بارتباك

«حقا؟ كيف ذلك؟»

«إلى ماذا كنت تنظر؟»

هز رأسه

«كنت أفكر أنه يجب أن أشتري شيئا. هل تسمح أن نذهب لتلك الجهة ونرى ما يعرضونه؟»

نظر له أمجد باستنكار

«ليس هناك سوى امرأة عجوز واحدة ومن الواضح أن ما تبيعه مهترئ لا يريد أحد شراءه»

تمتم جنان بشرود

«أنا أرى ذلك»

لكنه كان يتقدم بثبات نحو المرأة العجوز غير مبال بصديقه الذي أخذ يشتمه من خلفه وهو يتبعه.

«السلام عليكم ورحمة الله يا يمّا»

راقب جنان المرأة ترفع له عيونها وقلبه يهوي

«وعليكم السلام عليكم ورحمة الله يا بني»

أغمض عيناه للحظة ثم ابتسم

«هل أنت تبيعين هنا من وقت قديم يا يمّا؟»

ابتسمت العجوز بحنية مخفية دهشتها من جثوه باستسلام أمام فرشتها الصغيرة

« لا يا بني، لكن الحياة لم تدع لأي منا كي يختار أين يبيع»

أمال رأسه

«أ ليس لديك من يعمل عنك يا يمّا؟»

تنهدت المرأة تنهيدة جلجلت قلبه وقالت

«إن لي ابنة صغيرة تعمل عني في جزء آخر من هذه المدينة. لكنك تعلم مصاريف الدنيا ومشقاتها»

أخفض بصره لما تبيعه فوجد أن ما تملكه لا يعدو أن يكون مناشفا صغيرة للمطبخ وفستان واحد محتشم مع صندل مهترئ.

شعر بقلبه يتقطع، هذا الفستان الأخضر الجميل ليس للبيع، هذا الفستان الجميل كان يوما ملكا لهذه المرأة، تلبسه في المناسبات مع منديل أبيض على رأسها ثم تغسله وتطويه لمناسبة أخرى لكنها الآن تبيعه.

لمسه بيده

«بكم هذا الفستان يا الواليدة؟»

«بثلاثون درهم»

رفع رأسه مندهشا

«لكنه ثمن قليل يا أمي!»

ابتسمت بتهكم

«ومن يشتريه وهو في حاله هذا يا بني بثمن أكبر من هذا؟»

أمسك الفستان بعزم

«أنا أشتريه، لكني سأدفع فيه ثمنا أعلى. سأشتريه بثمنه الأول»

أخرج محفظته من حقيبته ونقدها مئة وخمسين درهما فنظرت له مندهشة

«وكيف علمت أن هذا ثمنه الأول؟»

نظر للفستان وارتبك ثم قال

«اشتريت لوالدتي ذات يوم واحدا مثله فخمنت الثمن»

هزت رأسها وقالت

«إنه مهترئ قديم، وأنا أبيعه بثلاثون فقط يا بني. اصبر علي سأحضر لك فكة»

أمسك يدها

«لقد اشتريته يا أمي، ولن أقبل بثمن أقل من هذا»

انحنى على يدها فقبلها ثم نهض مرغما أمام دهشتها وابتعد.

تلقفه أمجد بين يديه وصاح

«هل أنت مجنون! هل يوجد زبون يناقش البائع ليرفع الثمن! هل استبدلوا لك قلبك أم عقلك؟»

طوى جنان الثوب بعناية ثم وضعه في الحقيبة

«إنه يستحق ثمنا أعلى»

«أي لوثة أصابت عقلك!»

ضرب كفا بكف ثم قال

«إذن لمن ستعطيه؟»

«لن أعطيه لأي شخص»

جحظت عيون أمجد

«أتمازحني! اشتريته بهذا الثمن ولن تعطيه لأحد، إذا هل قررت أخيرا أن تصبح جنان الجميلة ذات القوام الممشوق!»

ضحك جنان بجفاف

«ربما»

نظر له أمجد مصعوقا وربط لسانه

«لقد أصبحت غريب الأطوار. »

تنهد جنان باستسلام:

«أعرف»

«أصبحت مجنونا»

كرر جنان بهدوء

«أعرف»

«وأحمقا»

«أعرف»

«و…»

«هل ستظل تشتمني طوال المساء؟»

هز أمجد رأسه وقال

«حسنا لنذهب ونأكل تلك الطنجية ثم نعود للمنزل»

«نعم»

لم تكن الطنجية سوى لحما يطهى داخل جرّاتٍ فخارية خاصة، فوق الجمر الحار،  يطهى بعناية فيذوب في الفم، وقد تلذذ بها جنان.

رفع أمجد علبة المشروب لفمه وتجرع ما بقي فيها ثم قال:

«غدا هو اليوم الأخير، ماذا تريد أن نفعل؟»

دفع جنان لفمه قطعة لحم وأخذ يلوكها ببطء ثم قال

«أريد أن أشتري بعض الأشياء للمنزل. هل نمر على محلات تجارية؟»

هز أمجد كتفاه

«حسنا»

جذب جنان منديلا ومسح به فمه ويداه ثم نهض فنهض أمجد بدوره، ذهبا لصاحب الفرن كي يدفعا له فقال بلطف

«آمل أنها أعجبتكما، إنني مشهور هنا بطهو الطنجية»

ابتسم جنان

«إنها لذيذة كما العادة عمي سليمان. هل كان لديك زبائن جيدون هذا اليوم؟»

تجاهل الرجل أن جنان عرف اسمه، في حين أُخذ أمجد على حين غرة فوقعت منه الأوراق النقدية بينما كان يسلمها للرجل.

«الحمد لله، كان نهارا جيدا»

اتسعت ابتسامة جنان أكثر

«الحمد لله. آمل أن الفرن لم ينهر مجددا من الداخل منذ آخر مرة بنيناه»

رفع الرجل إليه وجهه وحدق بعيون جنان بدهشة ورعب، ثم ضحك بارتباك

«تنتشر الشائعات سريعا هذه الأيام. تفضل يا بني الباقي»

تسلم أمجد المال شاكرا ثم جذب جنان من ياقته وخرج به من المحل تشيعهما نظرات الرجل الحائرة

«ما قصتك يا رجل؟»

نظر له جنان حائرا

«ماذا تقصد؟»

«من أين لك معرفة الرجل بحق الله! بل وتسأله عن فرنه؟ ما دخلك بفرنه لعنة الله على الشيطان!»

«من الطبيعي أن أسأله عن الفرن فقد عملت فيها مع العم سليمان وقتا طويلا وفي آخر مرة انهارت من الداخل فبنيتها مع…»

«هاه!»

رفع جنان نظره لوجه أمجد الجامد ثم ضم يداه لصدره بقوة ومشى مبتعدا

«جنان»

صاح جنان بجنون

«لا تسألني!»

توقف لحظة ثم قال

«أرجوك لا تسألني يا أمجد، إني لا أعرف شيئا. امنحني بعض الوقت»

زم أمجد شفتاه بقوة ثم دس يده تحت ذراع جنان وقال

«حسنا، لن أسألك، لكن لا تمشي لوحدك هكذا، أنت ترتجف»

تمتم جنان محدثا نفسه بصوت أقرب للهلوسة:

«هذا المكان يدعى حومة الفرانين، كنت آتي كل صباح لهنا. كنت أعيش في مراكش، إني أعرف كل شبر فيها، كل وجه أراه يقترن في ذاكرتي باسم له، كل شارع دخلناه وطأته قدماي من قبل…ما الذي يحدث لي يا أمجد، ما الذي يحصل معي؟»

أشار أمجد لسيارة أجرة ثم دفع جسد جنان داخلها وأمسكه بشدة

«اهدأ، أنت تهذي»

غطى جنان وجهه بيداه

«هل أنا حقا أهذي؟»

ضغط أمجد على شفتاه غاضبا

«كل هذا محض صدفة، لعلك سمعت باسم الرجل من شخص ما، الجميع كانوا ينادونه باسمه. لا تشغل بالك.»

«صدفة؟ ما أكثر الصدف في حياتي»

حين عادا للشقة لم يتبادلا أي كلمات إضافية، جلس جنان إلى طاولة الطعام في البهو وأسند مرفقيه إليها وهو يضغط على صدغيه بشدة، أما أمجد فجلس على الكنبة ينظر له متأملا ومتحفزا لأي شيء قد يحدث.

نهض جنان أخيرا عن الطاولة، ابتلع قرص دواء ثم اتجه للحمام بخطوات شاردة، لكن لحسن الحظ فقد خرج قطعة واحدة على عكس ما توقع أمجد.

جلس على الكنبة يقطر  جسمه ماءً وأخذ يجفف شعره ثم ضغط المنشفة على وجهه بقوة ونهض من جديد لكن ليذرع الغرفة جيئة وذهابا.

تحمل أمجد بصبر طوال ساعة كاملة ولم يسأل شيئا كما طلب منه جنان،  وإن أصابه الدوار والغضب من حركة جنان المتواصلة، لكن هذا الأخير في النهاية قرر الخلود للنوم بصمت تام وأسدل الستار على أحداث هذا اليوم.

صباح اليوم التالي قرر الاثنان تجاهل كل ما حدث في الليلة الماضية، تناولا الفطور في الشقة ثم خرجا للتسوق.

أمضيا فترة طويلة في التنقل بين المحلات ليشتري كل منهما  تذكارات خاصة لعوائلهم وانتهيا عند حلول العصر، فقال أمجد غاضبا

«لن أخرج للتسوق معك مرة أخرى. ذوقك أصعب من ذوق امرأة»

انفجر جنان ضاحكا ومازحه

«على الأقل أخذت تجربة ممتعة»

حدجه أمجد بنظرات حارقة فقهقه جنان ضاحكا وقفز درجات المتجر متجها نحو الشارع

«ماذا سنفعل بعد هذا؟»

«نتناول الطعام ثم نعود للشقة لتوضيب الحقائب»

تنهد أمجد فاستدار جنان نحوه ضاحكا.

اتجها لمطعم قريب وطلبا طبق معكرونة، كانا شديدا الجوع بعد كل ذلك العناء والتنقل بين المحلات لشراء الملابس.

«الحرارة في هذه المدينة شديدة جدا»

«بطبيعة الحال  فهذه مراكش. أنت من طلب المجيء لهنا لذا توقف عن التذمر، ألم أقل لك ذلك سابقا؟»

هز جنان كتفاه

«جذبتني مراكش، ساحة جامع الفنا وما إلى ذلك، كما أردت أن أحظى برحلة بعيدة عن المنزل لبعض الوقت»

ابتسم فلمعت عيناه البنيتان وارتفعت عظام وجنتيه

«لقد كانت رحلة جميلة»

 انكبا على الأكل من جديد ثم دفعا الحساب وخرجا متجهين للشارع الرئيسي للحصول على سيارة أجرة. لكن أي سيارة لم تتوقف لهما فاضطرا للمشي مسافة أطول على قدميهما ليقتربا من مكان سيارات الأجرة الكبيرة.

وفي مكان قريب من موقف سيارات الأجرة كان هناك شارع فرعي نظر له جنان دون مبالاة وتقدم، لكنه عاد فأدار رأسه ببطء ونظر فيه ليجد فتاة طويلة، نحيلة، سمراء تحمل بيديها حقيبة سوداء صغيرة وكيسا فيه بعض الخضروات والخبز، وتقف ملتصقة بالحائط تنظر لشابين يحاصرانها.

«ما الذي يفعلانه هذان الفاسقان؟»

 نظر أمجد ناحية الفتاة ثم قال

«لا يبدو من وجهيهما أنهما سيسران بأي تدخل، لنذهب يا جنان لسنا بحاجة لخوض شجار»

دفع جنان بالأكياس وتقدم نحو الشارع

«لن أتركها فريسة لهذه الغيلان….هذه الفتاة!»

فوجئ أمجد بالسرعة التي ركض بها جنان نحو الزقاق وبعينيه نظرة غضبى.

توقف أمام الشابين ثم دون تردد ودون أن يضع بعين الاعتبار بنيته الضعيفة  صفع أقربهما إليه بأقوى ما استطاع. صر أمجد على أسنانه غاضبا وتقدم بدوره من الزقاق، لكنه سريعا ما ترك الأكياس تسقط من يده وركض كالمجنون.

الشاب الذي صفعه جنان رد له الصفعة بأقوى منها ثم أسقطه أرضا وبدأ يلكمه بعنف ولم ينجح جنان في حماية وجهه من الضربات بيديه الضعيفتين.

«أيها الوغد الحقير، كيف تجرؤ على لمس صديقي!»

فقد أمجد أعصابه تماما، لقد كان غاضبا من كل ما يحصل مع جنان طوال الأيام الماضية وتغير أطواره الغريب، والآن رؤيته يضرب بسبب شجاعة لم تكن فيه أبدا، بسبب جرأة لم يرها من قبل فيه جعلت الدماء تغلي في دمه. لقد كان دوما ينحشر خلفه أو مختبئا في مكان ما  كحشرة لا يقيم لها أحد وزنا، فكيف به تحول هكذا!

كان أمجد قويا، لكن ليس محترفا، رغم مظهره فهو ما يزال بدوره شابا أحمقا في الثانية والعشرين من عمره، الخبرة ثم الكثرة غلبته لكنه ظل يصارع، وبدت محاولة جنان لمساعدته كانت كمحاولة ذبابة لإنقاذ جاموس ضخم من بين فكي تمساحين.

لكن لحسن حظهما صراخ الفتاة وجه اهتمام بعض الناس إليهم وسريعا تجمع الكثير منهم وتم حل الخلاف، هرب الشابان واخترق أمجد الجمع الغفير من حوله غاضبا، حمل الأكياس ومشى مبتعدا، نظر جنان للفتاة مترددا ثم ركض خلف صديقه

«أمجد توقف»

لم يهتم أمجد به وبقي يمشي بخطوات تدك الأرض دكا وهو محمل بكل الأكياس اللاتي أحضراها، ركض جنان بقوة أكبر وأمسك كتفه لاهثا

«أمجد»

صرخ أمجد بعنف:

«ماذا؟ ماذا؟»

نظر له جنان مرتعبا، لكنه صاح

«لماذا أنت غاضب؟!»

«أتسألني؟ اشتريت ثوبا مهترئا من امرأة عجوز، ناديت رجلا باسمه، وفي النهاية تصفع مدمن مخدرات صارخا ” لا تلمس أختي”  أي جنون اعتراك؟»

اختطف جنان نظرة وراءه إلى الفتاة المرتجفة التي يحيط بها الناس وقال

«لا أعرف. إلى أين تذهب!»

صاح أمجد من جديد

«سأعود للمنزل، إن كنت تريد البقاء في الشارع فابقى أما أنا فقد اكتفيت.»

زم جنان شفتاه الداميتان بقوة، نظر لجروح يديه ثم لجروح أمجد. لم يكن هذا الوقت المناسب للشجار، كلاهما مصاب،  غاضب وحائر، لكن على الأقل ما يزال أمجد يفكر بصورة عقلانية عنه. تبعه بصمت وترك له القيادة كما اعتاد دوما، حتى عندما عاد للمنزل وبدأ يعالج جروحه لم يعلق..

«ماذا ستقول لوالديك حين يريان كل هذه الزرقة على وجهك غدا؟»

هز جنان كتفاه

«وماذا قد أخبرهما غير الحقيقة»

ضيق أمجد عينيه

«وأي حقيقية؟ أنك خلت الفتاة أختك فهرعت تدافع عنها؟»

 هز جنان رأسه متوترا

«لا أعرف»

نهض فجأة ووقف بجانب النافذة يحدق بالمباني من حوله وغرق في تفكير عميق، هناك شيء خاطئ، بالتأكيد هناك…لكن  ما هو؟

رفع يده لقلبه وضغط على صدره بقوة، هذا القلب يحس،  يتألم، يحن، ويعرف، ويحاول قول شيء ما.

تأوه بصوت مسموع، ما الذي يصر هذا القلب على قوله؟ يشعر كما لو أن هناك شخصا آخر بداخله، تدفعه أياد خفية ليفعل ما كان أبدا ليجرؤ على فعله. أهو هو؟ أم أصبح مجنونا كما يزعم صاحبه؟

استدار نحو الطاولة وسحب حاسوب أمجد من  فوقها ثم جلس على الكنبة.

فتح قوقل وكتب في محرك البحث (عملية زراعة القلب) ثم ضغط على الزر، وبنفس السرعة ظهرت الأجوبة أمامه تصف هذه الجراحة الخطيرة وما تعنيه وكل ما يتعلق بها، لكنه لم يجد الجواب فيها.

فكتب من جديد (تغير بعد زراعة القلب) استغرق البحث مدة أطول ثم ظهرت الصفحة أمامه، الكثير من الأجوبة:

(هل يملك القلب ذاكرة؟

هل يؤثر القلب على تغير الشخصية؟

شاب أمريكي يتذكر ذكريات ليست له بعد جراحة زراعة للقلب….)

رفع يده لفمه وقضم ظفر إبهامه، هل يملك القلب ذاكرة؟!

استمر بالبحث طويلا، ومن نتيجة لأخرى ازداد توتره، من جواب لآخر  بدأ يفهم ما يحصل معه، لكن الشك ظل راسخا برأسه.

أغلق الحاسوب فجأة وأخذ يدور في الغرفة على غير هدى وظفره المقضوم أصبح داميا بالكامل يتقاطر منه الدم نقطة نقطة، رفع بصره نحو أمجد الذي يصلي المغرب بزاوية الغرفة وما إن رآه يسلم حتى قفز فوقه

«أمجد يجب أن نعود الآن، لنذهب للمحطة الآن»

«لماذا؟»

«أريد رؤية طبيبي»

شحب لون أمجد قليلا

«لماذا؟ هل تشعر أنك لست بخير؟ هل قلبك يؤلمك مرة أخرى؟»

كرر جنان من ورائه مذهولا

«قلبي يؤلمني؟ إنه ليس قلبي، لكنه يؤلمني»

« لقد جننت! على كل لا يمكننا أن نذهب الآن، ليس هناك رحلات في هذه الساعة ولقد حجزت لنا غدا ودفعت المبلغ بالفعل.»

«أعرني هاتفك»

رنا أمجد بعينيه نحو الطاولة.

قفز جنان نحو الهاتف فتبعه أمجد وسأله بنفاذ صبر

«ماذا ستفعل؟»

« سأتصل بطبيبي»

«إن كنت مريضا دعني آخذك للمشفى، لا تفقدني أعصابي»

«لست مريضا»

جاءه الرد من الطرف الاخر:

«السلام عليكم و رحمة الله، من معي؟»

«مرحبا يا دكتور هذا أنا جنان»

«نعم يا جنان، هل حصل معك شيء؟»

«ليس تماما يا دكتور إني بخير، لكني أردت أن أسألك حول ….. القلب الذي أعطي لي»

«نعم؟»

«حسنا، هل يمكنني أن أعرف المتبرع؟ أقصد قلب من هذا الذي أحمله؟»

«للأسف تبقى هذه المعلومات سرية ولا يمكنني مشاركتها معك يا جنان»

قضم جنان شفتاه

«حسنا، على الأقل أخبرني من أي مدينة جاءني القلب. طنجة؟»

«لا، كان من الصعب لنا إيجاد قلب تتوافق خلاياه معك في طنجة. لقد وصلنا القلب من مدينة مراكش»

ترنح جنان في مكانه فوضع يده على الطاولة بقوة وأسند كل ثقله عليها.

«حسنا يا دكتور، شكرا لك»

«هل أنت بخير حقا؟ تعال لزيارتي إن شعرت بأي خطب مهما كان صغيرا»

«حاضر يادكتور»

مراكش، هل هي صدفة مرة أخرى، هل هي صدفة أن قلبه من مدينة مراكش التي ما جاء هو لزيارتها إلا للتنزه. أم هل حقا صدفة أنه اختار مراكش؟ هل حقا اختار مراكش لأنه أراد الهروب من قيوده، أم أن هذا القلب الذي بداخله هتف له بالاسم، هتف بمراكش.

« هل أنت بخير؟»

رفع جنان رأسه نحو أمجد، نظر له طويلا ثم قال

«إن أمك تملك صلات كثيرة في مجال الطب صحيح؟»

أجاب أمجد بتردد

«نعم»

«هل أمك في العمل الآن؟»

«لست واثقا، إنها تعمل حسب الطلب وليس حسب ساعات محددة. ماذا ستفعل؟»

فتح جنان الحاسوب بعنف ودخل لدردشة أمجد الخاصة مع والدته ثم ضغط زر الاتصال بالكاميرا، وبقي الاتصال معلقا لثوان طويلة حتى ظهرت صورة امرأة متوسطة العمر في الشاشة وهتفت

«أمجد؟»

لكنها بدلا من ذلك رأت وجه جنان المليء بالندوب أمامها

«إلهي ماذا حصل معك يا جنان؟ أين أمجد؟ هل تشاجرتما!»

«خالة سمية هل يمكنك أن تسدي لي خدمة؟»

«خدمة؟ ماذا تريد؟»

جلس جنان على الكنبة بعدما خانته قدماه المرتجفتان فجلس أمجد بجانبه ونقلت سمية نظراتها الحائرة بين الاثنين، لكنها بذكائها  تجاوزت التعليق واستمعت لكلام جنان المتوتر:

«لقد اتصلت بطبيبي، أردت معرفة المتبرع لي لكنه رفض إعطائي إياها، هل يمكنك أن تحصلي لي على هذه المعلومات؟»

«لماذا؟»

«هل يمكنك يا خالتي؟»

صمتت سمية قليلا ثم رمقته بحدة، ورغم أن ما يفصل بينهما أميال لكن نظراتها أخافته

«إني لا أعطي شيئا بدون أن أحصل على سبب مقنع يا جنان»

صمت جنان للحظة، ثم زفر أنفاسه

«بعد الجراحة بدأت تحصل معي أمور غريبة، كان لدي ميل غريب للحلويات وللقفز من فوق السلالم، أحببت الشاي أكثر من القهوة وكرهت بعض أكلاتي المفضلة، وكنت أشعر بمشاعر ليست لي، أتألم لفقدان أسرتي وأنا بينها»

ضحك بجفاف

« وقد استمر أمجد يقول أنني أصبحت سليط اللسان غريب الأطوار أيضا»

شبك يداه مع بعض ثم أردف

«ثم حين أتينا لمراكش شعرت أنني أعرف المدينة جيدا رغم أنها المرة الأولى التي أزورها في حياتي، أقسم لك يا خالتي أنني أعرف الأزقة، أعرف الشوارع والمحلات، وكل وجه.  استمرت مشاعري تجاه المدينة تتغير حتى زرنا ساحة جامع الفنا، فرأيت امرأة عجوز تبيع على الرصيف. أقسم  يا خالة أن قلبي حن لها وتألم لدى رؤيتها، لقد ركضت إليها دون وعي وتلذذت وأنا أناديها أمي، ما كان ليردعني عنها سوى نظرات الحيرة اللاتي في عينيها. هي تراني غريبا وأنا أراها بعيون ليست لي وأعرفها أكثر مما أعرف نفسي»

ابتلع لعابه وأكمل

«ثم عدت فتجاهلت الأمر رغم استحالة تجاهله، وكان أن قابلنا اليوم صدفة في الطريق فتاة تتعرض للمضايقة، نظرت لوجهها فعرفتها على الفور على أنها أختي، لقد فار دمي فتقدمت إليها، ثم خضنا شجارا»

رمق أمجد بطرف عينه وابتسم معتذرا، قالت سمية

«أكمل، ماذا بعدها؟»

هز رأسه

«لم يحصل شيء، لكني ما عدت أتحمل كل هذا الغموض، فبدأت أبحث في الأنترنت عن هذا ووجدت شيئا يسمى بذاكرة غشاء القلب،  وحالات تشبهني تغيرت تصرفاتها بعد زراعة القلب أو تعرفوا على أناس لم يروها قط. قولي لي يا خالتي هل هذا ممكن حقا؟»

صمتت سمية ثم قالت بعد زفرة طويلة

«لا يمكنني أن أؤكد لك شيئا، أنا لست متخصصة في علاجات القلب، إن عملي يختص بإجراء فحوصات على الجثث بغية التحقيق أو الدراسة»

نظرت لوجه ابنها ثم عادت تنظر لجنان

 «القلب عضو حساس كالدماغ، ويملك غشاء رقيقا يحيط به يسمى غشاء القلب. هذا الغشاء يثبت القلب في الصدر ويحميه. مؤخرا الطب خلص إلى أن القلب ليس مجرد مضخة تضخ الدم وتحس بالعواطف بل إنه له ذاكرة قصيرة وطويلة الأمد إضافة لخلايا عصبية معقدة جدا في غشائه، وهي ما تساعده على حفظ الذكريات والمواقف والأشخاص،  . لا زالت هذه النظرية تحت الدراسة لكن كثيرا  من العلماء وتحت ضوء هذه المعلومات يرجحون أن انتقال هاته الذكريات عبر جراحة استبدال القلب ممكن تماما، وهناك العديد من الحالات، لكنها ما تزال تعتبر من الحالات النادرة. هناك بعض الأدوية التي قد تعطى للمريض فتؤثر على مناعة القلب لتضعف ذاكرته السابقة لكنها ليست بأمر أستطيع تأكيده لك تماما.  يمكنني القول أن ما يحصل لك ليس جنونا، بل هو واقع أثبته العلم.»

تمتم جنان بشحوب

«هل تقصدين أن هناك شخصا آخر يعيش بداخلي؟»

«ليس حرفيا، الشخص الذي نتكلم عنه مات، لكن ما انتقل لك هو مجموعة من الذكريات ترتبط بحياته، الأشخاص الذين عرفهم، المواقف والأماكن وحتى المفضلات والعادات»

«لكن…لكن.. هذا كأن أعيش وبداخلي شخصان، هذا القلب يحن لعائلة لا أعرفها ويريد أن يكون معها، وأنا لي عائلة أخرى أريد العيش معها. هذا القلب يحب مراكش وهي ليست موطني، هذا القلب يتألم لشيء لا يمكنني معرفته، ولا يمكنني تحمله. أنا سأجن يا خالة»

«على مهلك، سنجد حلا. سأبحث لك عن ما تريده، لكن الآن حاول أن ترتاح ولا تفكر بالأمر. غدا عندما تعودان تعال إلى منزلنا وسنتكلم عن الموضوع بشكل أكثر تفصيلا. لا تضغط على نفسك يا جنان، بالرغم أن القلب ليس قلبك لكن الجسد جسدك، أنت ضعيف البنية ولم يمر وقت طويل على جراحتك، اهدأ ولا تضغط على نفسك كيلا  تنهار. هل تفهم؟»

زفر جنان أنفاسه

«حسنا يا خالة»

قطع الاتصال وعادت الشاشة لسوادها المعتاد، زفر جنان أنفاسه ورفع يدا مرتعشة لصدره، نظر نحو أمجد ثم تأوه فوضع هذا يده على كتفه وضغط عليها بقوة

«تحمل»

جنّ الليل سريعا ورقد جنان في فراشه وقد جافاه النوم وعلق الأرق بعينيه. انتظر الصباح على أحر من الجمر فما كاد الفجر يؤذن حتى قفز واقفا ونهض من فراشه. استحم وصلى، وضب ملابسه وشرب بعض الشاي ليدفئ عروقه الباردة مضيفا ما يقارب خمس مكعبات من السكر لم تذب كلها وبقيت مترسخة في القاع مع أوراق النعناع. لقد حارب طويلا هذا القلب الذي يريد أن يستحوذ عليه لكنه الآن لن يقاوم.

ارتدى ملابس الخروج على عجالة وابتلع قرص دوائه.

استقلا القطار السريع على الساعة السابعة صباحا ووصلا في الحادية و نصف نهارا .

لم يكن لجنان طاقة كي يقابل عائلته ولا لكي ينتظر طوال النهار فذهب مع أمجد مباشرة لمنزله ولم يعلم أحدا من أهله بعودته.

فتح لهما الباب أخ أمجد الأصغر فسأله هذا دون مقدمات

«أين أمي؟»

«في المطبخ»

تقدم أمجد نحو الصالة وترك الحقائب هناك ثم خطى للمطبخ سريعا، فيما تملق جنان ابتسامة

«مساء الخير يا عثمان، كيف حال المدرسة؟»

أجاب المراهق بلا مبالاة

«جيدة»

هز جنان رأسه ثم تبع صديقه على عجالة. كانت سمية تقف في المطبخ مستندة للرخام وهي تنظر لابنها بينما الطنجرة من خلفها تغلي وتصفر. سألها جنان بلهفة

«هل حصلت لي على المعلومات يا خالة؟»

هزت رأسها مبتسمة

«أكثر مما تريد. اجلسا واحصلا لنفسكما على عصير وسأحضر حاسوبي وآتي.»

جلس جنان لطاولة المطبخ مرتبكا، أفرغ له أمجد كأس عصير لكنه لم يمد يداه لشربه.

وقف أمجد بجانب النافذة واسترخى ضاما يديه لصدره.  عادت سمية وبيدها الحاسوب. سحبت كرسيا بجانب جنان ثم قالت بينما تفتح الحاسوب

«لم يكن من الصعب الحصول على الكثير من المعلومات بعدما قدم أب أمجد يد المساعدة. تفضل، أنا واثقة أنك ستحب قراءة المعلومات بنفسك بدلا من أسردها عليك»

أدار جنان الحاسوب نحوه بيد مرتجفة وبدأ يقرأ. مع كل كلمة كان يزداد شحوب وجهه لما تستوعبه عيناه.

…….

إبراهيم عبد الرزاق، سبع وعشرون سنة. مغربي من مدينة مراكش، خريج جامعة الحقوق في مراكش. 

توفي والده بعد تخرجه من الجامعة ولم تخوله شهادته الجامعية للعمل في أي مكان، لذا لجأ للعمل في صنعة تقليدية لطبخ الطنجية وخبز الخبز في فرن طيني مع رجل يدعى سليمان بجوار جامع ساحة الفنا.

عمل إبراهيم مع الرجل ما يقارب ثلاث سنوات بدخل متوسط، ليعيل أمه وأخته الوحيدة التي تصغره بأربع سنوات.

 توفي إثر حادث سيارة مفاجئ قبل سبعة أشهر، وكانت له وصية سابقة تقتضي التبرع بأعضائه في حالة الحاجة لها.

كان من المعروف عن إبراهيم بين أقربائه ومحيطه بأنه شاب تقي صالح، طيب القلب وعفوي في التعامل مع الجميع. وكان يتمتع بنخوة وشهامة شديدة وجرأة قوية .

الحادث الذي تعرض له كان خطيرا فأضر بجزء كبير من أعضائه كالكبد والطحال وكل ما تحت ذلك، ولم يبق فيه جزء سالم سوى صدره، لذا تم نقل قلبه على جناح السرعة لمدينة طنجة ثم تم تقديم شهادة الوفاة لعائلته وتم دفنه في مقبرة قريبة من منزله.

المدخرات التي تركها إبراهيم خلفه لم تكن كافية لتعيل عائلته الصغيرة أكثر من شهرين ورغم مساعدة الجيران بقي لديهما نقص شديد مما اضطر الأخت أن تخرج للعمل في إحدى الفنادق كعاملة نظافة ريثما تتخرج من الجامعة، وقامت الأم ببيع بعض ممتلكاتها  السابقة في الساحة شيئا فشيئا لتساعد ابنتها أيضا.

تساقطت دموع جنان واحدة تلو الأخرى، وتنقلت عيناه بين الكلمات والمعلومات بصمت تام.

كانت هناك معلومات جانبية أخرى، كمكان السكن وصور العائلة التي يعرفها، كما صور رسمية لإبراهيم والتي تظهره شابا أسمر حازم الملامح يلتقي حاجباه بعبوس تام، لكن في عينيه السوداء مسحة من الذكاء والدهاء. ولم تكن الصورة الرسمية لتظهر له أكثر من ذلك.

شتان بين إبراهيم الذي شق الحياة ببسالة ورباطة جأش ليعيل عائلته وبين جنان الذي عاش كل حياته كفأر مثير للشفقة ينتظر توقف قلبه عن النبض.

لكن هذا الفأر عاش، وذاك الأسد مات.

تفاقم ألم قلبه، وعرف جنان الآن سببه.

لقد ضحى إبراهيم بكل شيء لكي لا تحتاج عائلته شيئا، لكنه مات دون أن يراها لآخر مرة، ثم بعد موته تفرقت هذه الأسرة وانكسر السقف فوقها.

كيف لهذا القلب ألا يتألم وقد رأى وجه أعز أحبابه ذليلا في ساحة تمتلئ بالوحوش، كيف لا يتألم  قلبه وقد شعر بأنه خان أعز من يملك.

شد جنان على قميصه بقوة واختنقت أنفاسه في صدره. لقد رأى بعينيه نظرة العذاب في وجه تلك الأم التي أذلت بعدما فقدت وليدها، ورأى نظرة الجزع في عيني فتاة فقدت سندها.

رأى بعينيه التشتت الذي أصاب هذه العائلة، لقد حصل على حياته مقابل حياة أخرى، لا. بل مقابل ثلاث حيوات أخرى؛ مات إبراهيم مخلفا خلفه قلبان محطمان.

لكن هل حقا مات إبراهيم؟!

أغلق جنان الحاسوب ثم نهض، مادت الأرض تحت قدميه لكن ذراع أمجد كانت أسرع إليه، أمسكت سمية برسغه وقالت

«يبدو أن ضغطك قد انخفض. تنفس»

تأوه جنان

«يجب أن نعود مساء اليوم لمراكش يا أمجد، احجز لنا»

نظر له بذهول

«لقد عدنا لتونا!»

هز جنان رأسه

«إن لم تذهب  معي أذهب وحدي»

هزت سمية رأسها

«أهذا إذا قرارك؟»

ابتسم بشحوب وهز رأسه ثم قال

«بالمناسبة يا خالتي، قلبي الذي تركته عندك وطلبت منك حفظه في إحدى محاليلك، هل يمكنني استعادته؟»

ضحكت

«تريد قلبك؟ وأنا التي كنت أمني نفسي بأن تنساه فتتاح لي فرصة دراسته»

«لا أحد ينسى قلبه»

هزت رأسها وقالت

«إنه في المختبر، سأحضره لك مساء. مر على المنزل لأخذه قبل سفركما. أما الآن فأظن أنك مدين بشرح طويل لأهلك»

هز جنان رأسه ثم أبعد يد أمجد عنه برفق واتجه نحو الباب.

«شكرا لكل شيء يا خالتي. سأكون ممتنا لك طول حياتي»

حال عودته المنزل استقبلته والدته بالأحضان، وانتظر جنان بصبر حتى انتهت أسئلتها له  وخف جزعها من شكل وجهه المتتفخ، ثم أخذها للبهو وجمع أفراد عائلته تباعا وبدأ يقص عليهم كل ما عاشه في مراكش.

الاستنكار، عدم التصديق والفزع ظهر بشكل متفاوت على أوجههم، لكن والده نطق بهدوء

«إذا اعتبرنا قصتك الخيالية هذه صحيحة. ماذا تريد أن تفعل؟»

نطق بعزم وتصميم

«أريد إعالة هذه العائلة. أريد منحها مستقبلا، مثلما ما منحتني حياة»

ضحك أخوه الأكبر بسخرية

«إعالتها؟ ومن يعيلك أنت؟»

«لقد تغيرت يا أخي. قد لا تصدق لكني لم أعد جنان السابق الضعيف. لم أعد مريضا ولم أعد جبانا، سواء أكانت هذه شخصيتي أم أنني أتقمص إبراهيم، هذا لا يهم. كلاهما أصبح أنا. مثلما لا أريد التخلي عن واحد منكم أنتم الأربعة لا أنوي أبدا التخلي عن عائلة فقدت كرامتها ومستقبلها لأن الأقدار شاءت أن يموت ابنهما من أجلي»

صمت للحظة وحين قرأ الدهشة في عيون أهله أردف

«قد لا أستطيع إعالتهما الآن بنفسي، لكني في العشرين من عمري، ما تزال الحياة أمامي أستطيع أن أتغير، أستطيع أن أصبح أقوى. كل ما أحتاجه منكم الآن هو أن تدعموني مثلما فعلتم دوما. اعتبروا هذا دينا عليكم قضاءه، جميلا تردونه. لايهمني. كنت لأكون ميتا، كنت لأكون أنا المدفون في ذلك القبر، لكني عشت ومات إبراهيم»

ارتجف جسده إثر كلماته الأخيرة، فيما سيطر وجوم وصمت ثقيل على المجلس، وبعد برهة تمتم والده بصوت ثقيل.

«ليكن لك ذلك. لكن ذلك بشرط، لست مستعدا لأعيل عائلة أخرى بجانب عائلتي وأنت تعرف كم أن مصاريف علاجك كلفتنا. لذا إن لم تثبت لي تغيرك في ظرف خمس سنوات. فإنني لن أستمر هذه في إعالة العائلة. هل يمكنك ذلك؟»

صر جنان على أسنانه، خمس سنوات! إنه ما يزال في نقطة الصفر، بلا لغات، بلا شهادات ذات درجات جيدة وبلا خبرة في الحياة. رفع عيناه نحو والده

«أعدك أن أفعل. خمس سنوات كافية»

….

على الساعة الرابعة عصرا عاد جنان لمنزل أمجد فوجده مستعدا، ناولته سمية زجاجة  يسبح فيها قلب بشري محاطا بمحلول أصفر. حدق به جنان بعيون خاوية، حان الوقت لدفن هذا القلب.

قال ممازحا وهو يدس القلب في حقيبته

«ماذا يحصل إن أخرجته من المحلول؟»

ابتسمت بهدوء

«سيتعفن وتأكله الدود»

ضحك جنان، ثم هز رأسه مودعا وتبع أمجد الذي ضاق ذرعا من الانتظار.

لم ينطق أمجد بأي كلمة طوال الرحلة، لكنه مع ذلك لم يكن متجهما بل فقط غارقا في التفكير، أما جنان فكان يحدق في زجاج الحافلة بعيون خاوية.

وصلا لمراكش ليلا، وقد كان الظلام مسيطرا على كل شيء، لكن جنان لم يملك الصبر كي ينتظر حتى يحل الصباح ومع إصراره وعناده تبعه أمجد مستسلما.

في تمام الحادية عشر ليلا كان يدقان باب منزل في حي شعبي بمراكش. فتحت لهما الباب الفتاة نفسها التي أنقذاها، وأمام منظر أمجد المخيف تراجعت فابتسم جنان برقة

«هل هذا بيت إبراهيم عبد الرزاق؟»

هزت رأسها ببطء

«نحن من طرف إبراهيم رحمه الله، هل يمكننا رؤية أمك؟»

هزت رأسها بعنف

«لا»

ابتسم جنان وأخرج من حقيبته الفستان الأخضر وناوله لها فاتسعت عيناها لكنها بقيت تنقل نظرها بينه وبين الفستان

«أري هذا لأمك، وأخبريها أننا نريد رؤيتها. سننتظر»

تناولته الفتاة بيد مرتجفة ثم أغلقت الباب بوجههما مما جعل أمجد يزفر أنفاسه مجددا.

مضت دقيقة كاملة ثم فتح الباب من جديد وأطلت من خلفه المرأة العجوز، نظرت له بعيون حائرة

«هل جئت تستعيد مالك؟»

ابتسم

«جئت أستعيد ما هو أغلى من ذلك. هل يمكننا الدخول؟»

بعد تردد قصير دفعت لهما الباب فأصدر صريرا مرعبا وانحازت جانبا.

كان المنزل بسيطا، تفوح منه رائحة الرطوبة مختلطة برائحة مسك خفيفة.

على جانب خزانة في الصالة وقرب تلفاز ضخم قديم وضعت صورة لشاب طويل يرتدي عباية بيضاء، شعره بني خشن وابتسامته حانية، لم يبدو  كما الصورة التي رآها سابقا، كان هذا هو إبراهيم الحقيقي الذي يحبه كل من في الحي، وتفخر به عائلته. إبراهيم الذي يعيش داخله.

جثا جنان على الحصيرة ضاما ساقيه للوراء منحنيا للأمام، متخذا وضعية الجلوس بعد السجود، فيما جلس أمجد بجواره. حدقت الفتاة بجنان للحظة ثم أشاحت عنه فيما نظرت العجوز له وابتسمت

«خيرا يا ولدي. لم أعدت لنا الفستان؟»

أخرج جنان من الحقيبة قلبه ووضعه على الأرض بينه وبين العجوز، هلعت الفتاة مطلقة صرخة صغيرة فنظر لها معتذرا ثم قال

«آسف للمنظر. هذا قلبي الذي تم إخراجه مني. لقد أجريت عملية زراعة لقلب جديد قبل سبعة أشهر»

هزت المرأة رأسها

«الحمد لله على سلامتك»

«سلمك الله يا أمي. لكني لم آت لقول هذا وأعرض هذا المنظر المثير للهلع فقط»

انحنى على يد المرأة وسحبها نحوه ثم وضعها على صدره

«القلب الذي أعطي لي كان قلب ابنكم، قلب إبراهيم»

تمتمت بذهول

«قلب إبراهيم؟»

ضغط جنان بيدها على صدره

«أجل قلب إبراهيم»

سحب نفسا عميقا ثم بدأ يسرد لهما على مهل كل القصة، منذ تغير عاداته حتى زيارة مراكش، مرورا بشراء الفستان، حتى إنقاذ الفتاة، ثم إلى كل ما اكتشفه حول إبراهيم.

تساقطت الدموع من عيني المرأة العجوز بغزارة وقالت

«كان رحمه الله يحب الجلوس بهذه الطريقة، رؤيتك تجلس مثله أدخلت الشك لقلبي»

أما الفتاة فقد اهتزت رباطة جأشها وهربت لمكان آخر لكن صوت شهقاتها وصله، استمرت العجوز تقول

«لقد أحب فعل الخير دوما، وكان مناصرا للحق. كان سندي الوحيد في الدنيا بعد الله. ولما مات لم يبق لي غير أخته تعيلني وأعيلها»

«لقد أثبت خلقه وطيبة قلبه يا أمي، لقد أنقذني من الموت وأعادني لعائلتي سالما. لولاه لكنت بدوري ميتا»

سحب نفسا ثم قبل يدها

«خيره لم ولن يضيع يا أمي، إن الله لا يهمل عباده وما ما كان موت إبراهيم عبثا. إني هنا يا أمي وأعدك أني سأكون لك الابن الذي فقدت»

رمشت بعينيها المبللتين

«ماذا تقصد؟»

«هذا القلب الذي ينبض داخلي يرفض تركي أرتاح دونكم يا أمي. لذا قد قررت آخذكم معي»

تردد للحظة ونظر حوله ثم قال

«هل تقبلين يا أمي أن تتركي هذا البيت، تتركي مراكش وطيف إبراهيم خلفك، وتقبلي لتعيشي مع رجل غريب لا تعرفينه؟»

هزت رأسها بحيرة

«لا أعرف»

نهض ببطء فانزلقت يدها عن صدره، قال جنان

«تأخر الوقت، سأعود غدا صباحا لأحصل على الجواب»

صمت هنية ونظر لصورة إبراهيم ثم ابتسم

«إن لم تثقي بهذا الرجل الغريب يا أمي، فثقي بالقلب الذي ينبض داخلي. ما كان ابنك ليخونك، وما كان قلبه ليتركني أفعل»

تقدم نحو الباب تتبعه بخطواتها المتباطئة ثم أردف

«استودعتك الله يا الواليدة»

استدار فورا مبتعدا وخلفه صديقه، وأحس أن نظرات تلك المرأة لم تفارقه رغم ابتعادهما عن المكان. تلك كانت آخر جملة نطقها إبراهيم لأمه، وكانت دائما الجملة التي ينطقها كلما خرج.

رفع جنان رأسه للسماء، استودعهم الله فلم يضيعوا.

«إذا، ماذا ستفعل الآن؟»

نظر جنان للقلب الذي بين يديه وابتسم

«سأدفن قلبي. اتبعني»

كانت ليلة مقمرة شديدة الضياء، الساعة تشير لمنتصف الليل والمقابر موحشة مخيفة لا يسمع فيها حس ولا صوت.

شق جنان الخطى بين القبور فتبعه أمجد متوجسا

«نحن نعرف أن هذه المقبرة التي دفن فيها إبراهيم، لكن إن كنت تعتزم إيجاد قبره بين ملايين القبور فأنت غبي مجنون»

ابتسم له جنان بثقة

«قادني قلبي لعائلة إبراهيم بين ملايين الناس في مراكش، فكيف لا يقودني إلى صاحبه؟ هو ذاك»

ركض جنان عبر القبور ثم جثى قرب قبر مبني بالرخام، قد خط عليه بخط واضح.

«ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون.

إبراهيم عبد الرزاق. 1996-2023»

نبش جنان عند طرف القبر بيديه وأظافره فقال أمجد بجزع

«لو رآنا أحد ما فسنعتقل، سيظنونا سارقي أموات أو سحرة»

 لم يقل جنان شيئا، نفض يداه من التراب ثم فتح الزجاجة التي كانت معه وأخرج القلب منها بكل حذر، ومرت رعشة بجسد أمجد وهو يرى رجلا يحمل قلبه بين يديه.

مضت لحظات طويلة ظل جنان فيها يحدق بالقلب الذي بين يديه، ثم ابتسم ومال ملامسا إياه بطرف أنفه، ضاغطا بخده عليه، ملوثا وجهه بسائل لا يعرف مدى خطورته. وبكل بطء شديد دس القلب في الحفرة التي حفر ثم ردم التراب فوقه حتى غطاه تماما وسوي مكانه كأنه لم يحفر.

أدار جنان نظراته نحو أمجد فقرأ هذا الأخير فيهما عزيمة وإصرارا ومرت رعشة أخرى بجسده. لا، لم يمت إبراهيم…مات جنان وعاش إبراهيم.

انتهت.

رنا رشاد

المغرب
guest
10 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى